اليهودية والقومية الصهيونية

نشر في جريدة السفير – العدد /8324/ – حزيران ١٩٩٩

اليهودية والقومية الصهيونية*
عبد الله عبد الدائم
قد يكون من المكرور المعاد أن نقول أن مشكلة اليهود والعرب معاً، قديماً وحديثاً، هي الإيديولوجيا الصهيونية. لكن هذه الحقيقة تكتسي معنى جديداً في نظرنا من خلال حقيقتين:
أولاهما، أن الصهيونية حركة قومية استعمارية، فرضت على الشعب اليهودي نفسه رغماً عنه أو عن أكثريته الساحقة على أقل تقدير، وما كان لييسر لها النجاح لولا تأييد الدول الغربية لها، وعلى رأسها بريطانيا منذ البداية والولايات المتحدة بعد ذلك.
ولعل من المفيد أن نؤيد قولنا هذا بما كتبه «نتنياهو» في كتابه «مكان تحت الشمس» (في رده على الداعين إلى نظرية «ما بعد الصهيونية») وفيه نقرأ بالحرف الواحد: «منذ ظهور الحركة الصهيونية السياسية وبدء عملها الجاد للنهضة القومية اليهودية، بدأت تظهر بين يهود أوروبا الشرقية حركات يسارية متطرفة تحقد بشدة على الصهيونية وأهدافها». كما نقرأ في الكتاب نفسه «كان التأييد للفكرة الصهيونية منذ البداية بين من هم غير يهود أكثر بكثير من التأييد في الأوساط اليهودية».
وأما الحقيقة الثانية التي تشهد على جناية الصهيونية ووليدتها إسرائيل على اليهود أنفسهم وعلى العرب بل وعلى العالم، فقوامها ما نجده في إسرائيل اليوم من صحوة لدى الكثير من أبنائها، تتجلى بوجه خاص لدى المؤرخين الجدد وعلماء الاجتماع الجدد وسواهم من الأدباء والفنانين، وسائر الذين ينادون بما بعد الصهيونية. وهي صحوة يتزايد عدد أنصارها يوماً بعد يوم، وأهم ما فيها الحملة العنيفة على الجرائم التي ارتكبتها الصهيونية منذ ولادة إسرائيل حتى اليوم، ضد أبناء البلاد وضد العرب جملة، وضرورة التكفير عنها. وقد رأينا أن هذه الدعوة إلى «ما بعد الصهيونية» ترى أن الصهيونية أصبحت من التاريخ وأن عهدها مضى وانقضى. بل يرى كثير من روادها وأنصارها أن الصهيونية تحمل في تكوينها العضوي وبنيتها إرادة القتل والتخريب والتدمير. وحين يتحدث أصحاب هذه الصحوة – ولا سيما المؤرخون الجدد – عن ضرورة تجاوز الصهيونية، فإنهم لا يكتفون بأن يبرروا دعوتهم هذه إلى تجاوز الصهيونية بالجرائم التي ارتكبت في حرب 1947-1949 وبما ورد حوله في الوثائق التي تم الكشف عنها، بل يتناولون بالنقد والتجريح صلب الصهيونية وجوهرها، ويبينون بوجه خاص انعكاس «خطيئتها الأولى» على الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلى ما يحدث اليوم من هزات سياسية واجتماعية وخلقية تهز المجتمع الإسرائيلي. ومنهم من يضع موضع التساؤل والشك «شرعية» وجود إسرائيل و«حقها في الأرض» التي تقيم فيها. ومنهم من يرى أن مسألة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، بعد خمسين عاماً من نشوء دولة إسرائيل، أمر حيوي وضروري من أجل إبقاء إسرائيل نفسها.
ولا أدل على أهمية هذه الصحوة الجديدة مما كتبه «بنيامين نتنياهو» في تفنيد هذا التيار إذ قال: «إن نظرية «ما بعد الصهيونية» هذه، تعتبر أكثر خطورة على مستقبلنا من الهجمات الخارجية، إذ أن تنازل دولة إسرائيل عن المبادئ الصهيونية يعتبر تنازلاً عن مبدأ حياتها، وعند ذلك تبدأ بالذبول».
ذلك أن رئيس وزراء إسرائيل «بنيامين نتنياهو» ما يزال يؤمن بأرض إسرائيل المزعومة، بل يذهب إلى أبعد من هذا فيرى «أن اليهود لم يسلبوا العرب أرضهم، وإنما العرب هم الذين سلبوا أرض اليهود»، مشيراً بذلك إلى بداية الفتوحات الإسلامية. وهو يقول بصريح العبارة «إن ما يمكن تحقيقه بالشرق الأوسط – حتى الآن هو السلام المبني على الردع» والقوة. ومما يدعو إلى السخرية أنه يرى أن مثل هذا السلام المستند إلى قدرة إسرائيل على ردع العرب هو السلام الدائم والمرتكز على أسس متينة من الأمن والعدل والحقيقة.
ولا يتسع المقام للحديث عن شتى الجوانب التي يمكن أن نستخلصها – نحن العرب – من العرض الذي قدمناه لمعالم الصراع بين اليهودية والقومية الصهيونية قديماً وحديثاً، ومما تريثنا عنده بوجه خاص من مواقف المؤرخين الجدد في إسرائيل، ومن والاهم من العلمانيين وأنصار حركة السلام وسواهم، ومما يصاحب تلك المواقف من نمو الحركات الداعية إلى ما بعد الصهيونية.
ولعل أهم ما ينبغي أن يعمل له العرب، في هذا الإطار، توليد فكر عربي وغربي متفاعل ومتنام مع الزمن مهمته تعبئة الرأي العالمي ضد التزييف الصهيوني الذي ما يزال يكابر ويعبث بمشاعر الكثير من اليهود، وبمصير العالم.
ويعني هذا، في ما يعني، دفع الاتجاهات المعادية للصهيونية التي تتجلى لدى طائفة غير قليلة من يهود إسرائيل ويهود العالم نحو القيام بخطوات عملية جادة من أجل ترجمة تلك الاتجاهات إلى خطة عمل قوامها إعادة الحقوق العربية كاملةً إلى أصحابها – ويؤيد هذه المبادرة العربية الغربية المشتركة، ما نجده في الغرب نفسه، وفي أوروبا بوجه خاص، من أصداء تتعالى ضد التزييف الصهيوني للحقائق، لا سيما بعد ذيوع أفكار المؤرخين الجدد وانتشارها في الأوساط الثقافية الأوروبية، سواء كانت يهودية أو غير يهودية.
وهكذا يتحدد مصير عملية السلام ومصير إسرائيل في خاتمة المطاف بمدى قدرة إسرائيل على تجاوز عقدتها الصهيونية المتحجرة التي يعبر عنها «بنيامين نتنياهو» ومن ورائه اليمين القومي الديني المتطرف، أوضح تعبير. وإذا لم تستطع إسرائيل تجاوز «خطيئتها الأولى» – نعني الصهيونية – وإصلاح ما كان لهذه الخطيئة من آثار مخربة لدى الشعب الفلسطيني والشعب العربي جملة، فكل سلام سيكون مدمراً لها أولاً قبل أن يكون مدمراً للعرب، لأنه سيؤجج الصراعات داخلها ويعرضها لفتن لا شفاء منها، ويجعل من ركوب العرب مركب السلام الزائف معها عملية انتحار مشتركة. فالسلام الذي يرتكز على أنصاف الحقائق والتشويه، كما يقول «بنيامين نتنياهو» نفسه «لا بد من أن يتحطم على صخرة الواقع» على حد قوله أيضاً، وهو قول يستخرج منه ما يريده هو، حين يرى أن الحقيقة الواقعية الوحيدة هي أن موافقة العرب على السلام تقوى كلما «بدت إسرائيل أقوى» وأن السلام الحق والباقي هو السلام المبني على الردع الإسرائيلي.
شؤون وشجون كثيرة يثيرها بحثنا هذا ولا يتسع لها المقام. وحسبنا أن نقول في ختامه:
إن بحثنا يهدينا إلى حقيقة واحدة، وهي أن العزيمة العربية الصامدة، المؤيدة بالتعبئة الشاملة والتضامن الفعال والحوار المنظم مع الفكر الغربي والعالمي هي وحدها القادرة في خاتمة المطاف على إحقاق الحق. والحق رأيناه عبر بحثنا كله، وأكده لنا أصحاب الدعوات الجديدة في إسرائيل، وهو أن لا حل للصراع العربي – الإسرائيلي، ولا نجاة لشعب إسرائيل، ما دامت المنطلقات الصهيونية قائمة، وما دام سيفها مشهراً في وجه العرب واليهود وسائر شعوب العالم. ويلحق بهذا أن يبين العرب بجلاء وقوة من خلال جهودهم الدبلوماسية والسياسية والفكرية إبان مفاوضات السلام، تلك الجهود الداخلية الداعية إلى تخلي إسرائيل عن منطلقاتها الصهيونية كشرط أساسي لقيام سلامٍ عادلٍ وباقٍ وصادقٍ. إن موقفهم هذا من الصهيونية استبان صدقه واتضح دوره الأساسي حتى لدى الكثير من أبناء إسرائيل أنفسهم ولا سيما لدى أنصار ما بعد الصهيونية ولدى المؤرخين الجدد ومن والاهم. وعندما يؤكد العرب بالتالي هذا المطلب – مطلب تخلي إسرائيل عن منطلقاتها الصهيونية – فإنهم يؤكدون حقيقة غدت بديهية حتى لدى الكثير من أبناء إسرائيل ومن يهود العالم ومن مفكري الغرب. وهم بالتالي – أعني العرب –
لا يطلبون إدّاً من الأمر ولا يغلون في حقهم. وعلى المجتمع العالمي أن يدعم موقفهم هذا إذا هو أراد حقاً أن يقوم سلام عادل وحقيقي في المنطقة.
والمهم، بعد هذا كله، ألا يتعجل العرب وألا يقدموا على ركوب مركب مهتز تطوقه الألغام
لا يدرون ما مصيره، وأن يتركوا وقتاً للوقت، فالأيام حبلى بالأحداث والمفاجآت، لا سيما عندما يعرفون كيف يجندونها لمصالحهم، ولا سيما عندما يحكمون الطوق العربي حول إسرائيل في شتى الميادين.