مقدّمة

لا أغلو إذا قلت إن تجربتي الفكرية هي تجربة جيل. إنها تجربة جيل من لداتي وأقراني من المثقفين في البلاد العربية، حرصوا – عبر مسيرتهم – على تحقيق مطلبين متكاملين: أولهما التزود منذ ريعان الصبا – عن طريق الجهد الذاتي وبفضل عشقهم للمعرفة ونهمهم لارتياد شتى مجاليها – بالثقافة التي تتعانق فيها وتتكامل الدراية الواسعة العميقة بالتراث الثقافي والحضاري العربي – الإسلامي، مع التهام شتى عطاءات العلوم والآداب والفنون الغربية القديمة والحديثة. وثانيهما الغوص في هموم مجتمعهم وأمتهم العربية والبحث عن أسباب تخلفها، والعمل بالفكر والنضال من أجل تجاوز ذلك التخلف ومن أجل توليد كيان عربي موحد وحديث ومتكامل، يرفد بعطائه الأمة العربية وسائر شعوب العالم.
ومع تقدم الزمن أخذت هذه الهموم الثقافية والقومية تزداد لديّ نضجاً، وتتسع عطاء، وأخذتْ تحمل وتتئم وتولّد شتى ضروب النتاج العلمي والفكري والقومي، في مختلف المجالات، وعلى صور وأشكال متعددة ولكنها متآخذة ينظمها عقد واحد، هو عقد العمل النظري والعملي من أجل بناء كيان عربي متقدم منيع يرقى – عن طريق تفتحه وعطائه – بالإنسانية جمعاء، كما يرتقي بذاته ويستخرج كامل إمكاناته عن طريق حواره مع عطاء سواه وتفاعله معه.
وهكذا أسهمت مع سائر لداتي من أبناء ذلك الجيل في عملية البناء هذه: بناء ثقافتي التي تمتد جذورها إلى التراث العربي – الإسلامي والتي يوقد نارها اتصالها الحي بثقافة العصر الحديث، ثم بناء تصوري المتكامل للكيان العربي المرجو، الكيان الموحد الحر العادل المتقدم. وقد تجلى إسهامي هذا في كتبي القومية بوجه خاص التي يجمع أهمها كتاب (الأعمال القومية 1957-1965)، وفي نضالي القومي الدائب منذ أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، كما تجلّى في مؤلفاتي التربوية – على اختلاف موضوعاتها – التي تربط ربطاً وثيقاً بين تطوير الكيان العربي (تطويراً محوره التربية وبناء الإنسان، بوصفه محور أي تنمية حقة) وبين تحقيق الوجود القومي المتقدم (مادام التقدم في العلم والمعرفة صلب بناء الحياة القومية، ومادام العمل في إطار الوجود القومي المتكامل، هو الشرط اللازم للتقدم والحداثة في الوطن العربي).
وهكذا عنيت في مؤلفاتي التربوية، التي تهدف إلى بناء الإنسان العربي الموعود، عناية خاصة بالمشكلات التربوية الكبرى في البلاد العربية، وعلى رأسها: التخطيط التربوي – فلسفة التربية – تطوير نظم التربية في البلاد العربية – تطوير الاستراتيجيات التربوية العربية.
وقد كان من الطبيعي أن يرفد أمهات مؤلفاتي القومية والفكرية والثقافية والتربوية زاد واسع متصل من المحاضرات والمقالات والندوات والدراسات والأبحاث، فضلاً عما يُسّر لي من آفاق العمل الميداني في مجال التربية في البلاد العربية جميعها، بحكم عملي خلال نيف وخمس وعشرين سنة مع منظمة اليونسكو، مُسْهماً عن كثب في تطوير النظم والمشروعات التربوية العربية في شتى المجالات.
ومع ذلك أشعر اليوم، وأنا على أبواب الثمانين من عمري، أن ما قدمته للثقافة وللفكر القومي وللتربية لا يعدو أن يكون جزءاً يسيراً مما كنت أتمنى أن أقدمه. على أن مما يهوّن عليّ هذا الحرمان، شعوري – رغم مرور الزمن وتوالد الأحداث وتغير البلاد وما عليها – أن ما شرّعته وغرسته في هذا المجال – مجال الثقافة والفكر القومي والتربية – يحتفظ بكامل شأنه وشأوه، ويظل منطلقاً لأي خطوة صادقة على طريق بناء الحياة العربية الغنية القوية المتقدمة القادرة.
ويسعدني أن أهدي هذا العطاء إلى أساتذتي وإلى لِداتي وأقراني من أبناء جيلي، وإلى الأجيال العربية الجديدة التي أرجو أن تحمل أمانة متابعته وإغنائه وتحديثه، وإلى رواد الفكر القومي الإنساني والفكر التربوي المجدِّد في الوطن العربي والعالم.
ولزامٌ علي أن أشيد في هذه الكلمة بالجو الحميم والعون الكبير الذي قدمته لي بصمت زوجي دعد المرادي، التي صحبتني في أعمالي كلها مشجعة ميسِّرة صبورة. وشكري موصول إلى أولادي وأحفادي الذين أرنو من خلالهم إلى مستقبل الجيل العربي الجديد وطموحاته وآماله.

دمشق في 2003/4/24
عبد الله عبد الدائم