الإمكانات الإيديولوجية الصهيونية

التاريخ: ١٠-١٣ مارس ١٩٩٩

المكان:  مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت

مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت عام 2000 – ندوة العرب ومواجهة إسرائيل

الإمكانات الإيديولوجية للصهيونية
الدكتور عبد الله عبد الدائم

مدخل
1- الإيديولوجية الصهيونية – على نحو ما نشأت وعلى ما صارت إليه اليوم – وليدة مخاض طويل لم يعرف منتهاه بعد، ولن يعرفه فيما نرى. وقد يبدو للنظرة السطحية أن هذا المخاض أدّى إلى صلابة عود هذه الإيديولوجية يوماً بعد يوم، وإلى نضجها المتواصل، وأنه بالتالي من أمائر العافية، ومن ثمرات التفاعل الخصيب. والحق أن هذا المخاض لم يكن عملية متنامية متصلة، بل كان منذ نشأته عملية صراع عنيف وتمزق خطير. ولولا العوامل السياسية الخارجية – وعلى رأسها الالتقاء منذ البداية بين الأهداف الصهيونية والأهداف الاستعمارية كما سنرى – لما استطاعت الصهيونية عند بواكير ولادتها أن تصمد أمام الأعاصير التي تعصف عليها من داخل الشتات اليهودي، ولما استطاعت الآن – بعد أن حال لونها وكادت تنطفئ شعلتها – أن تبقي على الكيان الإسرائيلي الذي تتنازعه التيارات المتخاصمة من كل جانب، والذي لم يعد كياناً إسرائيلياً واحداً وموحداً، بل أصبح كيانات متعادية تتجاذبه من كل صوب.
2- ومن هنا فإن النتيجة التي نود أن نخلص إليها في هذه الدراسة هي الآتية:
الإيديولوجية الصهيونية ولدت ولادة قسرية قيصرية، وحملت في صلب كيانها التناقضات التي سادت المجتمع اليهودي قبل ظهورها، وأضافت إليها تناقضات أخطر ولدها انبثاقها المحمل بالتناقضات، وولدت بعد ظهورها وبعد قيام دولة إسرائيل تناقضات أخرى أفدح وأخطر. وقد بلغت اليوم – ولاسيما بعد أن انطلقت عملية السلام في مدريد – شأواً من الصراع الحاد الذي كاد يكون قاتلاً. ومن هنا فإن الكيان الإسرائيلي مهدد بالانهيار من داخله، ولا يحميه من الانهيار إلا إنقاذ الدول الغربية له – وعلى رأسها الولايات المتحدة – بالإضافة إلى عجز الكيان العربي وتخاذله وخوفه. فلقد يسر السبيل لنجاح الإيديولوجية الصهيونية الطوباوية الحالمة – في بدايتها – تحالفها مع الاستعمار الغربي – ولاسيما البريطاني في ذلك الحين – ويسر اللقاء بينها وبين الاستعمار الغربي (ولاسيما الأمريكي) والاتحاد السوفياتي قيام دولة إسرائيل. وتتولى الإمبريالية الأمريكية اليوم رعاية الدولة وحمايتها حتى من مخاطر ذاتها وما يحمله الشقاق الداخلي فيها من بوادر الزوال. وبدوره ينقذ التخاذل العربي أمام إسرائيل وأمام الإمبريالية ذلك الوجود الإسرائيلي حين لا يجد في مواقف العرب ومطالبهم ما يذكي الصراعات والانقسامات في داخله حول هوية الكيان الإسرائيلي (ولاسيما فيما يتصل بأرض إسرائيل كما يدعوها)، ولاسيما أن جانباً كبيراً من نجاح الإيديولوجية الصهيونية (بالإضافة إلى ما ذكرنا من عون الدول الغربية) كان وما يزال الأخذ بالمواقف البراغماسية والعملية، وتعديل منطلقاتها الإيديولوجية تبعاً لذلك.
3- وهكذا سنمضي بعد هذا المدخل إلى أن نتحدث حديثاً خاطفاً – وبلغة البرقيات – عن الأمور الآتية:
– التناقضات في صلب الإيديولوجية الصهيونية عند ولادتها، والتناقضات التي تلت ولادة الحركة الصهيونية (منذ مؤتمر بال عام 1897) حتى قيام دولة إسرائيل.
– الصراع بين الإيديولوجية الصهيونية وبين التيارات المختلفة بعد ولادة الكيان الإسرائيلي حتى اليوم.
– إشكالية الهوية الإسرائيلية بوصفها إشكالية رافقت التيارات المتصارعة منذ القديم.
– أهم المشكلات التي دار حولها الصراع منذ نشأة الصهيونية حتى اليوم.
– نظرة إلى المستقبل، ولاسيما من خلال عملية السلام. ونحن في هذا كله نلتقي – إلى حد بعيد – مع ما ورد في الدراسة الهامة والقيمة التي قدمها الدكتور عبد الوهاب المسيري حول “الإمكانيات الإيديولوجية الصهيونية “. ومن هنا فلن نكرر ما جاء فيها، وسوف نكتفي بتقديم ما من شانه – في نظرنا – أن يزيد في توضيح مقاصدها، وان يجيب إجابة مباشرة على المسألة الأساسية التي يطرحها عنوان الدراسة. نعني: الإمكانات الماضية والمستقبلية للصهيونية وعوامل بقائها أو فنائها.

أولاًً: التناقضات في صلب الإيديولوجية الصهيونية منذ ولادتها حتى قيام دولة إسرائيل:
الصهيونية – مرة أخرى – ولدت ولادة مصطنعة، ولم تكن فقط فكرة طوباوية حالمة كما وصفها أنصارها، بل كانت فوق ذلك فكرة قسرية، لا تستند إلى مطالب الواقع اليهودي القائم إذ ذاك، بل تقدم لهذا الواقع حلولاً عكسية تريد أن تقسره عليها.
1- لقد كان قوام الإيديولوجية الصهيونية عند نشأتها النزوع إلى توفير إطار قومي واحد للشعب اليهودي المشتت. ولكن معظم يهود الشتات كانوا معارضين لهذه الفكرة معارضة صارمة، وكانوا على العكس من ذلك يدعون إلى مزيد من اندماج اليهود في المجتمعات التي كانوا يقيمون فيها، ولاسيما في المجتمعات الغربية (في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) شريطة توفير المساواة اللازمة لهم، بل من أجل توفير هذه المساواة. ولا أدل على ذلك من الصراع الحاد الذي قام بين “هرتزل” وبين زعماء اليهود وممثليهم في ألمانيا عندما أراد مؤسس الصهيونية هذا أن يعقد أول مؤتمر صهيوني عالمي في مدينة “ميونيخ”، الأمر الذي اضطر هرتزل بعد جدل حاد إلى عقده في “بال” في سويسرا. وبعد أن أسس أتباع هرتزل جريدة صهيونية في ألمانيا في حزيران/ يونيو 1897، أطلقوا عليها اسم العالم (Die Welt)، أصدر المكتب التنفيذي لرجال الدين اليهود في ألمانيا قراراً حاسماً ضد الصهيونية (في السادس من تموز/ يوليو 1897)، واعتبرها مناقضة للوعود المسيحانية اليهودية. ولا أدلّ على ذلك أيضاً من معارضة “الاتحاد الصهيوني” (Alliance Sinoiste)، العالمي والألماني لدعاوى الصهيونية المتصلة بإقامة دولة يهودية في فلسطين.
ومثل هذه المعارضة للصهيونية من قبل أبناء الشعب اليهودي نجدها في فرنسا. فيهود فرنسا المتشبعون بأفكار الثورة الفرنسية والفخورون بتحررهم وبالحفاظ على صورتهم الحسنة لدى سائر الفرنسيين، أقلقتهم الحركة الصهيونية التي تهدف في خاتمة المطاف إلى إقامة وطن لليهود في فلسطين. ولئن لقيت الصهيونية قبولاً في بريطانيا، فذلك لأسباب معروفة، سنتريث عندها فيما بعد، من بينها سيطرة بعض النزعات البروتستانتية البريطانية التي رأت (وفق تعاليم العهد القديم الذي هو مرجعها الأول) أن عودة اليهود إلى فلسطين مقدمة لازمة لظهور المسيح. يضاف إلى ذلك عاملان آخران: أولهما رغبة الشعب الإنكليزي في التخلص من هجرة اليهود إلى بريطانيا ومن منافسته الاقتصادية له (وهكذا يلتقي عداء السامية مع تأييد الصهيونية). وثانيهما الأهداف الاستعمارية البريطانية من أجل السيطرة على قناة السويس والطريق المؤدية إلى الهند.

وحتى في دول أوروبا الشرقية التي عانى فيها اليهود الكثير من الاضطهاد، واجهت الصهيونية تيارين شعبيين هامين معاديين لها: الأول هو التيار الأرثوذكسي الديني الذي رفض الادعاءات السياسية لحركة هرتزل، والثاني هو التيار الاشتراكي اليهودي الذي كان يمثله حزب “بوند” (Bund) (أي الاتحاد العام للعمال اليهود في لتوانيا وبولونيا وروسيا، وهو حزب تم تأسيسه في عام 1897، يناضل من أجل إقامة قومية علمانية تضمن الاستقلال الشخصي لليهود في أوروبا الشرقية).
2- وإذا تركنا جانباً موقف يهود الشتات المعادي للإيديولوجية الصهيونية في الجملة – والحديث عنه يطول – نجد طائفة من الأفكار والإيديولوجيات التي سبقت أو رافقت أو أعقبت ظهور الإيديولوجية الصهيونية، على نحو ما طرحها “هرتزل” ولاسيما في كتابه دولة اليهود (Der Juden Staat) الذي ظهر عام 1896، ثم في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في “بال” في آب/ أغسطس 1897.
والحديث عن هذه الأفكار والإيديولوجيات المباينة أو المخالفة أو المناقضة لصهيونية “هرتزل” يحتاج إلى سفر كامل بل إلى أسفار. وحسبنا أن نشير إلى أن أبرزها في إطار ما نهدف إليه من بيان التناقضات التي رافقت ولادة الإيديولوجية الصهيونية:
أ- هنالك التيار الفكري الهام الذي يمثله “آحاد هاعام” (Ahad Ha-Am) (1856-1927) والذي يعرف باسم التيار الثقافي، والذي أخذ على صهيونية هرتزل إهمالها للوجه الديني الثقافي.
ب- وهنالك الاتحاد الصهيوني الاشتراكي الذي يمثله “سيركين” (Nahman Syrkin) صاحب كتاب المسألة اليهودية ودولة اليهود الاشتراكية، وفيه يحارب مفهوم الدولة القومية على نحو ما يراه هرتزل. ومن أعلام هذا الاتجاه “بير بوروخوف” Ber Borokhov) (1881-1917) الذي يدافع عن النظرية المادية في بناء الدولة، والذي يرى أن المسألة اليهودية ينبغي أن يتم حلها عن طريق قوانين الاقتصاد، وليس عن طريق العمل السياسي.
ج- وهنالك جماعة “أحباء صهيون” (Hovevei Tzion) التي ظهرت بعد الاضطهاد الشهير الذي أصاب يهود روسيا في عام 1885، والتي ظهرت وامتدت إلى بلدان كثيرة أخرى خارج الإمبراطورية الروسية، والتي عملت من أجل تعزيز الوجود اليهودي في فلسطين، مع رفض فكرة إنشاء دولة يهودية. وقد كان رئيسها حتى عام 1889 المفكر “بينسكر” (Pinsker) (1821-1891) وهو طبيب من “أوديسا”.
د- وهنالك التيار الذي تمثله التيارات الدينية المختلفة، وهو تيار ذو شعب عديدة، أخذ ألواناً متباينة وأحياناً متناقضة، وما يزال مستمراً في التوالد والتكاثر حتى اليوم. ومنه من وقف من الصهيونية منذ البداية موقفاً موفقاً. ومعظمه، ولاسيما التيار الديني الإصلاحي – رفض الصهيونية. وأبرز تياراته التي رفضت الصهيونية التيار “الحسيدي” (السلفي المغالي)، والتيارات “المسيحانية” التي تعتبر العودة إلى فلسطين قبل ظهور الدلائل الإلهية كفراً وهرطقة. كذلك من التيارات المعادية للصهيونية عند ظهورها “التيار الديني الحديث” الذي يرى في الصهيونية “إبليس الوطن اليهودي” ويؤكد أنها تمثل “إنكاراً واضحاً لليهودية”. وقد وقف بعض أتباع هذا التيار وعلى رأسهم “هيرش” (Samson Hirsch) موقفاً حازماً ضد إقامة دولة في فلسطين.
هـ- ومن غير الجائز أن ننسى التيار القومي المتطرف الذي ينتمي إليه اليمين الصهيوني كله، والذي مثله في بداية ظهور الصهيونية “ابن الصهيونية المخيف” كما يسمى عادة، نعني “جابوتنسكي” (Vladimir Zeev Jabotinsky) (1880-1940). فعلى الرغم من أن هذا السياسي قد تبنى الصهيونية وتبنته، بل اعتبرته من أبرز قادتها، فإنه كان مخالفاً في كثير من طروحاته لصهيونية هرتزل وصحبه، كما أنه دعا إلى مراجعة الصهيونية في برنامجه الذي وضعه، وكون لهذه الغاية حركة سماها بهذا الاسم (أي المراجعة) في باريس عام 1925. وقد كان – كما نعلم – فاشياً إلى أقصى حدود الفاشية، رافضاً للديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومنكراً لحق تقرير المصير، ومتنكراً للصهيونية الاشتراكية، مؤمناً بالقومية العرقية وبصفاء العرق اليهودي، مؤكداً على أهمية دور الزعيم والرجل العظيم، داعياً إلى العنف ضد العرب وإلى محاربتهم لا محالة من أجل إقامة دولة إسرائيل، مؤمناً بالعنف الخلاق، كما يقول… الخ.
وكلنا يعلم أن أفكار جابوتنسكي هي التي تبناها اليوم اليمين المتطرف في إسرائيل، وأنها التي أدت إلى تكوين عصابات “الهاغانا” و”الإرغون” و”شتيرن” وسواها من الحركات الإرهابية، وهي التي أخذ بها أمثال “بيغن” و”شامير” و”نتانياهو” وسواهم من غلاة الصهيونية.
و- وثمة حركة من طراز خاص، خالفت المقولات الصهيونية أيضاً، وكان لها شأن متميز بين الأربعينيات والخمسينيات، ونعني بها الحركة الكنعانية. وهذه التسمية التي اشتهرت بها أطلقها عليها، من باب السخرية، الشاعر العبري “أيراهام شلونسكي” (1900-1973)
استناداً إلى الفقرة الواردة في سفر التكوين: “فقال ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته” (التكوين 9: 25)(1). أما اسمها الحقيقي فهو “حركة العبريين الشبان” (تأسياً بحركة “الأتراك الشبان” بزعامة أتاتورك). وعلى الرغم من أن عدد أتباعها كان محدوداً، فإن شأنها وأثرها كانا كبيرين. وقد ظهرت لدى “الصبار الأوائل” (الشباب المولود في فلسطين). وأهم منطلقاتها أن الحياة الدينية والأخلاقية على نحو ما تبلورت في اليهودية على امتداد 2500 عام، ليس فيها ما يلزمهم. ومثلها، في نظرهم، الحركة القومية التي شاعت منذ قيام الصهيونية. فالصهيونية والدين اليهودي قد نبعا من أساس مشترك، وهو أن اليهود يشكلون شعباً، والأمر ليس كذلك في نظر العبريين الشبان. وعندهم أن واقعاً إسرائيلياً جديداً، لا علاقة له بالواقع اليهودي في الشتات، قد ولد على أرض فلسطين. ومن هنا شنت هذه المجموعة هجوماً نقدياً على “يهودية” الشتات، وعلى دين إسرائيل ومؤسساته وقيمه، وعلى نهج التاريخ اليهودي برمته. ودعت – في زعمها – إلى خلق أمة موحدة في “أرض العبريين على نهر الفرات” من خلال “الدمج المتقدم للجماعات العرقية المحلية” (العرب والأكراد واليهود). ومن الجدير بالذكر أن وجهة النظر هذه هي التي وجهت زعماء حركة “لحي” في ذروة حربها ضد البريطانيين في فلسطين عام 1946، حين أصدرت كتيباً عنوانه أسس السياسة العبرية الخارجية بينت فيه أن هدف نضالها هو إقامة اتحاد فيدرالي لدول الشرق الأوسط. وقد أثارت هذه الفكرة – كما نعلم – الزعيم الصهيوني “حاييم وايزمان” خلال محادثاته مع الملك فيصل، وكذلك “بن غوريون” في حواره مع زعماء عرب في الثلاثينيات. ولعل مشروع “شيمون بيرس” عام 1995 لإقامة مشروع شرق أوسطي جديد غير بعيد عن تلك الأفكار. وقد أسدل الستار على هذه الحركة الكنعانية خلال الخمسينيات وتشرذم أتباعها أو من تبقى منهم على قيد الحياة، بين تائب عن أفكار الحركة، وبين مؤيد ومساند لحركة “غوش إيمونيم” المتطرفة”.
ز- وإلى جانب الحركة الكنعانية، ظهرت الحركة “الصبارية” أو “العبرية”. وهي الحركة التي ولدت مع طلائع ما يعرف في تاريخ الاستيطان الصهيوني بالهجرة الثانية
(علييا شينا) التي تمتد خلال الأعوام (1904-1914)، والتي استمرت بعد ذلك، ولمع نجمها ما بين عام 1940 و1950، وكانت من المراحل الحاسمة في تاريخ هذا الاستيطان. وقد أتى معظم رجالها من روسيا بعد الأحداث التي جرت فيها عام 1903 وعام 1904، وبعد فشل الثورة الروسية (عام 1905). وكان معظمهم من أعضاء الحركات الصهيونية الاشتراكية. وقد ابتدعوا في فلسطين فكرة “الكيبوتز” وأسسوا الأحزاب العمالية وطبقوا في فلسطين على الصهيونية مبادئ العلمانيين من الراديكاليين الاشتراكيين الروس. وكانوا مناهضين للدين – أكثر من هرتزل – نادوا بفصل الدين عن الدولة، ونظروا إلى التوراة نظرتهم إلى مجرد وثيقة تاريخية.
ومن خلال هذا المناخ الذي ساد خلال الهجرتين الثانية والثالثة، نشأ جيل من الأبناء الذين ولدوا في فلسطين، اعتبر نفسه فلسطينياً في كل شيء، ولا علاقة له بالماضي اليهودي في الشتات، وعلاقته بفلسطين علاقة قوامها الأرض والمكان وليس التاريخ. وقد عرف هذا الجيل باسم جيل “الصباريم” (وهي جمع لكلمة “صبار” التي تعني “التين الشوكي” كما نعلم) وقد اعتبر هؤلاء “الصباريم” أنهم يشكلون بداية جديدة لا علاقة لها بالماضي اليهودي الديني أو الثقافي أو التاريخي. ورفضوا الثقافة الشتاتية بكل أشكالها، الأمر الذي يتعارض تعارضاً واضحاً مع الموقف الصهيوني الذي حافظ على الروابط مع الشتات اليهودي. وقد سلم “الصباريم” بهجرة يهود الشتات إلى دولتهم الصغيرة، ولكنهم ظلوا يميزون بين المهاجرين من البلدان المختلفة وفقاً لمدى تقبلهم للقيم الصبارية.
وما لبثت هذه الحركة بدورها أن سقطت، كما سقطت من قبلها الحركة الكنعانية، وتداعى الصبار العلماني، وظهر مكانه بعد ذلك من يمكن أن نطلق عليه اسم “الصبار الديني”، نعني رجل “غوش إيمونيم” (كتلة الإيمان)، وهو المستوطن المسيحاني – السياسي الذي يتبنى الأسطورة المطالبة بأرض إسرائيل الكاملة. وقد ظهرت هذه الحركة كما نعلم في أعقاب حرب عام 1967، ولها دور شبه حاسم في توجيه الأحداث في إسرائيل اليوم.
3- تلك – بإيجاز مخل – بعض صور التناقض والصراع اللذين رافقا الصهيونية منذ ولادتها وحتى قيام دولة إسرائيل. ولقد تريثنا بعض الشيء عندها لنرى كيف أن الإيديولوجية الصهيونية ولدت مصطنعة، في قلب شتات يهودي ينكرها، بل استيطان فلسطيني يبرأ منها، ووسط أفكار وحركات لكل منها شرعتها الخاصة ومنهاجها المتفرد. ومن الصعب – وسط هذا البحران من الحركات والاتجاهات – أن نستخرج من صلب الصهيونية، حتى عند ولادتها، مذهباً بين المعالم. ولا يرجع ذلك – كما قلنا ونقول – إلى اختلاف الأئمة – بل يرجع إلى أن الفكرة الصهيونية نفسها فكرة واهية النسيج، مضطربة القوام، لا جذور لها في الواقع. الأمر الذي يجعلنا نؤكد مرة أخرى أن قوام الصهيونية يرتد في خاتمة المطاف إلى مطلب واحد: “هو توفير إطار قومي للشعب اليهودي المشتت”. وحتى إذا اقتصرنا على هذا المطلب، نجد، كما رأينا، أن الآراء حوله كانت متضاربة. فهنالك من كان يدعو إلى دمج الشتات بالمجتمعات التي يقيمون فيها، ومن يدعو إلى إيجاد ضرب من العلاقات الفيدرالية بين اليهود في العالم.
ولعل مما يزيد في توضيح ما في الإيديولوجية الصهيونية من تناقض ذاتي وما صاحب ولادتها وتلاها من اتجاهات متعارضة، أن نلخص – بإيجاز مخل أيضاً – أهم المسائل التي ثار حولها الخلاف، والتي ورد جانب منها في الجزء السابق. وهذه المسائل كما سنرى كانت وما تزال عصية على الحل، وهي تزداد تعقداً يوماً بعد يوم. ونكتفي فيما يلي بالإشارة إليها عابرين، ولاسيما أن الدراسة الجامعة القيمة التي قدمها الدكتور عبد الوهاب المسيري قد توقفت عند الكثير منها.
أ- هنالك مسألة الخلاف داخل الحركة الصهيونية عند ولادتها وبعد ولادتها حول أرض الدولة اليهودية، ولاسيما الخلاف الحاد بين رفض إقامة دولة يهودية في فلسطين كما فعل “ليو بنسكر” (Leo Pinsker) (1821-1891) أحد أبرز زعماء الصهيونية الأوائل، وكان طبيباً في أوديسا كما ذكرنا (وقد كان رفضه لاختيار فلسطين وطناً لليهود رفضاً قاطعاً جازماً بل محذراً لأسباب لا مجال لذكرها هنا) وبين المطالبين بإقامة هذه الدولة في فلسطين (بوصفها أرض الميعاد كما يدعون) وبين من يقبل بأي أرض لهذه الدولة في أي مكان في العالم. ومن المعروف أن هرتزل نفسه لم يكن في البداية (في كتابه دولة اليهود) مصراً على إنشاء الدولة في فلسطين، وأنه وافق على العرض الذي قدمه عام 1903 وزير المستعمرات البريطاني “جوزيف تشامبرلن” والمتصل بإقطاع أوغندا أرضاً لليهود. وكما نعلم، لقد استعرض الصهاينة حوالي عشرة أمكنة في العالم جرى التدقيق والبحث في مدى صلاحها لأن تكون دولة لهم (مدغشقر – ليبيا – الأرجنتين – أوغندا – ما بين النهرين – أستراليا – أنغولا – قبرص – سيناء).

ب- وهنالك مسألة العلاقة بين الصهيونية والاشتراكية. فقد تبنى الاتجاه الاشتراكي والماركسي أمثال “ناحمان سيركين” (Nahman Sirkin) و”بير بروخوف” (Beer Brokhov) (1881-1917) وهما من أبرز رواد الصهيونية، بينما عارضه أمثال “أهارون غوردون” (Agharon Gordon) (1856-1922) وكثير آخرون.
ج- وهنالك مسألة اللغة، والخلاف الحاد الذي ظهر قبل نشأة الصهيونية واشتد بعدها، نعني الخلاف بين الداعين إلى إحياء اللغة العبرية وتجديدها، وبين الذين يؤثرون الإبقاء على لغة “اليديش” (Jiddish) التي كانت شائعة لدى يهود الشتات. ومن الجدير بالذكر أن هرتزل نفسه كان ضد استخدام اللغة العبرية في الدولة اليهودية الموعودة، وكان يدعو إلى استخدام اللغة الألمانية!
د- وهنالك المسألة الكبرى، مسألة العلاقة بين الدعوة الصهيونية والديانة اليهودية. ولقد كانت هذه المسألة وما تزال العقدة الكبرى التي واجهتها وتواجهها الصهيونية. وسنعود إليها عند حديثنا عن الوضع القائم حالياً في إسرائيل. وحسبنا أن نذكر – من قبيل المثال – أن معظم الاتجاهات الدينية المختلفة – ولاسيما الاتجاهات الأرثوذكسية القديمة والمحدثة والاتجاهات التقليدية المغالية، كانت اتجاهات معادية للصهيونية، تصفها بأنها ثورة ضد الإله “ونفي لليهودية”. وقد كان من أبرز ممثليها “إسحق بروير” (Isaac Brewer) (1882-1946) الذي كان وجهاً بارزاً من وجوه الأرثوذكسية اليهودية الجديدة في ألمانيا ثم في فلسطين. وهو يبين في مؤلفاته الكثيرة أن المزاعم السياسية التي أتت بها الصهيونية مزاعم خطيرة وعابثة. فالشعب اليهودي، فيما يقول، كان له دوماً ملك وسيد هو الله، وله دستور هو التوراة. ومن التهافت ومضيعة الوقت إذن بناء دولة في فلسطين. والصهيونية مرفوضة لأنها تود أن تخضع اليهود لسلطة الدولة غير المشروطة بشرط، ولأنها تمثل ردة خطيرة حين تستبدل العبودية بالحرية.
وكلنا يعلم أن الصراع بين الصهيونية والدين كان صراعاً مستمراً حاداً وما يزال، وأن هرتزل نفسه ناقض نفسه – وهو العلماني – وقدم مخادعاً تنازلات كثيرة حول الصلة بين الصهيونية والدين. ومثله فعل “بن غوريون” وسواه من أصحاب الدعوة العلمانية حين مالأوا الاتجاهات الدينية، بل المتطرفة منها أحياناً (من مثل جماعة “نطوري كارتا” الدينية الرافضة للصهيونية ولدولة إسرائيل). وهذا ما يفعله “ناتانياهو” اليوم على الرغم من أنه غير متدين.
هـ- ولن نتحدث ههنا عن التناقضات بين الصهيونية وبين كثير من الاتجاهات والحركات والأحزاب بعد ولادة إسرائيل، ونترك ذلك إلى حين حديثنا عن الصهيونية في إسرائيل اليوم. غير أنه يظل من الصحيح أن التناقضات اليوم هي وليدة التناقضات الأصيلة القائمة في صلب العقيدة الصهيونية، وأنها تعبر عن تزايد الصراعات البديئة حدة وشدة يوماً بعد يوم، الأمر الذي يشهد على أن الإيديولوجية الصهيونية أصيبت منذ ولادتها بسرطان من الآراء والاتجاهات المتعارضة تزداد انتشاراً في نسيجها كلما تقدم الزمن. وهذا ينقلنا تواً إلى الحديث عن تناقضات الإيديولوجية الصهيونية بعد ولادة إسرائيل حتى اليوم.
ثانياً: تناقضات الإيديولوجية الصهيونية بعد ولادة إسرائيل حتى اليوم:
كما قلنا ونقول، هذه التناقضات التي ظهرت بعد ولادة إسرائيل واشتدت وتعاظمت حتى اليوم، ليست منقطعة عما قبلها، بل هي امتداد لها، بل اختبار لها، ضمن معطيات جديدة، بعد أن ولدت دولة إسرائيل بفضل عون الدول الأجنبية الغربية (وعلى رأسها الولايات المتحدة) وبفضل اتفاق مصالح الشرق السوفياتي مع مصالح الغرب في هذا الشأن.
1- ولا نستبق الأمور إذا قلنا أن ما حدث بعد خلق الكيان الإسرائيلي، بالقياس إلى ما كان قبله، يعبر عنه عضو الكنيست “شلومو بن عمي” (من حزب العمل) والأستاذ بجامعة تل أبيب، إذ يقول:
“إن هذا المجتمع الذي أنشأه الآباء المؤسسون من الصهاينة وأرادوا أن يكون بوتقة صهر تمتزج فيها مختلف الثقافات واللغات، تحول إلى مجتمع متعدد الأعراق لتحل محلها صور أخرى عديدة لكل منها شرعيتها… بين اليهودي والعربي، والمتشددين دينياً (الحريديم) والقوميين الدينيين (غوش إيمونيم) والتقليديين والعلمانيين وغيرهم ممن تمتد جذورهم إلى أصول عرقية مختلفة، مثل “السفاراديم” و”الأشكنازيم” و”المهاجرين الروس” و”الإثيوبيين” وغيرهم. وقد أدى هذا التفتت للصيغة الإسرائيلية إلى تشرذم بين ثقافات وطوائف مختلفة، ولهجات متباينة، ومواقف متصارعة تجاه الدولة اليهودية”.
ويرى “بن عمي” أن هذه الانشقاقات “تؤهل لحدوث انفجارات عنيفة داخل المجتمع”(2).
2- وإذا نحن أردنا – بإيجاز مخل أيضاً – أن نتحدث عن أهم الاتجاهات المتصارعة في إسرائيل اليوم، أمكننا أن نقسمها – تسهيلاً للبحث – إلى ثلاثة أنواع من الصراعات: الصراعات داخل التيارات الصهيونية – الصراعات بين التيارات الدينية – الصراعات بين التيارات العلمانية والتيارات الدينية(3).
أ- الصراعات داخل التيارات الصهيونية: وتتجلّى في الصراعات بين الصهيونية الإنسانية (كما يقولون) أو “صهيونية الحد الأدنى” (تبعاً لمواقفها من الأراضي المحتلة)، وبين “الصهيونية القومية” أو “الجابوتنسكية” في صيغتها المعاصرة (أو صهيونية الحد الأقصى)، وبين “الصهيونية القومية المتطرفة” الانعزالية.
وتتجلى الإيديولوجية الصهيونية الإنسانية في حركات السلام غير البرلمانية (وهي عديدة، أشهرها “حركة السلام الآن”). وأصحاب هذا الاتجاه ينادون بشعار الدولة لكل مواطنيها، وبإعادة المناطق المحتلة للفلسطينيين، ويعترفون بحقهم في إقامة دولة فلسطينية.
أما “الصهيونية القومية” (أو الجابوتنسكية) أو صهيونية الحد الأقصى، فقد سبق أن أشرنا إليها، وهي إيديولوجية تشدد على العرقية وعلى الأهمية الرمزية المتزايدة لأحداث النازية. وهي نظرية تبدو جذابة للأكثرية من حزب “الليكود” ومعظم أعضاء “الحزب الديني القومي” (مفدال) وحركة “غوش أمونيم” (كتلة المفدال). وهي ترفض مبدأ إعادة الأراضي المحتلة للفلسطينيين والسوريين، وترفض مبدأ إقامة “دولة فلسطينية” بين البحر والنهر، وتسعى بعض الفصائل فيها (كحزب “موليديت”) وعدد من قادة الليكود (أرييل شارون ومناحيم بيغن) إلى تحقيق عملية “ترحيل” (ترانسفير) كاملة للعرب في المناطق الفلسطينية المحتلة، حفاظاً على الطابع اليهودي للدولة.
أما الصهيونية القومية المتطرفة فتشترك مع الصهيونية القومية في شعاراتها التي سبق أن ذكرناها، وتعبر عن نزعة انعزالية عن العالم، متبينة شعار “الشعب الذي يسكن وحده”. وتستند عقيدتها إلى خليط من التطرف الإلهي للشعب اليهودي في “أرض إسرائيل”، بغض النظر عن الاعتبارات السياسية والأمنية. وترى أن “شعب إسرائيل” و”أرض إسرائيل” و”التوراة” ثالوث لا ينفصم، وعندما يتحقق اندماجها التام سيأتي “المسيح المخلص”. ومن هنا فهي ترى أن تحرير الأرض شرط مسبق لتحرير الشعب اليهودي، وأن “تهويد الضفة الغربية، ثم الشرقية لنهر الأردن، شرط أساسي لتحرير الشعب اليهودي، وهي مهمة أمر بها الرب”. وأبرز من يمثل هذه الصهيونية القومية المتطرفة حركة “غوش أيمونيم” وحركة “كاخ” وحركة “إيل” وحركة “دولة يهودا”، وكلها حركات تتولى الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية وغزة، وتتلقى الدعم حتى من عناصر علمانية كثيرة في أوساط حزب العمل الإسرائيلي، وغيره، ومن الأحزاب الدينية سواء منها الصهيونية أو “الحريدية” المعادية للصهيونية، ولاسيما في مجال جهودها الاستيطانية.
ب- الصراعات بين الاتجاهات اليهودية الدينية: وهي اتجاهات عديدة ينتمي معظمها إلى اليهودية الأرثوذكسية، وتدعو في الجملة إلى إقامة دولة يهودية تحكمها الشريعة والتوراة. ويمكن تقسيمها – تبعاً لموقفها من الصهيونية ودولة إسرائيل – إلى تيارات ثلاثة:
الأول هو التيار الذي تمثله الأحزاب الصهيونية الدينية، وأبرز ممثليه حزب “مفدال” أي “الحزب الديني القومي”. ويؤكد هذا التيار ارتباطه العميق بالصهيونية القائمة على التوراة والشعب وأرض إسرائيل. وقد انشقت عن المفدال أحزاب مثل: حزب “موراشا” (أي التراث) عام 1981، وحزب “ميماد”، وهو حزب ديني صهيوني أشكنازي.
والثاني هو التيار “الحريدي” الذي تمثله الأحزاب التي ترفض الصهيونية كعقيدة، وترى أن الصهاينة قد تحدوا الرب حين أقاموا دولة إسرائيل، لأن قدوم المسيح المخلص هو وحده الذي يمكن أن يقودهم إلى الميعاد. وقد نشأ هذا التيار منذ طور مبكر قبل ولادة إسرائيل (منذ عام 1918)، ومثله آنذاك حزب “أغودات يسرائيل”. واستمر بعد ذلك، وأخذ شكلاً معتدلاً بعض الشيء. وقد قامت منذ عام 1984 ثلاثة أحزاب “حريدية” جديدة: “شاس” وهو حزب سفارادي، و”ديغل هتوراه” أي “علم التوراة” وقد خاض انتخابات الكنيست الثانية عشرة لأول مرة عام 1988، وحزب “تامي” (قائمة تقاليد إسرائيل” وقد اشترك في انتخابات الكنيست العاشرة عام 1981) (بزعامة أهارون أبو حصيرة).

والثالث هو التيار الحريدي المعادي للصهيونية ولدولة إسرائيل معاً. وتمثله جماعات “حسيدي سطمار” و”نطوري كارتا” والطائفة الحريدية. وهذه الجماعات ترفض الاعتراف بوجود دولة إسرائيل، وتناضل ضدها.
ج- الصراعات بين التيارات العلمانية والتيارات الدينية: ولا شك أن هذه الصراعات هي أخطر ما تعاني منه إسرائيل اليوم، ولاسيما أن التيارات الدينية قد اشتد ساعدها يوماً بعد يوم، وبوجه خاص بعد كارثة حزيران/ يونيو 1967 (التي اعتبرها الكثيرون من المتدينين وغيرهم نصراً من الرب). ويكفي أن ننظر إلى نتائج انتخابات الكنيست عام 1988، ثم عام 1992 وأخيراً عام 1996، كي ندرك أن الأرقام التي حصلت عليها الأحزاب الدينية في انتخابات عام 1996 تنبئ بحدوث مد ديني كاسح وبتغير عميق في الواقع الديني في إسرائيل. فلقد حصلت الأحزاب الدينية مجتمعة في انتخابات أيار/ مايو 1996 على 23 مقعداً (تسعة مقاعد لحزب “المفدال” وعشرة مقاعد لحزب “شاس” وأربعة مقاعد لحركة “يهدوت هتوراه” الممثلة لحزب “أغودات يسرائيل”)، مما أدى إلى حصول هذه الأحزاب مجتمعة، لأول مرة، على خمس وزارات (الداخلية – المواصلات – التعليم – الأديان). أما أسباب تزايد قوة هذه الأحزاب الدينية فالحديث عنها يلتهم صفحات طوالاً.
ويعنينا أكثر من ذلك أن نتأمل في انعكاسات هذا المد الديني على الإيديولوجية الصهيونية من جهة، وعلى واقع إسرائيل ومستقبلها من جهة ثانية.
3- أما انعكاسات هذا المد الديني على الإيديولوجية الصهيونية، فهي كثيرة، حسبنا أن نشير من بينها إلى أهمها، نعني الانعكاسات على الصراع حول الهوية في إسرائيل، وهو صراع قديم جديد دوماً.
ولا شك أن أول مشكلة تشغل الإسرائيليين اليوم هي التساؤل عن تعريف “اليهودي”: من هو اليهودي؟ ومن هو “اليهودي المتدين” أو “اليهودي الأرثوذكسي”؟ ومن هو “العلماني”؟ ومن هو بالتالي المواطن الإسرائيلي؟ وما شأن “قانون العودة” اليوم (الذي صدر عند إقامة دولة إسرائيل)؟ وكيف يمكن حل الخلاف حول من يحق له التجنس في إسرائيل؟ وما شأن “العرق” في الهوية الإسرائيلية؟… الخ.
ولن نخوض في هذا الموضوع الواسع(4)، وقد توقف عنده الدكتور عبد الوهاب المسيري في بحثه القيم، كما فصلنا الحديث عنه في كتابنا إسرائيل وهويتها الممزقة(5)، وحسبنا أن نذكر – في حدود بحثنا – أن موضوع الهوية في إسرائيل لا يقع الخلاف حوله بين العلمانيين والمتدينين فحسب (وكل منهم يمثل حوالي 50 % من سكان إسرائيل)، بل يشمل اتجاهات وحركات أخرى (داخل العلمانيين والمتدينين أو خارجهما) أهمها: الهوية في نظر الاتجاه “الصباري” الذي سبقت الإشارة إليه – الهوية في نظر دعاة حركات السلام – الهوية في نظر كل من الأشكنازيم والسوفارديم (الذين يمثلون 55 % من سكان إسرائيل) – الهوية والأقليات الطائفية في إسرائيل (المسلمون والمسيحيون).
ثالثاً: تناقضات الإيديولوجية الصهيونية ومستقبل إسرائيل:
1- هكذا تستبين لنا من خلال هذا العرض الخاطف أن الصراعات في قلب إسرائيل التي ولدتها الإيديولوجية الصهيونية، تطرح تساؤلات جادة حول مستقبل هذا الكيان.
وعلى الرغم من أن تلك الصراعات متشابكة و”أعقد من ذنب الضب” كما يقال، بحيث تجعل حساب الاحتمالات حول مصير إسرائيل عسيراً، فإن ما نسمع ونقرأ من كتابات كثير من السياسيين والمفكرين اليهود في إسرائيل نفسها، ينذر بالثبور ويقدم صورة قاتمة عن احتمالات المستقبل الإسرائيلي. وقد كشف استطلاع حديث للرأي في إسرائيل، بعد توقيع “اتفاق واي بلانتيشن” أن 55 % من أبناء الشعب الإسرائيلي يعتقدون اعتقاداً قوياً ويكاد يكون جازماً بأن اغتيالات كثيرة، كاغتيال “رابين”، سوف تقع في إسرائيل عاجلاً أو آجلاً. والجميع يعلم اليوم أن مقتل “رابين” على يد متهوس ديني يدعى “إيغال عامير” قد تم وفق فتاوى بعض كبار الحاخامات التي اعتبرته خائناً وكافراً. ولم يندم الفاعل على فعلته، بل بررها بدوافع دينية، وقال إن الرب كان معه عندما قتل رابين، وأنه أنقذ النفوس البشرية عندما اغتاله. وهكذا غدا في نظر الكثيرين في إسرائيل «قاتلاً مقدساً، صاحب رسالة، يقتل من أجل السماء».
ومنذ ذلك الحين أصبح اصطلاح “الحرب الأهلية” بين الدينيين والعلمانيين شائع الاستعمال في أجهزة الإعلام الإسرائيلية والأجنبية. وظهر متحمسون جدد مستعدون للموت، وأعلنوا الحرب على الدولة العبرية الخائنة.
وإذا نحن اقتصرنا على جانب واحد (ولكنه هام) من هذا الصراع داخل إسرائيل، نعني الصراع بين المتدينين والعلمانيين، أمكننا أن نقدم شواهد عديدة على خطورته نطق بها مفكرون من كلا الطرفين. وقد أظهرت دراسة حديثة قام بها معهد “غولدا مائير” التابع لجامعة تل أبيب أن الخلاف بين المتدينين والعلمانيين في المجتمع الإسرائيلي هو أساس الأزمات في دولة إسرائيل، وأنه على الرغم من أن الصراع العربي – الإسرائيلي يحتل المكان الأول من حيث حدته وبروزه الإعلامي في الصحافة الإسرائيلية، إلا أنه يأتي في المرتبة الثانية من حيث مركزيته في حياة المجتمع الإسرائيلي”(6).
ويلخص هذا الموقف الثنائي الحاخام “إسرائيل هاريل” (Israel Harel) رئيس مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية (وهو أحد الحاخامات القلائل الذين أدانوا مقتل “رابين”) على النحو الآتي:
“إن ثمة وطنيين آخذين بالتكون في إسرائيل: وطن الإسرائيليين، ووطن اليهود. أما الإسرائيليون فهم “أغيار” (Goyim) غرباء يتكلمون العبرية لا أكثر ولا أقل. ولقد أنهكتهم الحروب وسئموا منها، ونسوا الصهيونية، ولم يعرفوا اليهودية يوماً ما. وقد جاء “رابين” ليقول لهم فوق ذلك كله، أَنْ لا خوف على أمن إسرائيل، وأن في وسعهم أن يطمئنوا بعد اليوم إلى أنهم لن يرحلوا عن هذه البلاد. فماذا يبقى لهم إذن بعد هذا؟ يبقى لا شيء، يبقى الفراغ المطلق. وهو فراغ لن تستطيع العلمانية أو الديمقراطية أن تسده، فكتاهما لا تعتبران من القيم البنيوية الأساسية للشعب اليهودي. وبمقدار ما كنا نقترب من تنفيذ اتفاقات “أوسلو” كان يبدو واضحاً للفريق الأول، فريق المنتمين إلى “وطن الإسرائيليين” أن الأرض قد غدت عقبة في وجه التطبيع، بينما كان يبدو للفريق الثاني، فريق المنتمين إلى “وطن اليهود”، أن التطبيع خطر على الهوية الإسرائيلية”.

ومما هو جدير بأن نشير إليه، في هذا المجال، تلك الوثيقة التي عرفت باسم “اتفاقية الوضع الراهن” (Statu Quo) والتي نظمت العلاقة بين المتدينين والعلمانيين منذ نشأة دولة إسرائيل. ففي 19 حزيران/ يونيو 1947 أرسل “بن غوريون” (الذي كان آنذاك رئيساً لإدارة الوكالة اليهودية) خطاباً إلى حزب “أغودات يسرائيل” وعد فيه بأن تحفظ للدين عدة مبادئ رئيسة. ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه الاتفاقية ترفق بكل اتفاق ائتلافي (منذ عام 1955) بين “الماباي” (حزب العمل) والأحزاب الدينية، وبعد ذلك بين حزب “الليكود” والأحزاب الدينية منذ عام 1977، عام الانقلاب السياسي الكبير. ولكن الأحداث أخذت تقضم مبادئ هذه الاتفاقية يوماً بعد يوم، إلى أن ذهبت أدراج الرياح بعد وقوع الفصام العنيف بين العلمانيين وبين المتدينين المتشددين. وعادت إلى الظهور والبزوغ الساطع من جديد المبادئ الأساسية للعقيدة اليهودية الأرثوذكسية بكل ما فيها من غرائب الفرائض والطقوس، الأمر الذي جعل غلاة اليهود المتشددين أنفسهم يؤكدون أن التاريخ يعيد نفسه، وأن تاريخ دولة إسرائيل الحديثة تكرار للتاريخ اليهودي القديم، بكل ظلمه واضطهاده وحروبه ومآسيه. وهذا كله عندهم يشير إلى أن الدرس الذي تعلموه من التاريخ اليهودي والمكابي يكاد ينبئ بدقة أكيدة بمصير دولة إسرائيل، حتى لكان الغد أشبه بالأمس من الماء بالماء.
وهكذا صدق تحذير “ليو بنسكر” (Lio Pinsker) (1821-1891) أحد رواد الصهيونية الشهيرين، حين رفض إقامة دولة يهودية في فلسطين، مبرراً ذلك بأن العلاقة بين أرض إسرائيل وبين ما هو مقدس علاقة قوية إلى حد تجعل من المستحيل أن تقوم دولة يهودية في إطار سياسي محض بعيد عن الدين. وقد قاده هذا المنطق إلى نبوءة جريئة، حين بين أن سقوط دولة داود ومن بعده يرجع إلى الخلط المبهم بين الوجه السياسي (ممثلاً بالملك والقضاة) وبين الوجه الديني (ممثلاً برجال الدين والأنبياء). وهذا الخلط – كما يقول – لا يمكن اجتنابه في حال اختيار أرض فلسطين. ومن هنا فمن الواجب اجتناب ذلك الوهم المشؤوم، أي “إحياء دولة يهوذا القديمة” وما كان بعدها من مآس. وعنده أن النزعة “المسيحانية” والدينية تجعل كل بحث عن إقامة دولة سياسية ذات طابع إنساني بحثاً عقيماً.
2- والحديث عن صراعات الواقع الحالي في إسرائيل يطول، وهو متعدد الوجوه. ولا شك أن كل ما في الوجود الإسرائيلي الحالي يشير إلى اضطراب إيديولوجي خطير، وينبئ بتعاظم الأخطار البنيوية الداخلية التي تهدد الوجود الإسرائيلي. ويعنينا من هذا كله أن نطرح السؤال الأساسي والحاسم: ما هي احتمالات تفجر الكيان الإسرائيلي من داخله بسبب صراعاته الإيديولوجية المزمنة والحادة؟
وللإجابة على هذا السؤال يحسن أن نعود أولاً عودة خاطفة إلى الوراء، لنتساءل: كيف استطاعت الصهيونية أن تقيم دولة في إسرائيل على الرغم من صراعاتها الذاتية العميقة كما رأينا؟
ومن شأن الإجابة على هذا السؤال أن تيسر لنا الإجابة على السؤال الأساسي وهو:
هل تستطيع إسرائيل أن تبقي على كيانها على الرغم من الصراعات العنيفة فيه؟
أ- ولنبدأ الإجابة على السؤال الأول، بإيجاز شديد، ولاسيما أننا تعرضنا لذلك في مطلع بحثنا:
نستطيع أن نلخص العوامل التي أدت إلى خلق الكيان الإسرائيلي رغم كل تناقضات الصهيونية والصراعات داخلها، في الأمور الآتية:
(1) على الرغم مما تشتمل عليه صهيونية “هرتزل” من تناقض فكري، وعلى الرغم من وجود خصوم ألداء له، فقد كان يجمع جمعاً موفقاً بين الفكر والعمل (خلافاً لخصومه الذين كانوا يكتفون غالباً بالفكر)، ويدرك بوجه خاص أهمية العمل في توليد أي إيديولوجية (فالإيديولوجية عنده لا تكتشف بل تولد وتبنى)، وقد عبر عن ذلك هو نفسه حين قال في خطابه في المؤتمر الصهيوني الأول في “بال” عام 1897: “في البدء كان العمل”. ولا شك أن أهم جوانب العمل من أجل إنجاح الإيديولوجية الصهيونية كان العمل السياسي والدبلوماسي. وهكذا قضى السنوات القليلة التي عاشها بعد هذا المؤتمر (والتي لا تعدو سبع سنوات، إذ توفي عام 1904) في عمل لا يكل واتصالات سياسية ودبلوماسية مع معظم البلدان الغربية، ومع الدولة العثمانية وسواها (حتى أن بعض الكتاب يتحدثون عن “شرهه” الدبلوماسي). هذا فضلاً عن عمله الدائب من أجل تعبئة الجماهير الشعبية اليهودية من أجل فكرته التي كانت تلقى مقاومة عنيدة، شعبية وفكرية. تضاف إلى هذا براعته التلفيقية. وقد سلك السلوك العملي نفسه وزاد عليه “حاييم وايزمان” (رجل الدولة العبقري في زعم بعضهم) ولاسيما بعد أن استقر في بريطانيا منذ عام 1904، حيث أطلق فكرة “الصهيونية المركبة” التي تشجع في آن واحد النشاط العمالي في فلسطين والعمل الدبلوماسي.

(2) كان ثمة تأييد مبكر للنزعة الصهيونية ظهر في الدول الأنجلوسكسونية البروتستانتية في أوروبا ولاسيما بريطانيا. وكان وراء هذا التأييد عوامل ثلاثة:
أولها ظهور ما يعرف باسم “الصهيونية غير اليهودية” وهي مجموعة من المعتقدات كانت سائدة بين غير اليهود (ولاسيما البروتستانت الذين يتمسكون بتعاليم العهد القديم) وكانت تدعو إلى تأييد قيام دولة قومية يهودية في فلسطين. وتعود هذه النزعة تاريخياً إلى ثلاثمائة عام قبل المؤتمر الصهيوني الأول، وكانت واضحة في حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في القرن السادس عشر. وقوامها التأكيد على ما جاء في العهد القديم من عودة اليهود إلى فلسطين واعتبار عودتهم تمهيداً لعودة المسيح المنتظر. وقد بلغ هذا الاتجاه المؤيد للصهيونية قبل بزوغها ذروته في عهد الثورة البيروريتانية في إنكلترا في القرن السابع عشر. وتكاثر عدد البروتستانت المؤمنين بـ “العصر الألفي السعيد” في أوروبا وإنكلترا وهولندا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا اللوثرية واسكندنافيا والسويد وسواها. وبعد ذلك تبنى هذا الاتجاه الداعي إلى عودة اليهود إلى أرض فلسطين (والذي اختلط بأغراض سياسية) سياسيون بريطانيون كبار، من أبرزهم “بالمرسون” (وزير الخارجية عام 1830) و”تشارلز هنري تشرشل” ومن بعدهما “بلفور”(7). وتزايد المؤيدون لهذه النزعة الصهيونية غير اليهودية واستمرت حتى أيامنا هذه، ولاسيما لدى صانعي القرار السياسي. وقد كان “جيمي كارتر” من أبرز ممثلي هذا الاتجاه، وكان يرى، وهو رئيس “أن دولة إسرائيل هي أولاً وقبل كل شيء عودة إلى الأرض التوراتية… وأن إنشاء دولة إسرائيل هو إنجاز النبوءة التوراتية وجوهرها”. ومثله فعل “ريغان” من بعده.

وثاني هذه العوامل التي دفعت إلى تأييد الغرب ولاسيما بريطانيا، لعودة اليهود إلى فلسطين، النزعة المعادية للسامية التي كان يعززها الخوف من تزايد أعداد المهاجرين اليهود إلى الغرب، ومن تزايد نفوذهم الاقتصادي والسياسي، على الرغم من القوانين التي تحد من هجرة اليهود إلى بريطانيا آنذاك.
وثالثها وأهمها اللقاء بين المنازع الصهيونية وبين المطامع السياسية لبريطانيا، إذ وجدت الحكومة البريطانية منذ وقت مبكر أن الصهيونية تحقق مصالحها الاستعمارية، وأن وجود اليهود في فلسطين يضمن لها مراقبة قناة السويس، الشريان المائي الحيوي، وإقامة علاقة استراتيجية بالتالي بين مصر والإمبراطورية البريطانية في الهند. ولن نتوقف طويلاً عند هذا العامل الهام، فالحقائق عنه كثيرة، وقد غدا من بديهيات الأمور. وحسبنا أن نقول إنه لولا وصاية لندن لما كان للهجرة اليهودية إلى فلسطين أن تستمر وتشتد، ولما ولد الكيان الإسرائيلي. وهكذا التقت الصهيونية مع المطامع الاستعمارية البريطانية. ولا أدل على ذلك من أن “هرتزل” نفسه في كتابه دولة اليهود يعتبر الوطن اليهودي الموعود “جداراً ضد آسيا وقاعدة متقدمة للحضارة في مواجهة البربرية”. وإذا كانت الحضارة الغربية، كما يقول، تهدف إلى إخصاب الأراضي الزراعية المهجورة، فللصهيونية دور كبير في مهمة التمدين هذه! ومن هنا اعتبر كثير من الباحثين، في الغرب وسواه أن إسرائيل هي بمثابة “حصان طروادة ” للغرب.
(3) ولا حاجة إلى أن نذكر بعد ذلك ثالثة الأثافي، نعني ما تم من زواج جديد بين الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية، أدى إلى إعلان دولة إسرائيل (في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947) ولاسيما حين التقت المنازع الأمريكية مع بعض الاعتبارات السياسية لدى الاتحاد السوفياتي.
(4) ولا حاجة إلى أن نضيف إلى هذه العوامل التي أدت إلى نجاح الإيديولوجية الصهيونية، على الرغم من طوباويتها، ما كان من دعم اليهود الروس والأمريكيين لبريطانيا في الحرب العالمية الأولى، ولاسيما في عام 1917 الذي فشلت فيه هجمات الحلفاء. ومن أمائر ذلك الدعم إسهام “وايزمن” نفسه (وهو عالم كيمياء) في الجهد العسكري عن طريق أبحاثه المتصلة بمادة “الأسيتون” (Acetone). كذلك لا حاجة إلى أن نذكر بين هذه العوامل الاضطهاد النازي لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية.
ب- ولنترك الأمس ولنعد إلى اليوم والغد، ولنبحث في العوامل التي تبقي على إسرائيل والتي يمكن أن تبقي عليها في المستقبل على الرغم مما عرفنا من تداعي بنيتها الإيديولوجية.
(1) لا مراء في قدرة الكيان الإسرائيلي على امتصاص المشكلات والاجتهادات والآراء. ولعله تمرّس بها طويلاً، بل لعل الشعب اليهودي قد ألفها في تاريخه القديم والحديث. أليس في الآية 76 من سورة النمل ما يشير إلى هذا الصراع القديم الجديد؟ تقول الآية الكريمة: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون). ألم تعرف اليهودية منذ القدم تفسيرات وفتاوى لا تخلو من خداع ورياء، تتجلى في نظام “الإعفاءات الشرعية” (Heterim) وفتاوى رجال الدين المتناقضة؟ ولا شك أن للديمقراطية السائدة اليوم لدى قسم من شعب إسرائيل دورٌ في امتصاص الصراعات.
(2) غير أن من المؤكد أن أهم عامل يعمل على اجتماع الإسرائيليين، على الرغم من تعارض منازعهم، هو عداؤهم للعرب، وشعورهم بأنهم قد أُلقي بهم في أرض مطوقة بالأعداء. ومن هنا فإن بعض الألفة تجمعهم عندما يحققون انتصاراتهم على العرب. وهذا ما جرى بوجه خاص بعد حرب 1967 التي وحّدت صفوفهم إلى حد بعيد. وعلى العكس من ذلك، فإنهم يعودون إلى الشقاق والصراع عندما يفشلون في معاركهم ضد العرب. وهذا ما حدث عام 1973 وما حدث بعد حرب لبنان بوجه خاص، إذ تنكر للصهيونية ولإسرائيل أكبر أنصارهما. وهذا ما حدث أيضاً أثناء الانتفاضة الفلسطينية التي زادت في تمزق الإيديولوجيات في إسرائيل.
(3) ومهما يكن هنالك من مدّ وجزر في الصراعات داخل إسرائيل، فإنها تظل صراعات تهدد الكيان الإسرائيلي، لولا مبادرة الغرب والإمبريالية الأمريكية لإنقاذه. ومن المؤكد أن الغطاء الأمريكي يوفر قدراً كبيراً من الطمأنينة لشعب إسرائيل وييسّر له أن يتصارع في طمأنينة وأن يحترب بأمان. بل إن المساعدات الاقتصادية نفسها (فضلاً عن سواها) التي تقدمها لإسرائيل الولايات المتحدة والشتات اليهودي وبعض الدول الغربية، عامل من عوامل الاستقرار. فمما يساعد على إطفاء الصراع بين أبناء إسرائيل نمو الاقتصاد وارتفاع الدخل القومي للفرد فيها. ويقيننا أن هذا الصراع كان حرياً به أن يتفجر ويفجر ما حوله لو عاش الإسرائيلي في فاقة. ولا أدل على ذلك مما نجده لدى “السوفارديم” الشرقيين من منازع متطرفة ضد الدولة.

(4) غير أن للعون الأمريكي وسواه وجهه الآخر الخفي الذي سوف يؤدي في رأينا – إذا توافرت بعض العوامل الأخرى – إلى المزيد من تشتت الكيان الصهيوني إن لم يؤد إلى تمزيقه والتمهيد لزواله. فالسياسية الأمريكية التي تضع ثقلها الصوري من أجل السلام بين العرب وإسرائيل، تفعل ذلك استناداً إلى القوة وحدها، وفي منأى عما يستلزمه واقع الأمور، ظناً منها أن تجاهل المشكلات يمكن أن يؤدي إلى حلها. ومعنى هذا أنها، في حقيقة الأمر، تعمل من أجل سلام كاذب محمل بكل إمكانات التفجر في المستقبل، في الكيان الإسرائيلي بوجه خاص. وهكذا تعود إلى الخطيئة الأولى حين أوجدت إسرائيل قسراً، فأشعلت بذلك المعارك في إسرائيل وبين العرب وإسرائيل. وهي بذلك تثبت من جديد ضعف إدراكها لطبيعة المشكلة، وجهلها بشعوب المنطقة، أو إصرارها رغم كل ما تعرف على الاستهتار بهذه الشعوب من خلال غطرسة القوة، أو وقوعها فيما يسميه “هيغل” “خداع الفطنة”. وقد لا يكون من المغالاة أن نشبه عملها بعمل الغريزة اللاواعي، الذي يشبهه الفيلسوف الفرنسي “برغسون” بعمل نحلة تجهد وتجهد من أجل جمع العسل في الخلية، بينما قد تكون الخلية كلها مثقوبة. وكأن السلم على نحو ما تعمل له الولايات المتحدة وإسرائيل يريد أن “تنجح العملية الجراحية ولو مات المريض”.
لقد خلقت الدول الغربية – وعلى رأسها الولايات المتحدة – دولة إسرائيل، غير آبهة بالواقع والممكن، فضلاً عن استهتارها بحقوق الشعوب. واليوم تعود إلى مداواة الداء بالداء، فتطرق السلام من منطلق الحرب والقوة وعندنا أن مثل هذا السلام لا يظلم العرب وحدهم، بل يظلم إسرائيل فوق ذلك، بل قبل ذلك، ويضعها عاجلاً أو آجلاً في مواجهة انتقام المظلوم وما تراكم عنده من خمائر النقمة المتحدية، الأمر الذي يبعث الحياة في شقاقها الداخلي، ويزيده أواراً واشتعالاً، ويهدد وجودها كله بالتالي.
(5) ومهما يكن من أمر، فإن سلم إسرائيل الداخلي والخارجي – إن أرادته سلماً باقياً- لا يتحقق إلا إذا سعت سعياً جاداً لتحقيق ما قال به كثير من زعماء الصهيونية نفسها في البداية، حيث أكدوا أن “إسرائيل لن تبقى إلا إذا وافق العرب على بقائها” ولا يكون ذلك إلا إذا غيرت جبلتها، ونأت عن منطلقاتها الصهيونية، وكفرت عن خطاياها، وأعادت الحق إلى أصحابه، وكانت دولة ديمقراطية كأي دولة في العالم، كما يدعو إلى ذلك كثير من منظريها. وفي مقابل ذلك فإنها تصيب مقتلها إن هي تبنت الشعار المضاد الذي قال به “جابوتنسكي” وأنصاره من أصحاب اليمين القومي المتطرف اليوم (وعلى رأسهم نتانياهو)، نعني الشعار الذي يعلن أن العرب لن يوافقوا يوماً على بقاء إسرائيل، لهذا فلا سبيل معهم إلا سبيل القوة والعنف، بحيث يقبلون بالسلم أذلة صاغرين. ولا نغالي إذا قلنا إن الوضع الممزق في إسرائيل اليوم وإصرار إسرائيل والإسرائيليين على استمراره، وإصرار الولايات المتحدة على تغذيته من حيث تدري ولا تدري، يذكرنا بالمرض النفسي الذي يطلق عليه علماء النفس اسم “عصاب المصير”، وهو يعني سعي الأفراد، من حيث لا يشعرون، إلى تكرار عين المآسي التي مرت بهم في الماضي.
خاتمة:
إن كل ما قلناه يشير في خاتمة المطاف إلى أن الدور الحاسم هو دور الأمة العربية. وهذا الدور هو الذي سوف يقرر مصير التمزق الإيديولوجي في إسرائيل. ولا شك أنهم في هذا لا يمكن أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك. فما دامت إسرائيل محافظة على منطلقاتها العدوانية والتوسعية، وما دامت تحرص على محو العرب من وجه الأرض إن أتيح لها ذلك، وما دامت الولايات المتحدة ومن معها تنادي بالسلام الجائر وتتحدى مشاعر الأمة العربية وحقوقها، وتتخذ من السلم المزعوم مطية لأهدافها التوسعية والإمبريالية ولسيطرتها على البلاد العربية، فليس على العرب إلا أن يتصدوا للمسألة على شاكلتهم، وأن يستعدوا لمعركة مستمرة طويلة، إلى أن يرجع الضالون عن غيهم ويصحو الظانون بالأمة العربية والإسلامية ظن السوء. وقد علمنا تاريخ الأمة العربية الإسلامية وتاريخ الشعوب أن الكيانات المفروضة ظلماً وعدواناً لا بد أن تزول، مهما يطل الزمن. وقد لا يطول الزمن إذا نحن أدركنا أن موقف العرب الحاسم الصلب هذا سوف يزيد من الشقاق في إسرائيل وسوف يساعد على تفجيرها من داخلها. ولعل لسان حال العرب في هذا المقام قول الشاعر القروي:
أما السلام فإننا أعداؤه حتى يدين بحبه أقوانا
ولن يتوقع أحد أن يأتي العرب بالسلام وبـ “إنجيل المسيح” بينما يأتي سواهم بـ “آيات الفتوح” على حد تعبير الشاعر القروي أيضاً.
وشكراً للدكتور عبد الوهاب المسيري الذي ولد بحثه الغني دراستنا هذه التي تلتقي مع أفكاره وتعززها.