مداخلة في ندوة المستقبل العربي حول كتاب عزمي بشارة: العرب في إسرائيل

التاريخ: ٩-٧-٢٠٠٠

المكان:  مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت

1- في اعتقادي أن الصيغة التي يقدمها د. عزمي بشارة لمشكلة العرب في إسرائيل، صيغة سليمة، بل واقعية وممكنة، إذ تجيب جواباً فكرياً وعملياً عن مآل عرب إسرائيل على المديين القريب والبعيد.
وخلاصة هذه الصيغة – كما نعلم – الدعوة إلى قيام كيان قومي ذاتي للعرب، في إطار «دولة للمواطنين» في إسرائيل، تكون دولة ثنائية القومية وثنائية الثقافة. والحقائق التي تثوي وراء هذه الدعوة عديدة أهمها:
1- العرب اليوم في إسرائيل مواطنو دولة تعلن أنها ليست دولتهم، بل هي دولة اليهود، يتطابق فيها تعريف الأمة مع الدين.
2- ليس هنالك في المدى المنظور مجال للحديث عن «أمة إسرائيلية» واحدة، تضم مواطنين إسرائيليين أياً كانت انتماءاتهم الدينية يتمتعون بحقوق واحدة بصرف النظر عن ديانتهم، بل حتى عن مذهبهم اليهودي (أرثوذكس، محافظون… الخ) وبصرف النظر عن منشئهم وأصولهم وأجناسهم وألوانهم.
3- المناداة بالمساواة داخل إسرائيل التي قد تبدو مقبولة بين جميع المواطنين وبوجه خاص بين المواطنين العرب واليهود مناداةً مضلِّلة، لا تعدو أن تفرض على العرب المساواة في الواجبات من دون المساواة في الحقوق، ولاسيما أن إسرائيل ليست ديمقراطية اندماجية، تنطلق من التعامل مع أي مواطن فيها من مجرد كونه مواطناً.
4- بديل الدولة الثنائية التي يطرحها د. عزمي بشارة ليس سوى «الأسرلة» أي اندماج العرب بإسرائيل وتبني هويتها والتخلي عن الهوية العربية، وذلك كله لأسباب حياتية وسياسية، تجعل من ذلك الاندماج قدراً يبدو لبعضهم محتوماً. وتعني هذه «الأسرلة» بحقٍ، في نظر د. عزمي بشارة «إذناباً» وتبعية لمشروع الآخرين، أي المشروع الصهيوني، وقمع التطور الذاتي والثقافي والأخلاقي المتمسك بالانطلاق من هوية قومية وعربية فلسطينية.
5- ظَنُّ بعضهم بأن انتماء العربي للثقافة العربية، ثقافة الأكثرية في المنطقة العربية، حاجز كافٍ دون الأسرلة «وهم وضلال». فالأسرلة أصلاً، كما يقول د. بشارة «لا تعني تهويد العرب في إسرائيل ولا تخليهم عن ثقافتهم، وإنما تعني تعديل وتغيير هذه الثقافة بشكل يجعل تأطيرها في الإطار الإسرائيلي ممكناً، أي باختصار «تشويهها».
6- هنالك اتجاه متزايد في الواقع العالمي والدولي إلى جعل احترام الهويات الثقافية والإثنية مطلباً ديمقراطياً أساسياً، وإلى اعتبار مبدأ الديمقراطية مبدأً لا يكتمل إلا من خلال الحفاظ على هذه الهويات. وهكذا يجمع مبدأ المساواة، كما يراه مشروع «دولة المواطنين»، بين النضال المطلبي الهجومي وغير الاعتذاري، والصراع مع الصهيونية والطبيعة الصهيونية للدولة. وبذلك يحول النضال من أجل المساواة إلى نضال وطني معادٍ للصهيونية.
ونستطيع أن نضيف إلى حجج عزمي بشارة وأقواله، أن جمهرة كبرى من أبناء إسرائيل ومؤرخيها وكتّابها ما فتئوا منذ سنوات حتى اليوم ينادون بتخلي إسرائيل عن منطلقاتها الصهيونية، بحيث تصبح كأي دولة ديمقراطية في العالم تحترم جميع أبنائها وتحترم ثقافاتهم وانتماءاتهم. ولا أدلّ على ذلك من الأفكار التي نادى بها منذ عقدين ونيف عد كبير ممن أطلق عليهم اسم «المؤرخين الجدد» ومن تبعهم من علماء الاجتماع والفلاسفة والأدباء والشعراء (ولاسيما بعد أن تم فتح «أرشيفات» حرب عام 1948-1949).
ومن هنا يخطئ بعضهم حين يظنون أن فكرة «دولة المواطنين» هذه على نحو ما ينادي بها د. عزمي بشارة، فكرة حالمة بعيدة عن الواقع وعصيّة على التطبيق. فالظروف الدولية والعالمية – وحتى الإسرائيلية – مهيأة لها إلى حد بعيد، وتكاد تكون الحل الواقعي الوحيد الممكن لأقلية عربية كبيرة سوف تصبح أكثرية بعد سنوات، بل لعل فيها إنقاذاً للكيان الإسرائيلي نفسه الذي تمزّقه الصراعات من كل جانب، والذي لم يهتد بعد إلى هويته.
غير أن هذا كله يشترط قيام جهد فلسطيني موحد وقيام عمل عربي منظم ونشيط في الأوساط الدولية، من أجل تعرية ما في إسرائيل من تمييز ديني وعرقي وإثني وقومي، وما تمارسه من إذابة غير مشروعة واضطهاد منظّم لعرب إسرائيل، بوصفهم الشاهد على جرائم إسرائيل عند نشأة دولة إسرائيل (بل قبل نشأتها) حتى اليوم.

2- فيما يتصل بموضوع الأسرلة، السؤال المطروح هو:
هل أحدث هذا الموضوع انقطاعاً مع ما كان سائداً لدى التيارات الشيوعية وسواها؟ الواقع أنه يقول إنه حدث انقطاع بعد ذلك ويوافق على أن ما حدث في حرب 1967 وحرب 1973 غيَّر مجرى الأمور، ويعارض معارضة واضحة موضوع الحديث عن نشوء برجوازية فلسطينية إسرائيلية في مقابل طبقة شعبية، ويقول إن المسألة الفلسطينية لا يمكن أن نردها في النهاية إلى مسألة صراع طبقي، فالمسألة الفلسطينية مسألة قومية بالدرجة الأولى. فكرة المساواة بنظره ليست بحال من الأحوال كافية لمعالجة مشكلة العرب في فلسطين. المساواة تعني المساواة في الحقوق ولكنها قد تعني أيضاً المساواة في الواجبات وقد تعني أيضاً الخدمة في الجيش. المساواة لا تعني الاعتراف بقومية معينة هي قومية العرب الفلسطينيين أو القومية العربية في فلسطين. وكل ما جرى بعد الـ 67 وبصورة خاصة في ما يتعلق بالانهزام العربي وضعف المعنويات، جعل كثيراً من الفلسطينيين العرب المقيمين في فلسطين يحسبون أن التقرب من السلطة والتقرب من الأحزاب الصهيونية ودخول المعركة جنباً إلى جنب هو الذي يحقق لهم الأمن وهو الذي يحقق لهم بالتالي البقاء والاستمرار.. الخ. وهو يدحض هذه الأطروحة ويقول إن هذا غير سليم لأنه يعني الذوبان. الأسرلة، كما يقول، خيار وهمي، بمعنى الركض وراء مجتمع الحقوق المدنية الواحدة في إسرائيل من دون الاعتراف بوجود قومية عربية فلسطينية، فهي عنده خيار وهمي وتعني الارتباط الذيلي بمشروع الآخرين، أي المشروع الصهيوني، وتعني قمع التطور الذاتي الثقافي والسياسي والأخلاقي للهوية القومية العربية الوطنية الفلسطينية. وإذا أردنا أن نفكر ملياً فإن الحل الطبيعي هو تجاوز الأسرلة إلى فكرة دولة ثنائية القومية. وما يقوله قد يبدو طبعاً خيالاً إلى حد ما. أما في الواقع فأنا أعتقد أنه ليس خيالياً. وهو يقول بأن هذا الموقف ينبغي أن يكون موقفاً نضالياً. والأسرلة أنواع ودرجات، ولكن هي في النهاية الأخذ بالمنطق الصهيوني في دولة لا تعترف بغير اليهود وحتى دستورها لا يعترف بغير اليهود. وفي دولة لا تقيم المساواة وفي دولة تعترف بيهود في الخارج بينما لا تعترف بغير اليهود في الداخل، فمطلب المساواة في هذه الدولة طبعاً مطلب باطل.

3- في ما يتصل بدولة المواطنين، إن عزمي بشارة يقول ببساطة بأن في إسرائيل قوميتين، قومية يهودية وقومية عربية، ولا مجال في المدى المنظور لأن نتحدث عن قومية واحدة في إسرائيل أو حتى قومية إسرائيلية شاملة. يضع في مقابل ذلك إذاً مشروع دولة المواطنين لجميع المواطنين، لكن تحتفظ كل قومية بخصائصها القومية. يحتفظ العرب الفلسطينيون بخصائصهم القومية وبانتمائهم وبثقافتهم ويكون لهم حتى إشرافهم على التعليم وعلى التربية في هذه الدولة، كما يقول هو. هذا الحل الذي يقترحه يجد أنه جواب أولاً عن واقع العرب في فلسطين. يعني أن العربي في فلسطين مواطن في دولة تعلن بأنها ليست دولته. من الخطأ الظن في رأيه أن الصلة بين العرب في إسرائيل والعرب في الضفة الغربية يمكن أن تكون حاجزاً ضد الأسرلة، ولا يعتقد هو بأن مجرد وجود دولة فلسطينية يمكن أن يكون حاجزاً لدى عرب إسرائيل يحول بينهم وبين الأسرلة.
إسرائيل طبعاً تعتبر أنها دولة يهود لا تفصل الدين عن الدولة، إذن من طبيعة الأمور أن يكون هناك قومية أخرى لها ثقافة خاصة، وليس هنالك في المدى المنظور مجال للحديث عن أمة إسرائيلية واحدة. مطلب المساواة وحده لا يحل المشكلة، وحتى مطلب خلق دولة عصرية ديمقراطية كما يقول روبنشتاين وغيره من اليهود، يعني أن دولة ديمقراطية لكل اليهود أيضاً لا تحل المشكلة لأن هذه الدولة الديمقراطية لم تعترف بعد بالحقوق الخاصة لهذه الأقلية القومية. وفي الواقع يقول عزمي بشارة: «التمييز البنيوي ضد الأقلية القومية الفلسطينية العربية لا بد من أن يؤدي إلى انفجار في النهاية». كما يقول «وصول الوعي المدني الإسرائيلي إلى طريق مسدود طالما بقيت الدولة، دولة اليهود، يمكن أيضاً أن يؤدي إلى الانفجار، لكن هذا الانفجار ليس ضرورة تاريخية وإنما إمكانية فحسب وواقعيتها مرتبطة بتطور نخبة سياسية تطرح هذين السؤالين». طبعاً إذا أضفنا قوله بأن مشروع دولة مواطنين في مواجهة دولة يهود هو مشروع هجومي يطالب بالحقوق كاملة غير منقوصة، ندرك فكره بشكل كامل. وتعليقاً على موضوع الانفجار اسمحوا لي أن أستطرد قائلاً أن هنالك حوله كلاماً كثيراً، فهو يعني انفجاراً بسبب العرب، انفجاراً بسبب تمزق الكيان الإسرائيلي والصراعات الداخلية في إسرائيل. وأنا، في كتابي الصراع بين اليهودية والقومية الصهيونية، تحدثت بالتفصيل عن موضوع الصراعات المختلفة وشكلها.. ولكنني انتهيت إلى القول أن مثل هذه الصراعات التي تجري في بنية أمة من الأمم أو كيان من الكيانات قد تعيش وتستمر من دون انفجار سنوات طويلة إذا لم يوجد هنالك عامل خارجي يقودها، وإذا وجد عامل خارجي يمكن أن تكون لهذه الصراعات قدرة أكبر على الانفجار. إذاً هنا دور العرب ودور عرب فلسطين بوجه خاص يمكن أن يكون له شأن في زيادة تفتيت الكيان الإسرائيلي.

4- طبعاً، وليس ذلك فقط، فكلنا يعرف الآن أن هناك حركات يهودية كثيرة تنتمي إلى ما يدعونه ما بعد الصهيونية، بعضها يرفض الصهيونية. مثلاً بعض المؤرخين الجدد، من موريس إلى بابيه، وغيرهما، يرفضون هذا الوجود ويرفضون الصهيونية. ولدينا نحن العرب مرتكز أساسي في هذا الموضوع. إن الصهيونية كما بينت في كتابي هي عبارة عن عملية قيصرية فرضت على الشعب اليهودي منذ أيام هرتزل وقبله قسراً. نتنياهو يقول في كتابه مكان تحت الشمس، إن الذين أيدوا الصهيونية من غير اليهود أكثر بكثير من اليهود الذين أيدوا الصهيونية. التيارات الدينية كلها وعلى رأسها التيار الأرثوذكسي، كانت ضد الصهيونية في ذلك الحين، فقد منع بعض اليهود والحاخامات عقد المؤتمر في فرانكفورت واضطر هرتزل إلى عقده في بال في سويسرا. إذاً هي عملية سرية في فلسطين. والآن يجنون ثمرات ما صنعت أيديهم. فصار هذا الوجود الذي لا هوية له، وليس له شكل، ممزقاً ومنوعاً بعشرين نوع من أنواع الانقسام. حتى في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة كتبت الصحف الإسرائيلية أن المجتمع الإسرائيلي أصبح قبائل، هناك قبيلة اليهود الروس الذين لهم مطالب معينة… الخ. أنا لا أريد أن أغالي إنما هناك مسائل يجب أن ندركها. فلو كان هناك عمل عربي فإن طروحات مثل طروحات عزمي بشارة وغيرها يجب ألا نستهجنها، فضلاً عن أنه ليس هناك حل آخر إلا الذوبان، فلا نخدع أنفسنا.