صراع اليهودية مع القومية الصهيونية

التاريخ: ٩-٢-١٩٩٩

المكان:  نادي العروبة – البحرين

مدخل
نقول منذ البداية – دفعاً لأي لبس – إن صراع الصهيونية مع اليهودية – على نحو ما نعنيه – لا يقتصر على صراعها مع الديانة اليهودية، وإنْ يكن هذا الصراع أهمّ ما سنتريث عنده في محاضرتنا هذه، بل يشمل الصراع بين الصهيونية والوجود اليهودي بكامله، نعني الشعب اليهودي جُملةً على اختلاف منازعه.
فالصهيونية أيديولوجية سياسية هزّت الشعب اليهودي بأسره، وتصدّى لها منذ البداية الوجود اليهودي في الشتات بقواه المختلفة، ثم في إسرائيل بعد ولادتها. ولا نغلو إذا قلنا إنها قسرت الوجود اليهودي قسراً ودخلته عنوةً وإغواءً وزيفاً، وحاولت صناعته وصياغته على غرارها، بوسائل مختلفة سوف نتحدّث عنها بعد قليل.
فلقد كان الهدف المعلن للأيديولوجية الصهيونية – كما نعلم – توفير إطار قومي للشعب اليهودي المشتت. ولكن الشعب اليهودي في كثرته الكاثرة آنذاك كان قد تجاوز إلى حد بعيد – كما سنرى – مرحلة الشعور بالغربة حيث كان يقيم، وكان قد أخذ يُحقّق الاندماج التدريجي داخل معظم البلدان التي كان يقطنها. يُضاف إلى ذلك – وهذا ما يعنينا في هذه المداخلة بوجه خاص – أن معظم المذاهب الدينية اليهودية كانت مُعادية آنذاك للعودة إلى فلسطين، «أرض إسرائيل» المزعومة التي كانت تعمل لها الصهيونية منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بال في 29 آب/أغسطس 1897 بل قبله. بل إن الكثيرين من أنصار المبادئ الصهيونية أنفسهم قد أنكروا على الصهيونية دعوتها إلى العودة إلى الأرض المقدسة لأسباب سنتوقف عندها. وفوق هذا وذاك، فإن قيام دولة إسرائيل تحقيقاً للدعوة وللنبوءة الصهيونية، قد وضع الصهيونية موضع الاختبار العملي، وطرح صراعات داخل إسرائيل بين التيارات الدينية المتنافرة، وبين هذه التيارات والتيارات العلمانية، وبين أبناء الأصول العرقية المتباينة، وبين اليهود والعرب داخل إسرائيل، وبين الأجيال التي تعاقبت على أرض فلسطين وعلى رأسها جيل الصبّاريم (جيل الآباء الذي ولد في فلسطين قبل ولادة الدولة) وبين الجيل الجديد الذي وُلد بعد ذلك…الخ.
وقبل هذا وذاك، أثار العنف الحاقد الذي مارسته الصهيونية ضد العرب من أجل توليد الكيان الإسرائيلي، ثم حروب إسرائيل المتعاقبة مع العرب، وحربها مع لبنان بعد ذلك، والانتفاضة الفلسطينية، والممارسات القمعية النازية التي لجأت إليها الدولة الصهيونية ضد الفلسطينيين والعرب، مشكلات جذرية حول طبيعة الدولة ومستقبلها، طرحت على بساط البحث من جديد في إسرائيل والعالم أهداف الصهيونية وطبيعتها العدوانية وهوية الدولة الصهيونية.
وقد بلغ الأمر بكثيرٍ من اليهود، أمام هذه الجرائم الإنسانية، أن وصفوا الصهيونية، ولا سيما بعد حرب لبنان، بأنها نازية جديدة كما فعل ليبوفتش، فيلسوف إسرائيل الشهير. وزاد في أوار هذا الصراع، ما تمّ عبر تقدم المعلومات التاريخية مع الزمن – ولا سيما بعد فتح جانب من الأرشيف الإسرائيلي منذ النصف الثاني من الثمانينات – من كشفٍ عن حقائق كانت خافية عن معظم الإسرائيليين، بعد أن زيّفها التاريخ الصهيوني الرسمي، حول وسائل العنف والاضطهاد والتزييف التي مارسها الصهاينة من أجل إقامة الدولة في فلسطين ومن أجل تهجير أبنائها.
وسوف نتريث عند هذه الأمور كلها واحداً بعد واحد في صلب محاضرتنا هذه. وحسبنا أن نؤكد منذ الآن أن هدفنا الأساسي هو أن نبيِّن – من خلال البحث التاريخي العلمي – أن أصول الصهيونية أصول لا علاقة لها، في حقيقة الأمر، باليهودية وحاجاتها الواقعية، وأن الإيديولوجية الصهيونية أسطورة أراد «صانعوها» ومزيّفوها من خلالها وأن ينشئوا «دولة سياسية» قومية واستعمارية انطلاقاً من نزعتين كانتا سائدتين في ذلك العصر: النزعة القومية العدوانية التي كانت سائدة في أوروبا في القرن التاسع عشر، والنزعة الاستعمارية التي رافقت النزعة القومية وغذتَّها واغتذت بها.
لننتقل الآن، مطمئنين إذن، إلى الحديث عن جوانب الصراع المختلفة بين الصهيونية وبين اليهودية، متريثين كما ذكرنا عند الأمور الآتية:
– صراعها مع يهود الشتات؛
– صراعها مع معظم المذاهب الدينية – التقليدية منها أو الإصلاحية أو الأرثوذكسية؛
– صراعها مع التيارات العلمانية، ولاسيما الحديثة منها، وبوجه خاص تلك التي يمثّلها المؤرِّخون الجُدد في إسرائيل والتي يمثلها تيار «ما بعد الصهيونية».
أولاً: القومية الصهيونية والشتات اليهودي
من الآراء الشائعة أن الصهيونية أرادت أن تخلّص يهود الشتات مما كانوا يقاسونه من اضطهاد في بلدان أوروبا ولاسيما الشرقية منها، وما كان يشيع في المجتمعات الغربية من نزعات ضد السامية كارهة لليهود.
أمام هذا الرأي الشائع نود أن نقدم بعض الحقائق:
1- إن جانباً كبيراً من العداء للسامية – الذي كان ذائعاً في أوروبا حتى عصر التنوير – كان يرجع إلى سلوك اليهود أنفسهم، وإلى تعاونهم وتآمرهم مع أصحاب السلطة دوماً، من ملوك ونبلاء، في مواجهة عامة أبناء الشعب( ). فضلاً عما كان يتصف به يهود الشتات غالباً من روح الكسب والجشع، وما ساد المجتمعات اليهودية خلال قرون طويلة من نزعات التعصب الديني المغلق والعصبية ضد «لأغيار» (الغويم goyim)، وكره المسيحية والكيد لها، والتفكير المظلم المتخلّف (على نحو ما صاغته بشكل خاص القوانين التلمودية).
2- غير أن يهود الشتات كانوا قد تجاوزوا إلى حد كبير – عند بزوغ الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر – مرحلة العداء للمجتمعات التي كانوا يعيشون فيها، وبالتالي مرحلة عداء تلك المجتمعات لهم، ولاسيما بعد أن تمّ تحرير اليهود في كثير من بلدان الغرب، بعد عصر التنوير اليهودي (الهاسكالا Haskala). ولكن الصهاينة تجاهلوا هذا التطور وما تمّ ويتمّ من توفير المساواة الكاملة لليهود مع سائر المواطنين في معظم البلدان الأوروبية، فضلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية، وعادوا إلى نقطة الصفر، نعني إلى عهود اليهود الكلاسيكية، وإلى التأكيد على أن «الأغيار» سوف يكرهون اليهود وسوف يضطهدونهم دوماً. الأمر الذي يخدم موقفهم المبدئي، نعني المناداة بعودة اليهود و«تجميعهم» في فلسطين أو أوغندا أو سواهما من الأمكنة التي بحث الصهاينة في أمر جعلها وطناً لليهود. وهكذا كانت الصهيونية منذ البداية متعاونة مع نزعات العداء للسامية ومعادية لها في آن واحد، وكانت هذه النزعات المتكأ الذي اصطنعته من أجل تحقيق مآربها.
3- ولا أدلّ على البون بين مواقف الصهيونية ومواقف الشتات اليهودي، من مقاومة هذا الشتات، ولاسيما في ألمانيا وإلى حد كبير في فرنسا، للنزعة الصهيونية الوليدة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك رفض المجتمع اليهودي الألماني برمته رفضاً قاطعاً عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة ميونيخ، كما كانت رغبة هرتزل في البداية. وهكذا اضطر بعد جدال طويل إلى عقده في مدينة بال بسويسرا. وقد أكد القادة اليهود من الألمان آنذاك رفضهم ورفض الديانة اليهودية للقومية، ورأوا في هذه الفكرة فخاً ينبغي اجتناب الوقوع فيه( ).
4- وأهمّ من هذا وذاك أن كثيراً من كبار مفكّري الصهيونية نفسها كانوا ضد الصهيونية على نحو ما صاغها هرتزل وصحبه. وحسبنا أن نذكر ثلاثة من هؤلاء هم: ليو بنسكر Leo Penskir (1821-1891)، وآحاد هاعام Ahad Ha- Am (1856-1927)، وفلاديمير زئيف جابوتنسكي Vladimir Zeev Jabotinsky. وليس المجال مجال التفصيل في آراء هؤلاء، فمثل هذا العمل يستغرق الصفحات الطوال.
وهكذا نرى في خاتمة هذا الجزء من حديثنا الذي أفردناه لموقف الشتات اليهودي من الصهيونية. أن الصهيونية تجاهلت عن قصد – تحقيقاً لأغراضها القومية والسياسية – واقع ذلك الشتات عند بزوغها.. ذلك الشتات الذي كان يسير في طريق الاندماج الكامل مع البلدان التي كان يعيش فيها، ولا سيما بعد أن صدرت في تلك البلدان قوانين وإجراءات عديدة من أجل تحرير اليهود ومعاملتهم على قدم المساواة مع سواهم. وقد أثار موقف الصهيونية هذا صراعات داخل الشتات الذي كان في معظمه مناهضاً لتعاليم الصهيونية.
ثانياً: صراع القومية الصهيونية مع المذاهب الدينية اليهودية
لقد كان طبيعيا ً- في المرحلة التي نشأت فيها الصهيونية – أن يحتدم الصراع بين القومية والدين. فالقومية كما أرادتها الصهيونية ظاهرة دنيوية، ولكنها في حاجة إلى أمرين إذا هي أرادت أن تتجذر: أولهما وجود مجموعة بشرية، وثانيهما توفّر مقوّمات وهوية مشتركة لتلك المجموعة.
وههنا – من خلال البحث عن الهوية – لابد أن تلتقي القومية بالدين. غير أن المشكلة، مشكلة الصلة بين القومية والدين على نحو ما آثارها بزوغ الصهيونية، تظل عويصة. وهنالك على أقل تقدير صيغتان ممكنتان لتلك الصلة، يصعب التلاقي بينهما: الصيغة التي ترى أن القومية ليست مجرد نتاج مشتق من الدين؛ والصيغة التي ترى أن الدين في خاتمة المطاف هو الإطار الذي يستطيع أن يرسم ويحدّد بدقة إطار القومية اليهودية والدولة اليهودية، وأن ما عداه (من أطر ثقافية أو تاريخية أو سواها) يظّل مبهماً وغامضاً.
من خلال هذه الثنائية قام الصراع بين القومية الصهيونية والمذاهب الدينية اليهودية. فالصهيونية تكوّنت من خلال ضربٍ من الابتعاد عن التقاليد الدينية اليهودية، بل من خلال قطع الجسور تماماً معها في نظر بعض روّادها. وأياً كانت محاولات التوفيق أو التلفيق التي لجأت إليها القومية الصهيونية، يظل من الصحيح أن الصهيونية عند نشأتها تمثّل في جوهرها هجراناً للتقاليد الدينية وابتعاداً عنها. وهذا ما نجده من البداية عند هرتزل مؤسس الصهيونية، وعند بن غوريون مؤسس دولة إسرائيل، وسواهما من كبار القادة الصهيونيين، وإنْ لجأ هؤلاء وسواهم عبر مسيرة الصهيونية ومستلزمات دولة إسرائيل إلى الخداع والتمويه. فالمنطلق الرئيسي لدى الصهاينة هو دوماً اعتبار الدين أداةً في خدمة القومية الصهيونية. وقد قام بالرد على هذا الموقف القومي الصهيوني المعادي للدين اليهودي العديد من المفكّرين، ولا يزال الجدال قائماً وعنيفاً حول هذا الأمر حتى اليوم، ولا نظنّه سيتوقف يوماً.
وفيما يلي نشير إلى أهم المذاهب اليهودية التي عادت الصهيونية ورفضتها:
1 – اليهودية الأرثوذكسية (أو الأصولية):
ظهر هذا النعت في قلب اليهودية عام 1795، في عصر التنوير اليهودي الذي تم خلاله تحرير اليهود من قِبَلِ الدول الغربية. وقد انتشر هذا النعت وذاع وأصبح يعني، بدءاً من القرن التاسع عشر، جملة الطقوس والمعتقدات اليهودية، في مواجهة التطوّر والتجدد اللذين أخذت بهما الحركة اليهودية الإصلاحية كما سنرى بعد قليل.
وأهمّ ما يعنينا في المذهب الأرثوذكسي أنه كان يدافع عن بقاء الشتات اليهودي حيث هو، ويرفض أي استعجال «مسيحاني» وأي عودة بالتالي إلى أرض فلسطين قبل أن تظهر العلائم الإلهية لظهور المسيح المنتظر( ). ومن هنا كان ضد أي محاولة بشرية للتعجيل بنهاية العالم، وضد الصهيونية بشكل حادّ وقاطع.
وهكذا نرى أن الصهيونية – ولاسيما فيما يتصل بدعوتها إلى العودة إلى فلسطين – تمثّلِ في نظر معظم أنصار التيار الأرثوذكسي التقليدي – وهو التيار الغالب لدى اليهود – خطراً مداهماً. وتكاد نظرة هذا التيار إلى الصهيونية ترتد في نهاية المطاف إلى ما يأتي: إن الصهيونية، حين تحصر الوجود اليهودي داخل حدود سياسية، تُشكك في الهوية غير المرتبطة بالأرض التي تكونت في الشتات. وهي بذلك تمثّل نكوصاً إلى الماضي لا يمكن قُبوله، لأنها تضع اليهود مرة أخرى في مكان مغلق بعد أن توصلوا إلى تحرير اليهودية من استبداد المكان.
وفي وقت متأخر، أدّت هذه النزعة إلى تكوين حركة أرثوذكسية جديدة معادية للصهيونية تمثّلها بوجه خاص الحركة المعروفة باسم «أغودات إسرائيل» Agoudat Israel (أي رابطة إسرائيل). وقد أسستها عام 1912 زعامات تقليدية في ألمانيا ولتوانيا وهنغاريا وبولونيا. ومما يقوله أول رئيس لهذه الحركة، وهو يعقوب روزنهايم Jacob Rosenheim: إن الصهيونية في مدلولها الحقيقي هي شيطان الشعب اليهودي.
2 – اليهودية الإصلاحية (أو المجدِّدة):
على العكس من الأرثوذكسية الأصولية، تنكر النزعة اليهودية الإصلاحية الطابع الثابت للشريعة المكتوبة، وتود أن توائم بين الفكر اليهودي والطقوس اليهودية، من جانب، وبين تحديات العصر الحديث من جانب آخر.
ونجد أصول هذه النزعة في ألمانيا بوجه خاص، ومنها ذاعت أصداء الإصلاح الديني في أوروبا كلها، وعرف رواجاً كبيراً بعد ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث غدت له مكانة رفيعة، ولاسيما لدى اليهود الذين هاجروا من ألمانيا وأقاموا في شمال الولايات المتحدة. وقد نشأت نتيجة لذلك طوائف دينية شهيرة تنتمي إلى حركة الإصلاح الديني هذه.
والحديث عن هذه النزعة الإصلاحية يلتهم صفحات كثيرة. ويعنينا منها موقفها من الصهيونية، ولاسيما فيما يتصل بالعودة إلى فلسطين.
فحركة الإصلاح الجذري هذه، إذ تنظر إلى اليهودي نظرتها إلى مجرد مؤمن ينتسب إلى طائفة دينية معينة، كانت ترى في اليهودية معتقداً في حال تطور مستمر وصل إلى مرحلة متقدمة من الصفاء الأخلاقي. ولهذا، فإن من مهمتها أن تنشر الرسالة الإنسانية، التي تنادي بها اليهودية، في العالم كله. الأمر الذي يفرض عليها أن تتخلى نهائياً عن الوعود والآمال الخاصة بإقامة وطن في فلسطين وهكذا وقفت من الصهيونية موقفاً شديد العداء. وإذا نحن استثنينا أفراداً قلائل فيها، فإن موقفها كان نقيض موقف الصهيونية فكراً وعملاً.
3 – اليهودية العلمانية الإنسانية:
من نتاج حركة الإصلاح الديني، ظهور نزعة يهودية علمانية، قاومت بدورها النزعة الدينية الأرثوذكسية مقاومة عنيدة، كما تنكَّرت لكل ما في التعاليم اليهودية الدينية من أساطير لا أساس لها، ومن بينها الأساطير المتصلة بالعودة إلى «أرض الميعاد».
ولقد انطلقت هذه النزعة من مبادئ عصر التنوير الحديث، وولد من خلالها – ولاسيما لدى المثقفين اليهود – اتجاه مضى بالتجديد حتى نهايته، نعني إنكار الدين أصلاً.
ويرى أصحاب هذا التيار جملةً أن اليهودية حضارةً وثقافةً للشعب، وليست مجرد مفاهيم دينية خالصة، وأن الأسس اليهودية المتمحورة حول الدين وضعت موضع الشك منذ العهود التاريخية القديمة.
والحديث عن المذاهب والنزعات التي كانت في جوهرها معادية للصهيونية حديث ذو شعاب تصعب الإحاطة بها. وحسبنا أن نبيّن – بإيجاز مخلّ – أن أمهات المذاهب الدينية التي كانت سائدة منذ عصر التنوير وما بعده، كالمذهب الأرثوذكسي التقليدي (وإليه ينتسب معظم اليهود)، والمذهب الأرثوذكسي المجدّد، والمذهب الإصلاحي، بالإضافة إلى النزعة العلمانية، كانت معارضة للصهيونية بدرجات متفاوتة، ولأسباب متباينة. وإذا كانت قلة من أتباع هذه المذاهب قد تبنت الصهيونية بعد ذلك، فإن مرد ذلك في معظم الأحيان إلى العوامل السياسية التي اشتد ساعدها بعد المؤتمر الصهيوني الأول، والتي أسهمت في جذب الكثير من أتباع المذاهب الدينية إلى الحركة الصهيونية. وأهمّ هذه العوامل السياسية التي كان لها دور في هذا الشأن لجوء قادة الصهيونية إلى التمويه والتزييف والتلفيق فيما يتصل بموقفهم من الدين اليهودي. ويكفي للتدليل على الصراع بين اليهودية والصهيونية منذ نشأتها أن نقدم شاهداً واحداً من شواهد كثيرة لا تحصى: وهو أن أدوين مونتاغيو، العضو اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية يوم أُعلن وعد بلفور (في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917) قد قاتل بضراوة ضد هذا الإعلان.
وهذا كله جعل هرتزل يقول بصريح العبارة إنه لم يجد نفوراً من الصهيونية كالذي وجده من اليهود أنفسهم. ذلك أنهم وجدوا في خاتمة التحليل أن الصهيونية تعني العودة إلى ضرب من القبلية، وأنها إهانةٌ لليهود وخطرٌ عليهم وإلقاءٌ بهم في «غيتو»0 الشرق، فضلاً عن كونها، في نظر المتدينين منهم، «كفراً وهرطقة، واستباقاً لعمل الرب وللنبوءات المسيحانية».
وأهم من هذا وذاك أن كثيراً من كبار مفكِّري الصهاينة أنفسهم، كانوا ضد الصهيونية على نحو ما صاغها هرتزل، وضد العودة إلى فلسطين. وحسبنا أن نذكّر باثنين منهم وهما: ليو بنسكير وآحاد هاعام.
ثالثاً : الصراع بين اليهودية والقومية الصهيونية بعد ولادة إسرائيل
الصراعات العريقة التي تحدثنا عنها في الجزء السابق بين اليهودية والقومية الصهيونية، استمرت واشتدّ أوارها بعد ولادة إسرائيل، ولا تزال تكوّن حتى اليوم جوهر ما نراه من شقاق داخل المجتمع الإسرائيلي، ولا سيما بين ممثلي الحركات الدينية على اختلاف منازعها وبين ممثلي التيارات العلمانية على اختلاف أنواعها أيضاً. ولا نغلو إذا قلنا إن الإرث الصهيوني المتناقض لا يزال يُمزّق إسرائيل كما مزّق اليهود من قبل، وإن معظم ما نشهد على الساحة الإسرائيلية من تجاذب التيارات والمذاهب يرتد في النهاية إلى صراع أساسي تليد ومتجدّد بين أنصار الهوية الدينية في إسرائيل وبين أنصار الهوية الإسرائيلية، مرده في النهاية إلى الأصول الصهيونية البديئة التي وُلدت متناقضة، ولجأت إلى لغة مزدوجة، حين استباحت، في سبيل تحقيق مطامحها السياسية، كل تزييف وتضليل.
وليس المجال هنا مجال الحديث عن المذاهب والحركات التي ظهرت بعد ولادة إسرائيل، والتي يكون معظمها امتداداً أو تطوراً للمذاهب والحركات التي رافقت ولادة الصهيونية وأعقبتها. ونكتفي بمظهر جديد أساسي وهامّ من مظاهر هذا الصراع حول الهوية، يكاد يُلخِّص سواه، ويكاد يفضح بشكل جلي وواضح زيف الأسطورة الصهيونية وأكاذيبها. ونعني بهذا المظهر الجديد ما طرحه أولئك المؤرِّخون الذين عُرفوا باسم «المؤرخِّين الجدد». من ضرورة إعادة التفكير في صياغة المجتمع الإسرائيلي، من خلال إعادة التفكير في تاريخ إسرائيل، ومن خلال غسل الذاكرة القومية التي خرَّبتها الدعاية الصهيونية وتلفيقات دولة إسرائيل.
1 – نشأة «المؤرِّخين الجدد» لإسرائيل:
ونبدأ بالحديث عن ولادة هذا الاتجاه الجديد الذي مثَّله المؤرِّخون الجدد، والذي أيده أدباء وعلماء اجتماع جدد أيضاً، ولقي صدى واسعاً لدى جمهرة كبرى من أبناء إسرائيل، ولا سيما الشباب منهم – فضلاً عن أنصار السلام وعن العلمانيين – والذي يكاد يحدث ثورة فكرية عارمة في إسرائيل. هذا بالإضافة إلى ما لقيه من اهتمام كبير في الغرب.

ومن أهم عوامل ولادة هذا الاتجاه، منذ النصف الأخير من الثمانينات بوجه خاص، فتح الأرشيفات المتصلة بالسنوات الأولى من قيام دولة إسرائيل ، وذلك تطبيقاً للقانون الإسرائيلي الذي صدر عام 1955 الذي ينصّ على عدم فتح هذه الأرشيفات أمام عامة الناس قبل مرور ثلاثين عاماً عليها. وهكذا تمّ، بدءاً من نهاية السبعينات، فتح الأرشيفات المتصلة بالسنوات الأولى من نشوء دولة إسرائيل، وأصبحت في متناول الباحثين للمرة الأولى آلاف من الوثائق التي تلقي ضوءاً جديداً على مرحلة كان قد احتكر وثائقها رجال السياسة وموظفو حزب «ماباي» (حزب العمل كما سُمّي بعد ذلك) وقادة الجيش الإسرائيلي، من دون أن يخطر ببالهم أنه سيأتي يوم يطّلع فيه آخرون على تقاريرهم ووسائلهم وقراراتهم. وهكذا تمّ فتح أوراق وزارة الخارجية من عام 1947 إلى عام 1956، وتم الإفراج عن كتل ضخمة من الرسائل والتقارير والبروتوكولات والمذكرات الوزارية، ولا سيما تلك التي صدرت عن مكتب رئيس الوزراء في ذلك الحين، ديفيد بن غوريون. وذلك بالإضافة إلى أوراق شخصية خاصة، وإلى وثائق الأحزاب السياسية.
2 – المعركة حول تاريخ إسرائيل:
ومنذ ذلك الحين، أي منذ النصف الثاني من الثمانينات، بدأت المعركة حول تاريخ إسرائيل وذاكرتها الجماعية. فقد كشف «المؤرِّخون الجدد»، من خلال الوثائق التي تمّ الإفراج عنها، عن حقائق كثيرة كانت قد أخفتها عن أعين الكثرة من أبناء إسرائيل أكاذيب الإعلام الرسمي، ولا سيما فيما يتصل بالعنف الذي لجأت إليه الصهيونية من أجل إقامة دولة إسرائيل بأي ثمن، وفيما يتصل بالوسائل القمعية التي استخدمت من أجل تهجير العرب من ديارهم عن سابق تصوّر وتصميم، خلافاً لما أشاعه الإعلام الرسمي خلال سنوات طويلة من أن عرب فلسطين هاجروا بإرادتهم وبدفعٍ وتشجيع من الدول العربية. وهكذا ظهرت في أواخر الثمانينات باللغة الإنكليزية كتب عديدة هامة لباحثين إسرائيليين( ). وقد وضعت هذه الكتب موضع التساؤل والشك القناعات التي كانت مستقرّة حول تاريخ الصهيونية وإنشاء دولة إسرائيل.
ومن العسير تلخيص أفكار هؤلاء المؤرّخين الجدد. وسنكتفي بذكر رؤوس أقلام عن الحقائق التي خلصوا إليها نُلخّصها في النقاط الآتية:
أ- لقد كان الصهاينة منذ نشأة الصهيونية يخشون من عدم اقتناع الشعب اليهودي بصحة الأهداف والمقاصد الصهيونية. ومن أجل هذا جرت تعبئة عامة لكل الوسائل الممكنة من أجل بناء شرعية ما. وقد بُنيت هذه الشرعية من خلال الأساطير.
ب- تركزت التعبئة الإيديولوجية قبل ولادة إسرائيل وبعدها حول إعادة تأويل الماضي تأويلاً غائياً، وجعله في خدمة القضية.
ج- في هذا التاريخ المجهَّز وفق الطلب، كان الحديث عن العرب الفلسطينيين وعن ماضيهم وعن وجودهم وعن ثقافتهم وعن تهجيرهم عام 1948، أمراً محرّماً.
د- منذ تأسيس الجامعة العبرية، أخذ المؤرِّخون الصهاينة يبحثون في الوثائق عن براهين تُثبت وجود قومية يهودية قبل بدايات الحركة الصهيونية. ولهذه الغاية أخذوا يتخيّرون الينابيع، وحاولوا أن يقولوا بوجود آثار هذه القومية منذ القرن السابع عشر، بل منذ العهود التوراتية.
هـ- وقد تواصل هذا التاريخ الملفق بعد ولادة دولة إسرائيل، من خلال العديد من المؤلَّفات (مثل كتابSefer Toledot Ha Haganah الذي يتحدث عن بطولات الهاغانا). ويقدّم لنا هؤلاء المؤلفون الملفِّقون – كما يصفهم المؤرِّخون الجدد – تاريخاً جميلاً بطولياً مجيداً، ليست فيه أخطاء هو تاريخ الأخيار ضد الأشرار. وقد سارت على نهجهم طائفة من أساتذة الجامعات والباحثين.
و- وهكذا وُضع الدين اليهودي في خدمة الدين المدني الجديد، وفي خدمة القومية الجديدة، وأصبحت كتابة التاريخ سلاحاً وأداة إيديولوجية. فكلمة «أرض إسرائيل» مثلاً، استخدمت للإشارة إلى جميع العصور، حتى حين كانت تحكمها شعوب أخرى، أو حين لم يكن فيها يهودي واحد. وبهذا كان المؤرِّخ، حين يلجأ إلى استخدام ذاك التعبير (أرض إسرائيل)، يعطي اليهود حقاً أبدياً في أرض إسرائيل.
3 – المؤرّخون الجدد وتهجير الفلسطينيين:
أ- على أن أهمّ ما تريث عنده هؤلاء المؤرِّخون الجدد وأولوه اهتماماً أساسياً، موضوع الفلسطينيين ورحيلهم عام 1948. فالوثائق الجديدة التي تمّ فتحها كشفت لهؤلاء المؤرِّخين – وللشعب الإسرائيلي – حقائق عن حرب عام 1948 وما بعدها، يعرفها العرب، بينما كان يجهلها معظم الإسرائيليين الخاضعين لمنظور الدولة ودعايتها ووسائل إعلامها وأساليب تضليلها.
وهكذا أشار هؤلاء المؤرِّخون الجُدد، إلى ما رافق قيام دولة إسرائيل من مذابح وطرد لأهل البلاد وتخريب للمدن والقرى. وخلصوا من ذلك إلى القول بأعلى صوتهم إن تاريخ دولة إسرائيل هو تاريخ أقلية بيضاء أوروبية، استولت على منطقةٍ بالقوة والعنف( ).
ب- لقد كان التاريخ الإسرائيلي التقليدي – كما نعلم – يدّعي أن اللاجئين الفلسطينيين (الذي كان يبلغ عددهم حوالي نصف مليون نسمة) قد فروا بإرادتهم استجابةً لنداء زعمائهم الذين منّوهم بعود قريب إلى بلادهم بعد النصر.
ج- وقد أنكرت هذه الادعاءات الإسرائيلية منذ وقت مبكر، في الخمسينات، بعض أوساط اليسار الصهيوني. غير أن الرد الحقيقي على تلك المزاعم كان ذلك الذي اضطلع به، منذ النصف الثاني من الثمانينات، المؤرّخون الجُدد. وقد أطلق بعض الكتّاب الإسرائيليين بعد ذلك على عملية التهجير العدوانية التي ارتكبها الصهاينة ضد الفلسطينيين اسم «خطيئة إسرائيل» الأولى( ).
ودفع ذلك أولئك الكتاب إلى أن يضعوا شريعة الدولة اليهودية نفسها موضع التساؤل.
4 – المؤرّخون الجدد وعلماء الاجتماع:
لقد ذاع موقف المؤرّخين الجُدد هذا، ولقي رواجاً كبيراً، وتأساه بعض الأدباء، وسانده عدد من علماء الاجتماع.
أ- أما الأدباء فقد انتقد الكثير منهم الأدب الذي كان سائداً والذي كان يُعبِّر عن رأي السلطة الحاكمة، وتبنّوا في كتاباتهم مواقف المؤرّخين الجُدد.
ب- على أن أفكار المؤرّخين الجُدد قد امتدت، في خاتمة الثمانينات وبداية التسعينات، إلى ميادين علمية أخرى، كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، والعلوم السياسية، والدراسات المتصلة بالشرق الأوسط، والفلسفة. واحتدم الصراع داخل هذه الميادين جميعها بين الذين يذهبون مذاهب المؤرِّخين الجُدد، وبين معارضيهم.
وههنا أيضاً – كما في الأدب – أخذ علماء الاجتماع الجُدد على علم الاجتماع الرسمي الصهيوني خضوعه المطلق للسلطة وكونه أداة طيعة لخدمة أغراضها. وقد حاول اثنان من علماء الاجتماع الجُدد هؤلاء، هما باروخ كيمرلنغ Baruch Kimmerling وغرشون شافير Gershon Shafir أن يثبتا أن الدولة خلقت حكاية تاريخية خيالية تروي ولادة نهضة قومية وبزوغ اشتراكية مثالية، في حين أن الواقع السياسي والاجتماعي لهذه الدولة كان مجرد واقع استعماري. بل إن كيمرلنغ يقتحم إحدى كبائر المحرمات، حين يفسر نجاح الصهيونية باجتماع عاملين: أحدهما هو الاستعمار البريطاني، والثاني هو القومية اليهودية المصطنعة. والصهيونية عنده هي مؤسسة استعمارية لا جدال فيها، جاءت لتشيد بناءها على أنقاض مجتمع قائم ومقيم في أرضه.
وثمة ميدان آخر طرقه علماء الاجتماع الجُدد، هو ميدان الحديث عن تاريخ إسرائيل بوصفها مجتمعاً عسكرياً. فلقد كان علماء الاجتماع التقليديون لا يخطر على بالهم أن تكون إسرائيل دولة حربية. أما علماء الاجتماع الجُدد فيرون أن النزعة العسكرية هي المحور الذي تُنظِّم إسرائيل من خلاله حياتها وعملها، وتُحدِّد حدودها وهويتها، وترسم قوانين لعبتها. بل إن أحد الباحثين المحدثين، وهو أوري بن إيليعيزر Uri Ben Elezar( ) يُبيّن أن الضغوط الداخلية، لا العداء العربي، هي التي ولدت حرب الأيام الستة عام 1967. فالنظام القائم في إسرائيل كان قد أصابه الضعف خلال الستينات، نتيجة لحرب السويس والاضطراب الذي أحدثته هجرة «السفارديم» (اليهود الشرقيين). ولهذا كان ذلك النظام في حاجة إلى تصعيد صراعه مع العرب من أجل تثبيت سلطته.
5 – المؤرِّخون الجدد وهوية إسرائيل:
ومن العسير في هذه العجالة أن نستنفد الحديث عن هؤلاء المؤرّخين الجُدد ومن والاهم من الأدباء وعلماء الاجتماع وسواهم. وجُلّ ما أردنا من هذا العرض الخاطف المنقوص، أن نكشف عن النقاش القائم اليوم في قلب المجتمع الإسرائيلي، حول الصهيونية، وأن نبيِّن كيف تستمر الصهيونية منذ ولادتها حتى اليوم، في معاداتها للشعب اليهودي، وكيف تستمر معاداة الشعب اليهودي لها، ولكن في إهاب جديد وفي صور جديدة يطرحها انقلاب الحركة الصهيونية دولةً تثير في ممارستها تساؤلات عميقة لدى أبناء الشعب اليهودي في داخل إسرائيل وفي الشتات. والحق أن إعادة التفكير في تاريخ إسرائيل تعني – بالنسبة إلى اليهود – إعادة صياغة المجتمع الإسرائيلي، بل وضعه كله موضع التساؤل والشك، كما رأينا عبر حديثنا. والصراع حول تاريخ إسرائيل ليس مجرد صراع علمي، بل هو سجالٌ حول مستقبل الصهيونية يمسُ أعمق أسس الدولة، ويطرح السؤال الكبير: هل ينبغي على إسرائيل، وهل تستطيع، أن تكون دولة كسائر الدول في العالم؟
ومن هنا، فالجدال حول المؤرِّخين الجدد، الذي يستعر أواره، هو في الواقع جدال سياسي حول ما يجري اليوم وما سيجري في الغد. وإذا كان من غير الممكن وضع صيغة موحدة للصهيونية في إسرائيل – على نحو ما رأينا – فإن ذلك يعني وجود أزمة هوية عميقة فيها. ولهذا سوف نطرح فيما يلي مستقبل دولة إسرائيل، من خلال واقع التمزق الذي تعاني منه.
رابعاً : المواقف الدينية وواقع مسألة الهوية في إسرائيل
كما سبق أن قلنا، كيما ندرس واقع الهوية في إسرائيل حاضراً ومستقبلاً ومستقبل إسرائيل بالتالي كما يراه الإسرائيليون أنفسهم، لابد أن ننظر في الواقع الإسرائيلي اليوم من حيث علاقته بالدين والصهيونية. فهذا الموقف من الدين هو الذي يُحدّد – إلى حد كبير – الموقف من الهوية.
1 – الاتجاهات السائدة في إسرائيل من حيث الموقف من الدين:
نستطيع أن نقسم شعب إسرائيل اليوم، فيما يتصل بموقفه من الدين، إلى زمر أربع واضحة المعالم:
أ- فنصفُ الإسرائيليين تقريباً يعتبرون أنفسهم «علمانيين» Hilonin. وهذا لا يعني أنهم لا ينفّذون أياً من تعاليم الدين. ويتوزع هذا الجمهور العلماني على مدن إسرائيل كلها، ولكنه يمثّل الأغلبية في عدد من المدن الكبرى (تل أبيب – حيفا – رامات غان). وهذا الجمهور العلماني، سواء كان من اليسار أو اليمين، يود أن تتخلّص إسرائيل من ربقة الدين، ومن الخلط بين الدين والسياسة على نحو ما هي عليه في الواقع القائم.
ب- وهنالك ثانياً 30% إلى 35% من الإسرائيليين – ولا سيما الذين قدموا من البلدان العربية – يعتبرون أنفسهم يهوداً تقليديين، أي أنهم يتمسكون بعدد من الأوامر الدينية، بسبب الألفة والعادة، من غير أن يشعروا تجاهها بالتزام مطلق. ومن هنا لا يعتبرون أنفسهم متدينين «أرثوذكسيين» بالمعنى الكامل للكلمة. وتعلقهم بالتقاليد اليهودية لا يتجاوز الطقوس الظاهرية.
ج- وهنالك ثالثاً حوالي 15% إلى 20% من الإسرائيليين ممن يعتبرون أنفسهم «صهاينة متدينين». ولهؤلاء هويتهم المتميّزة الواضحة والصارخة. ويتعارفون فيما بينهم – أو يتعارف الرجال منهم – عن طريق ارتدائهم «القلنسوة المجدولة». وتتحلق حياتهم الاجتماعية حول أمرين: أولهما الاستمساك الدقيق الصارم بالأوامر الدينية، وتتمحور حياتهم الاجتماعية كلها حول الكنيس. وهذا الاستمساك بقواعد الدين يزداد قوةً وحدةً لدى الأجيال الشابة. أما المحور الثاني لحياتهم الاجتماعية فمحور سياسي. إذ يميّزهم تبنيهم للشعارات اليمينية القومية المتطرفة وتأكيدهم على ضرورة ضم سائر الأراضي التي تنتسب إلى «أرض إسرائيل» كما يدّعون. ويمثل هذا الاتجاه الثالث بالدرجة الأولى «الحزب القومي الديني» (المفدال) وحركة الشبيبة المعروفة باسم حركة «بني آكيفا» Ben’Akiva، ويتعاطفون أيضاً مع حركة «غوش أمونيم» (كتلة الإيمان) الاستيطانية ومع أصحاب المستوطنات.
د- وأخيراً، وليس آخراً، هنالك الفريق الرابع، فريق«الأرثوذكسيين الغُلاةUltra Orthodoxe » الذين يلبسون السواد، والذين يمثّلهم بشكل خاص حزب «أغودات إسرائيل» Agoudat Israel، وحزب «ديغل هاتوراه» Degel Hatora، وحزب «شاس» Shas، وغلاة المتدينين هؤلاء يمثلون حوالي 5% من سكان إسرائيل، وعددهم في تزايد مستمر بسبب التكاثر السكاني الكبير عندهم من جانب، وبسبب عودة بعض الشبان العلمانيين إلى الدين. وأكثر الفئات نشاطاً وديناميكية لدى هذه الفئة هم أعضاء «شاس» ذلك الحزب الأرثوذكسي المغالي (الذي يمثّل الحريديم – لابسي السواد – من اليهود الشرقيين/السفارديم)، وهو حزب أصاب نجاحاً في تحقيق اختراق حقيقي في بعض الأوساط.
2 – الصراع حول الهوية بين الاتجاهات السائدة في إسرائيل:
في داخل كل من هذه الفئات الأربع (العلمانيين – والتقليديين – والمتدينين الصهيونيين القوميين – وغلاة الأرثوذكسيين) حدث في السنوات الأخيرة تطور فيما يتصل بمفهوم الهوية، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنظرة كل منها إلى تاريخ الشعب اليهودي وتاريخ دولة إسرائيل. ولما كان التقليديون يُشكّلون أقلية تتناقص يوماً بعد يوم نسبتها إلى جملة السكان، ولما كان غلاة الأرثوذكسيين لا يعنيهم إلاّ موضوع اليهودية ويكتفون بالنظر إلى الدولة نظرتهم إلى مجرد أداة ووسيلة، فإن في وسعنا أن نقتصر في حديثنا عن مستقبل الهوية الإسرائيلية – وهو ضالة بحثنا – على فئتين من هذه الفئات الأربع، تتنازعان بشكل بيّن هوية إسرائيل في الغد فئة العلمانيين من جانب، وفئة الصهاينة المتدينين من جانب آخر.
2-1- الهوية العلمانية:
في إطار الهوية العلمانية (أو «ما بعد الصهيونية» كما جرى على ألسن بعض الكتَّاب) ظهر المؤرّخون الجدد الذين تحدّثنا عنهم، والذين حاولوا – كما رأينا – أن يجرحوا التاريخ التقليدي الرسمي والأساطير المؤسِّسة لدولة إسرائيل. ذلك أنهم يرون أن التاريخ الصهيوني المؤدلج كان هو العقبة الأساسية في طريق ولادة «مجتمع مدني» في إسرائيل.
ومن الهامّ أن نذكر أن جمهور العلمانيين هذا – باستثناء القليل من المثقفين من بينهم – ليس ضد الصهيونية، ولا ينكر الدور الذي كان للصهيونية في نشأة إسرائيل. غير أن هذه الأيديولوجية في نظرهم قد أدّت مهمتها مشكورة. وفي الذكرى الخمسين لولادة إسرائيل، يشعر جميع العلمانيين من الإسرائيليين بأن الصهيونية وتاريخها وأساطيرها أمور تجاوزها الزمن، وأصبحت الصهيونية بالتالي مجرد موضوع للتاريخ، يُدرَّس في الجامعات أو في منتديات العلم. وهم يأبون بالتالي أن تكون الصهيونية هي الأب والأم لنظرتهم إلى العالم.
وانطلاقاً من ذلك، يُمكننا أن نطرح السؤال الأساسي الذي يوجِّه بحثنا وهو: ما هي تلك الهوية الإسرائيلية «التالية للصهيونية» Postsioniste، التي يحدّثنا عنها العلمانيون والتي نشهد معالمها منذ اليوم؟ وجوابنا على هذا السؤال الصعب، يمكن أن نوجزه في النقاط الآتية، معتمدين في ذلك على التحليلات التي صدرت عن بعض الكتّاب الذين عنوا عناية خاصة بالحديث عن «المؤرخين الجدد»( ).
أ- هوية المستقبل لابد أن يكون قوامها حرية الفرد (قبل حقوق المجموع)، وأن يكون رائدها بحث كل إنسان عن سعادته ورغباته الخاصة، بحيث تكون الغلبة – في حال وقوع صراع بين مطالب الفرد ومطالب المجموع – للمطالب الفردية. هذه الأولوية التي تُعطى لكل ما هو فردي، يُمكن أن تبرر مثلاً رفض الخدمة في الجيش حين تتعارض هذه الخدمة مع مشروع شخصي (كالدراسة أو ممارسة الرياضة أو العناية بالموهبة الفنية،…الخ). لا سيما أن الجيش الإسرائيلي لم يعد كما كان في الماضي أيام «الهاغانا» و«البالماخ» وما تلاهما من منظمات عسكرية، والروايات الملحمية عن هذا الجيش أفاضت وفاضت وانتهى أمرها. وقد تغيّر كل شيء اليوم، ولعلّ ذلك التغيير قد بدأ منذ أخطاء حرب الغفران (حرب تشرين 1973). والأمثلة على هذا التغيّر غدت عديدة، لا مجال للتوقف عندها، ولعل أبرز ما فيها «ضعف الاندفاع» لدى الجيش خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد حرب لبنان والانتفاضة الفلسطينية. ومما يشهد على هذا التغير أيضاً ما يتمّ في وضح النهار عن طريق وسائل الإعلام المختلفة من فضح لأخطاء الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن (الموساد). وينعكس هذا الاهتزاز في صورة الجيش انعكاساً واضحاً على الأدب والمسرح، منذ حرب الغفران. ألم تذكر صحيفة يديعوت أحرونوت أن أفضل طياري إسرائيل لا يبدون استعداداً لضرب «حزب الله» إلا إذا حصلوا على تأمين على الحياة بمبلغ كبير.
ب- والنقطة الثانية التي ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار فيما يتعلق بتطوّر مفهوم الهوية لدى الجمهور العلماني، هي أن الهوية العلمانية الإسرائيلية الجديدة تنزع إلى رفض أي تميّز نوعي لإسرائيل في هذا المجال، أي أنها تنزع إلى النظر إلى الهوية الإسرائيلية نظرتها إلى أي هوية أخرى في أي دولة في العالم، سواء بسواء. وهذه النظرة مرتبطة بمفهوم معيّن للتاريخ اليهودي، الذي يجنح بعض المؤرّخين أكثر فأكثر إلى اعتباره تاريخاً عادياً «طبيعياً»، وبالتالي مشابهاً لتاريخ سائر الشعوب. ويُشكّل هذا الموقف – كلما نرى – ثورة في المفاهيم: فالهوية التي كان آباء الصهيونية يحاولون أن يؤكدوها، كانت هوية قائمة على تميّز التاريخ اليهودي وعلى اعتباره تاريخاً صنعته المآسي والاضطهادات، ومن اللازم بالتالي تصحيحه في الدولة العبرية الجديدة، ولكن دون نسيانه. وهذا ما لا يقبل به الجمهور العلماني: فهو يرى أن الاضطهاد الذي خضع له اليهود يُشبه ما عرفته غيره من الشعوب، وأن الصهيونية لا تختلف عن سواها من الحركات الاستعمارية، وأن «المحرقة» (Holocauste). أخيراً، تُماثل ما خضعت له شعوب أخرى من إبادة عرقية، وهكذا فهم لا يكتفون بتأكيد الطبيعة العادية لدولة إسرائيل كما يرونها، بل يؤكدون الطابع الطبيعي العادي لتاريخها.
وطبيعي أن تكمن مسألة «المحرقة» في قلب هذه النظرة المعادية لـ «تفرّد» إسرائيل. ولا يتسع المجال للتريث عند نظرة العلمانيين والمؤرّخين الجُدد إليها. وحسبنا أن نشير إلى ما ورد بهذا الشأن في كتاب موشي زوكرمان Moshe Zukermann عام 1993 (وعنوانه: المحرقة في الغرفة المغلقة، مشيراً بذلك إلى حرب الخليج). ومما يقوله إن اليهود يخضعون في هذا المجال لعملية استغلال: إذ يقال لهم دوماً إن تاريخنا تاريخ فريد لا يشبه سواه، وبأننا ضعفاء ومُضطهدون وضحايا دوماً وإلى الأبد. وبهذا يتمّ بثّ الرعب في صفوفهم. و«قانون المحرقة» السائد في إسرائيل، كما يقول، يُكرر دوماً بأننا مُعرَّضون للموت وعاجزون. والسلطة الحاكمة تخرج من القالب نفسه الذي اصطنعه هتلر، وتستهدف الهدف نفسه حين تلجأ إلى المساخر مستخدمة ومستغلة موضوع المحرقة، ومن أجل تأكيد موقفها تستنجد بالمفهوم الذي أطلقه المفكر أدورنو Theodor W.Adorno، مفهوم «الوجدان الكاذب». وإلى مثل هذا يذهب كتاب آخرون (مثل الصحفي بوعاز أيفرون Boaz Avoron) حين يقولون إن «المحرقة غدت بين أيدي القادة الإسرائيليين أداة استغلال خطرة». ومن شأن الأسلوب الذي يتمّ به عرض المحرقة أن يولّد لدى المجتمع الإسرائيلي نزعات قومية متطرفة وعدوانية.
ج – والنقطة الثالثة التي تُحدّد موقف العلمانيين من مسألة الهوية، هي أن الهوية الإسرائيلية الجديدة التي يريدونها هوية متجهة نحو المستقبل، قوامها مشروع مستقبلي، هو مشروع «المواطنة» الإسرائيلية، وليست هوية متجهة نحو الماضي، نحو تاريخ اليهود، والاضطهاد، والمحرقة، وشهداء حروب إسرائيل: ومما ورد في مقال جديد للمؤرِّخ الإسرائيلي البارز زئيف شترنهيل Zeev Sternhell( )(عنوانه «الموضوعات المنسية في انتخابات عام 1996»): إن على المجتمع الإسرائيلي أن يقرر الآن فيما إذا كانت دولته ستظل الذراع المنفِّذ للمجتمع الثقافي الديني، أم أنها سوف تسنّ إطاراً للحياة قائماً على أساس مبدأ المواطنة، بحيث تكون دولة لجميع مواطنيها. ومثل هذه الدولة التي يتمناها تستلزم، فيما يرى، الفصل الكامل بين الدولة والدين. وهكذا ينطق شترنهيل باسم جميع أولئك الذين ينادون بمدرسة علمانية خالصة، عقلانية وإنسانية.
ومن هنا، فإن الهوية الإسرائيلية الجديدة – فيما يرى – هي هوية علمانية قوامها الفرد المواطن، والمساواة الديمقراطية. وليس السؤال المطروح عنده: من هو اليهودي؟ بل السؤال المطروح: من هو الإسرائيلي؟ ويعني هذا من الوجهة العملية تحطيم أي تمييز وتفرقة بين اليهود وغير اليهود.
ولابد أن نستدرك هنا فنقول، دفعاً لأي لبس، إن مواقف المؤرّخين الجدد التي أشرنا إليها والتي لقيت أصداءً واسعة لدى العلمانيين، يشوبها ويفسدها أمران:
الأول أنها جاءت متأخرة وبعد فوات الأوان: أي بعد أن طردت الصهيونية وعصاباتها الإرهابية عرب فلسطين، وبعد أن مارست دولة إسرائيل – عن طريق الأيديولوجيا المزيفة – شتى أنواع القسر والاضطهاد والعنف، وبعد أن عبّأت الإسرائيليين في حروب متتالية ضد العرب، وبعد أن وسَّعت حدودها بعد حرب حزيران عام 1967… وغير ذلك كثير.
والثاني أن دعوة هؤلاء المؤرِّخين ومن والاهم لن تعدو أن تكون ذراً للرماد في العيون، وتخلّصاً من الشعور بالذنب في أحسن تقدير، إذا لم يُصاحبها عمل جاد يرتب على الحقائق التي انتهت إليها مواقف عملية محسوسة: كالدعوة إلى عودة اللاجئين، وكتوفير حق تقرير المصير للفلسطينيين، وكالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة جميعها دون قيد أو شرط، وكإقامة دولة ديمقراطية في إسرائيل تتعايش فيها القوميات والديانات المختلفة، وكنزع الطابع اليهودي الصهيوني عن دولة إسرائيل بالتالي.
د- والنقطة الرابعة التي نودّ أن نستخرجها من مفهوم الهوية لدى العلمانيين، هي أن المجتمع الاستهلاكي في نظرهم مجتمع ينبغي أن يكون له شأن ومكانة. فبعد أربعين إلى خمسين سنة من قيام الدولة، وبعد أربعين إلى خمسين عاماً من المعارك المستمرة، تعب المحاربون وتاقوا إلى الدعة والرفاهية. وهكذا نشهد في إسرائيل اليوم موقفاً معادياً لروح التضحية، ومعادياً لتقشّف الرواد الأوائل وللحياة المتواضعة وللعمل الجسدي.
تلك هي أهمّ مقوّمات الهوية الإسرائيلية التي يدعو إليها الكثير من العلمانيين. وبدهي أن يكون الصراع حولها مستمراً وقائماً، ولاسيما في أوساط المفكّرين. ولم تثبّت هذه الدعوة أقدامها لدى القواعد العلمانية. ولا يزال لها معارضوها في بعض الأوساط الثقافية، الذين يأخذون عليها نزعتها الفردية المغالية واتخاذها الكسب والنجاح معياراً لكل شيء، وإهمالها للمشكلات الاجتماعية الاقتصادية التي تعصف بإسرائيل، وبحثها عن الرفاهية والنعيم في مجتمع يحيا فيه طفل من أصل خمسة حياة الفقر والفاقة، ويبحث فيه المهاجرون الروس «وفلاشا» الحبشة في أكياس القمامة، ويعمل ضمنه العمال العرب في الأراضي المحتلة والعمال الأجانب القادمون من تايلاند ورومانيا ضمن أوضاع ذليلة وهم صاغرون.

ولكن على الرغم من أن هذه النزعة تلقى بعض النقد، وعلى الرغم من أنها لم تكتمل ولم يشتّد عودها بعد، فإنها مع ذلك تظل النزعة الوحيدة التي تحمل بين ثناياها تصوراً حديثاً وعصرياً لدولة إسرائيل، تنأى بها عن المتاهات الصهيونية المزمنة، وتفسح المجال لولادة مجتمع «ما بعد الصهيونية» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معايير، وتُخرج إسرائيل من الطريق المسدود.
2-2- الهوية الدينية – «الصهيونية الجديدة»:
التيار الوحيد الذي يجابه مجابهة جادة التيار العلماني الداعي إلى «ما بعد الصهيونية» هو – كما سبق أن قلنا – تيار «الصهيونية الجديدة» الذي ينادي به القوميون المتدينون. وقد كان هذا التيار قائماً دوماً، سوى أنه تطوَّر بعد حرب الأيام الستة بوجه خاص. وقوام هذا التيار هو «أرض إسرائيل» أكثر من «دولة إسرائيل». وهو لذلك يؤكد «الطابع اليهودي» للدولة في مقابل «الطابع الإسرائيلي»، ويأخذ بـ «الهوية الإثنية الدينية» بالتالي في مواجهة «الهوية المدنية». وتُمثّل الطليعة الإيديولوجية لهذا التيار حركة «غوش ايمونيم» والمستوطنون الصهاينة المتدينون الذين يقطنون الأراضي المحتلة. ومعظم المهاجرين من الغرب، من أمريكا أو من فرنسا، الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة، يتبنون هذا التيار بحماسة بالغة.
وهكذا، ففي مواجهة التطوّر الذي تمّ لدى السكان العلمانيين في اتجاه الأخذ بهوية قوامها الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية، لا نجد طرحاً آخر للهوية سوى الهوية «الصهيونية – الدينية». فالأرثوذكسيون الغُلاة – كما سبق أن قلنا – منطوون على أنفسهم وعلى أحيائهم وعلى معاهدهم التلمودية، ولا يُشكلّون بالتالي أساساً لهوية إسرائيلية جديدة، فضلاً عن أن هذا الموضوع كله لا يعنيهم. وعالم «لابسي السواد» لا يعنيه إلاّ الحفاظ على التقاليد اليهودية وعلى الديانة اليهودية، وما سيحدث أو لا يحدث لإسرائيل ليس من شأنه. وهمّه الأول أن يحاول إعادة اليهود العلمانيين إلى حمى الدين في أقصى وأقوى صوره. ويبدو أنه يُحقّق في ذلك بعض النجاح.
ويزعم هذا التيار الصهيوني الديني (الذي يشكّل اليوم – كما سبق أن ذكرنا – حوالي 15% إلى 20% من سكان إسرائيل) أنه يمثّل وحده الاستمرار الأمين للفكرة الصهيونية الأصيلة. ويشهد هذا التيار تقدماً ملحوظاً ويكسب الكثير من الأتباع. والحق، إن صورة الصهيونية، بعد مرور مائة عام على مؤتمر بال وعلى دعوة هرتزل، ما برح يصوغها ويرسم ملامحها مستوطنو الضفة الغربية وأنصارهم والمتعاطفون معهم ممن يرفضون أي معالجة حصيفة ومتزنة للتاريخ اليهودي. وهذه الصهيونية الدينية التي يتبناها المستوطنون تكرر معظم أفكار الصهيونية – الاشتراكية على نحو ما صيغت في البداية.
ولا حاجة إلى القول إن المنظور التاريخي اليهودي الذي تُدافع عنه الصهيونية الدينية وتلقنّه للشباب في مدارسها، لا يختلف عن المنظور التقليدي الصارم والثابت والمتمحور حول نظرة إثنية ترى في التاريخ اليهودي تاريخاً فريداً صنعه الاضطهاد الذي مارسه غير اليهود على اليهود. يضاف إلى ذلك أنه يؤكد حق إسرائيل الثابت في أرضها المزعومة، والطابع العادل للحركة الصهيونية، والطابع المتفرد للمحرقة، فضلاً عن شرعية حرب عام 1948.
«حرب الاستقلال» كما يسمونها – وسائر حروب إسرائيل بلا استثناء، فضلاً عن الطهارة المطلقة للجندي اليهودي في كل ما يقوم به. وهذه الرؤية للتاريخ – وهي رؤية تجاوزها الزمن ولكنها مريحة مطمئنة في ظاهرها – هي التي يغرسها النظام التربوي لدى هذه الفئة. وتشهد على ذلك تلك المظاهرة الحاشدة التي ضمت حوالي ربع مليون يهودي متطرف من أنصار «حركة الحريديم» الأرثوذكسيين (والتي قامت في 14 شباط/فبراير1999) احتجاجاً على بعض قرارات المحكمة الإسرائيلية العليا، وعلى رأسها القرار الذي يشكك بقانون قديم أصدره الكنيست يعفي شباب الحريديم الذي يدرسون في المدارس الدينية من الخدمة العسكرية الإلزامية. وقد وصف بعض المحللين الإسرائيليين تلك الحركة التي أعلنها الحاخامات ضد المحكمة بأنها صراع قد يتحوّل إلى حرب أهلية ثقافية.
2-3- نظرة إجمالية إلى الصراع حول الهوية ومستقبل إسرائيل:
يستبين لنا من عرضنا السابق لواقع موضوع الهوية في إسرائيل، ولاسيما لدى العلمانيين والمتدينين الصهاينة الذين يتقاسمون الساحة، أن كل شيء اليوم في إسرائيل مرتبط بكل شيء: التاريخ وعملية السلام، الهوية الدينية والهوية الإسرائيلية. ويستبين لنا أكثر من هذا أن أي مسألة من هذه المسائل لم تلقَ حلاً يُمكن أن يقود إلى ما يشبه الإجماع، بل العكس هو الصحيح. في إطار هذه الصورة من حق الباحثين الإسرائيليين، ولاسيما من أنصار المؤرِّخين الجدد ومن العلمانيين، أن يتنبأوا بمستقبل أكثر اضطراباً وقلقاً. وفي رأيهم، إن السلم مع الفلسطينيين وسائر العرب سوف يؤدي، عندما يأتي، إلى انفجار غطاء قِدْرِ الهوية، ذلك الغطاء الذي حافظت ضرورات الأمن والدفاع على إحكامه حتى اليوم. ولابد، فيما يرون، من أن يأتي يوم تنفجر فيه الصراعات التي كُبتت زمناً طويلاً، بسبب هاجس الأمن هذا: كالصراع بين المتدينين والعلمانيين، وبين الفقراء والأغنياء، وبين دولة اليهود ودولة المواطنين. وداخل ذلك الصراع بين الهويات المتعددة، سوف يظل تاريخ الصهيونية وإسرائيل قلب الجدل ومحوره. ولاشك أن قتل إسحاق رابين، كما يقول هؤلاء، وهو ممثّل عالم «الصباريم» و«البالماخ»، بيد شاب صهيوني ديني متطرف، هو إيغال عمير، أطلق الرصاص من خلال اعتقاده الراسخ بأنه ينفذ رغبة أجداده في السماء، حدثٌ هام غني بالمعاني والدلالات المستقبلية. بل إن بعض الكتّاب الإسرائيليين يتحدثون عن انقسام المجتمع الإسرائيلي – لاسيما فيما يتصل بمطالبه من الدولة وعلى رأسها المطالب السكنية – إلى قبائل: منها القبيلة الروسية، ومنها القبيلة الاستيطانية، ومنها القبيلة الزراعية، ومنها القبيلة الشمالية، ومنها القبيلة اليهودية الجنوبية… الخ، الأمر الذي يجعل بعض هؤلاء الكتّاب يُطمئنون أنصار السلام قائلين: عندما ينحلّ الشعب إلى قبائل، يصعب توحيده في وجه العدو!
ويشهد على ذلك تقرير وكالة «فرانس برس» (الذي نشرته صحيفة البعث السورية بتاريخ 13 أيار/ مايو الحالي) حول ما يسود معركة الانتخابات الحالية في إسرائيل من هرج ومرج وشتائم مقذعة متبادلة، وحول تحوّل الأحزاب والمجموعات في هذه المعركة إلى قبائل يُعدّدها التقرير، تستبيح كل الأساليب، وتذكِّر بالخلافات التي نشبت بين أسباط اليهود الاثني عشر قبل قرابة ألفين وخمسمائة سنة، والتي أطاحت بدولتهم آنذاك على يد نبوخذ نصّر، ملك بابل.
خاتمة
وبعد، قد يكون من المكرور المعاد أن نقول إن مشكلة اليهود والعرب معاً، قديماً وحديثاً، هي الإيديولوجيا الصهيونية. ولكن هذه الحقيقة تكتسي معنى جديداً في نظرنا، من خلال حقيقتين جعلناهما محور بحثنا:
أولاهما أن الصهيونية حركة قومية استعمارية، فُرضت على الشعب اليهودي نفسه رغماً عنه أو عن أكثريته الساحقة على أقلّ تقدير، وما كان لييسر لها النجاح لولا تأييد الدول الغربية لها، وعلى رأسها بريطانيا منذ البداية والولايات المتحدة بعد ذلك. وقد رأينا الشواهد على ذلك في الجزء الأول من بحثنا. ولعّل من المفيد أن نؤيد قولنا هذا بما كتبه بنيامين نتانياهو في كتابه مكان تحت الشمس (في ردّه على الداعين إلى نظرية «ما بعد الصهيونية») وفيه نقرأ بالحرف الواحد: «منذ ظهور الحركة الصهيونية السياسية وبدء عملها الجاد للنهضة القومية اليهودية، بدأت تظهر بين يهود أوروبا الشرقية حركات يسارية متطرفة تحقد بشدة على الصهيونية وأهدافها»( ). كما نقرأ في الكتاب نفسه: «كان التأييد للفكرة الصهيونية منذ البداية بين من هم غير يهود أكثر بكثير من التأييد في الأوساط اليهودية»( ).
وأما الحقيقة الثانية التي تشهد – في بحثنا – على جناية الصهيونية ووليدتها إسرائيل على اليهود أنفسهم وعلى العرب بل وعلى العالم، فقوامها ما نجده في إسرائيل اليوم من صحوة لدى الكثير من أبنائها، تتجلّى بوجه خاص لدى المؤرِّخين الجُدد وعلماء الاجتماع الجُدد وسواهم من الأدباء والفنانين، وسائر الذين ينادون بـ «ما بعد الصهيونية». وهي صحوة يتزايد عدد أنصارها يوماً بعد يوم، وأهمّ ما فيها الحملة العنيفة على الجرائم التي ارتكبتها الصهيونية منذ ولادة إسرائيل حتى اليوم، ضد أبناء البلاد وضد العرب جملةً، وضرورة التكفير عنها. وقد رأينا أن هذه الدعوة إلى «ما بعد الصهيونية» ترى أن الصهيونية أصبحت من التاريخ وأن عهدها قد مضى وانقضى. بل يرى كثير من روادها وأنصارها أن الصهيونية تحمل في تكوينها العضوي وبنيتها إرادة القتل والتخريب والتدمير. وحين يتحدث أصحاب هذه الصحوة – ولاسيما المؤرّخون الجُدد – عن ضرورة تجاوز الصهيونية، فإنهم لا يكتفون بأن يبرّروا دعوتهم هذه إلى تجاوز الصهيونية بالجرائم التي ارتكبت في حرب 1947 – 1949 وبما ورد حولها في الوثائق التي تمّ الكشف عنها، بل يتناولون بالنقد والتجريح صلب الصهيونية وجوهرها، ويبينون بوجه خاص انعكاس «خطيئتها الأولى» على الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلى ما يحدث اليوم من هزات سياسية واجتماعية وخلقية تهزّ المجتمع الإسرائيلي. ومنهم من يضع موضع التساؤل والشك «شرعية» وجود إسرائيل نفسها، و«حقها في الأرض» التي تقيم فيها. ومنهم من يرى أن مسألة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، بعد خمسين عاماً من نشوء دولة إسرائيل، أمر حيوي وضروري من أجل بقاء إسرائيل نفسها.
ولا أدل على أهمية هذه الصحوة الجديدة مما كتبه بنيامين نتانياهو، في تفتيد هذا التيار إذ قال: «إن نظرية «ما بعد الصهيونية» هذه، تُعتبر أكثر خطورة على مستقبلنا من الهجمات الخارجية. إذ إن تنازل دولة إسرائيل عن المبادئ الصهيونية يُعتبر تنازلاً عن مبدأ حياتها، وعند ذلك تبدأ بالذبول» .

ذلك أن رئيس وزراء إسرائيل السابق بنيامين نتانياهو ما فتئ يؤمن بأرض إسرائيل المزعومة، بل يذهب إلى أبعد من هذا فيرى «أن اليهود لم يسلبوا العرب أرضهم، وإنما العرب هم الذين سلبوا أرض اليهود»( )، مشيراً بذلك إلى بداية الفتوحات الإسلامية. وهو يقول بصريح العبارة: «إن ما يُمكن تحقيقه بالشرق الأوسط – حتى الآن – هو السلام المبني على الردع»( ) والقوة. ومما يدعو إلى السخرية أنه يرى أن مثل هذا السلام المستند إلى قدرة إسرائيل على ردع العرب هو السلام الدائم والمرتكز إلى أسس متينة من الأمن والعدل والحقيقة( ).
ولا يتسع المقام للحديث عن شتى الجوانب التي يمكن أن نستخلصها – نحن العرب – من العرض الذي قدّمناه لمعالم الصراع بين اليهودية والقومية الصهيونية قديماً وحديثاً، ومما تريثنا عنده بوجه خاص من مواقف المؤرّخين الجُدد في إسرائيل ومن والاهم من العلمانيين وأنصار حركة السلام وسواهم، ومما يصاحب تلك المواقف من نمو الحركات الداعية إلى «ما بعد الصهيونية».
ولعل أهم ما ينبغي أن يعمل له العرب، في هذا الإطار، توليد فكر عربي وغربي متفاعل ومتنامٍ مع الزمن، مهمته تعبئة الرأي العالمي ضد التزييف الصهيوني الذي ما زال يكابر ويعبث بمشاعر الكثير من اليهود، وبمصير العالم.
ويعني هذا – فيما يعني – دفع الاتجاهات المعادية للصهيونية التي تتجلى لدى طائفة غير قليلة من يهود إسرائيل ويهود العالم نحو القيام بخطوات عملية جادة من أجل ترجمة تلك الاتجاهات إلى خطة عمل قوامها إعادة الحقوق العربية كاملة إلى أصحابها. ويزيد من أهمية هذه المبادرة العربية الغربية المشتركة، ما نجده في الغرب نفسه، وفي أوروبا بوجه خاص، من أصداء تتعالى ضد التزييف الصهيوني للحقائق، لاسيما بعد ذيوع أفكار المؤرّخين الجُدد وانتشارها في الأوساط الثقافية الأوروبية، سواء كانت يهودية أو غير يهودية.
وهكذا يتحدد مصير عملية السلام ومصير إسرائيل في خاتمة المطاف بمدى قدرة إسرائيل على تجاوز عقدتها الصهيونية المتحجرة التي يعبّر عنها بنيامين نتانياهو، ومن ورائه اليمين القومي الديني المتطرف، أوضح تعبير. وإذا لم تستطع إسرائيل تجاوز «خطيئتها الأولى»، نعني الصهيونية، وإصلاح ما كان لهذه الخطيئة من آثار مخربة على الشعب الفلسطيني والشعب العربي جملةً، فكل سلام سيكون مُدمِّراً لها أولاً قبل أن يكون مُدمِّراً للعرب، لأنه سيؤجّج الصراعات داخلها ويُعرّضها لفتن لا شفاء منها، ويجعل من ركوب العرب مركب السلام الزائف معها عملية انتحار مشتركة. فالسلام الذي يرتكز على أنصاف الحقائق والتشويه، كما يقول بنيامين نتانياهو نفسه، «لابد أن يتحطم على صخرة الواقع»( ). وهو قول يستخرج منه ما يريده هو، حين يرى أن الحقيقة الواقعية الوحيدة هي أن موافقة العرب على السلام تقوى كلما «بدت إسرائيل أقوى»( )، وأن السلام الحق والباقي هو السلام المبني على الردع الإسرائيلي( ).
شؤون وشجون كثيرة يثيرها بحثنا هذا ولا يتسع لها المقام. وحسبنا أن نقول في ختامه: إن بحثنا يهدينا إلى حقيقة واحدة، وهي أن العزيمة العربية الصامدة، المؤيدة بالتعبئة الشاملة والتضامن الفعّال، والحوار المنظّم مع الفكر الغربي والعالمي، هي وحدها القادرة – في خاتمة المطاف – على إحقاق الحق. والحق رأيناه عبر بحثنا كله، وأكده لنا أصحاب الدعوات الجديدة في إسرائيل، وهو أن لا حل للصراع العربي – الإسرائيلي، ولا نجاة لشعب إسرائيل، ما دامت المنطلقات الصهيونية قائمة، وما دام سيفها مشهراً في وجه العرب واليهود وسائر شعوب العالم. ويلحق بهذا أن يبيّن العرب بجلاء وقوة من خلال جهودهم الديبلوماسية والسياسية والفكرية إبان مفاوضات السلام، تلك الجهود الداعية إلى تخلّي إسرائيل عن منطلقاتها الصهيونية كشرطٍ أساسي لقيام سلام عادل وباق وصادق، أن موقفهم هذا من الصهيونية استبان صدقه واتضح دوره الأساسي حتى لدى الكثير من أبناء إسرائيل أنفسهم ولاسيما لدى أنصار «ما بعد الصهيونية»، ولدى المؤرّخين الجُدد ومن والاهم. وعندما يؤكد العرب بالتالي هذا المطلب – مطلب تخلّي إسرائيل عن منطلقاتها الصهيونية – فإنهم يؤكدون حقيقةً غدت بديهية حتى لدى الكثير من أبناء إسرائيل ومن يهود العالم ومن مفكرّي الغرب. وهم بالتالي – أعني العرب – لا يطلبون إدّاً من الأمر ولا يَغْلون في حقهم. وعلى المجتمع العالمي أن يدعم موقفهم هذا إذا هو أراد حقاً أن يقوم سلام عادل وحقيقي في المنطقة.
والمهم، بعد هذا كله، ألا يتعجّل العرب، وألا يُقدموا على ركوب مركب مهتزّ تطوقه الألغام لا يدرون ما مصيره، وأن «يتركوا وقتاً للوقت». فالأيام حبلى بالأحداث والمفاجآت، لاسيما عندما يعرفون كيف يجنّدونها لصالحهم، ولاسيما عندما يُحكمون الطوق العربي حول إسرائيل في شتى الميادين.
باريس، في 15/12/1998