إسرائيل في مواجهة هويتها الممزقة

التاريخ: ٤-٤-١٩٩٦

المكان: دار الندوة ببيروت

مدخل
يتريث العرب، في مألوف العادة، عند التفوق العسكري الإسرائيلي، سواء كان ذاتياً أو مجلوباً، بالإضافة إلى التفوق العلمي والتقاني. وقلما يتساءلون عن مدى تماسك العقيدة أو الإيديولوجيا الصهيونية التي يفترض أنها وراء هذا التفوق العسكري والتقاني، وعن مدى قدرتها، بعد أن تصدعت وتفرقت شيعاً وطرائق متنافرة منذ ولادتها حتى اليوم، على حماية كيانها من الانهيار المعنوي من جوفه وأعماقه.
وكثيراً ما يحسبون أن الصهيونية عقيدة جامعة مانعة، واضحة المعالم، بيّنة الأركان، تلتف حولها الكثرة الكاثرة من أبناء إسرائيل ومن يهود العالم، وأن اليهود كانوا دوماً في التاريخ القديم والحديث أمة واحدة، وإن تفرقت بهم الديار، يجتمعون دوماً، بفضل الإرث الثقافي الديني بوجه خاص، على كلمة سواء بينهم، مهما اختلفت مشاربهم ومنازلهم، ولا يفترقون طرائق وشيعاً إلا ليأتلفوا من جديد، ولا يتنابذون إلا ليركنوا إلى الوئام.
في مقابل هذا، كثيراً ما ينسى الكثير من العرب ومن سائر الأمم أن العقيدة الصهيونية كانت وما تزال تشكو من تناقضات كبيرة في صلبها، وأن العقيدة الدينية لدى اليهود كانت وما تزال حائرة وقُلَّباً وضالّة، تلعب بها الأهواء، وتلعب هي بالأهواء، وأن الجمع بين الصهيونية والدين أمر أعقد من ذنب الضبّ، وهمُّ أقضّ مضجع اليهود وما يزال، وفرّقهم شيعاً وعصائب، قبل ولادة الصهيونية وبعدها، وقبل ولادة دولة إسرائيل وبعدها، وأنه قمين بأن يزعزع أركان الدولة في إسرائيل في أي حين.
ولا نغلو إذا قلنا إن السؤال الذي شاع وذاع دوماً نعني: من هو اليهودي؟ وما هي هوية دولة إسرائيل؟ سؤال أزلي أبدي، أجاب عنه اليهود دوماً بطمسه، وأجابت عنه إسرائيل بالهروب منه أو تزييف النقاش حوله، وتلقى من الأجوبة المتكاثرة والمتناقضة ما يندّ عن الحصر. وما يزال هذا السؤال بلا جوابٍ حقٍ حتى اليوم، لأن الجواب الحق قمين بأن يضع موضع التساؤل الصهيونيةَ وتعددَ منطلقاتها وتناقض أصولها، فضلاً عما صاحبها من تزييف ومراوغة وكذب على الواقع، وأن يفضح بالتالي التهافت المعنوي للوجود الإسرائيلي، وهو تهافت كفيل بأن يقضي على ذلك الوجود في وقت عاجل أو آجل.
والأطروحة التي نود أن نخلص إليها في هذه الكلمة هي أن دولة إسرائيل ملتقى لصراعات قديمة وحديثة، من كل نوع، تمزّق وجودها وتجعلها دوماً كياناً قابلاً للتفجر من داخله، وأن هذه الصراعات ليست عارضة أو طارئة، بل هي كما يقول الفلاسفة «محايثةٌ» لليهودية والصهيونية ودولة إسرائيل، تقيم في صلبها جميعها. إنها صراعات باطنية (Intrinsèque) وخِلْقية (إن أردنا أن نستخدم تعبيراً طبياً) لا يجدي فيه العلاج، ولا شفاء منها إلا بالعدول عن منطلقات الصهيونية ومنطلقات النزعات الدينية المزيفة، ومنطلقات الادعاءات الإثنية والعرقية والقومية المصطنعة.
وبتعبير آخر، ما نود أن نقوله هو أن حل المسألة اليهودية لا يكون إلا بالنكوص عن محاولة اعتبار اليهودية نمطاً فريداً هو نسيجُ وحده بين ديانات العالم، والانخراطِ بالتالي في مسيرة التطور الإنساني الذي يرفض أن تكون الديانات أساس حياة الشعوب وكياناتهم، ناهيكم عن أن تدّعي ديانة معينة (ومن ورائها شعب معين) الحق في أن تحكم سواها وفي أن تتحكم في العالم. وبتعبير آخر، إن تخلص إسرائيل واليهودية من آفاتها المقيمة وتناقضاتها المميتة، وتخليص الإنسانية بالتالي من شرور تلك الآفات والتناقضات، ومما تثيره في العالم كله من فتن واحتراب، يشترطان أولاً، وقبل كل شيء، التخلي عن الشعارات اليهودية الشوفينية والعرقية التي تجعل من الشعب اليهودي شعب الله المختار الذي ينبغي أن تدين له الشعوب، وأن يصاغ العالم لمرضاته وخدمته وعلى غراره.
ولا شك في أننا لا نستطيع أن نتوقع من إسرائيل ومن معظم يهود العالم أن يضطلعوا بهذه المهمة، مهمة التخلي عن ادعاءاتهم وغرورهم وتسخير العالم لهم. ومن هنا كان من واجب المفكرين في العالم، وعلى رأسهم الصادقون من اليهود، وهم قلة، أن يكشفوا عن التناقض والزيف الكامنين في صلب الكيان الإسرائيلي، وفي صلب الاتجاهات الدينية والصهيونية التي أدت إلى خلق هذا الكيان، بعون من الدول الكبرى، وبدفعٍ منها إنفاذاً لمآربها، وأن يقدموا للعالم كله الحقيقة عارية، في منأى عن أكاذيب إسرائيل ومن وراءها. أَوَلَم يكتب لوثر نفسه منذ القرن السادس عشر، قبل ثلاث سنوات من وفاته، كتاباً بكامله عنوانه اليهود وأكاذيبهم على الرغم من أنه كان في مطلع حياته من المدافعين عن اليهود؟ أَوَلَم يتساءل تساؤلاً إنكارياً وزير المعارف ووزير الثقافة الإسرائيلي أمنون روبنشتاين في كتاب له شهير صدر حديثاً وترجم إلى العربية تحت عنوان مراجعة الحلم الصهيوني: هل يُعتبر وضع إسرائيل بين الأمم مقرراً بأمر إلهي، يجعلها متميزة من سائر أمم الأرض؟(1).
ولا شك في أن من العسير، في مثل هذا المقام، أن نتحدث، ولو بإيجاز شديد، عن التناقضات الأصيلة، التليدة والطريفة، التي رافقت الحركة الدينية اليهودية منذ ولادتها، ومنذ بدايات القرن الثامن عشر بوجه خاص، والتي رافقت الصهيونية منذ مخاضها حوالي عام 1850، ولاسيما بعد ظهور كتاب دولة اليهود عام 1896 بقلم هرتزل، والتي اشتدت وازدادت تناقضاً وشقاقاً بعد ظهور الدعوة الصهيونية، وقبل ولادة دولة إسرائيل، والتي حمي وطيسها خلال العقود الثلاثة التي سبقت قيام إسرائيل، وصبت كلها أخيراً في الكيان الصهيوني المصطنع الذي لم يستطع حتى اليوم أن يمتص تلك التناقضات، بل ازدادت فيه حدة واشتد أوارها بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948، وبعد حرب حزيران عام 1967 بوجه خاص، وبعد حرب تشرين الأول عام 1973، وما تزال نارها مشتعلة قبل مفاوضات السلام وبعدها، الأمر الذي يدل على أنها تناقضات صميمية أزلية لا تزول إلا بزوال مسبباتها.
ومن هنا كان علينا أن نكتفي بإشارات سريعة إلى جذور تلك التناقضات ومعالمها البارزة، مصطنعين لغة أشبه ما تكون بلغة البرقيات.
-I الصراعات والتناقضات التي رافقت المسألة اليهودية:
ولعلّ في وسعنا منذ البداية، أن نلملم أطراف الموضوع بالإشارة الخاطفة إلى أبرز عناوين التناقضات الذاتية اللدّنية التي حملتها المسألة اليهودية عبر تاريخها الطويل، وعبر المراحل الأساسية التي أشرنا إليها منذ حين، والتي ما تزال حالّة في صلب كيانها الذي ولد ولادة قيصرية حاملاً معه حصاد تناقضات المذاهب اليهودية عبر القرون. وتتلخص هذه التناقضات في رأينا في العناوين الكبرى الآتية:
– التناقضات في صلب الديانة اليهودية عبر التاريخ.
– التناقضات في صلب الدعوة الصهيونية.
– التناقضات بعد ولادة دولة إسرائيل وحتى اليوم.
ولا يتسع المجال في هذه الأمسية للحديث عن هذه الأنماط العديدة من التناقضات، مهما نمعن في الإيجاز. وقد فصلنا ذالك في كتاب برأسه نرجو أن يتم نشره قريباً.
وحسبنا، من أجل أغراض موضوعنا، أن نتوقف عند بعض الصوى الكبرى.

(أولاً) التناقضات في صلب الديانة اليهودية وعبر مسيرتها(2)
1- في صلب الديانة اليهودية وفي مسيرتها عبر التاريخ، بذور للتناقض قام الجدل حولها وما يزال مستمراً حتى اليوم. من أبرزها التناقضات المتصلة بالإعفاءات الشرعية. وتعود هذه التناقضات بوجه خاص إلى التناقض بين ما ورد في التوراة المكتوبة وبين ما ورد في التوراة الشفوية التي تشتمل على القانون الديني الشفوي الذي يعرف باسم «الهالاخاه». وكما نعلم تؤلف التوراة الشفوية (ميشنا)، ومعناها (التكرار والتعليم) مع شروحها وحواشيها (“غيمارا” وتعني بالعبرية “الشرح”) ما يعرف بالتلمود (ويعني بالعربية “البحث والتعليم”). كما تعود هذه التناقضات إلى الخلافات الكبيرة في تفسير التلمود على الرغم من أن أحبار اليهود ابتكروا على مر العصور نظاماً للتأويل مخادعاً يحاول أن يستمسك بحرفية النص الشرعي، وأن يخالف روحه ومقاصده، إرضاء للطبقات الحاكمة أو سواهم. وقد عرف نظام الإعفاءات الشرعية هذا باسم “هيتيريم Heterim”، وكان من أهم عوامل تخلف اليهودية وترديها في حقبتها الكلاسيكية.
2- وقد زاد في حدة الصراعات الدينية وانحرافاتها، تلك النزعة الصوفية التي ذر قرنها بين القرن الثاني عشر والقرن الثامن عشر الميلادي في كثير من بلدان أوروبا، ونعني بها نزعة “القبّالة Kabbala”. وتعود تباشير هذه النزعة القبّالية إلى القرن الأول الميلادي. لكنها اشتدت وشاعت بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر في جنوبي فرنسا وفي إسبانيا، وضمّها كتاب كان له أثر كبير في حياة اليهود في ذلك الحين، هو كتاب “باهر Bahir” (أي كتاب الضياء) الذي كان يعد بمثابة توراة المتصوفين. وقد كانت هذه النزعة عامرة بغريب المعتقدات لاسيما فيما يتصل بصفات الإله وقدراته العشر، بالإضافة إلى نظرية تقول بهجرة الأرواح.
وقد أنشأت هذه النزعة، منذ ذلك الحين، مركزاً لها في فلسطين أي في الأرض التي سوف يظهر فيها المسيح في زعمها.
3- ظلت اليهودية التقليدية سائدة حتى نهاية العصر الوسيط. وعند تباشير “عصر التنوير”. وبسبب الثورة العلمية في القرن السابع عشر، والثورة الاجتماعية والسياسية في القرن الثامن عشر، والثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، أخذ اليهود يخرجون من “غيتهم Ghetto” وسباتهم المادي والفكري، وأخذت في الظهور بعض النزعات الدينية العقلانية المجددة. وقد برز ذلك فيما عرف بالإصلاح الديني اليهودي الذي انتشر في ألمانيا وفي الولايات المتحدة بوجه خاص. غير أن هذه اليهودية العقلانية ما لبثت أن لقيت مقاومة عنيفة من كثير من الحركات الدينية الأخرى. وتفرق القوم منذ ذلك الحين طوائف متعارضة متصارعة، ومذاهب متنافرة، أبرزها ثلاثة: اليهودية الأرثوذكسية، واليهودية العلمانية، واليهودية التقليدية المحافظة. وقد استعر الخصام بين هذه النزعات الثلاث، وما يزال مستعراً حتى اليوم.
(ثانياً) التناقضات في صلب الدعوة الصهيونية:
ومن العسير جداً، مهما نفرط في الإيجاز، أن نلم ولو بطرف يسير من التناقضات الفكرية والسياسية التي رافقت الصهيونية منذ مخاضها. ومع ذلك يمكننا، باللجوء إلى ضرب من الإيجاز المخل، أن نعدد عناوين أبرز تلك التناقضات(3):
1- فهنالك التناقض بين الصهيونية الثقافية القومية (التي كان أبرز ممثليها “ناتان بيرنباوم” في أواخر القرن التاسع عشر)، وبين الصهيونية السياسية التي كان أبرز ممثليها “تيودور هرتزل”. وقد أحدث تسييس القومية اليهودية انشقاقاً كبيراً في قلب الصهيونية، وقاومها، فيمن قاومها، صهيوني بارز من أشد المنادين بالصهيونية الثقافية القومية، نعني “آحاد هاعام Ahad Ha-Am”.
2- وهنالك التناقض داخل الصهيونية حول أرض الدولة اليهودية. فلقد كان الخلاف بين الصهاينة، كما نعلم، حول اختيار الأرض التي ينبغي أن يتم عليها إنشاء الدولة اليهودية خلافاً عميقاً حاداً. وكان الخلاف أشد وأعمق حول اختيار أرض فلسطين مقراً للدولة الموعودة. وقد كان من أبرز الصهاينة الذين رفضوا إقامة دولة يهودية في فلسطين الطبيب الروسي “ليو بنسكر Leo Pinsker”” (1821-1891)، وذلك حرصاً منه على الفصل بين ميدان السياسة وميدان الدين. فهدف وجود الصهاينة، كما يقول، “ينبغي ألا يكون الأرض المقدسة، بل أرضنا نحن”.
بل إن “هرتزل” نفسه لم يطالب في كتابه الشهير “دولة اليهود Der Juden Staat ” (الذي نشر عام 1896) بإنشاء “دولة يهودية” بل دعا إلى إنشاء دولة لليهود، ولم تكن الديانة اليهودية هي العنصر الأساسي في دعوته، بل كان الأساس عنده معالجة “مأساة الشعب اليهودي”، تلك المعالجة التي تستلزم تنظيم الشعب اليهودي تنظيماً ذاتياً في إطار دولة أنى كانت. وقد قبل للمرة الأولى، تحت ضغط الاتجاهات المناوئة، أن تتم إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وذلك في “المؤتمر الصهيوني العالمي الأول” الذي عقد في مدينة “بال” بسويسرا عام 1897، وتنازل نتيجة لذلك عن تأييده لاقتراح وزير المستعمرات البريطاني “جوزيف شامبرلين J. Chamberlain” إذ ذاك الخاص بإقطاع “أوغندا” أرضاً لليهود.
وقد استمر هذا الخلاف حول اختيار أرض فلسطين مكاناً للدولة اليهودية بعد ولادة دولة إسرائيل. وما يزال مستمراً حتى اليوم، ولاسيما لدى معظم أصحاب الدعوات الدينية والمسيحانية.
3- وهنالك التناقض بين أصحاب النزعة الاشتراكية من الصهاينة وبين سواهم. ولقد مثل النزعة الاشتراكية الناطق البليغ باسمها، نعني “نحمان سيركين Nahman Sirkin” صاحب الكتيب الشهير “المسألة اليهودية والدولة الاشتراكية”. وقد كان “سيركين” هذا ذا اتجاه اشتراكي قومي، وكان يرى أن النضال الاجتماعي الاشتراكي تابع للنضال القومي وأداة من أدواته. ولكن اتجاهه هذا لقي معارضة من قبل مفكرين صهاينة آخرين، كان أبرزهم “بير بروخوف Ber Brokhov” (1881-1917) الذي حاول أن يبني الصهيونية على أسس ماركسية.
4- وفي مواجهة هذه الصهيونية الاشتراكية بشكليها، ظهرت نزعة أخرى، تمنح الأولوية للعمل، وللعمل اليدوي والجسدي بشكل خاص. وممن مثل هذه النزعة مفكر لتواني الأصل عاش في أوكرانيا، هو “غوردون Aharon David Gordon” (1856-1922). وقد أقام في فلسطين لكي يقيم في زعمه ديناً حقاً للفئات العاملة.
5- وثمة تناقضات أخرى كثيرة في قلب الصهيونية، منذ ولادتها، وبعد ولادتها، لا يتسع المقام للحديث عنها. وحسبنا أن نشير إلى واحد منها، وهو الخلاف، عند نشأة الصهيونية بل قبلها، بين الداعين إلى إحياء اللغة العبرية، وبين الذين يؤثرون الإبقاء على لغة “الييديش Yiddish”. وقد كان هذا الخلاف عنيفاً، يشهد عليه أن “هرتزل” نفسه كان ضد استخدام اللغة العبرية في الدولة اليهودية الموعودة، وأنه كان يؤثر على ذلك استخدام اللغة الألمانية. وفي نطاق استخدام اللغة العبرية نفسه، قامت حرب ضروس بين المنادين باستخدام اللغة العبرية التلمودية وبين المنادين باستخدام اللغة العبرية التوراتية. وفوق هذا وذاك قام صراع لدى رواد الصهاينة بين من يربط بين اللغة والقومية (من أمثال “هردر Herder”) وبين من يربط بين اللغة والدين، وبين من يرى أن اللغة فوق الدين (من أمثال “بن يهودا” أبي العبرية الحديثة).
ولا شك أن حديثنا عن الصراعات التي قامت في قلب مخاض الصهيونية حديث مخل ومقصر عن القصد. ولقد أردنا من ورائه أن نطلع، ولو على نحو ناقص، على حقيقة لا نني نؤكدها عبر هذه الكلمة، وهي أن الدعوة الصهيونية دعوة مصطنعة وُلدت عنوة وقسراً من خلال مخاض فكري متناقض وعسير، ولم تقو منذ البداية على التغلب على تناقضاته، لأن هذه التناقضات نابعة من زيف المقاصد الصهيونية. فلقد كانت الدعوة الصهيونية، على نحو ما تحققت في الواقع، عملاً سياسياً أولاً وقبل كل شيء، يطمح إلى خلق كيان يهودي، غير آبه بما في مثل هذا الطموح من تناقض مع واقع اليهود في العالم ومعتقداتهم المتباينة وأصولهم المختلفة وأفكارهم المتضاربة. ولتمرير لعبتها السياسية هذه، استعانت بالمراوغة الدينية والفكرية والعملية، وبالغموض ومحاولة التأليف بين ما لا يأتلف. فعجزت عن تعريف المقصود باليهود أو باليهودية، أو بالوطن القومي، أو بالقومية اليهودية، أو بالديانة اليهودية، أو بالقوانين اليهودية، أو بالتاريخ اليهودي، أو بالاشتراكية اليهودية أو سوى ذلك. ولجأت في هذا كله إلى التأويل وتأويل التأويل، دون أن تفلح في رفع الحجب عن أحجية مستعصية في الأصل والجوهر. وما تزال التأويلات تترى، وما يزال الغموض البديء يعكر الأجواء وما تزال التناقضات تخرّب وتمزّق.
(ثالثاً) التناقضات بين الدعوة الصهيونية والديانة اليهودية
على أن أفتك تناقض عانت منه الصهيونية منذ نشأتها وظلت تعاني منه حتى اليوم، التناقض بين الدعوة الصهيونية والديانة اليهودية. وللحديث عن هذا الموضوع الضخم جوانب عديدة لن نستطيع سلوك شعابها الكثيرة، وحسبنا ههنا أيضاً التلميح لا التصريح:
1- هنالك الاتجاهات الدينية الأرثوذكسية المتطرفة، التي سبق أن أشرنا إليها، ومعظمها يصم الصهيونية بأنها ثورة ضد الإله ونفي لليهودية. ومن أبرز ممثليها “إسحق بروير Jasaac Breuer” (182-1946) الذي كان وجهاً بارزاً من وجوه الأرثوذكسية اليهودية الجديدة في ألمانيا ثم في فلسطين. وهو يرى أن المزاعم السياسية التي أتت بها الصهيونية مزاعم خطيرة وعابثة.
2- وفي مقابل هذه النزعة الدينية المتشددة الرافضة للصهيونية، نقع على “التيار التقليدي الإصلاحي” الذي يشكك في الطابع المقدس للتقاليد الدينية، محاولاً تجديدها. ومن أبرز ممثلي هذه النزعة “إسحق ياكوف راينس Yitzhak Yakov Reines” الحاخام اللتواني الذي أنشأ عام 1902 حزب “مزراحي” الشهير، ذلك الحزب الذي ضم المتدينين المستعدين للتعاون مع الصهيونية.
3- وهنالك تيار ديني آخر، أيد الصهيونية “الملحدة” على شاكلته وعلى نحو غريب، ونعني به “التيار الصوفي” على نحو ما نجده لدى “اسحق يعقوب كوك Yitzhak Jacoben Kook” (1865-1935)، ذلك الليتواني الصوفي الذي يقول بما يشبه مذهب وحدة الوجود، والذي لم يجد صعوبة مع ذلك في أن يحمل الصهيونية معنى دينياً. ذلك أن الصهيونية، في نظره، تملك شرعية مؤقتة ما دامت تتيح “تطهير الأقذار التي علقت بالدين”.
ومما يثير العجب – وما أكثر ما في مسيرة الصهيونية من عجائب – أن أفكار “كوك” هذه تبناها كثير من المتدينين بعد خلق دولة إسرائيل.
4- وإلى جانب هذا وذاك، هنالك التناقضات التي وقع فيها رواد الصهيونية العلمانية أنفسهم. فبينما ينفي “هرتزل” نفسه أن تكون دولة اليهود ذات طابع ثيوقراطي، فإنه ما لبث حتى ناقض نفسه وقدّم تنازلات كثيرة حول الصلة بين الصهيونية والدين. ومثله فعل “بن غوريون” أول رئيس لدولة إسرائيل، في أقواله ومواقفه.
5- تضاف إلى هذا كله التناقضات داخل الصهيونية، عند مخاضها، بين “هرتزل” وأنصاره وبين اليمين الصهيوني المتطرف، المنادي بالعنف والقوة. وقد كان أبرز ممثلي هذا اليمين، العدو اللدود لهرتزل، والزعيم الصهيوني البارز “فالديمير زيف جابوتنسكي Valdimir Zeev Jabotinsky” (1880-1940). وقد كان ذا نزعة قومية وعرقية، تتبنى العنف والفاشية. ومع ذلك، كان من المعارضين لقيام الدولة اليهودية عاجلاً.
والذي يعنينا هو أن أفكار “جابوتنسكي” الفاشية هذه، وأفكار العديد من أتباعه، وجدت أصداء لها فيما بعد في عصابة “شتيرن” الشهيرة التي أسسها “أبراهام شتيرن Abraham Stern” وقد حمل الراية من بعده “اسحق شامير”.
(رابعاً) التناقضات بعد ولادة دولة إسرائيل وحتى اليوم(4)
التناقضات التي تحدثنا عنها حديثاً خاطفاً فيما سبق، صبت في الكيان الإسرائيلي بعد إقامته، وانضافت إليها تناقضات أخرى جديدة، وحملت كلها واتأمت وأنتجت الواقع الحالي الممزق.
ومن العسير ههنا أيضاً أن نتحدث عن أمهات الصراعات التي تمزق الكيان الإسرائيلي منذ ولادته حتى اليوم. وفي وسعنا أن نجملها في الصراعات الآتية:

1- صراع اليهودي الشرقي (السوفارديم) ضد اليهودي الأوروبي (اشكنازيم).
2- صراع اليهودي الأوروبي الشرقي (المنتسب إلى شرق أوروبا) ضد اليهودي الأوروبي الغربي (المنتسب إلى غرب أوروبا).
3- صراع اليهودي المتدين ضد اليهودي العلماني.
4- صراع اليهودي الذي ولد في فلسطين وعاش فيها (جيل “السابرا Sabra”) قبل ولادة إسرائيل ضد اليهودي المهاجر الجديد الذي أتى إليها بعد ذلك، في سنوات النصر والنجاح.
5- صراع اليمين الإسرائيلي ضد اليسار الإسرائيلي.
6- صراع العربي المقيم في إسرائيل ضد اليهودي.
ومن الهام أن نذكر، كما يقول الكاتب الإسرائيلي “سمحا لنداو” أن أي عامل من هذه العوامل لا يشكل وحده خطراً فعلياً، وأن الخطر يكمن في اجتماع هذه العوامل المختلفة وتشابكها.
ونتوقف في ما يلي وقفة سريعة خاطفة عند واحد من هذه الصراعات له شانه الأكبر، نعني الصراع داخل الحركات الدينية، وما يلحق به من صراع بين هذه الحركات وبين الاتجاهات العلمانية.
وفيما يتصل بالصراع داخل الحركات الدينية، لن نعود ههنا إلى مخاض هذا الصراع، وقد شهدنا طرفاً منه، ونكتفي بالحديث الموجز عن ذلك الصراع على نحو ما انتهى إليه في الكيان الإسرائيلي بعد نشأته، مثيرين بوجهٍ خاص إلى انعكاساته على مجرى الحياة السياسية في إسرائيل اليوم، الأمر الذي يجعلنا نتريث عند الأحزاب والحركات الدينية الأساسية على نحو ما نجدها منذ نشأة الكيان الصهيوني وحتى اليوم، وهي كلها حركات وأحزاب متنافرة:
1- فهنالك الأحزاب الصهيونية الدينية الأرثوذكسية التي تنطلق من فكرة أساسية تتجلى في معارضة ما يؤمن به عامة اليهود وما يدعون إليه من ارتقاب “المسيح المنتظر” كي يقودهم صوب فلسطين من أجل إقامة مملكة إسرائيل. ذلك أن هذه الأحزاب ترى أن هذا الاعتقاد “المسيحاني” الذي ساد بين اليهود قرابة ستين جيلاً، حال بين اليهود وبين القيام بأي عمل سياسي يعيدهم إلى “أرض الميعاد”.
وأهم هذه الأحزاب الدينية الأرثوذكسية التي اشتد أزرها بعد ولادة دولة إسرائيل، وبعد عام 1967، والتي لعبت وما تزال تلعب دوراً بارزاً في الحياة السياسية والاجتماعية في إسرائيل، الأحزاب الآتية:
– حزب “المزراحي” وحزب “العامل المزراحي”.
– الحزب الديني القومي (مفدال).
– حزب “تامي” (قائمة تقاليد إسرائيل).
– كتلة “موراشا” (التراث).
– حزب “ميماد” (معسكر الوسط الديني) أو اليهودية العقلانية.
2- وهنالك الأحزاب الدينية “المسيحانية” المعارضة للصهيونية (أو أحزاب تكفير الدولة كما توصف أحياناً): وتنطلق هذه النزعات الدينية المتشددة، “المسيحانية” والمعارضة لدولة إسرائيل، من القول بأن الصهاينة يخفون الملابس الصهيونية القذرة تحت ثياب طاهرة ومقدسة. وترى أن هؤلاء الصهاينة أناس لم يقبلوا السيادة السماوية ولا الإرادة الإلهية، ولا يتبعون سبيل التوراة. ومن هنا تقول هذه النزعة بأن مساعي الصهاينة الرامية إلى تأسيس دولة قومية يهودية في فلسطين تتنافى مع العقائد اليهودية المتصلة بانتظار مجيء “المسيح”، على نحو ما وردت في أسفار العهد القديم وفي المصادر المتأخرة للديانة اليهودية.
أما موقفها من دولة إسرائيل بعد ولادتها، فيتباين بين فريق وفريق. على أنه يتجلى بوجه خاص في تيارين: أولهما يقول بعدم قدسية إسرائيل، استناداً إلى تفريقه بين “دولة إسرائيل” و”أرض إسرائيل” أما الثاني فهو تيار قديم جديد، تمثله المدارس الدينية اللتوانية بزعامة الحاخام الشهير «أليعازار مناحم شافي» الذي نظر إلى دولة إسرائيل نظرة براغماتية مغالية، والذي يرى أن “أرض إسرائيل” نفسها غير مقدسة.
3- وهنالك القوى الدينية “الحريدية” غير الحزبية والمعارضة للصهيونية: وهي في مجملها تكفر دولة إسرائيل وتعادي الصهيونية وتعيش في عزلة “غيتية” داخل المجتمع الإسرائيلي. وتضم طوائف أربعاً هي: الطائفة الحسيدية – والطائفة الحريدية – وطائفة “ساطمر” الحسيدية، وجماعة “انطوري كارتا”.
ولا مجال للحديث عن كل من هذه الطوائف. وحسبنا أن نقول عابرين: إن موقف الأولى (نعني الحسيدية) من الحركة الصهيونية موقف نقدي حاد. وهي ترى أن جوهر رسالتها يكمن في الحفاظ على الوجود اليهودي من جانب، وإعداد العالم لقدوم “المسيح المخلص” من جانب آخر. أما الثانية، نعني الحركة الحريدية (“حريديم” بمعنى ورع تقي) فأتباعها يعادون الصهيونية أيضاً ويكفرون الدولة، ويعتقدون أنهم وحدهم يملكون الحقيقة. ويكاد يكوّن القطاع الحريدي كما يقول “ليسك”، دولة داخل الدولة. وأما الطائفة الثالثة نعني طائفة “ساطمر” الحسيدية، فهي من أكبر الجماعات الحسيدية في العالم، ومقرها الرئيسي في “فلسبورغ”. وهي ترفض أن تكون حرب 1967 وكل ما ترتب عليها تعبيراً عن مساعدة الرب العليا لشعب إسرائيل، لأن هذا الشعب هو شعب من المارقين عن الدين وغير جدير بمعجزة إلهية. ويبلغ عدد أتباعها نحو ربع مليون شخص في الولايات المتحدة الأمريكية. وهم قليلون في إسرائيل بسبب معاداتهم للفكرة الصهيونية. وأما الطائفة الرابعة، طائفة “أنطوري كارتا” فهي جماعة انشقت عن حزب “أغودات يسرائيل” منذ عام 1935 بسبب رفضها أي تعاون ولقاء مع الحركة الصهيونية. ويرى أتباعها أن إعلان استقلال إسرائيل نقض أسس قوانين الشريعة، ولذلك ترفض الاعتراف بالدولة وقوانينها والدفاع عنها. ولقد اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأدانت غزو لبنان عام 1982، بل أرسلت عقب وفاة الإمام الخميني وفداً لتقديم التعازي تقديراً لموقفه المناوئ للصهيونية. فالصهيونية، كما يقول الحاخام “موشيه هرش” سكرتير هذه الطائفة، تتعارض تعارضاً كاملاً مع اليهودية.
4- وفي خضم هذه الأحزاب والحركات الدينية المتنافرة، ثمة حركة تستحق منا وقفة خاصة، وإن تكن أيضاً خاطفة، نعني حركة “غوش ايمونيم”(5). ذلك أن هذه الحركة أفضل تعبير عن التطرف السياسي الذي يسم سائر الحركات الدينية في إسرائيل، وعن التناقض بينها وبين معظم الحركات العلمانية، وعن دورها في “تمزيق” المجتمع الإسرائيلي. يضاف إلى هذا أن هذه الحركة تعكس على نحو واضح وفاضح الأجواء التي طغت على إسرائيل بعد حرب حزيران عام 1967، وبعد حرب تشرين الأول عام 1973، والتي استمرت واشتدت بعد محادثات السلام في مدريد عام 1991 وحتى اليوم. وهي أجواء يختلط فيها الغرور والصلف بالقلق والخوف، وتختلط فيها ادعاءات السلام بأبشع أشكال النزعات العدوانية والتوسعية والعنصرية.
وقد كان من النتائج الطبيعية لهذه الأجواء أن تزيد الأقلية الصغيرة العنيدة من المتعصبين الدينيين القوميين من قبضتها على المجتمع الإسرائيلي، وأن يتكاثر مريدوها يوماً بعد يوم، وأن تشهد الفترة التي أعقبت حرب حزيران تحولاً في السلطة أدى إلى استيلاء اليمين المتطرف عليها، ممثلاً بحزب الليكود. وكانت نتيجة هذا كله أن حزب “غوش ايمونيم” الذي كان يقود هذه الموجة من القوميين الدينيين الجدد، فرض إرادته على الحكومات المترددة المتلاحقة.
ولا يتسع المجال للحديث عن هذا الحزب الذي ظهر رسمياً عام 1974، بعد حرب رمضان بوقت قصير، والذي تبنى اتجاهاً متحدياً للصهيونية الهرتزلية، والذي يرى أن “أرض إسرائيل هي لشعب إسرائيل طبقاً لتوراة إسرائيل”، وأن دولة إسرائيل تجسيد للعهد بين الله وشعبه. وقد اكتسب هذا الحزب مكانة خاصة وقوة فريدة منذ معركة الخليل عام 1968، ونجاحه في إنشاء مستوطنة “كريات أربعة” الشهيرة.
والحق أن أهم ما يميز مبادئ هذه الحركة، الدعوة الاستيطانية. ولقد استطاعت أن تفرض إرادتها في هذا المجال وسواه على الحكومات العمالية نفسها، وأصبحت لها “بطانة” مؤثرة وفعالة في قلب حزب العمل. وقد بلغ اهتمامها بهذا المطلب الأول، مطلب إقامة مستعمرات صهيونية في ضواحي مدن الضفة الغربية وتوفير الأموال اللازمة لذلك، أن عقدت ما يشبه الهدنة والمصالحة بين عالمها الديني المتزمت وبين عالم شارع “ديزنغوف” العامر بالمجون والخلاعة واليهود العلمانيين إجمالاً. فالذي يعنيها هو الإخلاص لقضية واحدة هي قضية استيطان أرض إسرائيل. ولليهود العلمانيين، في نظرها، خيار سهل، وهو أنهم يستطيعون خرق القانون الإلهي، والقيام بكل ما لا يرضاه الرب، على أن يشتروا الغفران عن طريق مساعدة مستوطنات “الغوش”.
وقد أدى ذلك كله إلى أن أصبحت العقيدة الاشتراكية الصهيونية في موقف المنهزم، واضطرت الأحزاب المنتمية إليها، ولاسيما حزب العمل، إلى اللجوء إلى الممالأة والخداع والمهادنة للحركات الدينية المتطرفة.
ولقد أدت هذه الأجواء الجديدة إلى وضع الصهيونية نفسها موضع التساؤل مرة أخرى
– وما أكثر ما وضعت موضع التساؤل قبل نشأتها وبعدها – بل إلى وضع اليهودية نفسها موضع التساؤل، وإلى قيام هوة إيديولوجية بين شعب إسرائيل وشعوب الأرض كافة. على حد تعبير المفكر الديني “جويل فلورشايم Joel Florsheim”. يلخص هذا المفكر أزمة الصهيونية هذه بقوله: “لقد فشلت الصهيونية بسبب محاولة تحويل الشعب اليهودي إلى شيء ليس من طبيعته، وفشلت في تحويل أرض إسرائيل إلى شيء من طبيعتها، لأن كل أرض هي للشعب الذي يعيش فيها”(6). وأدى ذلك إلى أن تطرح من جديد أسئلة قديمة حديثة حول الصهيونية واليهودية والعلاقة بينهما، بل حول مصير اليهودية في عالم الغد، وهل سيكون هنالك شعب يهودي على تخوم القرن الحادي والعشرين(7)، على نحو ما تساءل زعماء يهود من مختلف بلدان العالم، التقوا في مدينة “برنستون” عام 1986؟ وهل هنالك توافق بين اليهودية بالمعنى الديني للكلمة واليهودية بالمعنى العرقي؟ وهل ثمة ارتباط بين اليهودية وبين أرض فلسطين؟ وما هي العلاقة التي تبرز من جديد في إسرائيل اليوم حادة قوية بين دولة إسرائيل وبين النظام الديني الأخلاقي (الهالاخاه Halakha) الذي يفترض أن الزمن قد تجاوزه؟ أسئلة ضخمة، وسواها كثير طرحها من جديد نمو الحركات الدينية في إسرائيل، وطرحتها على نحو حاد حركة “غوش إيمونيم”، وسوف نعود إليها بعد حين، لأنها جوهر بحثنا.
6- وقد ازداد هذا الوضع المتأزم المتناقض خطورة بعد محادثات السلام، وأخذت الفرقة تنشب أظافرها ويشتد لهيبها داخل المجتمع الإسرائيلي أكثر من أي وقت مضى. ولا أدل على ذلك من مقتل “رابين”. وقد أصبح الكثيرون يتساءلون، داخل إسرائيل وخارجها، عما إذا كان سيؤدي مقتله إلى حرب مدنية عنيفة. وسنعود إلى ذلك كله بعد قليل.
7- ويهمنا أن ندرك، من وراء هذا كله، كيف تعاظم التناقض في قلب المجتمع الإسرائيلي بعد ولادة دولة إسرائيل، وكيف طرحت هذه الولادة مشكلات عصية على الحل، بسبب التناقض الذاتي العميق القائم في قلب الصهيونية قبل ولادة هذه الدولة وبعدها. وقد أدى هذا كله إلى توالد حركات دينية متباينة كما رأينا: منها أحزاب دينية أرثوذكسية، ومنها أحزاب “مسيحانية” معارضة للصهيونية ومكفرة للدولة، ومنها أحزاب دينية مسيحانية سفاردية، ومنها قوى دينية “حسيدية” معارضة للصهيونية، ومنها حركات “حريدية” مغالية في التشدد الديني وتكفير الدولة، ومنها، أخيراً وليس آخراً، حركة غوش ايمونيم”.
ولقد قامت صراعات بين هذه الحركات الدينية، وصراعات أخرى داخل كل منها حيث انقسمت فرائق وأجنحة. وأيدت بعض هذه الحركات الفكرة الصهيونية وقيام دولة إسرائيل، وعاداها بعضها الآخر. وعارضت معظم هذه الحركات الاتجاهات العلمانية، دون أن يعني ذلك دوماً معارضتها لحزب العمل ومن يدور في فلكه. كما أيد بعضها اتجاهات اليمين الصهيوني المتطرف وعلى رأسه حزب “الليكود”، بينما عارض بعضها الآخر أفكار اليمين السياسي ذاتها. وغدت إسرائيل، وسط هذا المخاض المضطرب، موطناً للحيرة والقلق. ولم تُجْد محاولات “التلفيق” المصطنعة في إعادة اللحمة إلى أجزاء هذا الكيان المتناثر.
والسؤال بعد هذا كله: إلى أين مصير إسرائيل؟ وهل تفلح في إنقاذ كيانها ولمّ شظايا هذا الوجود المبعثر؟ أم أن ما تشكوه من تمزق معنوي في بنيانها، أعمق من أي علاج مؤقت وجزئي، ولا يجدي فيه أي رتق مصطنع، ما دام ينبع من تناقض أصيل مقيم منذ القدم في تطور الوجود اليهودي عبر التاريخ، على نحو ما رأينا، ومن ولادة مقتسرة لحركة صهيونية ناقضت في منطلقاتها حاجات الواقع اليهودي في العالم وزادت في مشكلاته، وضلّت السبيل المؤدية إلى إنقاذ الوجود اليهودي، حين آثرت إيقاعه في شتات جديد، أخطر وأدهى، بدلاً من دمجه في المجتمعات التي كاد يندمج فيها فعلاً، والتي ما تزال الكثرة الكاثرة من أبناء الشعب اليهودي مندمجة فيها حتى اليوم؟ وأخيراً وليس آخراً ماذا تستطيع محاولات إسرائيل (والدول الأجنبية التي تود إنقاذها) لإقامة سلام مع العرب أن تقدم لمثل هذا الواقع المريض من حلول لمعضلاتها العصيّة على الحل؟ هذا ما سنجيب عليه في القسم الآتي.

-II إسرائيل الممزقة والمستقبل
(أولاً) مدخل: إسرائيل والنظام العالمي
1- على أبواب العهد العالمي الجديد الذي ظهر بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، خُيل إلى أكثر ساسة العالم ومفكريه أن السلام العالمي المنشود – ومن ورائه الحضارة العالمية الجديرة حقاً بالإنسان – يتم من خلال إحكام القبضة على الشعوب وفرض إرادة الأقوياء على الضعفاء.
يصدق هذا على العالم في كل مكان، ويصدق بوجه خاص على الصراع العربي الإسرائيلي. فالذين يتصدون لهذه المشكلة على مستوى الدول الكبرى – ولاسيما الولايات المتحدة – يظنون أن سبيل السلام العربي الإسرائيلي هي سبيل فرض إرادة المجتمع الدولي وإرادة الدول القوية على العرب، ولنقل تجوزا وعلى إسرائيل أيضاً. وهم بذلك يتناسون أن علاج المشكلات المعنوية لا يمكن أن يتم عن طريق إرادة القوة، كما هو الشأن في حل المشكلات المادية. ومن المفارقات التي يقعون فيها أن هذه الحقيقة – نعني تعذر حل المشكلات المعنوية عن طريق القوة – لا تنطبق هذه المرة على العرب وحدهم كما قد يخيل إليهم، بل تنطبق بوجه خاص على إسرائيل.

والأطروحة التي نود أن نؤكدها هي أن قدرة إسرائيل على إقامة سلام حقيقي مع العرب معطَّلة تعطيلاً شبه كامل بالتناقضات التي تحطم كيانها وتهدد وجودها منذ القدم، والتي تحدثنا عنها بإيجاز مخلّ عبر هذه الدراسة، وهي تناقضات تتجلى نتائجها الخطيرة أكثر فأكثر كلما تقدم الزمن. ومن العسير، في نظرنا، على مثل هذا الكيان، الذي تقعده الصراعات المرضية المتجاذبة عن أي عمل صحي وعن أي جهد صادق، أن يحقق سلاماً فعلياً مع العرب قابلاً للبقاء والاستمرار، مهما تكن القوة المادية التي تحميه كبيرة أو جبارة، داخل إسرائيل وخارجها.
ولقد قلنا منذ بداية بحثنا أن القوة المادية، عسكرية كانت أو اقتصادية أو كلتيهما، معرضة للتساقط، كما تساقط الاتحاد السوفياتي نفسه، إذا لم تؤيدها قوة معنوية، قوامها الأساسي القيم القادرة على تعبئة النفوس من أجل إرادة العمل المشترك.
2- وهذه القيم المشتركة هي التي تعوز الكيان الإسرائيلي، وهي التي أعوزته دوماً، مهما يكابر المكابرون ومهما يتخف المتخفون وراء تزييف الحقائق.
ذلك أن تاريخ اليهودية وتاريخ الصهيونية، كما رأينا، حمل معه على مر القرون من المعتقدات المتناقضة ومن الأفكار المزيفة ومن تشويه الواقع ما يحول دون تكوّن أي وجود يهودي قابل للبقاء. وواقع دولة إسرائيل، بعد ولادتها، حمل معه من أعباء ذلك التاريخ ما حمل. وحمل فوق ذلك ما اصطنعته الصهيونية من تحليل مزيف للواقع اليهودي وحاجاته. كان في أفضل الأحوال رد فعل خاطئاً على النزعات المعادية للسامية وعلى اضطهاد اليهود، دون ما تساؤل عن مسؤولية اليهود أنفسهم ومسؤولية الصهيونية نفسها عن نمو تلك النزعات الكارهة لليهود، ودون ما تساؤل عن مدى سلامة مداواة الداء بالداء، أي مداواة شعور بعض اليهود بالغربة في ديار الشتات بدعوتهم إلى غربة أدهى وأمر، تضيف إلى تبعثرهم السابق في دول العالم، شتاتاً جديداً لهم وسط وجود عربي يُكرَه على احتوائهم بالقوة، بل دون ما تساؤل عما وراء سعي الدول الكبرى، منذ أيام نابليون – لإقامة دولة لليهود في فلسطين، من مآرب سياسية قديمة تتصل بوراثة “الرجل المريض” (نعني الدولة العثمانية) ومن أغراض استعمارية حديثة. أو لم يدرك “بالمرستون” رئيس وزراء بريطانيا، منذ عام 1840، ما في محاولة إنشاء وطن لليهود من قسر وإكراه للواقع اليهودي نفسه وللمشاعر اليهودية، حين كتب، في تعليقه على تقرير قدّمه له، حول هذا الموضوع، اللورد “شافتسبري”: “يبدو أنه من السهل أن تقتلع اليهود من “غيتهم” (عزلتهم)، ولكنه من غير السهل أن تقتلع “الغيت” (العزلة) من اليهود”(8)؟

(ثانياً) تمزّق الهوية الصهيونية
ونود الآن أن نلخص التناقضات المعنوية القائمة في إسرائيل اليوم والمحملة بطاقات الانفجار، وهي تناقضات تتصل بالهوية اليهودية وهوية دولة إسرائيل، عرفها التاريخ اليهودي ماضياً وحاضراً كما رأينا، وتجلت في مسيرة اليهودية عبر التاريخ وفي مسيرة الصهيونية وتسللت إلى الحياة الإسرائيلية حتى اليوم. وفي وسعنا أن نوجز هذه التناقضات المتصلة بهوية إسرائيل في التناقضات الهامة الآتية:
1- تعريف اليهودي:
أول تناقض وأخطر تناقض يتصل بتعريف اليهودي. فالسؤال التليد الجديد كان وما يزال: من هو اليهودي؟ والجواب على ذلك يختلف ويتباين بتباين المذاهب اليهودية الدينية والفكرية والسياسية قديماً وحديثاً:
فهنالك المدلول العرقي (الاثني) لهذا الوصف، وهو أن اليهودي هو كل طفل ولد من يهودية – أو من أب يهودي تبعاً لبعض التأويلات التي تأخذ بها النزعة اليهودية الإصلاحية – ومعنى ذلك أن أي إنسان ينتسب إلى المجتمع اليهودي ويرتبط بمصيره، هو يهودي بحكم ولادته من أصول يهودية، سواء كان مؤمناً أو غير مؤمن، وسواء ارتبط بمؤسسة دينية يهودية أو لم يرتبط، وسواء صدّق على هذا الانتساب وأكّده أو لم يصدّق عليه.
وهنالك، إلى جانب هذا المدلول العرقي، المدلول الديني (نعني الانتساب إلى الديانة اليهودية)، وقوامه أن اليهودي هو أي إنسان يؤمن بالإله الواحد، إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، ويؤمن أن الله قد اختار الشعب اليهودي ووعده بالعودة إلى أرض الميعاد. وبهذا المعنى يكون اليهودي أي إنسان ينتمي إلى جماعة العقيدة اليهودية، سواء تم ذلك عن طريق انتمائه إلى مؤسسة دينية (كنيس ديني) أو لا، وسواء كان أرثوذكسياً محافظاً أو كان ذات اتجاه إصلاحي، وسواء كان انتماؤه بحكم الولادة أو بحكم اعتناقه الديانة اليهودية.
وواضح أن المدلول العرقي والمدلول الديني لكلمة “يهودي” لا يتطابقان. وفيما مضى كان يكفي أن يكون الإنسان يهودياً بالدم (بالمعنى العرقي) كي يكون في الوقت نفسه يهودياً بالمعنى الديني. أما في العصور الحديثة، وبعد ولادة الصهيونية ودولة إسرائيل، فالأمر يختلف باختلاف الحركات والأحزاب الدينية وسواها.

2- من هو المواطن الإسرائيلي:
ويرتبط بهذا التساؤل عن المقصود باليهودي تساؤل عملي هام، نعني التساؤل عن معنى المواطنة الإسرائيلية وعن معنى المواطن الإسرائيلي. فإذا نظرنا إلى “قانون العودة” الذي وضع مباشرة بعد خلق دولة إسرائيل، وجدنا أن المواطنة الإسرائيلية ينبغي أن تمنح على نحو آلي لليهود جميعاً. وعند ذلك يَرِد التساؤل: ما هو الموقف بالنسبة إلى الذين اعتنقوا الديانة اليهودية حديثاً والذين لم يختاروا الديانة اليهودية الأرثوذكسية التقليدية واختاروا اليهودية المحافظة الإصلاحية؟ هل هم حقاً يهود تبعاً للقانون؟ لقد أجاب على هذا السؤال بالنفي القاطع وزير الداخلية الإسرائيلي عام 1987، وكان من الأرثوذكسيين المتطرفين، وطلب من الذين يريدون أن يعتنقوا اليهودية أن يفعلوا ذلك وفق تعاليم “الهالاخاه”.
3- إسرائيل وأبناء الديانات الأخرى:
على أن الربط بوجه عام بين المواطنة الإسرائيلية وبين اعتناق الديانة اليهودية يطرح معضلة أخرى، وهي المعضلة الخاصة بالمقيمين في إسرائيل من أبناء الديانات الأخرى من العرب وسواهم. وحسب القوانين الدستورية الدولية، لا تكوّن إسرائيل كياناً دينياً بل كياناً سياسياً. وعند إقامة دولة إسرائيل، كانت هذه الدولة تضم منذ أيامها الأولى – وبعد طرد الكثرة الكاثرة من العرب منها – مواطنين عرباً ينتمون إلى ديانات مختلفة. وفي عام 1989 – وبصرف النظر عن سكان الأراضي المحتلة – كان العرب المسلمون يمثلون 15% من عدد السكان الإجمالي، وكان العرب المسيحيون يناهزون 2% من السكان.
وفوق هذا وذاك، لا تضم إسرائيل يهود العالم جميعهم، وليس جميع اليهود بالتالي مواطنين في دولة إسرائيل، بينما تتجاوز اليهودية، على نحو واسع حدود دولة إسرائيل وكثيراً ما لا ترتبط بها. ومعنى هذا بوجيز القول إن دولة إسرائيل لا تختلط باليهودية ولا يمكن ردها إليها، على الرغم من أنها تقيم علاقة متبادلة معها. الأمر الذي يقود إلى موقف تلفيقي خطير، كثيراً ما أوى إليه الصهاينة، قوامه الجمع بين ضدّين لا يجتمعان. وذلك بالقول بأن دولة إسرائيل اليوم كيان سياسي، ولكن تقاليدها القديمة تمنحها أيضاً بعداً دينياً، دون أن تبين مدى حدوده وسلطانه، ودون أن تستخرج منه كامل مدلولاته. وهذا القول، فوق ما يشتمل عليه من تناقض وتخليط، لا تتفق حوله الحركات والأحزاب الدينية وتراه مقصراً عن الطابع الديني الكامل لدولة إسرائيل ومناقضاً لمبررات وجودها ومقومات بقائها، كما لا تقبل به الحركات العلمانية التي ترى فيه ردة إلى خلف، وتهديداً للكيان الحديث المرجو لدولة إسرائيل، بينما تقبل به بعض الاتجاهات الصهيونية العلمانية الملفِّقة.
4- موقف دولة إسرائيل من غير اليهود:
– وتلحق بهذه المشكلة الخاصة بالمواطنة الإسرائيلية، مشكلة أخرى، هي موقف دولة إسرائيل من غير اليهود بوجه عام (الأغيار، أو “الغويم Goyim”). وقد أشرنا من قبل إلى التباين الفاضح في صلب الديانة اليهودية، بين القوانين التي تطبق على اليهود وبين القوانين التي تطبق على سواهم. ونرى صورة مفصلة لهذا التباين في القانون التلمودي على نحو ما كتبه موسى بن ميمون في “ميشناه توراه Michna Torah” في القرن الثاني عشر. ومن الأمثلة على هذا التباين الصارخ أن قتل اليهودي جريمة كبرى عقوبتها الإعدام، بينما يختلف الأمر عندما تكون الضحية إنساناً غير يهودي. وإذا كانت القوانين الجزائية في دولة إسرائيل اليوم لا تميز في ظاهر الأمر بين اليهودي وغير اليهودي، فإن الحاخاميين الأرثوذكس يدعون جمهورهم إلى اتباع قوانين”الهالاخاه”، ويُسْدون نصائح خاصة للجنود المتدينين بهذا الصدد. وقد توصل العديد من الشراح الدينيين إلى أنه في حال الحرب يمكن أو يجب قتل جميع المنتسبين إلى شعب معاد. ومنذ عام 1973، أذيعت هذه العقيدة على نطاق واسع لإرشاد الجنود الإسرائيليين المتدينين. وقد نشر هذا التحريض رسمياً لأول مرة في كتيّب صادر عن قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي، التي تشمل ولايتها الضفة الغربية. ويكتب الكاهن الأول في هذا الكتيب: “عندما تلتقي قواتنا بمدنيين خلال الحرب أو خلال ملاحقة ساخنة أو غزو… فوفق أحكام “الهالاخاه” يمكن بل يجب قتلهم. والثقة بعربي غير جائزة في أي ظرف”(9).
وفي قوانين “الهالاخاه” أيضاً، وهي المتبعة حتى اليوم في الأوساط الدينية، يجب على الطبيب اليهودي أن يرفض أن يعالج مريضاً غير يهودي.
وقد أعيدت الآن في كتب صلوات عديدة مطبوعة في إسرائيل لعنة خاصة موجهة أصلاً ضد المسيحيين واليهود المرتدين إلى المسيحية وغيرهم من المنشقين اليهود. وبعد عام 1967، أعادت مجموعة قريبة من حركة “غوش ايمونيم” الصيغة الأولى لتلك الصلوات (شفوياً لا طباعة حتى الآن) وهي تصلي يومياً داعية لفناء المسيحيين فوراً.

ولا حاجة بنا إلى أن نتوقف مفصلاً عند القواعد الدينية اليهودية التي تميز بين اليهود والأغيار، كمنع الصداقة بين اليهود وغيرهم، وعدم شرب اليهودي لنبيذ ساهم غير يهودي في إعداده بأي طريقة كانت، وسوى ذلك كثير بل مضحك.
وقد استشهد قادة “غوش ايمونيم” بالمفاهيم الدينية التي تأمر اليهود بقمع غير اليهود، واتخذوها مبرراً لاغتيال رؤساء البلديات الفلسطينيين، واعتبروها مرجعاً مقدساً لخطتهم الهادفة إلى طرد العرب جميعاً من فلسطين.
ولا شك أن ثمة حركات صهيونية ترفض مثل هذه المواقف، ولكن رفضها يقوم على أساس المصالح والمنافع اليهودية، لا على أساس المبادئ والأخلاق الإنسانية المعترف بها عالمياً.
5- «الإشكنازي» و«السوفاردي»:
بل إن التمييز لا يقتصر على التباين في المعاملة والنظرة بين اليهودي وغير اليهودي، بل يمتد ليشمل التفريق بين المواطنين اليهود أنفسهم داخل إسرائيل، وجعل المواطنة بالتالي درجات ومراتب:
فهنالك، كما نعلم، التفريق بين اليهودي “الاشكنازي” (الغربي) واليهودي “السوفاردي” (الشرقي)، والنظرة إلى الثاني نظرة دنيا، على الرغم من أن اليهود السوفارديين يكوّنون ثلثي سكان إسرائيل. وهنالك التفريق بين اليهود السود، ولاسيما يهود “الفالاشا” وسواهم، بلغ كما نعلم حد الحجر على الدماء التي يتبرعون بها، خوفاً من “مرض الإيدز”. وهنالك فروق داخل اليهود “الاشكنازيين” تبعاً للانتماءات المختلفة إلى البلدان التي رحلوا منها، وعلى رأس تلك الفروق تلك التي تصيب المهاجرين الروس حديثاً، على الرغم من أن جلهم من الفنيين والمهندسين والأطباء. وهنالك الفوارق بين اليهود الذين أقاموا في فلسطين قبل ولادة إسرائيل (السابرا) وبين الذين أقاموا فيها بعد ذلك. وهنالك وهنالك… وكأننا في خاتمة المطاف أمام خليط متنافر من الانتماءات العاجزة عن تكوين مواطنة إسرائيلية مؤتلفة.
6- الانتماءات المتعارضة والإخلاص لإسرائيل:
وقد يقول بعضهم أن القاسم المشترك بين هذه الأنماط من الانتماءات المتعارضة هو الإخلاص لدولة إسرائيل والحرص على بقائها. غير أننا نجد ههنا أيضاً تناقضات أدهى وأمر، حول هذا الموضوع، سبق أن أشرنا إليها عند حديثنا عن المذاهب الدينية والسياسية المتصارعة في إسرائيل. وحسبنا أن نعود فنذكّر بأن ثمة خلافات قديمة حديثة حول الصهيونية، وحول خلق دولة إسرائيل، وحول أرض إسرائيل، تصل إلى حد الفصام” الكامل. فضلاً عن الخلافات الجذرية حول إعادة الأراضي المحتلة، وحول ترحيل الفلسطينيين عن إسرائيل أو بقائهم فيها، وحول طبيعة السلام ومداه، وغير ذلك كثير. ويرجع هذا كله إلى بذور الصهيونية الأولى وما حملته من تناقض وتنافر، ومن رغبة في قسر الواقع وتحميله غير طباعه وفوق ما يحتمل، بل ضد ما يومئ إليه. كما يرجع إلى الرواسب التي حملتها الديانة اليهودية عبر تاريخها الطويل، وما فيها من تناقض وتخلف وبعد عن روح العصر.
7- التناقض بين التيارات الدينية والتيارات العلمانية:
ويزيد من حدة هذه التناقضات جميعها، التناقض الأكبر الذي تريثنا عنده أكثر من مرة، نعني التناقض بين التيارات الدينية وبين التيارات العلمانية، ولاسيما بعد ما تم في السنوات الأخيرة من نمو متواز لكلا التيارين، ومن تعاظم التناقض بينهما بوجه خاص بعد “الأمركة” السريعة التي بدأت تسري في المجتمع الإسرائيلي. فلقد أدى النمو الاقتصادي في إسرائيل الذي بلغ حوالي 7% في السنة، وانعدام البطالة تقريباً في المجتمع الإسرائيلي، بالإضافة إلى عوامل الغزو الثقافي ونتائج التبعية السياسية للغرب، إلى تغيير كثير من أنماط السلوك في إسرائيل، ولاسيما لدى الشباب. وكاد الاهتمام بمصير إسرائيل يتحطم ويتلاشى على أبواب مطاعم “ماكدونالد” وغزو الاتجاهات العلمانية، والخدمة العسكرية في الخليل. وأصبح العديد من الإسرائيليين الجدد يعتبرون أنفسهم أفراداً قبل أن يكونوا مواطنين. وغدوا يتوقون اليوم إلى أن يحيوا حياتهم الخاصة، بمتعها وأحلامها، ويرفضون الإيديولوجيات والعقائد، وقد يدعون إلى سلام لا يدركون – في إطار فهمهم له – التغير العميق الذي ينبغي أن يتحقق في منطلقات دولة إسرائيل من أجل تحقيقه. ويعنيهم أكثر من هذا أن يعشقوا مثلاً راقصة “الروك” “أفيف غيفن Aviv Gefen”، وألا يعتبروا الكتب المدرسية كتباً مقدسة. ولعل في وسعنا أن نقول أن الإسرائيليين الجدد اليوم لا يربطهم بالصهيونية إلا سبب بسيط، وهو أنهم ولدوا في إسرائيل.
8- التناقضات ومستقبل الشعب اليهودي:
ويؤيد ما قلناه من التناقض الداخلي في صلب الصهيونية وفي صلب الديانة اليهودية وفي صلب الوجود الإسرائيلي، كما يلخص الموقف الحالي في إسرائيل في الوقت نفسه، بسبب هذا التناقض، أحد كبار المفكرين في إسرائيل بل فيلسوفها، وأستاذ الكيمياء في الجامعة، نعني “ييشا ياهو ليبوفيتش Yesheyahu Leibovitz” الذي توفي عام 1994، (وهو ذو نزعة دينية بارزة فضلاً عن نزعته الصهيونية) فيقول: “إن مستقبل الشعب اليهودي لا يبدو لي واضحاً حقاً ، سواء في إسرائيل أو في الشتات. ولعله لن يكون ثمة حل للمشكلة الداخلية التي بدأت في القرن التاسع عشر”. ذلك أن المشكلة الأساسية عنده تكمن في التساؤل الآتي: هل الشعب اليهودي ما يزال موجوداً من وجهة نظر “الهالاخاه” (القانون اليهودي)؟
إن جماعة “انطوري كارتا” (وهم زمرة صغيرة يهودية متطرفة سبق أن أشرنا إليها). يقولون بأنهم وحدهم يمثلون اليهود. وإذا نحن قلنا في مقابل ذلك، إن المفكرين “الأحرار”، أي الذين لا يتقيدون بمبادئ القانون الديني اليهودي هم يهود، كانت لذلك القول انعكاسات واسعة النطاق على “الهالاخاه”. وهذا يشهد على عجز النزعة اليهودية الدينية التي تتجاهل واقعاً أساسياً: وهو أن هذا الشعب – الذي تريد أن تضع له القوانين والأوامر الدينية – ليس الشعب اليهودي الذي تتحدث عنه “الهالاخاه”.
ويمضي “ليبوفتش” بأفكاره إلى نهايتها، على الرغم من أنه صهيوني ملتزم، فيقول أنه يطمح إلى إسرائيل أخرى، إسرائيل مسالمة ومحترمة من الجميع. ويبين، فيما يبين، “أن حرب الأيام الستة كانت وبالاً على إسرائيل وكارثة تاريخية”(12). ويضيف قائلاً: “من الواضح أن إسرائيل، منذ عام 1967، جعلت نفسها في خدمة احتلال يتم بالقوة”. بل إن “آمون روبنشتاين Ammon Rubinstein” وزير المعارف والثقافة الإسرائيلي حالياً، قد قال مثل هذا القول حينما تحدث عن الهلاك المحتوم لإسرائيل الذي أفرزته حرب الأيام الستة، تلك الحرب التي ترى في إسرائيل وريث “اليهود المضطهدين دوماً”، بدلاً من أن ترى فيها “دولة حديثة قوية ومسؤولة”.
ويصف الحاخام الأرثوذكسي “داود هارتمان David Hartman” هذه التوترات القائمة فيما بين اليهود في إسرائيل، ويتساءل في خوف وقلق قائلاً: “إن أخطر تساؤل في إسرائيل اليوم هو التساؤل عما إذا كانت الخلافات المزمنة ستقود إلى حرب أهلية. فالاستقطاب بين اليهود الدينيين واليهود العلمانيين مستمر. والمشكلات الكبرى المطروحة في الصحف ليست في معظم الأحوال تلك المتصلة بأمن إسرائيل، بل تلك المتصلة بمعرفة فيما إذا كانت “الباصات” تعمل في مدينة حيفا يوم السبت، وفيما إذا كانت قاعة السينما في بلد ما سوف تعرض فيلماً مساء الجمعة. وحاخام المدينة الأكبر (وقد أدخل السجن لأنه قاد مظاهرة عنيفة وغير مصرح بها ضد فتح السينما أبوابها) يدعي أنه فوق قانون الدولة، لأنه يتكلم باسم الله”(13).

وهكذا يبرز السؤال التالي (الأزلي الأبدي) ويشتد: إلى أي يهودية سوف ينتسب المستقبل؟ ولقد عبّر عن حيرة الإسرائيليين أمام هذا السؤال نوع جديد من الأدب القلق أخذ يظهر منذ الثمانينات، ومن تجلياته الكثيرة مسرحيات تنقد المجتمع، كتبتها أقلام إسرائيليين
لا يريدون أن يتهموا بأنهم نقاد ومخربون، بل يريدون أن يحذّروا قومهم ويجنبوهم مسالك الزلل والضلال. هذا ما نجده مثلاً في المسرحية الغنائية التي تنتقد الأرثوذكسية الدينية، مسرحية “آخر يهودي علماني” التي تم عرضها عام 1978. وفيها يتهكم الممثلون على المسرح من دولة إسرائيل آتية تصف نفسها بأنها نظام “ثيوقراطي” يهودي. وما لبثت هذه المسرحية حتى أثارت هجمات سلطات الرقابة.
وإن كان مثل هذا الأدب يعني شيئاً فهو يعني أنه قد غدا من العسير اجتناب السؤال التالي: هل مستقبل إسرائيل هو الهروب من العصر الحديث إلى القرون الوسطى الدينية الأرثوذكسية؟ إن ثمة يهوداً كثيرين يخافون ويألمون “لمأساة الصهيونية”، على نحو ما وصفها الكاتب الكندي “برنار أفيشاي Bernard Avishai” الذي عاش طويلاً في إسرائيل، والذي يعود إليها بين الحين والآخر.
9- مقتل رابين وهوية إسرائيل:
ولقد اشتد هذا الصراع وتعاظم بعد مقتل “رابين”، بل كان مقتل رابين نتيجة من نتائجه. وقد سبق لنا أن تحدثنا، في مقال نشرته جريدة الحياة، عن العلاقة بين مقتل رابين هذا وبين البحث اليائس عن هوية إسرائيل. وحسبنا أن نقول: إن مقتل رابين هذا طرح من جديد على نحو لا يحتمل المراوغة والهرب مسألة “هوية إسرائيل” ومستقبلها، وعبّر عن وجود كيانين إسرائيليين، على الأقل، لا كيان واحد، ووضع هذين الكيانين وجهاً لوجه. فهنالك إسرائيل الرؤية المسيحانية، وعندها أن الأرض ليست وسيلة بل غاية في ذاتها وقيمة عليا، وأن يهودا والسامرة وغزة لم يستول عليها السلاح بقيادة “رابين” نفسه إذ ذاك، بل كان السلاح مجرد أداة لتحقيق إرادة الله. ولهذا فلا يملك أي زعيم، ولو كان الظافر نفسه، الحق المعنوي والسياسي في إعادة هذه الأراضي المقدسة.
وفي مواجهة هذا “الكيان الإسرائيلي الديني وضده يقف التيار العلماني، ولاسيما التيار المتأمرك “الذي وصفنا بعض سماته. وقد كان هذان الكيانان المتصارعان قائمين منذ عقود عديدة، غير أن طبيعة الصراع، بعد مقتل “رابين”، قد تغيرت. لقد ظهر متحمسون جدد مستعدون للموت، وأعلنوا الحرب على الدولة العبرية الخائنة. وهذا الضرب من حرب الانفصال، وما يرافقها من تشجيع اليهود على العصيان المدني، وعلى عدم الخضوع لمؤسسات الدولة، وما يتخللها من معارك مع الجنود المكلفين بالحفاظ على النظام العام، هو أحد التحديات الكبرى التي سوف تواجهها دولة إسرائيل.
وهل أبلغ دلالة على ذلك – وما أكثر الدلائل؟ – من مشهد شابين لهما من العمر عشرون عاماً، شبّا على تعاليم التوراة والتلمود، وانتسبا إلى مدرسة دينية (Yeshiva) في القدس، ومضيا إلى قبر “رابين”، واقتربا من مئات الشموع التي تحيط به، ومن تلال الأزهار التي تعلوه. وأخذا يبصقان على ذلك القبر، بل حاول أحدهما أن يبول فوقه؟
وما هو جدير بالذكر أن هذا العنف الديني الذي تجلى في مقتل رابين أصاب زعيماً يهودياً من بناة إسرائيل الأوائل، لا يمكن وصفه بأنه صاحب دعوة سلمية إنسانية. فلقد كان على العكس من ذلك محارباً شديد البأس، قاد حرب عام 1967 بكل ما فيها من بشاعة وقسوة، وهدد يكسر عظام الانتفاضة الفلسطينية، وكانت جذوره عميقة الارتباط بالصهيونية على نحو ما نشأت، كما كان يحرص أشد الحرص على المحافظة على هوية إسرائيل اليهودية.
والحق أن امتطاء العنف مَرْكباً من قبل الجماعات الدينية المتطرفة، قديم العهد في إسرائيل. غير أن القوم لم يكونوا يأبهون له كثيراً ما دام يجري على الطرف الآخر من البلاد، نعني الضفة الغربية، وما دام موجهاً ضد العرب. وهل أفصح دلالة على هذا الحقد الدفين الذي بدأ يعشش في نفوس المتطرفين الدينيين، منذراً بتدمير إسرائيل، من إقدام “باروخ غولدشتاين Baruch Goldstein” على قتل تسعة وعشرين عربياً كانوا يصلون في جامع إبراهيم الخليل؟
بعد هذا كله، ما نظنّ أننا في حاجة إلى تقديم شواهد أخرى على تمزق المجتمع الإسرائيلي وتشتته شيعاً ومذاهب وطوائف ومللاً ونحلاً. والأمر قد تجاوز، كما رأينا، مجرد انقسام إسرائيل إلى كيانين يقتتلان، كيان الإسرائيليين وكيان اليهود. فكل من هذين الكيانين يضم ألواناً وأنماطاً من الانقسامات. ويبقى السؤال الكبير: ما شأن السلام في هذا كله وما دوره؟ وهذا ما سنحاول الإجابة عليه فيما يأتي:

-III إسرائيل والسلام
لا شك أن طرح موضوع السلام مع العرب قد زاد في عمق الخلافات والتناقضات القديمة والحديثة داخل إسرائيل. وهذه الخلافات والتناقضات تؤدي اليوم – كما كان شانها دوماً قبل ولادة الصهيونية وبعدها وقبل ولادة دولة إسرائيل وبعدها – إلى مواقف سياسية مبهمة عن قصد وعن غير قصد، متعددة الاتجاهات والمعاني. الأمر الذي يزيد من الفرقة والشقاق والتمزق داخل المجتمع الإسرائيلي. ومن هنا كان من العسير تلخيص مواقف الإسرائيليين من قضية السلام.
على أننا نستطيع في الجملة أن نكشف عن بعض المؤشرات الرئيسية التي تكشف عن معالم قضية السلام ومستقبلها:
1- ثمن السلام:
هنالك شعور واسع الانتشار لدى الإسرائيليين بأن إسرائيل سوف تدفع ثمن السلام غالياً. ويرافق هذا الشعور القول بأن المجتمع الإسرائيلي غير قادر – بحكم بنيته الممزقة – على دفع هذا الثمن، وليس جاهزاً ومستعداً له بعد. ولا يقتصر هذا الثمن على التخلي عن الأراضي العربية المحتلة بل يشمل، في نظر الكثير من المحلّلين، ثمناً معنوياً باهظاً، وهو وقوع “تمزق” مرعب داخل إسرائيل بسبب ذلك، بدأت معالمه تظهر منذ الآن، محوره تعرض الهوية الإسرائيلية لمزيد من البحران والضياع. بل يذهب بعضهم، من أمثال الكاتب اليهودي “ستيرنيل Z. Sternell” صاحب كتاب حديث عن “أصول الصهيونية” نشره باللغة الفرنسية، إلى حد القول بأن ثمن السلام قد يكون “حرباً أهلية صغيرة” على نحو ما صرح بذلك في حديثه على القناة التلفزيونية الفرنسية الأولى، ضمن برنامج “سبعة على سبعة” مساء العاشر من شباط/ فبراير الماضي.
ويخشى بعض أصحاب هذا الفريق أن يؤدي السلام إلى انحلال اليهودية وذوبانها على نحو ما حدث أيام الشتات الماضي.
ويزيد في شكوك هذا الفريق، خوفه من أن يؤدي السلام إلى انتقال العداء بين العرب واليهود إلى داخل إسرائيل، وإلى قيام حركات (يدعونها إرهابية) بأعمال عدوانية، قد تظهر من جديد، وقد تزداد حدة عندما تخيب الآمال التي عقدها بعض العرب والإسرائيليين على السلام. وعند ذلك يصبح أمن إسرائيل، عن طريق العنف والعنف المضاد، معرضاً لخطر في قلبها وداخلها، ويغدو كل مواطن مهدداً في عقر داره، بعد أن كانت أخطار الحروب مع العرب تقتصر، إلى حد بعيد، على الجنود المحاربين، وتقع خارج مساحة إسرائيل.
2- الخلاص من ويلات الحروب:
وهنالك فريق آخر، ما يزال قليل العدد، يرى أن الوقت قد حان للخلاص من ويلات الحروب، ولبناء دولة إسرائيلية ديمقراطية حديثة، ولعودة إسرائيل إلى حظيرة سائر الأمم، دولة شأنها شان سائر الدول الديمقراطية في العالم.
وأصحاب هذا الاتجاه، شأنهم شأن أصحاب الاتجاه الأول، فرائق وشيع متعددة، تتباين في ألوانها وفي مدى مسالمتها أو تطرفها. على أنهم يرون إجمالاً أن هذا الاتجاه قمين بأن ينقذ إسرائيل من براثن التمزق والصراع الداخلي، فضلاً عن إنقاذها من مخاطر العداء المستمر لجيرانها العرب.
3- وطنان إسرائيليان لا وطن واحد:
ويلخص هذا الموقف الثنائي الحاخام “إسرائيل هاريل Israel Harel” رئيس “مجلس المستوطنات اليهودية” في الضفة الغربية، وهو أحد الحاخامات القلائل الذين أدانوا قتل رابين، ويعد من المعتدلين. ويعبر عن وجهة النظر هذه على النحو الآتي:
“إن ثمة، وطنيْن” آخذين بالتكون في إسرائيل: وطن الإسرائيليين، ووطن اليهود. أما الإسرائيليون فهم “أغيار Goyim” يتكلمون العبرية، لا أكثر ولا أقل. وقد أنهكتهم الحروب وسئموا منها، ونسوا الصهيونية، ولم يعرفوا اليهودية يوماً ما. وقد جاء “رابين” ليقول لهم فوق هذا كله، أن لا خوف على أمن إسرائيل، وأن في وسعهم أن يطمئنوا بعد اليوم إلى أنهم لن يرحلوا عن هذه البلاد. فماذا يبقى لهم إذن بعد هذا؟ يبقى لا شيء، يبقى الفراغ المطلق. وهو فراغ لن تستطيع العلمانية أو الديمقراطية أن تسده، فكلتاهما لا تعتبران من القيم البنيوية الأساسية للشعب اليهودي. وبمقدار ما كنا نقترب من تنفيذ اتفاقات “أوسلو” كان يبدو واضحاً للفريق الأول، فريق المنتمين إلى وطن الإسرائيليين، أن الأرض غدت عقبة في وجه التطبيع، بينما كان يبدو للفريق الثاني، فريق المنتمين إلى “وطن اليهود”، أن التطبيع خطر على الهوية الإسرائيلية.

4- السلام والغلبة الاقتصادية:
وإذا نحن تركنا جانباً هذه القسمة الثنائية العريضة، أمكننا أن نجد، على شكل مضمر أو صريح، اتجاهاً ثالثاً يرى أن السلام سوف يوفر لإسرائيل الغلبة الاقتصادية، وأن الازدهار الاقتصادي الذي قد ينجم عن هذه الغلبة، من شأنه أن يخفف من التناقضات داخل المجتمع الإسرائيلي، وأن يذيب تلك التناقضات في حميّا الكسب والرخاء.
وثمة اتجاه يناقض هذا الاتجاه، وقوامه أن الازدهار الاقتصادي، إن توافر، سيف ذو حدين، وأنه قد يؤدي بالتالي إلى تزايد الصراع بشتى أشكاله، انطلاقاً من الصراع على الثروة، وأن عبادة المال مصحوبةً بفقدان العدالة، تقود إلى بحران أخلاقي وإيديولوجي من طراز جديد، وأن إسرائيل ستكون عند ذلك أشبه ما تكون بـ “فاوست” الذي باع نفسه للشيطان من أجل الثروة والجاه، والذي ربح كل شيء وفقد نفسه.
ويؤكد أصحاب هذا الاتجاه أن عبادة المال لم تكن في يوم من الأيام في تاريخ الشعوب سبيلاً لتماسك الأمم وتلاحم عقيدتها. ولطالما عانى اليهود أنفسهم أيام الشتات من إمحاء هويتهم وتماسكهم وعداء “الأغيار” لهم، بسبب عبوديتهم للمال، وسعيهم المشروع وغير المشروع لاقتناص الثروة من أي سبيل.

خاتمة: السلام الحقيقي
أما نحن فنرى أن السلام الحقيقي والمطمئن والدائم، لا يمكن أن يتحقق من دون التصدي بوضوح وجرأة لكل ما أشرنا إليه من عقد وتناقضات داخل اليهودية والصهيونية ودولة إسرائيل. فالسلم لا معنى له ولا بقاء – أياً كانت الظرف الاقتصادية والسياسية – إذا لم تجهد إسرائيل من أجل التخلي عن ادعاءات التفوق العنصري، وعن مزاعم الحقوق الدينية لليهود في فلسطين، وعن المنازع التوسعية، وعن الأغراض الصهيونية المنادية بالهيمنة اليهودية الإسرائيلية على المنطقة بكاملها هيمنة اقتصادية وثقافية، فضلاً عن الهيمنة العسكرية والسياسية.
وعندما نقول أن السلم الحقيقي يستلزم مثل هذا التخلي الجريء عن “أوهام” سابقة، فإننا لا نشير بذلك إلى مستلزمات السلام الأساسية في نظر العرب وحدهم، بل نشير بوجه خاص إلى الوسيلة التي تؤدي إلى سلام حقيقي وأمن حقيقي في إسرائيل نفسها. فالسلام القابل للبقاء والنمو والعطاء، هو السلام الذي تصنعه النفوس، وليس السلام الذي تصوغه أحلام الثروة، أو الذي تصنعه القوة، أو يمليه الضغط الدولي، أو يصوغه الساسة خلافاً لإرادة الشعوب. ومثل هذا السلام الباقي المثمر يشترط أولاً وقبل كل شيء أن يشعر العرب والإسرائيليون على حد سواء بأن دولة إسرائيل قد عزمت أمرها فعلاً على أن تكون دولة كدول المنطقة الأخرى، وأن تتجه صواب الحداثة وتتخلى عن رواسب القرون المتخلفة، وأن تمد عينيها إلى مشارف القرن القادم، لتبني مجتمعاً مسالماً ديمقراطياً محباً لغيره من الشعوب متعاوناً معها دون ما صلف أو هيمنة أو ادعاء للتفوق. ويزيد من أهمية هذا الشعور لدى العرب، أن حضارتهم العربية كانت دوماً الرائدة في مجال التعاون بين الأمم، وأن قوميتهم منذ ظهورها في العصور الحديثة كانت قومية إنسانية ترفض الاستعلاء والتفوق، وتنكر الغلبة والعدوان.
وعند ذلك فقط تستطيع إسرائيل أن تتخلص من الصراعات الداخلية التي تمزقها والتي ترجع إلى محاولة الجمع بين أضداد لا تجتمع وإلى تزييف الحقائق وطمسها. ومرجع هذه الأضداد، كما قلنا ونقول، إصرار إسرائيل على البقاء في مستنقع المنطلقات التي رسمتها الصهيونية، وفي خضم الأمواج المتلاطمة التي ولدتها التأويلات التي لا تنتهي التي صاحبت مسيرة اليهودية، ورفضها بالتالي الدخول في منطلق العصر الحديث.
ولا يعنينا أن يكون مثل هذا الموقف الإسرائيلي الذي ندعو إليه ممكناً أو غير ممكن. فليس هذا شأننا، وليست هذه المشكلة مشكلتنا. أما شأننا نحن فهو أننا واثقون، انطلاقاً من تجارب الشعوب على مر التاريخ، ومن واقع المشاعر القائمة في الوطن العربي، ومن واقع التناقضات التي تهز كيان إسرائيل، أن أي سلام دون ما نقول، سلام وهمي وموقوت. بل إننا واثقون بأن إسرائيل مخيّرة – حتى في حال قبول العرب بالسلام جدلاً راضخين مستسلمين – بين أن يتم السلام الذي تبنيه مع العرب من خلال الزيف والمراوغة واجتناب المشكلات الجذرية القائمة في المجتمع الإسرائيلي، الأمر الذي لا بد أن يثير عواصف جديدة من الانقسامات والتمزق في داخلها أثناء مفاوضات السلام وبعد السلام قد تؤدي بها إلى حرب أهلية، وبين أن تعمل بجرأة على الدعوة إلى سلام من نوع جديد، في إطار دولة حديثة غير عادية ولا مستعدية، تعيد الحق إلى أصحابه، وتفضح التعبئة العدوانية التي ولدتها الصهيونية رغبة ورهبة لدى اليهود، ولا تترك مجالاً في دولة إسرائيل الجديدة للتوالد السرطاني للنزعات الدينية والصهيونية المعادية حين تنكرها أصلاً وجوهراً.

أما أن تنشد إسرائيل السلام مع الإبقاء على مقومات العداء، فهذا “خُلْف” كما يقول المناطقة، ومُصادرة على المطلوب الأول. وعلى إسرائيل أن تدرك بوجه خاص أنها لا تستطيع أن تضمن إلى الأبد أن يخف العالم دوماً لإنقاذها، وأن يهرول إلى خدمتها وصونها ومواساتها كلما أصابتها هزة أو مسّها سوء. ولا بد أن يضيق هذا العالم ذرعاً في يوم من الأيام بدولة “ولّدها” قسراً وخداعاً، ولم يحسن إلى اليهودية حين استسلم لأوهام زعمائها الصهاينة ومطامعهم فأعيته الحيلة بعد ذلك، ونتيجة لذلك، من أجل المحافظة على وجودها المصطنع.
بل لا بد أن يتساءل هذا العالم نفسه، وتتساءل طائفة كبيرة من أبناء إسرائيل في يوم من الأيام: حتى متى يستمر العالم المتقدم في اضطهاد أصحاب الحق في فلسطين وأبناء الأمة العربية وإذلالهم؟ وما هو عدد الضحايا من العرب والإسرائيليين وسواهم الذين سوف يقدمون على مذبح الخطأ والضلال والادعاء الكاذب، إذا قام سلام خادع ناقص على حساب العرب ومستقبلهم، يكرر مآسي الدعوة الصهيونية على نحو أوسع وأشمل؟ وهل من اللازب أن تذهب الضحايا تلو الضحايا وأن يتزايد اضطراب الأمن في المنطقة يوماً بعد يوم، حتى تستفيق إسرائيل ويستفيق العالم؟
ومن المؤسف أن ما نشهده حتى الآن هو أن حكومة إسرائيل ما تزال تعمل للسلام من منطلقات العدوان، أي من خلال منطلقاتها الصهيونية التوسعية، ومن خلال منطق المخادعة من أجل الهيمنة على المناطق العربية بوسائل جديدة، على رأسها الهيمنة الاقتصادية والثقافية. والسلام عندها حتى الآن، يعني هجمة صهيونية من طراز جديد وباسم جديد، هو “النظام الشرق – أوسطي”. ومثل هذا الموقف لا يطرح فقط تساؤلات عن إمكان قيام السلام من خلال هذا المنطق، وعن إمكان استمراره بعد قيامه، وعما يمكن أن تكون ردود الفعل العربية عليه في المستقبل، وإنما يطرح كما قلنا ونقول تساؤلات حول مدى قدرة المجتمع الإسرائيلي المتنافر على تحمل نتائج مثل هذا السلام، إذا لم تقم جهود حثيثة من أجل إحلال منطق السلام في عقول الإسرائيليين، ومن أجل إدراك مستلزماته الجديدة، لاسيما فيما يتصل بالتخلي عن مواقفهم الإيديولوجية التي ورثوها عبر القرون والتي أذكتها الصهيونية وزادت في أوارها.
وقد يبدو من السذاجة أن ننتظر من قادة إسرائيل الحاليين أن ينزعوا إلى مثل هذا المنزع، فهم بحكم ماضيهم وتكوينهم ومطامعهم السياسية الشخصية عاجزون عن ذلك. وأياً كانت الحال فإنقاذ إسرائيل من التمزق والضياع عن طريق سلام سليم الجوهر والمخبر، شأن لا يعنينا بل يعنيها. وما يعنينا نحن هو أن من المؤكد أن أي سلام في إطار الإبقاء على المطامع الصهيونية ومنطلقاتها سوف يؤدي إلى تمزق إسرائيل أكثر فأكثر، وإلى تجدد العداء بينها وبين العرب، وإلى العودة إلى نقطة الصفر. وليس من مصلحة العرب على أية حال أن يقدموا على “عملية انتحار” مشتركة مع إسرائيل، وأن يُحْمَلوا معها على “مركبها المهتز” الذي يشرف على الغرق، وأن يتحملوا فيما بعد المخاطر التي سوف يفرزها وجود إسرائيلي مريض، لم يجد شفاء لأمراضه، والتي يولدها كيان إسرائيلي غير معافى وغير مستقر الأهداف. ولن تنقذ المنطقة، حين تحين الساعة، القوة العسكرية الإسرائيلية، أو “طوباوية” المساعي الأمريكية والدولية التي لا تريد أن ترى الواقع الحقيقي وتستخرج مدلولاته، والتي تؤثر الاستمرار في سياسة “النعامة” ما دامت تخدم – ولو مؤقتاً – أغراضها ومطامع ساستها وتسابقهم على الزعامة.
لقد قالها فيلسوف إسرائيل الصهيوني المتدين “ليبوفتش” حين دعا إسرائيل إلى أن تغادر حالاً ومن جانب واحد الأراضي التي احتلتها عام 1967، إنقاذاً لها من الانهيار التدريجي والتفكك الخلقي والمعنوي وحين نعت إسرائيل، بعد محاصرة بيروت عام 1982 بأنها “دولة يهودية نازية”(14). بل قال ما هو أبعد من هذا وأعمق: “إذا نحن تابعنا مسيرتنا على هذه الطريق فإنها سوف تقودنا لا محالة إلى سقوط دولة إسرائيل، وذلك خلال سنوات معدودة، دون أن يحتاج الأمر إلى أجيال”(15).
وبعد، لعل الحق أن نقول أن ما بني على الفساد فاسد، وأن ما قام على ضلال فمصيره إلى ضلال أكبر. ولا يُصلح الضلالَ تزويقُه والإمعان فيه، بل يصلحه الإقرار به. ولكن هل فات الأوان أمام الصهيونية وإسرائيل للإقرار بخطأ منطلقاتهما، وهل في وسعهما أن يفعلا ذلك؟ سؤال لا نملك الجواب عليه، ونحيله إلى أصحابه.
ويعنينا، نحن العرب، أن ندرك حقيقة نستخلصها من كل ما قلناه وهي أننا نرفع من شأن إسرائيل وقدرتها، وقلما ندرك عجزها والآفات القتالة التي تفتك في بنيانها المعنوي الداخلي. وفي مقابل ذلك، كثيراً ما نحط من قدرة العرب ومن الطاقات الكبيرة المدفونة التي يملكونها، وعلى رأسها الطاقات المعنوية. وهذا التجاهل لعجز إسرائيل، المصحوب بالإزراء بقدرة العرب، من شانه أن يجرنا إلى محاولة “انتحار” مشتركة.

أما إذا نظرنا إلى المستقبل العربي من خلال حقيقة إسرائيل ووهنها المعنوي المتزايد وإفرازاتها المستقبلية، ومن خلال حقيقة الأمة العربية وطاقاتها الكبيرة، معنوية كانت أو مادية، واستخرجنا من ذلك كله النتائج التي تلزم عنه، وطرقنا السلام بالتالي من أبوابه الحقيقية، غير واهمين ولا مضللين، فإن مستقبلنا سوف يبدو لنا مشرقاً أكثر مما نظن، ولو تعثر السير إليه حتى حين.
دمشق في 14/3/1996

الهوامش:
1- أمنون روبين شتاين: مراجعة الحلم الصهيوني. ترجمة محمد نجاة العظم – مطبعة الصباح. دمشق 1994. ص 308.
2- من أجل مزيد من التفاصيل، يحسن الرجوع إلى الكتاب الآتي:
إسرائيل شاحاك: الديانة اليهودية، وطأة ثلاثة آلاف سنة. ترجمة علي صالح سوداح. دار بيسان، بيروت، 1995.
3- انظر، من أجل مزيد من التفصيل:
Alain Dieckoff: L’invention d’une nation. Paris, Gallimard, 1993.
4- من أجل فضل من تفصيل، يمكن الرجوع إلى الكتاب الآتي:
رشاد عبد الله الشامي: القوى الدينية في إسرائيل بين تكفير الدولة ولعبة السياسة. سلسلة عالم المعرفة. الكويت، 1994.
5- يحسن الرجوع إلى المصدر المذكور في البند (1). ولاسيما الفصل السادس ص 187-216، والفصل السابع، ص 217-253.
6- المرجع المذكور في البند (1)، ص 238-239.
7- Hans Kűng: Le Judaisme. Ed. Du Seuil. Paris 1995, p. 527.
8- نقلاً عن محمد حسنين هيكل: الاتصالات السرية بين العرب وإسرائيل. الكتاب الأول: الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية. جريدة تشرين السورية، الحلقة الثالثة، الأربعاء في 20/3/1996.
9- إسرائيل شاحاك. المصدر المذكور في البند الثاني، ص 121.
10- نقلاً عن Kűng. المرجع المذكور في البند السابع، ص 570.
11- المرجع السابق. ص 570.
12- المرجع السابق. ص 691.
13- المرجع السابق. ص 683-684.
14- YESHAYAHU LEIBOWITZ: Peuple, Terre, Etat. Ed. PLON, PARIS, 1995.
15- نقلاً عن Kűng، المرجع السابق ص 716.