موقف الصهيونية كفكرة وحركة من القومية العربية

بحث نشرته مجلة «شؤون عربية» الصادرة عن جامعة الدول العربية
العدد /٥٥/ – أيلول / سبتمبر ١٩٨٨

موقف الصهيونية، كفكرة وحركة،
من القومية العربية

مقدمة:
1- كما يرتبط بقاء الأمة العربية ومستقبلها الحضاري المنشود بقدرتها على مجابهة الصهيونية والاستعمار والإمبريالية عن طريق الإرادة القومية المجتمعة لأقطار الوطن العربي، يرتبط بقاء الصهيونية وإسرائيل ومستقبلها بقدرتها على تعبئة القوى الصهيونية الإمبريالية العالمية تعبئة منهجية منظمة ومستمرة من أجل تفتيت الجسم العربي وتفريقه وإحالته دويلات تصطرع وقوميات تحترب وطوائف تختصم.
2- ولئن كان إدراك العرب لأهمية الترابط القومي والوحدة في زعزعة الكيان الإسرائيلي الصهيوني وفي تقويض أركانه إدراكاً لا يزال مقصّراً عن الشأو المطلوب، فإن إدراك الصهيونية وإسرائيل ومن وراءهما لأهمية معول التمزيق، تمزيق الوجود العربي
– وبالتالي للعلاقة الحتمية والتلازم الصارم بين ذلك التمزيق وبين التمكين للوجود الإسرائيلي – إدراك واضحٌ واعٍ لمنطلقاته وأغراضه، مثابرٌ على سعيه ونضاله، منذ أن وجدت الحركة الصهيونية حتى اليوم.
3- ذلك أن الكيان الإسرائيلي يدرك أعمق الإدراك أن جهوده الكثيرة والماكرة والعنيدة في سبيل تعزيز بقائه واستمراره ونموه جهودٌ تظل مصطنعة وموقوتة، إذا ظل الوجود العربي من حوله وجوداً متآخذاً موحّد الهدف والقصد، وإذا بقي الطوق العربي المحيط بالكيان الإسرائيلي المفروض فرضاً يلفظه الواقع، طوقاً متماسك البنيان لا يعرف الثغرات، بل التمزق والصراع.

فالحروب المتتالية التي يمكن أن تشنها إسرائيل، والمساعي الكأداء التي تبذلها في سبيل إقناع اليهود بالهجرة إليها، فضلاً عن الهجرة منها، وجهود التنمية الاقتصادية اللاهثة وراء المساعدات والمعونات الأجنبية، والسعي المتعثر للاستيلاء على أكبر قدر من المياه العربية، والمحاولات المخفقة لطرد السكان العرب من الأراضي التي تحتلها ولإقامة المستعمرات، هذه كلها وكثير سواها جهود تذهب أدراج الرياح وتغدو كنار الهشيم حين يشتد ساعد الوجود العربي المتكامل المتضامن الموحد، وحين يعبئ كل ما لديه من تفوق سكاني واقتصادي وجغرافي وتاريخي وقومي، وحين يقوم بعمل مشترك من أجل تنمية ثروته البشرية والمادية تنمية تؤدي إلى خلق كيان حضاري جديد متقدم، هو وحده الذي يقوى على مجابهة التحدي الإسرائيلي المتقدم علمياً وتكنولوجياً.
4- وقد يكون ما قدمناه من مُعاد القول، غير أن العود إليه كرة بعد كرة أمرٌ لازب في نظرنا، ما دام الإيمان به – إيماناً عميقاً قادراً على أن يتحول إلى اندفاع هادر جبار يُنبت عملاً منظماً صابراً وعميقاً – لا يزال مقصراً عن الشأو المرجو كما سبق أن ذكرنا.
5- وليس قصدنا في هذه الكلمة أن نقدم الأدلة على الدور الحاسم للوجود العربي الموحد في مجابهة الكيان الإسرائيلي وحلفائه، فمثل هذا الموضوع يخرج عن مقاصد دراستنا، فضلاً عن أن كثيراً من الكتب والدراسات والأقوال قتلته بحثاً وقلّبته على وجوهه المختلفة. أما دراستنا فتتناول الوجه الثاني للموضوع، نعني موقف الصهيونية والكيان الإسرائيلي، لا موقف العرب، من وحدة الوجود العربي. ومع ذلك فالترابط العكسي بين وجهي الموضوع قائم ومتبادل وعميق، ونعني بهما الترابط الصراعي بين دور الوجود العربي الموحد في التغلب على الوجود الصهيوني الإسرائيلي من جانب وبين دور الكيان الصهيوني الإسرائيلي في الحيلولة دون وحدة الوجود العربي من جانب آخر.
6- والموقف الصهيوني الإسرائيلي من القومية العربية ومن وحدة الوجود العربي هو، كما قلنا ونقول، موقف قديم قدم الصهيونية، ينطلق من تحليل علمي عميق ومن استراتيجية راسخة تنجم عن ذلك التحليل. إنه من الثوابت التي لا تقبل التعديل، ولأنه أمرٌ مُحايثٌ للفكر الصهيوني الإسرائيلي، مُداخِلٌ له يكاد يكون وإياه شيئاً واحداً، ولأنه مطلب عملي مباشر تستلزمه ضرورات بقاء الكيان الصهيوني الزائف، وتستدعيه شروط انقلاب هذا الوجود الزائف المؤقت وجوداً مستقراً مقيماً.

منهجنا في الدراسة:
1- الترابط العضوي بين الصهيونية والكيان الإسرائيلي ومن وراءها وبين العمل لتجزئة الأمة العربية وتشتيتها وتفتيتها، يجعل معالجة هذا الموضوع معالجة شائكة فضلاً عن أنها تكاد تكون متعذرة. ذلك أن على من يتصدى لمعالجة مثل هذا الموضوع المحوري الذي يقيم في القلب من الحركة الصهيونية ومن سياسة الكيان الإسرائيلي واستراتيجيته، أن يبحث في كل الجوانب المتصلة بقصة الصهيونية وقصة الكيان الإسرائيلي. ومثل هذا البحث المحيط يحتاج إلى أسفارٍ كاملة بل إلى مجلدات ضخمة.
2- ومع ذلك سنحاول أن نتعرض – بلغة لابد أن تكون لغة البرقيات – إلى أهم مفاصل الموضوع. ومفاصل الموضوع الأساسية في نظرنا هي الآتية:
آ- الربط بين موقف الصهيونية وإسرائيل من القومية العربية ومن وحدة الوطن العربي وبين موقف الاستعمار والإمبريالية، وهو ربط جوهري وأساسي، نظراً إلى اتحاد الموقفين في هذا السبيل.
ب- تحليل الأهداف الأساسية للحركة الصهيونية، من أجل بيان الارتباط العريق والعميق بين تلك الأهداف وبين التوسع على حساب الوجود العربي والبقاء عن طريق السعي لتحطيم ذلك الوجود والحيلولة دون ترابطه ووحدته وتقدمه. وعلى رأس تلك الأهداف ذات الصلة بالموقف من الوحدة العربية والقومية العربية: إقامة مملكة إسرائيل الكبرى – بناء المجتمع الإسرائيلي الصهيوني العنصري – الاستيطان العنصري – المناداة بالقومية اليهودية.
ج- الترجمة العملية للأهداف الصهيونية والاستعمارية والإمبريالية المتمحورة حول الحيلولة دون تكامل الوجود العربي وتقدمه ودون تحقيق الحركة القومية العربية لأغراضها، سواء قبل قيام الكيان الصهيوني أو بعده. وهذا الجانب هو صلب الموضوع وتندرج تحته موضوعات فرعية عديدة ذات صلة وثيقة بموضوع القومية العربية ووحدة الوجود العربي، أهمها: السياسة الصهيونية الإسرائيلية التوسعية – معنى الأمن الإسرائيلي والحدود الآمنة – تفتيت الوجود العربي بشتى الأساليب الممكنة (ولا سيما استغلال موضوع الأقليات القومية والطائفية) – محاربة الفكرة القومية العربية عن طريق التزييف الفكري والتآمر السياسي والدعاوى الماكرة.
3- وقد اضطرنا هذا المنهج إلى الاعتماد على مظانّ كثيرة، ولا سيما تلك التي تشتمل على وثائق ونصوص (من مصادر صهيونية وغربية بوجه خاص) تقدم دليلاً على ما نطرحه من أفكار وما نقوم به من تحليل.
فلنمض إلى طرق كل واحد من هذه الموضوعات.
أولاً – الصهيونية والاستعمار والإمبريالية
والتلاقي العضوي بينها حول الموقف من الوجود العربي:
1- يبلغ التلاحم بين الصهيونية وإسرائيل من جانب، وبين الاستعمار سابقاً والإمبريالية العالمية لاحقاً من جانب آخر، حداً يجعل من الصعب على الدارسين أن يتبينوا أيهما الأصل وأيهما الفرع، أو أيهما المسيِّر وأيهما المسيَّر. وكأننا في هذا المقام أمام «دور فاسد» كما يقول المناطقة أشبه بالدور الفاسد الذي يحدثنا عنه الشاعر في قوله:
بيني وبين من أُحِبْ
مسألة الدور جَرَت

لولا جفاه لم أَشِبْ
لولا مشيبي ما جفا

والحق إن الصهيونية والاستعمار كانا ولا يزالان وجهين لحقيقة واحدة لا يستبين فيها السيد من المسود.
ومن هنا نجد الباحثين في هذا المجال فرائق ثلاثة: فريقاً يبرز دور الاستعمار بوجه عام (والاستعمار البريطاني بوجه خاص) في توليد الحركة الصهيونية، وسبْقَه لها في هذا المجال، ثم دور الإمبريالية فيما بعد في رعاية الكيان الصهيوني. وفريقاً ثانياً يبرز دور الحركة الصهيونية البديء (ومن قبلها الفكر اليهودي) في دفع الاستعمار إلى تبني أفكارها وإلى دعم مطامعها وإلى العمل على قيام الكيان الإسرائيلي، ثم دور هذه الحركة بعد ذلك (من خلال الكيان الإسرائيلي والصهيونية العالمية) في تسخير القوى الإمبريالية (وعلى رأسها الولايات المتحدة) لأغراض الوجود والتوسع الصهيوني. وفريقاً ثالثاً يوفق بين الدورين ويُظهر الصلة الدائرية بينهما والأخذ والعطاء المتبادلين بين أغراضهما قديماً وحديثاً. وموقف هذا الفريق الثالث في رأينا هو الموقف السليم. على أننا نستدرك فنقول إن الفرق بين آراء هذه المجموعات الثلاث من الدارسين فرقٌ في الدرجة لا في الطبيعة والنوع. إنه فرق في مدى التأكيد على دور كل من الصهيونية والاستعمار، مع إقرارها جميعها بأهمية اللقاء بين الدورين.
ولتوضيح هذه الصلة الوشيجة والمعقدة بين طرفي «المسألة اليهودية»، نعني الاستعمار والإمبريالية من جانب والصهيونية وإسرائيل من جانب آخر، يحسن التريث قليلاً عند أهم منطلقات كل فريق من هذه الفرائق الثلاثة.
آ- ونتريّث بوجه أخص عند رأي الفريق الأول، لكونه رأياً غير شائع، ولكونه يبرز بحروف كبيرة دور الاستعمار والإمبريالية في الحركة الصهيونية وفي خلق الكيان الإسرائيلي وتوطيد دعائمه، الأمر الذي يساعدنا على أن نرى على نحو أوضح الجذور البعيدة والممتدة لموقف الصهيونية وإسرائيل من الوجود العربي ووحدته. ذلك أن أصحاب هذا الفريق يرون أن الصهيونية تشكلت وتكونت «في أعماق الرحم الإمبريالي» وأنها «ثمرة من ثمار الفكر الاستعماري وتعبير عن حاجة من حاجاته، في مرحلة من مراحل صعوده وتطوره»(1). وقوام هذه الحاجة ولبّها شق الوطن العربي وتمزيقه بغية إضعافه وإخضاعه. ويقدم هؤلاء أكثر من دليل على ذلك. ومن أبرز تلك الأدلة حقائق كالآتية:
(1) حاجة الاستعمار البريطاني منذ مطالع القرن التاسع عشر، من أجل دعم إمبراطوريته والحيلولة دون تداعيها، إلى جبهة استعمارية موحدة من جانب، وإلى أداة تدرأ الخطر الذي يهددها من جانب دول البحر المتوسط وعلى رأسها الدول العربية من جانب آخر، وعثور هذا الاستعمار – بعد البحث والتنقيب – على تلك الأداة، نعني إقامة كيان صهيوني يكوّن حاجزاً بشرياً قوياً وغريباً على الجسر البري الذي يربط آسيا بأفريقيا ويربطهما معاً بالبحر المتوسط(2). وتبرز بعض الدراسات دور بريطانيا المبكر، منذ عام 1840، في خلق الظروف اللازمة من أجل الاستيطان اليهودي في فلسطين. بل تؤكد تلك الدراسات «أن مثيري الاستيطان اليهودي ومحركيه لم يكونوا يهوداً، بل كانوا ضباطاً ونبلاء بريطانيين مسيحيين – صهيونيين، ولم تكن دوافعهم بطبيعة الحال تحقيق التنبؤات التوراتية. بل كان رجال الجيش والحكومة البريطانيون، في بحثهم عن استثمار المنطقة العربية والاستيلاء على مناطق الإمبراطورية العثمانية وتأمين طرقهم التجارية البرية إلى الهند، يبحثون عن مستوطنين يرتبطون بهم في المنطقة، وخاصة بعد تجارب بريطانيا الاستعمارية في الاستيطان في مناطق عديدة من أفريقيا ومن العالم الجديد (أستراليا)»(3). ويضيف هؤلاء أن بريطانيا كانت وراء التنظيمات اليهودية التي انتشرت في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويكادون يلخصون موقفهم بالاستشهاد بقول «ماكس نوردو»: «لم يبق على الصهيونية إلا أن تظهر للوجود» وإلا فإن «بريطانيا ستضطر إلى ابتداعها»(4). ويوغل أصحاب هذا الرأي في توضيح فكرتهم الرائدة، فكرة ولادة الصهيونية والكيان الصهيوني من قلب مطامع الاستعمار البريطاني (ثم الاستعمار عامة والإمبريالية)، حين يقولون «إن الاعتبارات الاقتصادية في المشروع الصهيوني لم تكن هي الاعتبارات الرئيسية في ذهن مهندسيه الأول. ففلسطين، برقعتها الصغيرة وبفقرها النسبي بالموارد والثروات، لا يمكن أن تشكل قاعدة لمشروع اقتصادي مربح، على غرار مشروع جنوبي أفريقيا أو روديسيا مثلاً.. وأهمية فلسطين إذن، في المشروع الإمبريالي الصهيوني، تنبع من موقعها، من الاعتبارات الاستراتيجية لهذا الموقع»(5). وأشهر الوثائق التي توضّح موقف بريطانيا، هذا التقرير المعروف باسم تقرير «كامبل بنرمان». ولا يتّسع المجال للحديث عن مولد هذا التقرير وعن محتواه وعن مصيره، وحسبنا أن نذكّر بالأمور الآتية:
– في عام 1907 سقطت وزارة حزب المحافظين في بريطانيا، وجاءت إلى الحكم وزارة من حزب الأحرار برئاسة المستر كامبل بنرمان.
– قام المحافظون، الذين هم أشد الأحزاب البريطانية دعماً للصهيونية، بإقناع «كامبل بنرمان» بتبني فكرة الجبهة الاستعمارية الموحدة (من بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا)، فوافق على ذلك وألّف لجنة من مشاهير المؤرخين وكبار علماء الاجتماع والجغرافيا والاقتصاد والنفط والزراعة والاستعمار في دول الاتحاد.
– مما ورد في خطابه أمام أعضاء هذه اللجنة، محدداً مهماتهم، أن الإمبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى ثم تستقر إلى حد ما ثم تنحل رويداً ثم تزول، وأن مهمتهم هي البحث في الوسائل التي يمكن أن تحول دون سقوط الاستعمار وانهياره بعد أن بلغ ذروته.
– أما تقرير اللجنة فقد تضمن تحليلاً خطيراً يشير إلى حاجة الاستعمار – كما سبق أن ذكرنا – إلى خلق كيان غريب في الشرق الأوسط، يعزز مكانته ويحول دون انهياره. ومما جاء فيه: «إن الخطر المهدد يكمن في البحر المتوسط، صلة الوصل بين الغرب والشرق، وفي حوضه مهدِ الأديان والحضارات، وفي شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه أخص». ويفصح التقرير عن أغراضه بلغة أوضح وأصرح فيقول: «إن الحظر على كيان الإمبراطورية الاستعمارية كامنٌ في الدرجة الأولى في هذه المنطقة، في تحررها وفي تثقيف شعبها، في تطويرها وتوحيد اتجاهات سكانها.. في تجمعها واتحادها على عقيدة واحدة وهدف واحد».
ومن هنا كان على الدول ذات المصالح المشتركة أن تعمل، على حد قوله، على استمرار وضع هذه المنطقة المجزأ المتأخر، وعلى إبقاء شعبها على ما هو عليه من تفكك وجهل وتأخر وتناحر. ومن أجل بلوغ هذا الهدف أوصى التقرير بضرورة العمل على «فصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي». واقترح لذلك – كما سبق أن ذكرنا – «إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط آسيا بأفريقيا ويربطهما معاً بالبحر الأبيض المتوسط، بحيث يتم في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس تكوين قوة صديقة للاستعمار وعدوة لسكان المنطقة»(6).
– ظلّ هذا التقرير طي الكتمان في أدراج وزارة المستعمرات البريطانية، إلى أن نشره صحفي يهودي قبيل الحرب العالمية الأولى. غير أن آثاره ظهرت للعيان في تصميم بريطانيا على تنفيذ كل ما جاء فيه(7). بل إن أصداءه تبدو جلية في كثير من التقارير والمذكرات والرسائل البريطانية والصهيونية. من ذلك ما ورد في الرسالة التي وجهها حاييم وايزمن إلى «سكوت S.P.Scott» رئيس صحيفة المانشتسر جارديان في نوفمبر/تشرين الثاني 1914 إذ يقول: «إننا نستطيع أن نقول.. إنه إذا ما وقعت فلسطين داخل منطقة النفوذ البريطاني، ثم شجعت بريطانيا استيطان اليهود في فلسطين.. فإن هؤلاء اليهود سيطورون هذا القطر ويكونون حرساً فعالاً يحمي قناة السويس»(8). ومن ذلك أيضاً التقرير الذي قدمه الزعيم الصهيوني البريطاني «صموئيل» إلى حكومته الإنكليزية قبيل نهاية الحرب العالمية. وقد عرض عليها فيه مشروع تأسيس دولة يهودية تحت إشرافها. وفيه نجد تلك الجملة الشهيرة: «فنكون بذلك قد أوجدنا بجوار مصر وقناة السويس دولة جديدة موالية لبريطانيا»(9). وقد كان هذا كله مقدمة لوعد بلفور الشهير في، تشرين الثاني/نوفمبر 1917. كذلك نحا منحى هذا التقرير النص التالي لزعيم الصهيونية الأول «تيودور هرتزل»: «وسنكوّن هناك جزءاً من الحاجز الذي يحمي أوروبا في آسيا. سنكون مخفراً أمامياً للحضارة في وجه الهمجية. يتوجب علينا كدولة محايدة أن نبقى على اتصال مع كل أوروبا التي سيكون عليها ضمان وجودنا».
(2) وإلى جانب هذه الأدلة التي تشهد على حاجة الاستعمار إلى الصهيونية وإلى الكيان الصهيوني منذ أوائل القرن التاسع عشر، يذكر باحثون آخرون أدلة أخرى تشهد على ولادة الصهيونية في أحضان الاستعمار وعلى الجهود التي قام بها هذا الاستعمار من أجل توليد الصهيونية وتسهيل مخاضها. منها الأدلة العديدة التي قدمها جورج ناصيف في كتابه الهام والقيم عن «الوحدة العربية وإسرائيل»(10)، والتي جعلته يقول دون ما جمجمة: «والعنصر الأول الأساسي المكوّن لهذه الحركة الصهيونية كحركة سياسية، هو أنها حركة سياسية اجتماعية أوروبية من جميع وجوهها».
(3) ويؤكد هذه الفكرة أصحاب الفكرة القائلة(11) إن الصهيونية – حتى لو نظرنا إليها كأسطورة دينية سياسية – «لا تعود بجذورها إلى تاريخ اليهود الوهمي، وإنما تعود إلى ديناميات التاريخ الأوروبي الحقيقي». ومع هؤلاء سائر الذين يرون أن الصهيونية هي الحل الاستعماري للمسألة اليهودية.
(4) ويذهب بعض الدارسين ي تأكيدهم لولادة الصهيونية وإسرائيل من رحم الاستعمار والإمبريالية إلى حدّ استهجان الآراء الكثيرة التي ترى عكس ذلك، والتي يخيل إليها أن الصهيونية العالمية قد بلغت حداً من القوة والتنظيم استطاعت معهما «أن تفرض وجودها المادي والأدبي على دول أوروبية مجتمعة، وعلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأن تلعب بسياسة هذه البلدان لحساب مصالحها العدوانية في فلسطين»(12).
(5) وثمة دراسات تتوقف عند فكرة أخرى في هذا المجال، إذ تشير بوجه خاص إلى دور الحركة الصهيونية غير اليهودية في ولادة الصهيونية اليهودية وما تلاها من قيام الكيان الإسرائيلي، وتبيّن أن «الصهيونية غير اليهودية أشد فاعلية وخطراً من الصهيونية نفسها في مواقف ومواضع شتى». ومن الذين تعرضوا لهذه الفكر بشيء من التفصيل «رياض معسعس» في مقال له بمجلة «العربي» الكويتية (العدد 354، في أيار/مايو 1988) وفيه يقول ذلك القول القاطع: «وتؤكد الأحداث التاريخية والوثائق العديدة على أن الصهيونية غير اليهودية كانت ولا تزال الأداة الأساسية التي عملت على ترسيخ أقدام اليهود في فلسطين العربية، ودعمهم مادياً وسياسياً وفكرياً» (ص 57). ويبين، فيما يبين، أن المؤتمر الصهيوني الأول في «بازل» عام 1897 «لم يكن الانطلاقة الأولى، بل كان تتويجاً لجنين اكتمل تشكيله في رحم الأحداث والانقلابات السياسية والاقتصادية في أوروبا منذ عصر النهضة» (ص 58). ومن أجل هذا يبين دور حركة الإصلاح الديني اللوثرية، ودور فرنسا بوجه خاص على يد نابوليون بونابارت وعلى يد نابوليون الثالث «الأكثر صهيونية»، وعلى يد طائفة من السياسيين المقربين من الإمبراطور (أمثال «جان دونان» و«إرنست لاهاران» الممثل الرئيسي للصهيونية غير اليهودية كما يقول).
(6) وجملة القول إن أصحاب هذا الاتجاه الأول، على اختلاف المبررات عندهم، يبرزون الدور الرئيسي للاستعمار في توليد الحركة الصهيونية، والدور الأساسي للإمبريالية العالمية في إيجاد الكيان الإسرائيلي وتثبيت دعائمه وتعزيز نزعاته العدوانية والتوسعية في المنطقة العربية. ولئن كانوا لا ينكرون اللقاء الذي تم بين الاستعمار وبين الصهيونية بعد ذلك، فإنهم يمنحون السبق إلى حد كبير للاستعمار على الصهيونية في هذا المجال. وأياً كان الأمر فهذا الاتجاه ذو الرأي الحاد والحدّي يقدم بموقفه هذا – كما سبق أن ذكرنا – تبريراً أساسياً وهاماً لموقف الصهيونية وإسرائيل من الوجود العربي، ما دام مبرر ذلك الوجود الصهيوني وهذا الكيان الإسرائيلي هو، أولاً وقبل كل شيء، خدمة الهدف الأكبر للاستعمار والإمبريالية، نعني الحيلولة دون تقدم الأمة العربية ودون تكاملها ووحدتها، ومنعها بالتالي من تحقيق وجودها القومي وبناء مشروعها الحضاري الكبير الذي تنشده.
ب- ولن نتريث عند رأي أصحاب الفريق الثاني، القائلين بأن الصهيونية هي التي دفعت الاستعمار والإمبريالية إلى تبني مخططاتها وإلى خلق الكيان الإسرائيلي، حين بينت الترابط بين أهدافها وقيام الكيان الإسرائيلي في قلب الوجود العربي وبين مخططات الاستعمار والإمبريالية الرامية إلى إضعاف ذلك الوجود وتمزيقه والحيلولة بينه وبين استعادة دوره التاريخي المجيد، ومنعه من بناء مشروعه المستقبلي المحمّل بالوعود له وبالوعيد لأعدائه. والحق أن القائلين بهذا الاتجاه كثيرون، وحججهم بيّنة ظاهرة، سنشير إلى جانب منها عند الحديث عن أهداف الحركة الصهيونية وعن خطط الكيان الإسرائيلي، وفي نشأة الحركة الصهيونية منذ مؤتمر «بازل» الصهيوني الأول عام 1897، وفي مقررات ذلك المؤتمر، وفي تصريحات زعماء الصهيونية بدءاً من «تيودور هرتزل»، وفي انتزاع وعد بلفور وما تلاه، وفي ألاعيب السياسة الصهيونية أثناء الحرب العالمية الأولى، وفي نجاح تواطئها المستمر مع الاستعمار البريطاني في فلسطين، وفي جهودها لجرّ الاستعمار الأمريكي الجديد إلى جانبها، وفي أقوال زعماء الكيان الصهيوني بعد قيامه، وفي كل طرفة عين ونفثة صدر تنطلقان من خلال الحياة السياسية اليومية للكيان الإسرائيلي،.. الخ، شواهد وأدلة كثيرة على بلاء الصهيونية العريق والمستمر من أجل استغلال القوى الاستعمارية والإمبريالية.
ج- كذلك لا حاجة بنا إلى التريث عند الاتجاه الثالث، اتجاه الفريق القائل بالتداخل والتكامل والترابط بين الاستعمار والإمبريالية من جانب وبين الصهيونية وإسرائيل من جانب آخر، لا سيما فيما يتصل بدورهما المشترك في تمزيق الوجود العربي (منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى اليوم). وحسبنا أن نقول، تلخيصاً لهذا كله، إن محور اللقاء بين طرفي هذه المعادلة هو منع الوطن العربي من التقدم والوحدة، والحيلولة بين الوجود العربي وبين نهضته الحديثة، المرجوة والآتية ما في ذلك ريب. ويكفي للتدليل على ذلك، وعلى المساعي المشتركة للاستعمار والإمبريالية في سبيل تجزيء الأمة العربية، أن نذكّر بالتآمر البريطاني الصهيوني على العرب بعيد الحرب العالمية الأولى، رغم ما قطعته بريطانيا وحلفاؤها من وعود لهم، وأن نذكّر باتفاق «سايكس بيكو» بين بريطانيا وفرنسا (16/5/1916) وبوعد بلفور (2/11/1917) وبمؤتمر الصلح في فرساي (كانون الثاني/يناير 1919) وبمؤتمر سان ريمو (25/4/1920). وحسبنا أن نردد قول شوقي (ودخلنا الوغى فكنّا الغنائم). أما ما حدث من أجل قيام الكيان الإسرائيلي، وبعد قيامه حتى اليوم، من تواطؤ عميق بين الاستعمار والإمبريالية وبين الصهيونية وإسرائيل، فلا يحتاج إلى فضل من بيان.
ولعل خير ما يلخص هذه الصلة العضوية المتبادلة بل المتحدة بين الحركة الصهيونية والكيان الإسرائيلي وبين الاستعمار والإمبريالية من أجل تجزيء الوطن العربي وتعطيل طاقاته والحيلولة بينه وبين تحقيق وجوده القومي وبناء كيانه الحضاري، ما ورد في مقدمة ذلك الكتاب الهام والقيّم الذي وضعه الدكتور هيثم الكيلاني عن «المذهب العسكري الإسرائيلي»، وقد جاء في مطلعها ذلك التلخيص الجامع الدقيق: «منذ أن أقامت الصهيونية والإمبريالية والاستعمار دولتها المشتركة «إسرائيل» في قلب الوطن العربي، لتمنع وحدة مشرقه ومغربه، وتسلبه ثرواته، وتستثمر موقعه، وتخضعه لإرادتها في المجال الدولي – منذ إنشاء هذا الثالوث إسرائيل، حدد لها هدفين يوصلانه إلى أغراضه وهما: إنشاء «الأمة اليهودية» وتفتيت الأمة العربية. ومن هذين الهدفين الاستراتيجيين الكبيرين، تنبعث وتتوالد مجموعة الأهداف الاستراتيجية والسياسية والعسكرية والاقتصادية الأخرى»(13).
ثانياً – الأهداف الأساسية للحركة الصهيونية:
1- الأهداف الكبرى للحركة الصهيونية باتت ذائعة يعرفها القاصي والداني. والمظانّ حولها كثيرة ومتوالدة. ومن هنا سنتوقف، بوجه خاص، عند الأهداف ذات الصلة الوثيقة بموضوعنا. على أن سائر أهداف الحركة الصهيونية في الواقع تتحلق – كما سبق أن رأينا – عند هدف الأهداف وتكاد تنحلّ إليه، نعني به بناء المجتمع الإسرائيلي العنصري التوسعي عن طريق الائتكال التدريجي للوجود العربي وعن طريق جعله وجوداً مُقْعداً واهناً عاجزاً، تسري في عروقه آفات التمزّق السرطاني وتفرّخ في مستنقعه الآسن شتى صنوف العلل.
2- وقبل أن نمضي في الحديث عن أهم الأهداف الصهيونية من هذا المنظار، لابد من طائفة من التوضيحات التي تساعدنا على أن نمضي في حديثنا مطمئنين، كما تجنبنا ما قد يبدو لبساً أو تناقضاً بين تلك الأهداف.
أ- وأول ما نذكره بهذا الصدد هو أن هذه الأهداف – على كونها ثابتة – تخضع للتعديل والتحوير عبر مسيرتها وذلك لتحقيق المرونة اللازمة لوسائل تحقيقها.
ب- وثاني ما نذكره أن هذه الأهداف تنفَّذ على مراحل. ومن هنا فما تعلنه السياسة الصهيونية والإسرائيلية في مرحلة من المراحل من أهداف قد تبدو مقصّرة عن أهدافها الكبرى، ما هو إلا تعبير عن مستلزمات التنفيذ المرحلي المتدرج للأهداف الأساسية التي تظل هي المطمح الأول والأخير.
ج- وثالث ما نذكره أن الاجتهادات حول الأسلوب المرحلي لتحقيق تلك الأهداف قد تتباين بين الفئات والأحزاب المختلفة، غير أن ذلك التباين لا يخفي وراءه أي شقاق حول الأهداف الأساسية نفسها.
د- ورابع هذه الملاحظات أن أي وسيلة تقرّب من الأهداف الكبرى وسيلةٌ مقبولة لدى صانعي السياسة الإسرائيلية، وأن الغاية عندهم تبرر الواسطة دوماً.
هـ- وخامس هذه الملاحظات ما يتذرّع به الصهاينة أمام العالم من حجج تبرر أساليبهم الوحشية والبربرية لبلوغ أهدافهم، ليس سوى ذرّ للرماد في العيون، لأن إقامة دولة إسرائيل على نحو ما تتصورها الصهيونية تفترض، في صلبها، منذ أقدم النصوص التوراتية والتلمودية حتى اليوم، اصطناع البطش والإرهاب والتدمير وسيلة مثلى مباحة بل واجبة.
3- وقد يكون رأس الأهداف الصهيونية الكبرى التي نتحدث عنها «إقامة مملكة إسرائيل القديمة». ومما يوضح الجذور التاريخية للصهيونية ذلك الكتاب القيّم الذي وضعه محمد عزة دروزة عن «تاريخ إسرائيل من أسفارهم». والأدلة كثيرة على ما لجأ إليه زعماء الصهيونية من تزييف للحقائق التاريخية تبريراً للعمل من أجل بناء الدولة اليهودية «من الفرات إلى النيل». وما ورد على لسان زعماء الصهيونية والسياسيين الإسرائيليين من تصريحات تؤكد هذا الحلم، أمرٌ يندّ عن الحصر. وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال بعض الشواهد وهي قليل من كثير:
أ- بعد اتفاقية سايكس – بيكو (واحتجاج اليهود عليها لأنها لم تستجب لكامل مطالبهم)، أصدرت حركة الشبيبة التابعة للمنظمة الصهيونية العالمية نشرة حملت عنوان «ألف باء الصهيونية» تحتوي على إشارة صريحة إلى الامتداد الكامل لنطاق «أرض إسرائيل» مرفقة بخارطة على النحو الآتي(14): «هناك في أرضنا، نحن العبرانيين القدامى وأنتم العبرانيين القادمين، سوف نضع أيدينا في تضافر واتحاد على كل شبر كان يخصنا في الماضي: من صيدا إلى سوكوت، ومن تدمر إلى أور – قاصديم، ومن البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر، ومن الفرات الجبار إلى الصحراء المترامية الأطراف».
ب- في عام 1895 نشر هرتزل كتابه المعروف «دولة اليهود» وفيه يعلن «أن الحل لجميع مشكلات اليهود المضطهدين في هذا العالم هو قيام «دولة اليهود» على رقعة من الأرض متسعة تكفي أمة محترمة..»(15).
ج- أرض إسرائيل، كما نجدها في رواية هرتزل الشهيرة «الأرض القديمة – الأرض الجديدة»، تمتد إلى الفرات وتشتمل على بيروت وسلسلة جبل لبنان.
د- في المقدمة التي كتبها بن غوريون «للكتاب السنوي لحكومة إسرائيل عام 1952» (وهو كتاب الدولة الرسمي) نقرأ ما يلي: «إن دولة إسرائيل قد قامت فوق جزء من أرض إسرائيل».
هـ- أكد أكثر من زعيم من زعماء الصهيونية أن هدفها إيجاد قومية يهودية لشعب يعيش في أرض الوطن التاريخي في زعمهم. ومما كتبه أحد زعمائهم بهذا الصدد، وهو «سوكولوف»: «إن أهم أهداف موسى هو تأمين مستقبل الأمة اليهودية والاستيلاء على أرض الميعاد إلى الأبد»(16).

ولا حاجة إلى تعداد الأمثلة والشواهد، فهي لا تحصى، وكلها تشير إلى ذلك المنطلق الأساسي للحركة الصهيونية، نعني إقامة «مملكة إسرائيل الكبرى» من الفرات إلى النيل. وحسبنا، طلباً للمزيد، أن نرجع إلى ذلك الكتاب الهام «استراتيجية الصهيونية وإسرائيل تجاه المنطقة العربية والحزام المحيط بها» وهو كتاب أصدرته مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية عام 1982(17). وقد لبس تحقيق هذا الهدف الأساسي حللاً مختلفة عبر مسيرو الحركة الصهيونية، ولكنه ظلّ دوماً وأبداً بمثابة الأفق الذي تعدو نحوه الصهيونية ويعمل له الكيان الإسرائيلي. وكل ما سواه من مكاسب توسعية ليس عنده إلا مرحلة ينبغي أن تؤدي إليه. أو لم يصدر عن «مناحيم بيغن» حين وصل إلى الحكم للمرة الأولى واصبح وزيراً للدولة، التصريح الآتي: «لن يكون سلام لشعب إسرائيل ولا لأرض إسرائيل، حتى ولا للعرب، ما دمنا لم نحرر وطننا بأجمعه، حتى ولو وقّعنا معاهدة صلح»(18)؟ أو لم تصبح فكرة «إسرائيل الكبرى» محور «المذهب العسكري الإسرائيلي»(19).
ويحاول هذا الهدف الكبير أن يجعل من الديانة اليهودية منطلقاً له وأن يسخر الذرائع الدينية والتاريخية في سبيل تبريره والعمل له. أوَلم يعلن «بن غوريون» عام 1963 عن قيام ما أسماه «مملكة إسرائيل الثالثة»(20)؟ أوَلم يصرح أكثر من مرة أنه يكافح لتحقيق ما يسميه «إسرائيل الكبرى» التي لا بد أن تضم كل المنطقة التي كان يسيطر عليها الملك داود والملك سليمان قبل ثلاثة آلاف سنة(21)؟
4- ويرتبط بهذا الهدف الأكبر، هدف بناء «مملكة إسرائيل»، هدفٌ آخر مكمل له، هو «بناء المجتمع الإسرائيلي العنصري». ووراء هذا الهدف زعمٌ صهيوني جرى اصطناعه للتضليل والزيف، وهو أن الصهيونية ستنهض في فلسطين (والبلاد الأخرى التي تحتلها تدريجياً) بعبء «رسالة حضارية» تتمثل في تمدين فلسطين وتحضيرها.
ذلك أن الصهيونية انطلقت، منذ بداياتها الأولى، من مسلمات الفكر العنصري الأوروبي مع ما يتضمنه ذلك من النظر إلى اليهود على أنهم جنس أسمى وأرقى من العرب، بل أسمى من سائر الشعوب. بل إن الصهاينة عثروا على ضالتهم المنشودة في «نيتشه» (وهو غير يهودي) الذي عبر في مناسبات عديدة عن إعجابه بالدين اليهودي كدين أكثر رجولة من الدين المسيحي الذي يتصف، فيما يزعم، بالأنوثة والعاطفية والنفاق(22). وكلنا يعرف أسطورة «الشعب المختار» وقول اليهود بتفوقهم على سائر الشعوب. ومن هذا القول ينطلقون إلى قول آخر يبررون به إنشاء مملكتهم. ذلك أن انبعاث هذا العرق المتفوق في نظرهم لا بد له من مكان ثابت مستمر حتى تتاح له الفرصة ثانية لتطوير عبقريته وإبلاغ رسالته كاملة متفوقة. والأدب اليهودي حافل بأفكار عنصرية مغْرقة، كفكرة نقاء الدم اليهودي، وخلود اليهود، و«الخصوصية اليهودية». أوَلم يدّع المفكر الصهيوني المعروف «آحاد حاعام» المأخوذ بفكرة القوة المعنوية لليهود، أن هذه القوة موجودة في أصولهم حتى قبل التوراة بزمان بعيد؟. والنتيجة الطبيعية لمثل هذا الإيمان بالأوصاف الموروثة لليهود، الإيمان بالتفوق القومي، والاعتقاد بدونية الآخرين بالتالي، ولا سيما العرب. أوَلم يعالج «سوكولو» في كتابه «تاريخ الصهيونية» مسألة التخلف الموروث لدى العرب والشرقيين بوجه عام؟ هذا الموقف العنصري الممجّد لليهود ومزاياهم، المزري بسواهم، المنتقص من شأن العرب بوجه خاص، يعود إلى جذور تاريخية قديمة تعمل الصهيونية على تغذيتها وإحيائها. فالتلمود، وهو شريعة إسرائيل الكاملة وسجل تعاليمها وآدابها، يحفل بالتأكيد على مبادئ اليهودية في الاستعلاء والانعزالية والعدوان. والتوراة نفسها، كتاب اليهود المقدس، رسمت لليهود طريق الخلاص فأوصتهم بالغزو والقتل وسفك الدماء دون تمييز بين محارب وغير محارب، بين رجل وامرأة، بين شيخ وطفل، وجعلت مثل هذا المصير مصير البشر من غير اليهود، وجعلت الاستعباد والإبادة قدر البلاد التي أهداها رب إسرائيل لشعبه المختار، من مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات(23).

5- ولا يتسع المجال للتوقف عند أهداف أخرى للصهيونية تمُتُّ بالنسب إلى موضوع بحثنا، من مثل: هدف القومية اليهودية، المتعارض بالتعريف مع القومية العربية. وفيما ذكرناه عن العمل لبناء مملكة إسرائيل القديمة وعن المجتمع الإسرائيلي العنصري ما يوضح بعض جوانبه. وحسبنا أن نورد في هذا المجال وصفاً دقيقاً لهذا الهداف نجده في كتاب «المذهب العسكري الإسرائيلي»(24): «وتعتبر إعادة تكوين مملكة إسرائيل القديمة بأوضاعها التاريخية وبكل ثقافاتها وحضارتها القديمة، هي الغاية القومية لدولة إسرائيل، تعمل من أجل تحقيقها بحيث تكون مقر جميع يهود العالم». وواضح من هذا التعريف أن هدف القومية اليهودية يرتبط ارتباطاً عضوياً بالأهداف التي أتينا على دراستها، بل يتداخل معها. الأمر الذي يعفينا من التريث طويلاً عنده. يضاف إلى هذا أننا سنشير إليه عبر بعض الأجزاء التالية من دراستنا. على أننا إن ننس لا ننس أن نذكّر بكتاب «أبا إيبان» عن «القومية»، ذلك الكتاب الهام الذي يتعرض للقومية بوجه عام وللقومية العربية بوجه خاص ولعلاقاتها مع إسرائيل، والذي نجد ملخصاً قيماً له في كتاب «إسرائيليات» لأحمد بهاء الدين(25). ولعل خير نتيجة نخلص إليها من تحليلنا لمفهوم القومية اليهودية في صراعها مع القومية العربية هي تلك التي نجدها على لسان نجيب عارودي في كتابه الشهير «يقظة الأمة العربية» حيث يقول: «هنالك حادثان هامان من طبيعة واحدة، ولكنهما يقفان على طرفي نقيض: هما يقظة الأمة العربية، وسعي اليهود الخفي لاستعادة ملك إسرائيل القديم على نطاق أوسع. إن مصير هاتين الحركتين هو الصراع المستمر، حتى تتغلب الواحدة منهما على الأخرى. ومصير العالم كله منوط بالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين الشعبين اللذين يمثلان مبدأين متعارضين»(26).

ثالثاً – الترجمة العملية لأهداف الصهيونية من خلال صلتها بالموقف من القومية العربية ومن الوحدة العربية:
1- لقد أتينا على وصف أهم الأهداف الصهيونية ذات الصلة بموقفها من القومية العربية. وأهم هذه الأهداف – كما رأينا – هي الآتية: إقامة مملكة إسرائيل القديمة – بناء المجتمع الإسرائيلي العنصري – تحقيق القومية اليهودية – وهي، كما نرى، أهداف متكاملة بل متداخلة، يوحّد بينها أنها تصبّ جميعها في بؤرة واحدة، هي خلق كيان قومي إسرائيلي على حساب الوجود العربي، يشمل مملكة اليهود التاريخية كما يزعمون، ويبقى عن طريق الاستيطان والعنصرية وطرد الشعب الأصيل أو إخضاعه. والوسيلة الأساسية لهذا الكيان هي التعاون الملتحم مع الاستعمار والإمبريالية من أجل المحو التدريجي لروابط الوجود العربي الموحد، ومن أجل إضعافه عن طريق تفريقه وتفتيته.
2- وطبيعي أن تكون لهذه الأهداف ترجمتها العملية في السياسة الصهيونية وفي سياسة الكيان الإسرائيلي بعد اصطناعه. ولن نتوقف كثيراً عند الترجمة العملية لتلك الأهداف في أصول السياسة الصهيونية، فالحديث عنها تعج به الكتب، وهي ماثلة في أذهان أبناء الأمة العربية على نحو ما تتجلّى في المرحلة التاريخية التي تقع بين الولادة الرسمية للصهيونية منذ أيام هرتزل والمؤتمر الصهيوني الأول في أواخر القرن التاسع عشر وبين قيام دولة الكيان الصهيوني في عام 1948. ويهمنا أكثر من هذا أن نتوقف عند الترجمة العملية لتلك الأهداف على نحو ما تتجلى في سياسة الكيان الصهيوني بعد نشأته. وهذا يقودنا إلى أن نتحدث – في كثير من الإيجاز – عن الجوانب التالية للسياسة الإسرائيلية: التوسع والسياسة التوسعية – الأمن الإسرائيلي والحدود الآمنة – تفتيت الوجود العربي والحيلولة بين العرب وبين بناء كيانهم القومي الموحّد.
3- أما السياسة التوسعية فنعرف عنها الشيء الكثير، ونكاد نعيش أحداثها ومخلّفاتها يومياً، ونجد تحليلاً وافياً لهذه السياسة، يُغني عن سواه، في ذلك الكتاب القيم «استراتيجية الصهيونية وإسرائيل تجاه المنطقة العربية والحزام المحيط بها»(27). ومن المزايا الفريدة لهذا الكتاب أنه يتحدث عن الاستراتيجية التوسعية للكيان الصهيوني تجاه عدد من البلدان العربية، هي شرق الأردن ولبنان وسورية ومصر وشبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج.
هكذا يشير فيما يشير، عند حديثه عن شرق الأردن، إلى أن الحركة الصهيونية فهمت وعد بلفور وفسّرته على أنه يشتمل على الأراضي الواقعة على ضفتي الأردن، ثم عدّلت إسرائيل بعد ذلك مخططاتها بهذا الشأن (مرحلياً كما تفعل دوماً). كذلك يشير الكتاب إلى مطامع إسرائيل في مياه نهر الأردن وحياضه وروافده، وإلى مطامعها في استثمار أملاح البحر الميت، وإلى اعتبارها الأردن قاعدة أساسية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين، وإلى احتلالها للضفة الغربية عام 1967، الخ…
وفيما يتصل بلبنان يشير بوجه خاص إلى الأطماع المائية لإسرائيل (مياه الليطاني والحاصباني)، وإلى المشروعات المائية الشهيرة كمشروع جونستون ومشروع فايتس، كما يشير إلى مخططات الكيان الصهيوني لبنان في المرحلة الراهنة. ويبين الكتاب كيف رسمت اللجنة الاستشارية الصهيونية لفلسطين في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1918، حدود البلد الشمالية بحيث جعلتها تمتد من الليطاني إلى بانياس.
وفيما يتصل بالجولان يذكر الكتاب عدداً من الوثائق والتصريحات الصهيونية (حتى قبل عام 1948) تؤكد أطماع الصهيونية في هذه المنطقة. ويتجلى ذلك في التصور الذي رسمه «بن غوريون» عام 1918 لحدود الدولة الصهيونية على النحو الآتي: «تضمّ النقب برمته، ويهودا والسامرا، والجليل، وسنجق حوران، وسنجق الكرك (معان والعقبة)، وجزءاً من سنجق دمشق (أقضية القنيطرة ووادي عنجر وحاصبيا)».
ويذكر الكتاب ما قام به الإسرائيليون بعد عام 1950 من أجل ضم الأراضي المجردة من السلاح إلى إسرائيل: مشروع تجفيف بحيرة الحولة والمستنفعات المحيطة بها شمالاً – بناء محطة كهربائية عند بنات جسر يعقوب شمال بحيرة طبرية. كما يشير إلى مطامع إسرائيل ف الموارد المائية لهضبة الجولان (نهر بانياس بوجه خاص)، فضلاً عن مطامعها في الموقع العسكري الاستراتيجي للهضبة. كما يتحدث عن مشاريع الاستيطان الإسرائيلي في الجولان وعن المحاولات الفاشلة لتجنيس أبنائه.
وفيما يتصل بمصر، يشير الكتاب إلى أطماع الصهيونية ومخططاتها في سيناء (وإلى مشروع «حاييم وايزمان» منذ عام 1919 لضم سيناء)، وإلى مشروع الاستيطان الصهيوني في العريش. ويتوقف عند المرحلة السابقة على اتفاقية «كامب ديفيد» والتالية لها، متحدثاً عن الثمن السياسي الخطير للانسحاب الإسرائيلي من سيناء وعمّا تعبر عنه اتفاقية «كامب ديفيد» من نجاح كبير للإستراتيجية الإمبريالية الصهيونية، وما تمثله من محاولة ماكرة لتحطيم التضامن العربي والوحدة العربية. ألم يقل «بيغن» بعد هذه الاتفاقية ما معناه: إننا قمنا بهذه الاتفاقية لا لنعطل قوة أكبر دولة عربية فحسب، بل لنثبت بطلان فكرة القومية العربية؟
أما عن مخططات إسرائيل تجاه شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج فيشير الكتاب إلى الأهداف الصهيونية في هذه المنطقة، تلك الأهداف التي عبّر عنها «هرتزل» بقوله: «إن ما يُغرينا ليس الجزيرة العربية الموحدة، وإنما الجزيرة العربية الضعيفة المشتتة المقسمة إلى عدد من الإمارات الصغيرة الواقعة تحت سيادتنا والمحرومة من إمكان الاتحاد ضدنا»(28). كما يشير إلى اتفاقية، «فيصل – وايزمان» التي وقعت في 1919/1/12. ويتوقف عند الإشارة إلى مجموعة من الخرائط تمثل أطماع الصهيونية التوسعية، عرضت على الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الرابعة والعشرين (في كانون الأول/ ديسمبر 1971)، وفي اثنتين منها يشمل الوطن القومي اليهودي، إضافة إلى فلسطين، الساحل الأيمن لمصر بين النيل والبحر الأحمر، وسيناء، والأردن، وسورية، والقسم الأكبر من العراق مع نافذة الخليج العربي حتى غرب السعودية(29). ومن أهم ما يذكره الكتاب ان الخطة الاستراتيجية للجيش الإسرائيلي عام 1957-1956، الذي كُشف النقاب عنها ونُشرت في بومباي بالهند عام 1957، أشارت إلى المناطق التي تود الاستيلاء عليها، وهي عديدة، من بينها: جزيرتا تيران والصنافير، وشبه جزيرة سيناء التي تؤمن الطريق إلى البحر الأحمر في حال الحرب العربية الإسرائيلية والحرب العالمية. ومن بينها: العقبة وجبال السير ومؤاب التي تعد قاعدة للهجوم على العربية السعودية، وأرض شومر التي تتيح الاستيلاء على حقول الزيت في السعودية… ويبين الكتاب، فيما يبين، كيف حاولت الحركة الصهيونية، في أثناء الحرب العالمية الثانية، إقامة صلح مع السعودية (عن طريق مساعٍ بذلها جون فيلبي في البداية)، وكيف رفض الملك عبد العزيز آل سعود المشروع واصفاً إياه بالرشوة اليهودية، وكيف رفض بعد ذلك عروض الرئيس الأمريكي روزفلت مستنكراً أي حل منفرد، مؤيداً الحلول التي يقبل بها العرب مجتمعين. ثم يتحدث الكتاب عن استراتيجية إسرائيل تجاه اليمن، وعن اهتمامها بهذا الجزء من الجزيرة العربية نظراً إلى موقعه الحساس وتحكمه بالمنفذ الجنوبي للبحر الأحمر، وعن احتلال إسرائيل (في 1973/3/12) لمجموعة من الجزر غير المأهولة قرب باب المندب.
وينتقل الكتاب إلى الحديث عن إستراتيجية إسرائيل تجاه العراق وأطماعه فيه (منذ أيام هرتزل ومفاوضاته الفاشلة مع السلطان العثماني عبد الحميد حتى اليوم). ويتحدث، فيما يتحدث، عن النشاط الصهيوني في العراق أيام الانتداب البريطاني، وعن «المنظمة اليهودية» التي تشكلت سراً عام 1921 في بلاد ما بين النهرين، وعن الصلة بين الصهيونية ومشروع الهلال الخصيب في مطالع الأربعينات، وعن حلف بغداد الذي تلاه…
4- وما أتينا عليه من إشارة إلى حلف بغداد يقدم لنا بعداً آخر من أبعاد التآمر الصهيوني الإمبريالي على الوجود العربي والوحدة العربية. إنه يقدم لنا صورة عن الجهود الإسرائيلية (ومعها الجهود الإمبريالية) لضرب الوطن العربي (أو ما يسمى أحياناً باسم دول الجوار)، وهذا ما عبر عنه «بن غوريون» حين أعلن «إن هدفنا هو تسوير نطاق العزلة حول العالم العربي»(30). والحديث يطول في هذا المجال ولا يتسع له المقام. وحسبنا إرشادات خاطفة:
أ- بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة في شباط/ فبراير 1958، أصاب الذعر إسرائيل، لأنها تلقت ضربة أصابت صميم مخططاتها، نعني سعيها الأزلي الأبدي لتجزئة الوجود العربي وتفتيته. ولهذا اتجه «بن غوريون» إلى الأنظمة التي يمكن أن تشعر بتهديد الحركة القومية العربية التحريرية لها. وأهم تلك الأنظمة: نظام أثيوبيا (أيام هيلاسلاسي)، ونظام تركيا، ونظام إيران. لا سيما أن سكان هذه البلدان مجتمعة، إضافة إلى إسرائيل، أكبر من مجموع سكان الشرق الأوسط. ومن أجل إقامة حلف مع هذه الدول كان لابد من توافر مظلة غربية لحمايته، وقد تمّ ذلك كما نعلم. وهكذا ولد في
آب / أغسطس عام 1958 حلفٌ بين إسرائيل وإثيوبيا وإيران وتركيا، بدون إعلان رسمي أو مراسيم توقيع. وكانت الدول الثلاث الأخيرة مرتبطة مع الإمبريالية الأمريكية كما نعلم (حلف «السنتو» وحلف «الناتو»). وهذا عوّلت الصهيونية على الدور الكبير الذي يمكن أن تؤديه تركيا وإيران إلى جانبها في الصراع العربي الإسرائيلي. وقد عبّر عن ذلك أوضح تعبير «ديفيد كاما» في كتابه: «الصراع لماذا وإلى متى؟». ويتوقع المؤلف في هذا الكتاب أن تتعاون كل من تركيا وإيران الشاه مع الكيان الصهيوني في المخطط الذي يعتزم تقسيم المشرق العربي إلى عدد من الدويلات الطائفية.

ب- وفيما يتصل بإثيوبيا بوجه خاص، اقترحت غولدا مئير، في عام 1971، خلال زيارتها للولايات المتحدة، على الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، إقامة حلف عسكري يضم إسرائيل وأثيوبيا وجنوبي أفريقيا. ذلك أن إسرائيل تعتبر الحبشة أهم دولة إفريقية بالنسبة إلى إسرائيل من الناحية الأمنية (لا سيما فيما يتصل بسيطرتها على البحر الأحمر الذي تطمح إلى تحويله بالتدريج إلى «بحيرة يهودية»).
ج- وفيما يتصل بإيران في عهد الشاه، وجه الرئيس الأمريكي نيكسون، في شباط/ فبراير 1973، رسالة إلى الكونغرس الأمريكي حول السياسة الخارجية جاء فيها: «إن منطقة الشرق الأوسط تمثل أحد أقسى الامتحانات للولايات المتحدة، وإن شاه إيران وإسرائيل قادران على ضمان أمن المنطقة لما يملكانه من إمكانيات عسكرية واقتصادية، لذلك أقترحُ تزويد كل من إيران وإسرائيل بصنوف الأسلحة المطلوبة». ويكشف الكاتبان الإيرانيان (شوران سوبين، وسفار زوبيه) في كتابهما «العلاقات الخارجية الإيرانية» أن أهداف اللقاء الإيراني – الإسرائيلي كان العمل لعرقلة الوحدة العربية، ويشيران إلى رغبة إسرائيل في الخروج من عزلتها عن طريق إيران، ورغبتها في الاستمرار بالتزود بالنفط الإيراني الذي استهدف قرار إغلاق خليج العقبة في أيار/ مايو 1967 حرمان إسرائيل منه. ويبين الكاتبان كيف التقت مصلحة البلدين في تقديم الأسلحة الإسرائيلية عن طريق إيران للملا مصطفى البرزاني في العراق(31).
د- وفيما يتصل بتركيا، يقول «أبا إيبان» في كتابه «صوت إسرائيل» (ص 142 من الأصيل الإنكليزي): «إن تبادل العلاقات بين إسرائيل وتركيا يعتبر دليلاً على سلامة المنطق الإسرائيلي القائل بأن لإسرائيل هوية شرق – أوسطية». وفي 1958/8/28 توجه «بن غوريون» سراً إلى تركيا وأجرى محادثات مع «عدنان مندريس» رئيس الوزراء التركي. وقد تم الاتفاق بينهما على تشكيل تحالف سياسي – اقتصادي، وذلك في إطار استكمال حلقات «حلف السوار» الذي يشمل إيران وتركيا وأثيوبيا.
5- وقد كان لزاماً علينا – استكمالاً لعرض المخططات الصهيونية والمساعي الإسرائيلية لتطويق الكيان العربي وتمزيقه وإضعافه – أن نتحدث عن العلاقة بين إسرائيل وبين حلف الأطلسي (الذي أنشئ في 1949/8/24 أي بعد قيام الكيان الإسرائيلي بسنة واحدة). غير أن المجال لا يتسع لذلك، والمظانّ حول هذا الموضوع متوافرة وعديدة. وحسبنا أن نذكّر بمحاولات إسرائيل المتكررة للانضمام إلى حلف الأطلسي، وأن نذكّر بالتواطؤ الإسرائيلي مع ذلك الحلف في العدوان على مصر عام 1956 وبالتواطؤ معه أيضاً عام 1957 في تهديد سورية (الحشود التركية على الحدود السورية واقتراب قوات الحلف البحرية وسفن الأسطول السادس الأمريكي من ميناء اللاذقية استعداداً لغزو سورية). حسبنا أن نذكّر بالاتفاقية السرية عام 1975 بين إسرائيل وحلف الأطلسي، وبالمناورات المشتركة التي قامت في الفترة بين 6 و1977/5/18، هذا فضلاً عن التعاون بين إسرائيل والحلف في العدوان على سورية ومصر والأردن عام 1967.
6- وآية هذا كله أن السياسة التوسعية الإسرائيلية وما يلحق بها من التحالف مع بعض دول الجوار في المنطقة، وما يثوي وراءها من أحلاف غربية وتعاون إسرائيلي – غربي، جهود موصولة محركها الأول والأخير تحطيم الطوق العربي المضروب حول إسرائيل، عن طريق العدوان على الدول العربية واحتلال أراضيها، وعن طريق التآمر على أي تقديم يتم في مجال التضامن العربي والوحدة العربية والتحرر العربي. فالكيان الإسرائيلي لا يهدأ له بال ولا ينام قرير العين، مهما يربح من حروب إلا يوم يصبح الطوق العربي، الذي يبلغ منه الحلقوم، نمراً من ورق كما يرجو ويتمنى، ولا حول له ولا طول، بعد أن تزكي فيه عوامل الفرقة والصراع، فيما تزعم وتريد.
7- ذلك أن إسرائيل تشعر بأنها لا تستطيع أن تبقى وسط هذا الوجود العربي المعادي لها إلا إذا استمرت في التوسع إلى ما لانهاية، لا سيما إذا ظل هذا الوجود العربي موحداً متضامناً. وهي دوماً تتذرع بدعوى «الحدود الآمنة» كي تبرر عدوانها المستمر وتفريقها المستمر لذلك الوجود العربي. ومقولتها الأساسية في هذا المجال هي الآتية: «إن أمن إسرائيل يمر في عواصم الدول العربية». ونحن ندرك أبعاد هذه المقولة إذا فرقنا بوجه خاص بين نوعين من الأمن الإسرائيلي: الأمن الجاري وهو يتصل بالعمل اليومي للآلة العسكرية الإسرائيلية في إطار الصراع الدائر في المنطقة، والأمن الاستراتيجي (وهو الأعمق والأهم) أي الأمن على صعيد الإستراتيجية العليا للكيان الصهيوني، وهو المتعلق بترسيخ وجود ذلك الكيان أو تثبيت مبرر ذلك الوجود(32).
والحديث عن معنى «الأمن الإسرائيلي» و«السلام الإسرائيلي» المزعوم، وعن الحدود الآمنة والدائمة، حديث يطول. وحسبنا أن نقول إن الحدود الآمنة التي تطالب بها إسرائيل حدودٌ لا حدّ لاتساعها. وكلما احتلت إسرائيل أرضاً شعرت أنها في حاجة إلى احتلال أجزاء جديدة لحمايتها، وهكذا دواليك. وليس من حدّ لحدود إسرائيل الآمنة المزعومة
إلا المزيد من التوسع, هذا إضافة إلى التقاء هذه السياسة الإستراتيجية مع الأهداف الأساسية للصهيونية كما بينا، أهداف بناء دولة إسرائيل الكبرى. لقد غَرست إسرائيل نفسَها في قلب وجود عربي يلفظها بطبعه، ثم طالبت بحماية نفسها من هذا الوجود. ولا حماية حقة لها إلا عن طريق تحطيم الوجود العربي كله وتفتيه وإضعافه. ولهذا تجهد وتعمل. وقد عبّر محمد حسنين هيكل عن مثل هذا المعنى ولكن نم زاوية أخرى، في حوار نشرته مجلة المستقبل العربي، حين قال(33):
«بل إنني أزعم ما هو أكثر من ذلك وأقول: إنه حتى إذا اعترفت كافة الدول بإسرائيل، فهي (أي إسرائيل) مضطرة لأن تقيم الأسوار الشائكة من حولها حتى لا تذوب… إنها مهددة بخطر الذوبان من الداخل – أولاً – من العرب الفلسطينيين، ومن الخارج – ثانياً – من الوطن العربي من حولها. أليس غريباً أن بلداً مثل إسرائيل لا يزال عاجزاً عن أن يحدد ماذا سيفعل بالأراضي: هو يريدها بدعوى الأمن، ولكنه يخشى منها بدعوى الذوبان! ولن يصلوا إلى قرار لأن ليس هناك كيان دولة قومية». ونضيف إلى هذا القول أن كيان الدولة القومية اليهودية يطمئن وترسخ أقدامه يوم يهتز كيان القومية العربية. وهذا هو هدف إسرائيل وهذا هو سبيلها الوحيد إلى «أمنها».
8- وبعد كل ما قلناه، يغدو من تحصيل الحاصل أن نقول إن الترجمة العملية للأهداف الصهيونية تشمل في خاتمة المطاف، بل في بداياته والقلب منه «تفتيت الوجود العربي». لقد وردت هذه الكلمة في أكثر من موضع في هذه الدراسة. ولعلها مفتاح موضوعنا ومحطّ رحاله.
ولا أدل على ذلك مما ذكرنا، ومما نعرف جميعاً بتفصيل أكبر، عن موقف إسرائيل من أي محاولة لتوحيد الوجود العربي، بدءاً من القيادة العسكرية المشتركة التي أنشأتها مصر وسورية في 1955/10/19 ثم انضمت إليها الأردن (والتي كان تحطيمها أحد الأسباب الرئيسية للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956)، مروراً بالتعاون العسكري العربي عام 1967 (الذي كان من أهم الأسباب التي انتهزتها إسرائيل للانطلاق في عدوانها التوسعي في حرب 1967) وانتهاءً بحرب 1973 (التي كانت من أهم ما حمل إسرائيل ومن وراءها على عقد اتفاقية «كامب ديفيد» مع مصر).
لا أدل على ذلك أيضاً وخاصة، من المؤامرات الإسرائيلية والاستعمارية ضد الجمهورية العربية المتحدة التي وضعت إسرائيل بعد قيامها بين فكي الكماشة. والحديث عن هذه المؤامرات يحتاج إلى دراسة قائمة بذاتها حسبنا منه أن نذكّر بمؤامرة الانفصال الكبرى.
على أن ما يستحق منا وقفة خاصة، في إطار هذا السعي الجاهد من قبل الحلف الصهيوني الإمبريالي لتحطيم الوجود العربي والحيلولة دون بناء كيانه القومي الموحد، هو مخطط «التفتيت» الذي اكتسب أهمية خاصة في السنوات الأخيرة، والذي كاد يصبح شعار الكيان الإسرائيلي وموجه خططه خلال الثمانينات وما بعدها. وهذا ما يعبر عنه كتاب «إستراتيجية الاستيطان الصهيونية في فلسطين المحتلة» حين يذكر أن «مهمات إسرائيل في هذه المنطقة وإخضاعها وإضعافها بحيث لا تقوى حتى على حماية نفسها وعلى رفض إخضاعها للهيمنة الإمبريالية، تقتضي «بالدرجة الأولى» تمزيق الوطن العربي وفق قانون لا ينتهي: «قانون التفتيت المستمر»(34). وهذا القانون الناظم للإستراتيجية الإسرائيلية، هو الذي يفصّل الحديث عنه «عوني فرسخ» في كتابه الهام «الفكر الإمبريالي ومخطط التفتيت»(35). ونظراً إلى أهمية هذا المخطط وصدارته على سواه في إستراتيجية الكيان الإسرائيلي خلال هذه العقود الأخيرة من هذا القرن، يجدر بنا أن نتريث – بإيجاز – عند أهم ملامحه وأغراضه وأساليبه:
أ- من أبرز قسمات مخطط التفتيت هذا «استغلال الكيان الإسرائيلي للأقليات القومية والطائفية ومحاولة اللعب بها». ذلك أن إسرائيل ومن وراءها يدركون أعمق الإدراك أن استخدام السلاح الطائفي الديني والعرقي هو دوماً أسهل مَرْكَب وأمضاه وأشده أثراً. وخير ما يفصح عن سياسة إسرائيل في هذا المجال ويفضحها ما يقوله الكاتب الصهيوني «ديفيد كاما» في كتابه «الصراع لماذا؟ وإلى متى؟» (وقد سبقت الإشارة إليه). وفيه نقع على النص الصارخ التالي الذي يكشف عن محاولات التزييف العريقة لدى الصهيونية: «إن هنالك وطناً واحداً للعرب عائداً لهم، وليسوا غرباء فيه، ألا هو الجزيرة العربية. أما بقية البلاد التي يقيمون الآن عليها فليسوا سوى محتلين لها مسيطرين عليها، يقيمون فيها إمبراطورية مغتصبة، ويستنكرون بكل وقاحة الحقوق الطبيعية للشعوب التي لها الحق الشرعي في هذه المنطقة قبل «الاحتلال العربي» والتي أصبحت الآن «شعوباً وطوائف لاجئة» في الشرق الأوسط ، لها كل الحق في تقرير المصير والاستقلال السياسي. وهنالك عبء من الحقوق أو الواجبات ملقى على كاهل الإسرائيليين كي يقدموا يد العون إلى المتعفنين في عبوديتهم داخل السجن العربي. لذا يجب إيجاد لغة مشتركة وطريق عمل واحدة مع الأكراد في العراق والدروز في سورية والزنوج في السودان والموازنة في لبنان والأقباط في مصر وسائر أبناء الشعوب والديانات التي تحارب سورية من أجل التحرير والاستقلال. إن من العدالة والنزاهة والحكمة السياسية أن تعمل إسرائيل على الفكّ التام للإمبراطورية التي تعتبر آخر إمبراطوريات الماضي التي انتهت في عصرنا»(36).
ولسنا في حاجة إلى المزيد من التحليل للأهداف والمخططات الإسرائيلية في هذا المجال بعد هذا القول المبين الخطير. وهو قول جاوز الأنظار والأفكار، كما نعلم، إلى العمل والتطبيق، كما تشهد على ذلك سياسة الكيان الصهيوني في العقدين الأخيرين بوجه عام وفي الثمانينات بوجه خاص. وليست أحداث الأكراد في العراق وإشغال الجيش العراقي بها أثناء حرب 1972 عنا ببعيدة! وليست المأساة اللبنانية والوقود الإسرائيلي الدائم لها غائبة عن أنظارنا وأفكارنا! وهل منا من يجهل مشكلة جنوب السودان وأبعادها الإمبريالية الصهيونية؟
ب- وإذا أردنا المزيد من التدليل على عمق المخطط الصهيوني الإمبريالي العامل على تفتيت الوجود العربي عن طريق زرع الطائفية الدينية والعرقية وإذكائها، فما علينا إلا أن نستشهد بذلك القول الخطير على لسان منظِّر وكاتب صهيوني معروف، هو «إرييه أورنشتاين» جاء فيه: «على نقيض شعار الوحدة العربية الذي ينادي به العرب، إنني أؤمن بتفسخه بعد حين وظهور طوائف عرقية وجغرافية، مثل لبنان المسيحي، ومنطقة الأكراد شمال العراق، وجبل الدروز، ودولة إسرائيل(37)…».
والحديث يطول عن مخططات إسرائيل في لبنان ولزعزعة الأمن فيه منذ عام 1954 (اجتماع بن غوريون وشاريت ولافون ودايان في شباط/ فبراير 1954 الذي تحدث فيه بن غوريون قائلاً: «لقد حان الوقت لتحريك الموازنة في لبنان للإعلان عن إقامة دولة مسيحية»). والحديث كذلك عن مخططاتها فيما يتصل بإنشاء كيانات عرقية، وإثارة روح التمرد بين صفوف الأقليات وعن سعيها لإثارة الصراع بينهم وبين سواهم من أبناء الشعب العربي، الخ…
ج- ذلك أن الصهيونية وما تلاها تنظر إلى الأمر كله، كما سبق أن ذكرنا، من منظار تعبئة «حركة التحرر القومي اليهودي» في زعمها ضدّ «الإمبريالية العربية» على حد تعبيرها، أي ضد القومية العربية والوجود العربي المتكامل الموحد. بل يبلغ بها التآمر في هذا الصدد حداً يجعلها تنكر «أي وجود للأمة العربية»، موهمة «العالم أن القبائل التي تتكلم العربية على حد قولها «ليست ولم تكن ذات يوم أمة واحدة» وأن «العرب ليسوا أمة بل هم خليط من القبائل والطوائف الدينية، وأن حركتهم القومية ليست في جوهرها إلا تقليداً لأوروبا وبضاعة مجلوبة مستوردة من الخارج»(38).
د- هذه الأوجه والملامح المختلفة للمخطط الصهيوني الإمبريالي من أجل «تفتيت الوجود العربي» نجد أفضل تعبير وترجمة عملية له في ذلك المقال الخطير الذي نشرته مجلة «الدراسات الفلسطينية»(39) (النسخة الفرنسية) في عددها ذي الرقم (5) الصادر في خريف عام 1982. وعنوان المقال: «خطة إسرائيل في الثمانينيات»، وهو بقلم «أودد ينون»(40)، الموظف في وزارة الخارجية الإسرائيلية سابقاً. وقد نشرت المقال بالعربية مجلة «الثقافة العالمية» الكويتية، في ملحق العدد (12) الصادر في أيلول، سبتمبر 1983. ويقول مترجم المقال ومقدّمه وهو «إسرائيل شاهاك»، إنه يمثل في نظره «الخطة المفصلة والدقيقة للنظام الصهيوني (نظام شارون وإيتان إذ ذاك) القائم في الشرق الأوسط: وهي الخطة القائمة على تقسيم المنطقة بأكملها إلى دويلات صغيرة، وإنها جميع الدول العربية القائمة».
وفي هذا المقال الخطير يقدم الكاتب وصفاً لخطة إسرائيل في الثمانينات، المنطلقة من العمل الدائب من أجل تفتيت الوجود العربي، عن طريق اللعب بما يسميه «الفسيفساء» الطائفية والعرقية التي تَسِمُه وتَصِمه والتي تجعل منه، في زعمه، وجوداً أبعد ما يكون عن الوحدة وأقوى ما يكون استعداداً لعوامل الائتكال والتفتيت، ميسَّراً لنجاح المحاولات التي تستهدف إعادة النظر في خارطته السياسية وفي كياناته القائمة من أجل خلق كيانات طائفية وعرقية جديدة.
هـ- سواء كان المخطط على نحو ما يصفه هذا الكاتب مخططاً يمثل وجهة نظر صانعي السياسة الإسرائيلية جميعهم أو بعضهم، وسواء خضع للتعديل والتحوير المرحلي أو لم يخضع، فإن الهدف الإسرائيلي واحد، وإن اختلفت التصورات والسبل من أجل تحقيقه، ونعني بهذا الهدف تأجيج الصراعات الطائفية والعرقية وسواها بين أبناء الأمة العربية، وإعادة تركيبها السياسي استناداً إلى النتائج والأزمات التي يتم توليدها بسبب هذه الصراعات.
ولئن كان الوعي العميق لمثل هذه المخططات والحذر منها والعمل على تعطيلها وفشلها أموراً واجبة تستلزم من أبناء الأمة العربية جهداً فكرياً وسياسياً موصولاً، فإن مما يجعلها معروضة للاندحار والانحسار في خاتمة المطاف، مهما تعصف رياح القلق والاضطراب، هو تلك الحقيقة التي تخيف إسرائيل وتخيف الإمبريالية من ورائها، وهي أن الأمة العربية (على تنوع بنيتها الاجتماعية والبشرية تنوعاً خصيباً) أمة موحدة التاريخ والمشاعر والثقافة والتراث الروحي واللغة والمصير، وأنه ما اجتمع لأمة من الأمم في يوم من الأيام مثل ما اجتمع للأمة العربية من مقومات الوحدة. ولا يتسع المجال للخوض في هذا الموضوع الشاسع الذي أشبعه الدارسون بحثاً. وحسبنا أن نقول(41): إن علينا، كيما ندرك معنى الوجود العربي الموحد ونرد على شكوك المشككين، أن نذكر دوماً أن ثمة فارقاً بين «الأمة» وبين «الحركة القومية». فالأمة العربية ذات المشاعر الموحدة والتراث الموحد والمستقبل الموحد قائمة هناك في واقع النفوس، وفي الشعور واللاشعور الجماعي لأبناء الشعب العربي. أما حركة القومية العربية فهي التي يتوجب عليها أن تجعل من هذا الوجود بالقوة وجوداً بالفعل، عن طريق النظرية القومية الواعية المتكاملة والنضال القومي اليومي المتصل الدائب في سبيلها. وإذا كان من الجائز أن تشهد هذه الحركة القومية مداً وجزراً، وأن تضعف حُمياها أو تشتد تبعاً للظروف، فإن الوجود القومي باقِ حيٌّ، ينبغي أن نعود إليه دوماً لتصحيح أي هزال قد يصيب مسيرة الحركة القومية ولمقاومة أي خطر يهددها، ولا سيما الخطر الصهيوني الإمبريالي. وبتعبير أدق إن علينا في نضالنا العربي القومي أن نجمع بين الانفعال (الذي يغذينا به الوجود الحي للمشاعر القومية بكل ما تشتمل عليه من مقومات تاريخية وتراثية وثقافية ومستقبلية) وبين الديالكتيك الفكري (الذي ينبغي أن تقدمه لنا النظرية العربية المتكاملة العقلانية، بكل ما ينبغي أن تمتلكه من وعي لشتى الظروف المحيطة بالأمة العربية وللوسائل التي تمكنها من التحرك وسط هذه الظروف).
خاتمة:
1- كان بودنا، لولا ضيق المجال، أن نتحدث عن جوانب أخرى للحركة الصهيونية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموقفها من القومية العربية والوحدة العربية. وعلى رأس تلك الجوانب الأخرى الأهداف الاقتصادية لإنشاء الكيان الإسرائيلي الطامع في التوسع دوماً وأبداً، والارتباط الوثيق بين تلك الأهداف وبين محاربة القومية العربية وتمزيق الوجود العربي وتفتيته، من أجل التمكين لإسرائي كقاعدة أساسية للرأسمال اليهودي والإمبريالي في الدول العربية ودول إفريقيا وآسيا. على أن هذا الهدف وسواه من الأهداف التي لم نأت على ذكرها صراحة وعلى نحو مفصّل، متضمنةً بالضرورة فيما أثبتناه من معالم للسياسة الصهيونية والإسرائيلية (كالسياسة التوسعية والسياسة العنصرية وسياسة التفتيت وسواها) رائدُها التفرد بالمنطقة عسكرياً واقتصادياً وحضارياً وإقامة «مخفر أمامي للإمبريالية والصهيونية في الشرق الأوسط» يقدم لها الخدمات العسكرية والسياسية والاقتصادية المنشودة. ولا حاجة إلى القول إن التآمر على الوجود العربي الموحد وعلى القومية العربية هو من شروط تحقيق الهدف الاقتصادي للصهيونية والإمبريالية، كما أن قيام الحلف الاقتصادي الصهيوني الإمبريالي وتغذيته كانا ولا يزالان من أهم وسائل التآمر على القومية العربية والوجود العربي.
2- وبعد، لعلنا ندرك من دارستنا هذه كيف أن العرب – والعالم كله – يجدون أنفسهم على مشارف القرن الحادي والعشرين، أمام حركة صهيونية إمبريالية عنصرية، تفوق في عنصريتها و«شوفينيتها» وبربريتها كل ما عرفه التاريخ القديم والحديث من حركات عنصرية توسعية استعلائية تعمل على توكيد ذاتها عن طريق إبادة سواها. إن من الوصمة حقاً في جبين الإنسانية أن تظهر في القرن العشرين وتستمر حتى نهاياته حركةٌ عنصرية استيطانية من هذا الطراز، تقول بتفوق أبنائها على سواهم من البشر، وتحقر الشعوب غير اليهودية وتؤمن بدونيتها، وتقول بنقاء العنصر البشري اليهودي، وتدعو إلى طرد العرب، ولا ترى حلاً لحدودها الآمنة إلا ابتلاع أراض جديدة لهم.
وطبيعي أن يكون العد الأول لمثل هذه الحركة القومية العنصرية العادية المستعلية هو القومية العربية وما تحمله من معاني النضال من أجل بناء الكيان العربي الحضاري المتكامل والموحد والمنيع، وأن يكون الهدف الأول لإستراتيجيتها منذ أن وجدت حتى اليوم إضعاف الوجود العربي، وبث الفرقة بين أبنائه، وزرع بذور الشقاق الطائفي والعرقي بين المنتسبين إليه، وبذل قصارى الجهد من أجل تفتيته وتمزيقه وتغيير بنيته وتوليد كيانات جديدة فيه.
ومن أجل هذا الهدف الأكبر تعبئ الحركة الصهيونية الإسرائيلية القوى الاستعمارية والإمبريالية، وتلعب بالورقة الطائفية والعرقية في الأقطار العربية المختلفة، وتبث الأفكار المزيفة التي تضعف الإيمان بالقومية العربية لدى أبنائها، وتسخّر السياسة والاقتصاد والمال والحرب. إنها مضطرة – بحكم قانون وجودها المصطنع – إلى تبرير وجودها الزائف عن طريق الإمعان في التزييف وعن طريق الإصرار على الباطل وتزيينه للعالم.
3- ولا سبيل إلى مغالبة هذا التآمر الصهيوني الإمبريالي على الأمة العربية إلا عن طريق وعي الحركة القومية العربية لهذه الأهداف الإسرائيلية وعياً دقيقاً وعميقاً، رائده والخيط الناظم له أن تدرك هذه الحركة أعمق الإدراك أن العمل الجاد العنيد من أجل بناء الوجود القومي العربي الحضاري المتكامل هو وحده الذي يستطيع أن يقف في وجه هذه الحركة القومية الصهيونية المزيفة، وأن كل هزيمة عسكرية تصاب بها الأمة العربية عن طريق الآلة العسكرية الصهيونية الإمبريالية، تظل هزيمة محمّلة بوعود تجاوُزِها في المستقبل وقلبها إلى انتصارات أكيدة، إذا ظل الوجود العربي مؤمناً بذاته ووحدته ومصيره المشترك، مدركاً لضخامة إمكاناته إنما تُحكم تعبئتُها ويُحكم توظيفها واستثمارها، موقناً أن الخيار أمامه بين العمل لبناء الكيان العربي الصامد المتين الزائد عن حقه بكل قواه، وبين قبول الأمر الواقع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، هو في حقيقته خيار بين الحياة وبين السبات الذليل الخانع بل الموت الطويل المدى.
4- ولقد رأينا عبر سطور هذه الدراسة أن الأهداف الصهيونية الإسرائيلية الإمبريالية أهداف كانت، ولا تزال، أهدافاً بيّنة واضحة: إقامة مملكة إسرائيل القديمة المزعومة – بناء المجتمع الإسرائيلي العنصري الاستيطاني – بناء القومية اليهودية المتعالية المستعدية – محاربة القومية العربي. ورأينا كذلك أن الترجمة العملية لتلك الأهداف ترجمةٌ واضحة صريحة من خلال القول والعمل: السياسة التوسعية – سياسة الأحلاف مع دول الحزام المحيطة بالسوار العربي – التحالف مع الإمبريالية وحلف الأطلسي – القول «بالحدود الآمنة» والتوسع في محتواها بغير حد – تفتيت الوجود العربي ولا سيما عن طريق تفجير الصراعات الطائفية الدينية والعرقية بين أبنائه – إعادة تركيب بنية الوطن العربي عن طريق تمزيقه إلى كياناتٍ طائفية وعرقية وإقليمية – إضعاف الروح القومية العربية عن طريق زرع الشكوك والدساس حول فكرة القومية العربية.
هذه الأهداف وهذه الترجمة العملية لها، لا تزال تفتقر إلى أهداف عربية واضحة تقابلها وتغالبها، ولا تزال تعوزها الخطط العربية العملية المشتركة التي تترجم مثل تلك الأهداف إلى عمل منهجي موصول. ولئن كانت الغلبة مكتوبة في النهاية للوجود العربي، بحكم التباين الصارخ بين إمكاناته وإمكانات الوجود الإسرائيلي الدخيل، وبحكم وعيه عاجلاً أو آجلاً لمستلزمات بنائه ووجوده، فإن التعجيل في بلوغ هذه النهاية هو الواجب الملقى على الجيل العربي الحالي، كيما يجنّب الجيل المقبل مآسي الذل والخنوع الطويل وبلاء البربرية والوحشية التي لا تعرف الحدود.
إن علينا، بعد أن نعي أبعاد موقف الصهيونية وإسرائيل من القومية العربية، أن نرسم، بعمق ودأب، وبالتعاون مع القوى الإسرائيلية الخيّرة، موقف القومية العربية – المدافعة عن الإنسانية وقيمها حين تدافع عن ذاتها – من الحركة الصهيونية المفتعلة العدوانية الشرسة التي تحاول أن تحطم صخرة مطامعها عالم القيم الإنسانية.