تطوير التربية العربية لمواجهة الصراع العربي الإسرائيلي: فلسفة التربية والتحدي الإسرائيلي

مجلة المستقبل العربي – العدد ٨٥ – آذار/مارس ١٩٨٦

تطوير التربية العربية لمواجهة الصراع العربي الإسرائيلي
فلسفة التربية والتحدي الإسرائيلي(1)

مدخل
الموضوعة الثاوية وراء هذا البحث هي أن الرد على التحدي الصهيوني لا بد أن يكون رداً حضارياً أولاً وقبل كل شيء. غير أن هذا الرد الحضاري لا بد أن يكون عربي الوجه واليد واللسان وأن يحمل بالتالي سمات حضارية عربية متميزة نبنيها عن طريق التربية وسواها.
من هنا تأتي أهمية بناء مشروع عربي متميّز، قويّ بأصالته وعالميته وإشعاعه الإنساني، أصيل بكبريائه الذاتية وعزته وقوته.
ووضع مثل هذا المشروع الحضاري مطلب لا بد أن نجند له جوانب الحياة العربية جميعها، من اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وسواها – غير أن التربية فيه لا بد أن يكون لها دور الريادة والقيادة، وأن يكن هذا الدور متكاملاً مع سائر الأدوار، متعانقاً معها.
ودور التربية في هذا متسع الأبعاد متعدد الأوجه، تلفّه كلّه الفلسفة التربوية المتكاملة مع المشروع الحضاري العربي المتميّز الذي أشرنا إليه، تنبثق عنه وينبثق عنها وتغذيه ويغذّيها.
وبقول موجز أمام التفوق العلمي والتكنولوجي الذي يملكه الغرب، ويمنحه إسرائيل، وأمام الحضارة سبيل إلا الإغراق في مكاسب هذه الحضارة وامتصاصها والتسلح بها من أجل الدفاع عن عالم مهزوم. تهزمه قوى الجشع والعدوان، ومن أجل بناء نموذج حضاري عربي أصيل، تغتني أصالته بحداثته وتخصب، وتكتسب حداثته بفضل أصالته معاني الرسالة الإنسانية الجديرة بأن تلتف حولها قوى الخير في العالم، متحدية قوى الردة والشر. وللتربية في بناء هذا النموذج المنشود دورٌ لا بد أن نتبيّنه وهو كما قلنا ونقول دور متكامل مع سائر صويحباته من جوانب الحياة العربية الأخرى.
كيف يتأتى للتربية أن تضطلع بهذا الدور، وما هي معالم الفلسفة التربوية العربية القمينة به، تلك هي المسألة. فلنمضِ إلى تحليلها وحلّها ما وسعنا ذلك.
(أولاً) منطلقات أساسية:
وقبل أن نمضي إلى صلب هذه المهمة، لزام علينا أن نوضح بإيجاز أهم المنطلقات التي ننطلق منها في معالجة هذه المسألة المعقدة.
1- المنطلق الأول أشرنا إليه عابرين في مدخل هذا البحث، ونعني به أن التربية جزء من كل، ونظام فرعي من نظام كلي شامل، وأنها بالتالي لا تقوى وحدها على الاضطلاع بهذه المهمة الكبرى، مهمة بناء فلسفة تربوية عربية قادرة على مواجهة التحدي الإسرائيلي. بل إن قولنا بريادة التربية وقيادتها في هذا المجال قول لا يجوز أن يفهم على إطلاقه. فقد زال الوقت الذي كان القوم يحسبون فيه أن السبيل إلى تغيير نظام المجتمع كله هي سبيل التربية. وقد غدونا اليوم بعيدين عن الأحلام الطوباوية التي قال بها مثل «روسو» و«بستالوتزي» قديماً والتي ذهب إليها كثير من المحدثين في أوائل هذا القرن وأواسطه، بل التي يؤيدها بعض المربين اليوم (ولا سيما من أصحاب المدرسة المؤسسية) من أمثال «لوبرو Lobrot» و«روجرز Rogers» وسواهما، وجوهرها أن صياغة المجتمع تتم عن طريق صياغة التربية وأن للتربية قدرة ذاتية على أن تحدث انقطاعاً عن مجتمع فاسد وأن تعيد تجديد مؤسساته وهيئاته. بل نحن نجد اليوم من يغلو في الاتجاه المعاكس، فيرى أن التربية لا تعدو أن تكون إفرازا للنظام الاجتماعي حفاظاً على مصالح أولي الأمر فيه (وتلك هي أطروحة مربين محدثين من أمثال «بورديو Bourdieu» و«باسرون Passeron» و«بودلو Bodelot» و«استابليه(2) Establet») ولئن كنا لا نذهب هذا المذهب الأخير المتطرف، مذهب من قال إن التربية عاجزة عن أن تجدّد نفسها بنفسها بل أن تجدّد المجتمع من حولها، فإننا ندرك حدود التربية ونقول بتكامل دورها مع سائر الأدوار في عملية التقدم الشامل. وهذا يعني بوجه خاص، فيما يتصل ببحثنا، أن الفلسفة التربوية العربية المنشودة لا بدّ أن توضع في إطار بحث عن فلسفة اجتماعية عربية شاملة، تشترك فيه التربية مع سواها من مقوّمات النظام الاجتماعي الأكبر.
وبقول موجز، في بحثنا عن دور التربية ودور فلسفتها في مواجهة التحدي الإسرائيلي، لا يجوز أن نحمّل التربية أكثر مما تحتمل، وأن نتيه في وهم لذّ يخيل إلينا أن في وسعنا أن نرسم فلسفة تربوية في معزل عن رسم فلسفة اجتماعية شاملة أو أن في وسع التربية أن تسدّ العجز والقصور القائم في جوانب الحياة العربية الأخرى وأن نغيّر صفحة البلاد وسحنة العباد بضرب من العصا السحرية.
2- وكما أننا ننطلق من القول بأن التربية نظام فرعي كلي شامل، فإننا لا ننسى منطلقاً آخر يصدر عنه، وهو أن التربية بوصفها نظاماً فرعياً، كيان له مقوماته الكثيرة، وأن تطويرها بالتالي لابد أن يكون عملاً متكاملاً داخل النظام التربوي نفسه. ومن مكرور القول أن نذكر أن مقومات التربية ومكوّناتها، بنيةً وإدارة ومحتوى، عناصر متآخذة لا يصلح أحدها إلا بصلاح أترابه، وأن الخطة التربوية الشاملة هي وحدها القادرة على رسم ما ينبغي أن يكون عليه أي جانب من جوانب التربية وعلى بيان شكل إسهامه ومدى إسهامه في الهدف الكلي الشامل عن طريق التعاون مع أقرانه. ووراء الخطة التربوية الشاملة، بل في قلبها وصلبها، لا بدّ أن تكمن الفلسفة التربوية المنشودة التي تنطلق منها غايات التربية الكبرى (Aims) وأهدافها (Objectives) بعد ذلك ثم مراميها المحددة (Targets).
3- ومن هنا تحتل الفلسفة التربوية مكان الصدارة في أي تطوير تربوي وبدونها يظل أي إصلاح تربوي ضالاً يفتقد ما يقود مسيرته، وتنقلب الخطة التربوي عملاً حسابياً وتنبؤات آلية وإسقاطات كمية، لا تهديها أهداف معبّرة حقاً عن صبوات المجتمع وتطلعاته، ويظل النظام التربوي في جملته بالتالي يخبط خبط عشواء، يجهد ويجهد دون أن يعرف ما هو المسير وإلى أين المصير. ذلك أن السؤال الأكبر الذي ينبغي أن يسأل، والذي تفتقد أي خطة تربوية معناها بدونه، هو السؤال السهل الممتنع:
أي إنسان نود أن نكوّن عن طريق التربية؟ ما هو النتاج النهائي، في شتى ملامحه وصفاته، لذلك المصنع الكبير، مصنع التربية، وما هو حصاد كل ما نصنع وندخل في النظام التربوي من مال وخبرة ورجال، ومن هو ذلك المخلوق الذي حاولنا صنعه؟ إلامَ نود أن نحيل تلك العجينة الطرية (الطفل) التي أوكل إلينا أمر تشكيلها تشكيلاً يلي حاجاتها وحاجات المجتمع؟
ولا حاجة إلى القول إن معظم النظم التربوية في العالم وفي الأقطار العربية ما تزال تهرب من هذا السؤال الأساسي، وما تزال تعمل وهي غير عالمة بحصاد عملها. غير أنها شاءت أم أبت تصطدم في كل يوم بنتائج هذا الإهمال للفلسفة التربوية المنشودة، وذلك حين تلمس لمس اليد، عند معالجة المشكلات الجزئية التي تطرحها التربية كل يوم، أن علاج تلك المشكلات، إن صدق، لا بدّ أن يقودنا دوماً وأبداً إلى التساؤل عن غايات التربية، كيما تضيء لنا ما نخفّ له من إصلاحات جزئية لا تجدي إلا إذا ارتبطت بنظرة كلية شاملة.
4- وما دمنا في مجال التكامل، التكامل بين نظام التربية ونظام المجتمع الشامل، والتكامل داخل نظام التربية بين مقوماتها المختلفة، وتكمل التكامل عن طريق فلسفة تربوية ينحدر منها كل شيء، لزام علينا ألا ننسى جانباً آخر هاماً من جوانب التكامل، لعله مفصلها وعصبها الأساسي ما دمنا نتحدث عن دور التربية في مواجهة التحدي الإسرائيلي. ونعني به أن تطوير التربية العربية من أجل هذا الهدف ومن أجل سواه عمل عربي متكامل، لا بدّ فيه من اجتماع القدرات العربية المختلفة، ولا تفلح فيه جهود كل بلد عربي منفردة. ولا حاجة إلى القول إن هذا العمل العربي المتكامل ليس لازماً في ميدان التربية وحدها بل هو قدر سائر ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية وسواها. وسنرى تفصيل هذه المسألة الهامة فيما بعد. وحسبنا ههنا أن نؤكد منذ البداية أن أهم منطلقاتنا في هذا البحث أن التكامل العربي في ميدان التربية وفي سواه – هو الشرط اللازب (sine qua non) لتطوير التربية ولتطوير الوجود العربي كله – تطويراً قادراً على الصمود في وجه التحدي الإسرائيلي. بل لا نسرف إن قلنا أن هذا التكامل العربي هو الشرط اللازم والكافي لمواجهة هذا التحدي.
على أن التكامل العربي – في ميدان التربية وفي سواه – لا يتحقق إلا في مراحل المدّ القومي، حيث يغمر القوم إيمان عميق بوحدة أمتهم وبوحدة مصيرهم وبقدرتهم على بناء حضارة عربية مشتركة، شامخة شموخ ماضيها وإمكاناتها الحاضرة وتطلعاتها المستقبلية. ومن هنا نرتدّ مرة أخرى إلى دور الفلسفة التربوية المرجوة، فمثل هذه الفلسفة هي التي تمهّد السبيل لمثل هذا الإيمان القومي العارم وتبنيه بناء علمياً ونفسياً متيناً لا تزعزه العواصف.
5- هذا المنطلق الرابع الهام ينقلنا تواً إلى منطلق خامس، لعله القلب والجوهر، وهو الانطلاق من إدراك واعٍ عميق لغرض الأغراض وهدف الأهداف الذي يحرك الوجود الإسرائيلي منذ نشأته حتى اليوم، وهو تحطيم هذا الشعور الأصيل بوحدة الوجود العربي، وكسر الطوق الذي يضربه التضامن العربي حول إسرائيل، عن طريق السعي إلى تفتيت الوجود العربي وقلبه دولاً مصطرعة وطوائف محتربة وقوميات متنازعة، وعن طريق تحريض سائر الأمراض السرطانية التي تولد في الجسم الآسن العاجز، حين تهجره حميّا الإيمان بوحدة المصير ووحدة العمل والنضال.
ومن أراد مزيداً من التدليل على هذه الحقيقة البدهية، نحيله إلى المقال الذي كتبه الصحفي الإسرائيلي «أوديد يينون Oded Yenon» الموظف في وزارة الخارجية الإسرائيلية سابقاً، وعنوانه «استراتيجية إسرائيل خلال الثمانينات» وقد نشرته مجلة الدراسات الفلسطينية الصادرة باللغة الفرنسية في عددها الخامس، خريف 1982 (ص 74-85)(3). وفيه يشرح الكاتب أهداف السياسة الصهيونية للحكومة الإسرائيلية آنذاك والتي يمثلها خاصة «شارون» و«إيتان». وهي أهداف خلاصتها قسمة المنطقة إلى دويلات صغيرة، وتفتيت الدول العربية جميعها، عن طريق اللجوء إلى إذكاء الصراعات التي تنجم عما فيها في زعمه من «موزاييك» قومي وطائفي، وعن طريق إثارة الاصطراع بين الدول العربية التي قسمت قسمة اعتباطية إلى تسع عشرة دولة، فيها جميعها جماعات عرقية وبشرية وأقليات متباينة. وفيه يذكر فيما يذكر أن من أهداف تلك السياسة تفكيك لبنان إلى مقاطعات خمس، وتفتيت سورية والعراق إلى مقاطعات متجانسة بشرياً وعرقياً ودينياً، وقسمة سورية إلى دويلات. وهكذا فيما يتصل بسائر الدول العربية. وهكذا أمام مثل هذا الخطر الداهم، تستبين أهمية التربية والفلسفة التربوية ويستبين واحداً من ملامحها الأساسية وهو التأكيد على أهمية التحام الوجود العربي. وههنا للتربية دورٌ يفوق سواها من جوانب الحياة العربية الأخرى. إنه دور رائد حقاً يكفي وحده لأن يبرر ما للتربية من شأن في معركة المصير الكبرى.
تلك هي أهم المنطلقات التي نضعها نصب عينينا ونحن نمضي في هذا البحث. وقصدنا حين نؤكد هذه المنطلقات منذ البداية أن نبيّن وعود التربية وحدودها في الوقت نفسه فيما يتصل بمواجهة التحدي الإسرائيلي، وأن نتبيّن بوجه خاص المنهج الذي نصطنعه في معالجتنا لهذا الموضوع. فنحن نرى التربية جزءاً من كل، ونرى فلسفتها بالتالي جزءاً من فلسفة اجتماعية شاملة، ونرى أن صلب هذه الفلسفة الاجتماعية الشاملة تكامل العمل العربي في ميدان التربية وسواه، وتكامل الوجود العربي وضرورة التحامه أمام تحديات التمزيق والتفتيت. وعلينا بعد هذا كله أن نمضي إلى الحديث عن معالم تلك الفلسفة التربوية العربية المنشودة. ومن أجل هذا لا بد أولاً من نظرة إلى الواقع العربي، واقع التربية وسواها، بحثاً عما يومئ إليه هذا الواقع من حاجات هي التي تحدد في النهاية الفلسفة التربوية المنشودة وقسمات التطوير التربوي المرجو. فتحديد الحاجات هو المنطلق دوماً في بناء الأهداف، وتحديد الحاجات يتم بدوره من خلال تقري الواقع وتحليله واستنطاقه.
(ثانياً) نظرة خاطفة إلى الواقع العربي والمستقبل العربي في ميادينه المختلفة
الحديث عن الواقع العربي في ميادينه المختلفة يلتهم الأسفار والمجلدات. وحسبنا في إطار هذا البحث أن نشير إشارات تلغرافية إلى أهم ملامحه متخيّرين ما يسعفنا في بناء تصورنا للفلسفة التربوية العربية المنشودة:
1- لا حاجة إلى القول إن تقدم الوطن العربي في جملته ما يزال مقصراً جداً عن إمكاناته. حسبنا بعض الإشارات العابرة:
– الناتج الداخلي الإجمالي للوطن العربي كله بقضه وقضيضه ونفطه وغازه، يمثل حوالي 29% من الناتج الإجمالي لليابان، و9% من ناتج الولايات المتحدة، و11% من ناتج بلدان السوق الأوروبية المشتركة.
– متوسط الدخل الفردي في البلاد العربية يتراوح بين 110 دولارات في العام (الصومال) و15480 في العام (الكويت).
– الزراعة في البلدان العربية، وفيها يعمل أكثر من 60 % من سكانها، تعاني من مشكلات ثلاث أساسية: المعوّقات الطبيعية (ندرة الأراضي القابلة للزراعة، نقص الري، المعوقات البشرية)، والإنتاجية الضعيفة (لغلبة الوسائل التقليدية في الزراعة وتربية الماشية وسواها)، وضعف معدل النمو الزراعي (بين 2% إلى 4% في العام). ومن هنا نجد أن إسهام القطاع الزراعي في الناتج الداخلي الخام إسهام ضعيف جداً (بين 5% إلى 12%).
وفي مقابل ذلك نجد أن الحاجات الغذائية للبلدان العربية تتزايد تزايداً سريعاً. وقد يبلغ الطلب الإجمالي من الحبوب مائة مليون طن عام 2000 تضطر البلاد العربية أن تستورد منها قرابة نصفها.
تجاه هذا الواقع الزراعي السيئ نجد أن إمكانات نمو الإنتاج الزراعي في الوطن العربي كبيرة، وأن في وسعه تحقيق الاكتفاء الذاتي في المنتجات الغذائية، شريطة أن يتم هذا في إطار التعاون والتكامل العربي. فتحقيق هذا الاكتفاء مطلب يستحيل تحقيقه على مستوى كل بلد عربي على حدة، ولا سيما على مستوى البلدان الصغيرة.
وفي ميدان النمو الصناعي حدث نمو نسبي في الصناعات الاستهلاكية والصناعة الثقيلة والصناعة الاستراتيجية وصناعة البناء، غير أن ضيق الأسواق المحلية في كل بلد عربي على حدة وصعوبة الوصول إلى سوق عربية مشتركة ولّدا قصوراً في إنتاج عدد كبير من الصناعات الحديثة وحالا بينها وبين أن تعطي كامل مداها.
يضاف إلى هذا أن نقص التنوع في الصناعات أدى إلى فائض في إنتاج بعض المنتجات يتجاوز الحاجة المحلية بل والإقليمية. كما أدى ضعف تنظيم التسويق والتوزيع داخل المنطقة العربية إلى عرقلة نمو بيع المنتجات الصناعية العربية (الأسمدة الكيمياوية أبرز مثال على ذلك: 80% من النتاج العربي يبحث عن أسواق بينما تستورد السوق العربية نفسها 80% من حاجاتها من خارج البلدان العربية). وجملة القول إن الصناعة العربية تملك مقومات النمو والتطور إذا تم التوصل إلى حلّ مشكلة العلاقات الصناعية بين البلدان العربية، وتوافر التكامل العربي في هذا المجال. فهنالك الموارد المالية الوفيرة، وهنالك عدد السكان المتزايد، وهنالك السوق الاستهلاكية التي يتزايد عددها وتتزايد طاقتها الشرائية، وهنالك الكفاءات البشرية. والأمر كله رهن القيام بتصنيع متسق متكامل على النطاق العربي يفسح المجال واسعاً لحسن استخدام الثروات الطبيعية والبشرية.
إذن، المشكلة التي تواجه التنمية في الوطن العربي هي الآتية: عدد السكان سوف يتضاعف قبل نهاية هذا القرن (268 مليون نسمة). والموارد المتوافرة، سوى أنها غير مستغلة استغلالاً رشيداً كما ان توزعها بين البلدان العربية توزع متباين، وثلاثة أرباع الدخل القومي للمنطقة مركّز في بلدان لا يتجاوز عدد سكانها ثلث مجموع السكان في الوطن العربي وتكوّن نصف بلدان المنطقة تقريباً.
2- النظام التربوي في البلدان العربية ما يزال أيضاً مقصراً من مداه كماً وكيفاً وهذا أمر طبيعي ما دامت التربية – كما سبق أن قلنا – جزءاً من كل:
– فالتقدم الكمي في نظام التربية، رغم ما عرفه من خطى سريعة أحياناً، ما تزال أمامه أشواط كبيرة عليه أن يقطعها. تشهد على ذلك المعدلات الإجمالية (غير الصافية) للمسجلين في مراحل التعليم المختلفة: فهي في التعليم الابتدائي لا تجاوز 82% من فئة العمر المقابلة، وفي التعليم الثانوي لا تعدو 38% وفي التعليم العالي لا تربو على 9% أما الأمية فما تزال نسبتها إلى مجموع السكان قرابة 60%. ومعنى هذا أنه إذا استمرت الاتجاهات الحالية والماضية على ما هي عليه، فإن المنطقة العربية سوف تعجز عن تعميم التعليم الابتدائي في نهاية هذا القرن، وسيظل خارج التعليم الابتدائي قرابة 8 ملايين طفل، وخارج التعليم الثانوي قرابة 16 مليون طفل. ونحن في هذا كله نغضّ الطرف عن مرحلة رياض الأطفال على أهميتها، كما لا نتحدث عن أشكال التعليم غير النظامي، وهي في البلدان العربية ضامرة منسيّّة رغم تزايد أهميتها في التربية العالمية اليوم.
– على أن ضعف التقدم النوعي في التربية في الوطن العربي أدهى وأمرّ. والحديث عن نقائص هذا التطور يستغرق الصفحات الطوال،(4) ولا تتسع له هذه النظرة الخاطفة. وحسبنا أن نقول، في إطار أغراض بحثنا، إن التربية في البلاد العربية ما تزال تشكو، في محتواها وبناها، من آفتين كبيرتين: أولهما ضعف ارتباط النظام التربوي كماً ومحتوى بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة. وثانيهما عدم وضوح الفلسفة التربوية التي تثوي وراء هذا النظام وضعف ارتباطها بالفلسفة الاجتماعية العامة.
– وعلى الرغم من هذا التباطؤ في التقدم الكمي ومن هذا القصور في التطور النوعي، تعجز معظم البلدان العربية عن تمويل هذه الجهود التربوية المحدودة وعن توفير حتى ما يحتاج إليه من أبنية ومعلمين. فلقد قارب ما ينفق على التعليم في معظم البلدان العربية 20% من ميزانية الدولة العامة، كما كاد يتحلق حول 6% من الدخل القومي، دون أن يؤدي هذا البذل السخيّ في ميدان التربية إلى الوفاء بالحد الأدنى من الحاجات التربوية المطلوبة: فلا التعليم الابتدائي شاع وذاع (بل هو في بعض البلدان العربية لا يضم أكثر من 20% من فئة العمر المقابلة) ولا داء الأمية أخذ بالزوال، ولا التعليم الثانوي وسّع أبوابها، ولا التعليم العالي فتح ذراعيه للراغبين في ارتياده. فما عسى أن يكون عليه الإنفاق لو اتسعت هذه الأبواب جميعها ولو انضاف إليها ما يستلزمه انتشار رياض الأطفال وأشكال التعليم غير النظامي وتعليم المعوقين، ولو شمل التعليم عدداً أكبر من الإناث ومن أبناء الريف، ولو اتسع التعليم المهني والتقني (ونفقاته تكاد تمثل أربعة أضعاف نفقات التعليم العام)، ولو حسنت الإدارة المدرسية وصلح حال المعلمين واستقام أمر الأبنية المدرسية والتجهيزات المدرسية الخ… إن بعض الدول العربية لن تستطيع آنذاك أن تسد حاجات التعليم حتى منتصف القرن الحادي والعشرين. بل إن بعضها لن يقوى في عصر الفضاء والإلكترون، حتى على تعميم التعليم والابتدائي قبيل العقد الثاني أو الثالث من القرن الآتي!
– وبقول موجز ما تزال الإمكانات المالية والبشرية في معظم البلدان العربية مقصّرة عن أن تلبي حاجات التعليم الأساسية، بل حاجات تجويده وتجديده والارتقاء به. ومع ذلك فثمة بلدان عربية غنية بإمكاناتها البشرية وبالمؤهلات الفنية والعلمية التي تحملها، وإن تكن غالباً فقيرة بمواردها الطبيعية والمالية، وإن ثمة بلداناً عربية غنية بمواردها الطبيعية والمالية وإن تكن غالباً فقيرة بمواردها البشرية وإمكاناتها العلمية والفنية. وهذا الواقع وحده على نحو ما حللناه يومئ بالحل ويشير إلى الدرب: لا بد أن تتكامل جهود البلدان العربية كلها إذا رجونا للتربية انتشاراً وصلاحاً في الوطن العربي، ولا بد بوجه خاص أن تتكامل جهود الطائفة الأولى من البلدان العربية (الغنية بالموارد البشرية والفقيرة بالموارد الطبيعية والمالية) مع جهود الطائفة الثانية، بحيث تنبجس من ذلك اللقاء وعود التطور التربوي المنشود.
3- الواقع العربي، في شتى ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وفي ميدان التربية كذلك، يشير إذن إلى حقيقة أولى أساسية نستخلصها من تحليله وهي أن التحدي الأساسي أمام المنطقة العربية هو تحدي التعاون والتكامل. والسؤال الأكبر الذي ينبغي أن يطرح: كيف يمكن دمج الموارد المتكاملة بين البلدان العربية من أجل توليد تنمية سريعة ومن أجل تحقيق النمو الذاتي المستقل إلى حد بعيد.
إن من الأهداف الواقعية أن تتم بين عام 1976 وعام 2000 مضاعفة الدخل الفردي بحيث ينتقل من 1100 دولار عام 1976 إلى 2200 دولار عام 2000. ويعني هذا أن ينتقل الناتج الداخلي الإجمالي للمنطقة من 161 مليار دولار عام 1976 إلى 590 مليار دولار في نهاية القرن. فإذا قدّرنا – كما تدل بعض الإسقاطات – أن الموارد البترولية سوف تبلغ إذ ذاك 300 مليار دولار، فإن هذا يعني أن الموارد غير البترولية ينبغي أن ترتفع من 84 مليار دولار إلى 290 مليار عند نهاية القرن، أي أن يكون معدل نموها السنوي 5.5% تقريباً. غير أننا إذا أخذنا بعين الاعتبار انخفاض المنتجات البترولية فيما وراء عام 2000، فإن من اللازم عند ذاك أن يتجاوز معدل نمو الموارد غير البترولية الرقم الذي ذكرناه وأن يرتفع إلى 8.5% سنوياً. ومعنى هذا أن يرتفع الدخل القومي غير البترولي إلى 590 مليار دولار عام 2000 (دوماً بأسعار الدولار عام 1976) وأن يرتفع الدخل القومي الإجمالي في البلاد العربية كلها إلى 890 مليار دولار عام 2000، وأن يكون المعدل المتوسط للنمو في جملته 7.4% في السنة. ومثل هذا المطلب شاق وعسير، ولكنه غير متعذر إذا عبئت له الجهود، وأولها كما قلنا ونقول تحقيق تكامل عربي أوسع وبوجه خاص توفير الشروط اللازمة لخلق كتلة اقتصادية عربية فعالة.
(ثالثاً) الفلسفة التربوية العربية والمشروع الحضاري العربي:
الدرس الأكبر المستفاد من تحليل الواقع العربي واستقراء حاجاته هو إذن، كما رأينا، حتمية السير نحو تكامل بين البلدان العربية وتكوين كيان عضوي عربي تتآخذ أجزاؤه وتلتحم. وهذا السير نحو التكامل هو سبيل الأمة العربية إلى بناء كيانها الحضاري المنشود وبالتالي إلى مواجهة التحديات التي تحيط بها، وعلى رأسها التحدي الصهيوني.
غير أن العمل لهذا التكامل، وإن أيدته الحجج العلمية وأكّدته الحاجات الاقتصادية، كما سبق أن رأينا بإيجاز، لا يكفي فيه الاقتناع العقلي الاقتصادي المحض، بل لا بد أن يصدر عن إيمان عميق راسخ بوحدة الوجود العربي ووحدة المصير العربي، يستمد قوته من مشاعر الناس ومواقفهم واتجاهاتهم(5).
وتكوين مثل هذه المشاعر والمواقف والاتجاهات هو شأن التربية بوجه خاص، وشأن الفلسفة التربوية الثاوية وراءها بالتالي. من هنا، فنحن في حديثنا عن الفلسفة التربوية العربية المنشودة، لن نشير إلى تفصيلات ما يمكن أن تتضمنه هذه الفلسفة التربوية، فهي كثيرة، بل نود أن نكتفي بالهدف الجامع لسائر أهداف هذه الفلسفة، نعني هدف الإسهام في بناء حضارة عربية ذاتية. لا سيما أننا نتحدث هنا عن الفلسفة التربوية في إطار قصد محدد واضح، هو مواجهة التحدي الصهيوني، وهو تحد ذكرنا منذ مطلع هذا الحديث أن سبيل مواجهته هو الرد الحضاري وبناء مشروع حضاري عربي متميز.
وهكذا يرتد بحثنا في الفلسفة التربوية المنشودة لهذا القصد وفي هذا المقام إلى ما يأتي: ما هي معالم الفلسفة التربوية التي من شأنها أن تسهم في بناء مشروع حضاري عربي جديد، وفي إذكاء مشاعر الانتماء لدى الناشئة إلى الكيان العربي الموحد المتكامل؟
ولا نزعم أننا قادرون وحدنا على رسم معالم مثل هذه الفلسفة، فمثل هذا المطلب عمل لا بد أن يكون وليد جهود مشتركة كثيرة تسهم فيها الكثرة الكاثرة من أولى الأمر في الوطن العربي. سوى أننا نكتفي ببعض المعالم على الطريق الطويل:
1- يشير تحليل الواقع الاجتماعي والفكري والنفسي في البلاد العربية إلى أن ثمة مسألة أولى لا بد أن يتم الاتفاق حولها إذا نحن استهدفنا بناء مشروع حضاري عربي مقبول ناجح. ونعني بتلك المسألة الصلة بين ذلك المشروع الحضاري العربي المنشود وبين التراث العربي الإسلامي. ولن نخوض في هذا البحث الشائك الذي أصبح موضوع الكثير من المؤلفات والدراسات والمؤتمرات والندوات في السنوات الأخيرة(6).
وحسبنا أن نقول بإيجاز إن حصاد ما جرى ويجري من جدل ونقاش حول هذه المسألة يمكن أن يجيب عليه في رأينا الانطلاق من المبادئ الآتية(7):
أ) المشروع الحضاري العربي المنشود مشروع جديد نبنيه بناء ولا نكتشفه اكتشافاً. إنه مشروع نبنيه من عناصر أربعة: التراث العربي الإسلامي بعد وعيه وعياً جديداً، والواقع العربي بعد تحليله تحليلاً علمياً، والواقع العالمي في تغيره السريع بعد نقده وتمحيصه، والمستقبل العربي بعد أن نتبين مستلزماته وما يومئ إليه من حاجات.
ب) وعندما نقول بأن المشروع الحضاري الجديد ينبغي أن يبنى من هذه المقومات الأربعة، فلا نعني بذلك أن ترصف هذه المقومات جنباً إلى جنب، وأن تلتقي دون أن تلتحم، بل نعني أن يتم الاندماج العضوي فيما بينها بحيث يخرج من اللقاء بينها مركّب جديد ليس أيّ واحد من مقوماته وعناصره، وإن تكن فيه المقومات والعناصر جميعها، كما أن فيه ما هو زائد عليها ومباين لها نتيجة لما يولده الاندماج والتفاعل دوماً من صفات ومقومات جديدة. إن حصاد هذا اللقاء بين مقومات المشروع الحضاري العربي كما نرجوه ليس مركباً مزجياً ولا هو لقاء الزيت بالماء، وإنما الحصاد مركب جديد كما قلنا ونقول أشبه بالمركب الكيمياوي الجديد الذي يخرج من تفاعل بعض العناصر الكيمياوية.
أو أشبه بخليطة البرونز الصلبة التي تتكون مع ذلك من معادن طرية ليس في أي منها صفات السبيكة الناجمة عن اندماجها.
جـ) التراث العربي الإسلامي الذي يكون أحد أعمدة هذا المشروع الحضاري العربي الجديد لا نجده في النصوص وحدها (ولا سيما القرآن والسنة) بل نجده أيضاً في الواقع التاريخي الذي عاشه العرب عبر العصور والذي ولّدوا خلاله تراثاً موصولاً متجدداً، امتزج في كثير من الأحيان بثقافات أمم أخرى.
د) التراث ليس ظاهرة لا تاريخية: لا تتغير بتغير الأزمان، بل هو، كما جاء في صلبه وكما بيّن كبار فقهائه منذ القديم، متطور متجدد، تحكم تطوره جملة من المبادئ. من مثل مبدأ العلة (الشافعي) ومبدأ القياس ومبدأ الاجتهاد ومبدأ المصالح المرسلة ومبدأ سدّ الذرائع، ومبدأ مصلحة الجماعة (ابن تيميه، ابن قيم الجوزية الخ…).
2- هذا المشروع الحضاري الجديد، كما يمكن أن يتكوّن من خلال جهد ثقافي عربي مشترك تسهم فيه الصفوة من أبناء هذه الأمة، هو منطلق كل شيء في تطوير الحياة العربية، وهو بالتالي جوهر الفلسفة التربوية العربية المنشودة.
ومن العسير أن نشير إلى أهم ما يتفرغ عن هذه القاعدة الفلسفية الكبرى، نعني بناء المشروع الحضاري الجديد، من مبادئ وأهداف، ما دمنا ما نزال في مرحلة الإعداد لبناء ذلك المشروع. ومع ذلك قد لا يكون من استباق الأمور أن نشير إلى جانب من جوانب الفلسفة التربوية العربية التي يمكن أن تصدر عن مثل هذا المشروع الحضاري، ونعني بذلك جانب القيم التي ينبغي أن تؤكدها التربية والفلسفة التربوية، حين تنطلق كما رجونا من التراث ومن الواقع العربي والواقع العالمي والمستقبل العربي.
وفي رأينا أن اللقاح بين معطيات التراث العربي الإسلامي وبين الواقع العالمي بوجه خاص يمكن أن ينتهي بنا إلى منظومة حية من القيم التربوية نجعلها من مقومات فلسفتنا التربوية العربية المرجوة.
وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن تلك المنظومة من القيم التربوية، جديرٌ بنا أن نبيّن أن تخيّرنا لهذا الجانب من الفلسفة التربوية (نعني القيم التربوية) ليس تخيراً اعتباطياً، وذلك للأسباب الآتية:
– في الفلسفة عامة، وفي الفلسفة التربوية خاصة، يحتل موضوع القيم مكان الصدارة.
– عندما نجعل هدفنا إذكاء الشعور والإيمان بالوجود العربي المتكامل الموحد. يغدو التأكيد على القيم الخاصة التي تسم هذا الوجود والتي يتصف بها مشروعه الحضاري مطلباً لازماً.
– ما دمنا نبحث عن الفلسفة التربوية القادرة على مواجهة التحدي الصهيوني ومن ورائه التحدي الغربي الذي يدعم الصهيونية، يصبح البحث عن الملامح الخاصة للمشروع الحضاري العربي الجديد أمراً أساسياً، ويغدو جوهرياً بيان القيم الحضارية الذاتية التي تضعها الأمة العربية في مواجهة القيم العدوانية.
(رابعاً) الفلسفة التربوية والقيم العربية:
لنمض إذن إلى البحث عن أهم معالم القيم العربية الجديرة بأن نجعلها جزءاً من فلسفتنا التربوية، والتي نستخلصها كما قلنا ونقول من التفاعل بين قيم التراث وبين تجربة العصر. وهي بهذا المعنى جديدة وعريقة في آن واحد.
أ) القيمة الأولى هي الإيمان بمجتمع العلم والتكنولوجيا: وهي قيمة تراثية وحديثة معاً. ولا حاجة إلى القول إن السمة المميزة للتراث العربي الإسلامي في هذا المجال، ولا سيما في عصور ازدهاره، هي قدرته على الجمع بين العناية بالعلوم الإنسانية (من دينية وفلسفية وأخلاقية وأدبية وسواها) والعناية بالعلوم التجريبية. والمعجزة العربية، كما شرحها «فانتيجو» في كتابه الذي يحمل هذا العنوان، هي في هجر التفكير الذي يقوم على دوران العقل حول ذاته كما كان الأمر عند اليونان إلى التفكير المبني على الملاحظة والمشاهدة والتجربة. ومن هنا كان العرب رواداً في ميادين العلوم التجريبية والدقيقة كما يقال اليوم، وكانوا أول من أطلق شرارة العلم التجريبي، تلك الشرارة التي ولدت الحضارة الغربية الحديثة بكاملها.
ولا حاجة إلى القول إن تأكيد هذه القيمة التراثية والحديثة معاً يتخذ شأناً خاصاً بعد أن دخل العالم عصر الثورة الصناعية الثانية، وبعد أن غدا على عتبة الموجة الثالثة على حد تعبير «توفلر Toffler» وبعد أن أصبح التقدم في أي مجال أمراً يتم عن طريق العلم وبالعلم بعد أن كان في العقود الماضية يتم «مع العلم» على حد تعبير «رجاء غارودي R. Garaudy» في كتابه عن منعطف الاشتراكية الكبير.
وقد لا يكون من باب الاستطراد أن نذكر في هذا المجال أن توكيد هذه القيمة، قيمة بناء مجتمع العلم والتكنولوجيا في أحدث صوره وفي أقصى ما وصلت إليه التجربة العالمية، يستجيب لواقع اقتصادي واجتماعي وسكاني خطير في البلاد العربية وسائر البلدان النامية: نعني ضآلة نسبة اليد العاملة الفعلية بالقياس إلى مجموع السكان (حوالي 26% من السكان في البلاد العربية، وذلك بسبب فتوة السكان إلى جانب ضعف معدلات العمالة لدى المرأة العاملة). فالثورة العلمية التكنولوجية في أحدث صورها، على نحو ما تتجلى في الأوتوماتية والعمل الذاتي للآلة، تقلل من الحاجة إلى الأيدي العاملة، إذ تحل الآلة محل الإنسان في كثير من الأعمال، وتقود إلى زيادة الإنتاجية عن طريق اللجوء إلى أدوات تكنولوجية أنجع. وبذلك تحرر طاقات بشرية كثيرة من العمل الآلي البعيد عن طبيعة الإنسان، ولعلها بذلك تجعله يفرغ لنشاطات ألصق بإنسانيته، على رأسها البحث العلمي والدراسات السابقة على الإنتاج وتسويق الإنتاج فضلاً عن الدراسات الإنسانية والنشاطات الفنية والفكرية والأدبية الرفيعة.
أما ما يلزم عن هذه القيمة الأساسية من نتائج في النظام التربويّ بنية ومحتوى فأمر نتركه للدراسات المفصلة حول هذا الموضوع.
ب) والقيمة الثانية هي الإيمان بمجتمع العمل والإنتاج: وتلك أيضاً قيمة تراثية وحديثة معاً ولا شك أن التراث العربي، ولا سيما بعد ظهور الإسلام، حاول القضاء على بقايا النظرة القبلية القديمة، النظرة التي تحقر العمل اليدوي وتعد الحرفة احترافاً والمهنة امتهاناً، والتي عبّر عنها الشاعر الفرزدق فيما بعد حين عيَّر جريراً بأنه «القَيْن وابن القَيْن» وحين هجاه قائلاً:
إني بنى لي في المكارم أوّلي ونفخت كيرك في الزمان الأول
وقد أكّد الإسلام أهمية العمل عامة وفضّله حتى على العبادة. بل إن الفقهاء – من أمثال الإمام الشاطبي الأندلسي وسواه – اعتبروا من واجب الكفاية أن يوجد في كل بلد من يسد حاجته من المأكل والمشرب والملبس والصناعات المختلفة.
وقد حققت الحضارة العربية عملياً، في فترة ازدهارها، مبدأ تقديس العمل والإنتاج، حين نمت الصناعات والمهن المختلفة التي أبدعت فيما أبدعت أوابد تلك الحضارة، على نحو ما تم أيام الدولة الأموية والعباسية وعلى نحو ما حدث خاصة في الأندلس حيث تشهد آثاره حتى اليوم بازدهار الصناعات والفنون المختلفة وبما أولته الحضارة العربية من دور كبير لليد الصنَّاع وللفرد العامل المنتج.
ومع ذلك ظلت بقايا النظرة المرذولة إلى العمل اليدوي حية في بعض المواضع والظروف، وازدادت قوة وحدة بعد زوال الدولة العربية وسيطرة عصر الانحطاط، وما زالت تلك النظرة حية حتى اليوم في بعض البلدان وفي بعض الأرياف. ولا حاجة إلى القول إن تأكيد هذه القيمة اليوم، قيمة العمل والإنتاج، مطلب هام من أجل تغيير الواقع العربي وإعادة بنائه. لا سيما أن قيم مجتمع الاستهلاك أخذت تغزو الأقطار العربية من كل صوب، كما تغزو الكثير من بلدان العالم الثالث، بحيث توشك هذه الأقطار أن تصبح مجرد سوق استهلاكية للعالم المتقدم. وتحويل الناشئة من قيم مجتمع الاستهلاك إلى قيم مجتمع الإنتاج والعمل مطلب يحتاج إلى جهود تربوية دائبة منذ نعومة الأظفار، في المدرسة وخارجها، بحيث يألف الشبان العمل اليدوي منذ ميعة الصبا، وبحيث يعتادون أن تتسخ أيديهم وأن يحيوا حياة العمال، بل بحيث يكتشفون ما في «استعمال الأصابع الخمس» من ذكاء وإبداع على حد قول غاندي، ويدركون «العقل الذي في اليد الذي يفوق العقل الذي في الرأس» على حد تعبيره أيضاً.
على أن الحديث عن وسائل غرس هذه القيمة التربوية في المدرسة وخارجها وعن أساليب ربط المدرسة بالعمل ليس من شأننا هنا وله غير هذا المجال. وحسبنا أن نؤكد أهميتها كقيمة تراثية وحديثة، وكمطلب لازم من أجل بناء المجتمع العربي الجديد القادر على مواجهة التحدي الصهيوني. أو لم تكن التعبئة القومية من أجل العمل والإنتاج منطلق جميع النهضات الكبرى التي حدثت في العصر الحديث، في اليابان أو الصين أو الاتحاد السوفياتي وسواها؟ ألم تقم دولة إسرائيل نفسها على سواعد العمال كما قامت على أسنة الحراب وألاعيب السياسة الدولية؟
جـ) والقيمة الثالثة التي ينبغي أن تعنى بها التربية وتؤكدها الفلسفة التربوية، هي الإيمان بالتغير وقبول التغير والتغيير. فالتغير، والتغير السريع الخاطف، سمة عصرنا الحديث، وهو يزداد سرعة ومضيّاً يوماً بعد يوم. وقد حدثنا عنه «توفلر» في كتابه عن صدمة المستقبل حديثاً مذهلاً. وهذا التغير الحثيث الذي يجري في العالم يتطلب من الإنسان أن يمتلك القدرة على فهمه وإدراكه ثم على التكيف معه ثم على السيطرة عليه وقيادته قيادة إنسانية تجعله مسخراً لصالح الإنسان ولأغراض سعادته. وفي البلدان المتقدمة نفسها، يصب التغير جمهور الناس بصدمات نفسية واجتماعية قلقة خطيرة، مما يخلق الحاجة إلى توجيههم وإرشادهم توجيهاً يستجيب لهذا الواقع المتغير الجديد. ومثل هذه الحاجة أقوى وأشد في البلدان النامية التي يغزوها التغير من كل حدب وصوب دون أن تدرك أبعاده، والتي يقطعها التطور السريع بسيفه دون أن تقوى على استيعابه وفهمه ودمجه بواقعها.
والحق، أن القدرة على الحياة في المجتمع الحديث غدت تتطلب أولاً وقبل كل شيء القدرة على استيعاب التغير سريعاً وعلى تشكيل السلوك تشكيلاً جديداً يتفق معه. يصدق هذا على الأفراد والجماعات والدول. وحسبنا، مثالاً على ذلك، أن نذكر فيما يتصل بالتربية، ما يطرأ على المهن وعلى سوق العمالة من تغير سريع، إذ تنقرض مهن وتبزغ مهن جديدة، كما تظهر ميادين للعمالة تكاد تطرد سواها، مثل ميادين الصناعات الإلكترونية والمهن المتصلة بالمعلوماتية Informatique والصناعات المتصلة بالطاقة بأشكالها المختلفة من نفطية إلى نووية، والتقنيات المتصلة بعلوم الفضاء وعلوم البحار وعلوم البيئة وعلم النسل والبيولوجيا وسواها كثير… حسبنا كذلك أن نذكر تلك الحقيقة التي أكدها الاقتصاديون الذين بحثوا عن أسباب تقدم الشعوب، وهي أن أهم عامل من عوامل التقدم لدى أي شعب قدرته على الانتقال السريع، تبعاً للحاجة، من شكل من الإنتاج مضى زمنه وانقضى إلى شكل آخر للإنتاج تمسُّ الحاجة إليه. ويضربون مثالاً على ذلك ما حدث في الدانمارك في نهاية القرن الماضي حين أدى استثمار الأراضي الزراعية في العالم الجديد إلى تهديد الحياة الزراعية في أوروبا وإلى تناقص الطلب العالمي على الحبوب. عند ذلك لجأت الدانمارك، متفردة عن سواها من الدول الأوروبية، إلى تغيير نوع نتاجها جملة وتفصيلاً، فهجرت زراعة الحبوب واستبدلت بها صناعة الألبان التي أصبحت منذ ذلك الحين أهم مصدر من مصادر الثروة في الدانمارك. وهكذا لعبت القدرة على التغير دوراً حاسماً في الحفاظ على نشاطها الاقتصادي، وهي قدرة نمت في الدانمارك عن طريق انتشار نظام التربية فيها انتشاراً واسعاً لا سيما لدى الكبار بوساطة «الجامعات الشعبية».
والحق أن أكبر آثار التربية توليد القدرة على التكيف مع المواقف الجديدة والقدرة على التغير والتغيير. ومع ذلك ما تزال البلدان العربية تحمل أثقال ذلك الإرث العتيق الذي خلّفته عصور التخلف، نعين المحافظة والانكفاء على القديم والاحتماء به، أو الموقف الزيلوتي على حد تعبير «توينبي». ولا حاجة إلى القول إن التراث، في مبادئه الأصيلة وفي ممارسته أيام ازدهار الدولة العربية، أكّد مفهوم التغيّر، واستطاع أن يتفتح على تجارب الأمم الأخرى يأخذ منها الكثير، وأقرّ مبدأ الاجتهاد في الأحكام الشرعية نفسها وقال بتغير الأحكام بتغير الأزمان، وحقق تكيفاً سريعاً مذهلاً مع الظروف الجديدة التي فرضتها فتوحاته لكثير من البلدان، وولّد من هذا كله حضارة متحركة نامية دوماً متجددة أبداً. وحسبنا أن نقرن واقع العرب أيام الدعوة الإسلامية بواقع الدولة العربية الإسلامية في مثل القرن الرابع الهجري، كيما ندرك التغير السريع المذهل الذي حققته الدولة العربية، خلال أربعة قرون من الزمان، في حياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية، وفي عاداتها وتقاليدها، وفي مؤسساتها ونظمها. وإن أردنا مثالاً أبرز وأعجب، حسبنا أن نذكر ما حدث في الأندلس، حيث حقق الفاتحون العرب نموذجاً فذاً من الاندماج والتفاعل بين الحضارة العربية وحضارة أهل الأندلس الأصليين.
د) والقيمة الرابعة الهامة التي ينبغي أن تؤكدها التربية والفلسفة التربوية المنشودة قيمة تكاد تداخل سائر القيم وإن يكن لها وجودها المتفرد أيضاً، نعني قيمة الإبداع. أجل، لا حضارة بلا إبداع. والإبداع هو أداة التغير، وسبيل الاكتشاف العلمي، ومادة العمل اليدوي والتقني، وعدة الأديب والفنان والمفكر، ومحرك كل عمل إنساني ذي شأن. إنه الوقدة الانفعالية التي تستخرج من الأشياء دوماً معاني جديدة وبنى جديدة. وقد بيّن علماء النفس المحدثون أنه لا يرتد إلى الذكاء بالمعنى المألوف لهذه الكلمة. فهنالك فيما بينوا «الذكاء المقارب» وهو الذكاء المألوف الذي ينصب على معالجة المشكلات وحلّها، وهنالك «الذكاء المباعد»، الذكاء الذي يكشف دروباً جديدة ويفتّق أفكاراً طريفة ويحلّق في عالم الرؤى والأخيلة يصوغ منها مبتكرات غير مألوفة ويولّد معاني أبكاراً وأفكاراً مولّدة وأشياء محدثة. وهو، كما يبينون أيضاً، صنو الخيال، الخيال المبدع، الذي نجده وراء لوحة الفنان وقصيدة الشاعر وفريدة الأديب، بل وبحث العالم ونتاج الصناعي وعطاء رجل الاقتصاد وسواهم من المنتجين الأفذاذ. أما وسائل تكوينه عن طريق التربية فليس هذا مجاله. وحسبنا أن نقول عابرين إن إحدى وسائله الهامة تعهد خيال الطفل منذ الصغر عن طريق القصة والأدب والفن وعن طريق الإنشاء الحر والرسم الحر واللعب، وعن طريق الاطلاع على منجزات العلم والتكنولوجيا. ولا شك أن تنمية روح الإبداع ذات شأن خاص في السير نحو انتقال البلاد العربية من مرحلة استهلاك الحضارة ومنتجاتها إلى مرحلة الإسهام في إبداعها وإنتاجها.
وهنا أيضاً نحن أمام قيمة تراثية وحديثة معاً. والآثار العلمية والفلسفية والفنية والأدبية والعمرانية التي خلّفها التراث العربي الإسلامي شواهد واضحة على تفتح قيم الإبداع في المجتمع العربي القديم، ذلك التفتح الذي طمسته من بعد عهود الانحطاط والتخلف.
هـ) ومن القيم التي تغذّي سواها مما ذكرنا وتغتذي بها، القيمة المتصلة بتكوين الفكر النقدي الحر. لقد تحدثنا عن الإبداع في الفقرة السابقة، وحين نذكر الإبداع نتذكر نقيضه، نعني الإتباع. والإتباع، الفكر الإمعّه، الفكر المقلّد، نقائض واضحة للحضارة ومرتجياتها. والإنسان لا يكون من هو ولا يستخرج من ذاته كامل إمكاناتها وعطائها إلا إذا امتلك روح النقد، نقد الزاد الذي يقدمه له المجتمع نقداً علمياً حراً. إنه لا يرقى فوق ذاته وغريزته ولا ينجو من الإطار الذي يحبسه فيه «المجتمع المغلق» على نحو ما وصفه الفيلسوف الفرنسي برغسون(8)، إلا إذا استطاع أولاً أن يتجاوز غريزته عن طريق النقد العقلي وعن طريق العون الذي تقدمه له قيم المجتمع السائدة، وإلا إذا استطاع بعد ذلك بوجه خاص أن يتجاوز مجتمعه وقيمه السائدة ليلقي عليها نظرة نقدية محللة، وذلك بأن يسلط عليها القيم الإنسانية الكبرى التي يهديه إليها بحثه وتنقيبه، والتي ينعس عليها لحنها لخاص ولونه المميز.
والنقد الحر أيضاً قيمة تراثية وحديثة معاً. ومن مكرور القول أن نذكر بما في التراث من إكبار لحرية الفكر وللصدق في تقويم الناس والأشياء، وللجرأة في الجهر بالرأي، وفي نقد العسف والظلم أيّاً كان مصدره («أصابت امرأة وأخطأ عمر» وفي الحديث: إذا لم يبق في أُمتي من يقول للظالم يا ظالم فقد تودّع منها). وهذا الاحترام للفكر النقدي في التراث العربي الإسلامي يتجلى حتى في معالجة المسائل الدينية نفسها من زوايا مختلفة، معالجة أدت إلى ظهور علماء الكلام والمعتزلة والأشاعرة والماتريديه والفلاسفة وغيرهم، بل أدت إلى ظهور التصوف الفلسفي بأشكاله المختلفة (من الحلول ووحدة الشهود إلى وحدة الوجود)، وإلى ظهور فيلسوف كابن الراوندي نفسه.
ووسائل تكوّن الفكر النقدي عن طريق التربية وسائل عديدة ليس المجال مجال الإشارة إليها وحسبنا أن نذكر دور تدريس الفلسفة في تكوين الفكر النقدي لدى الناشئة، ذلك التدريس الذي أخذ ينحسر ويضمحل في السنوات الأخيرة في بلادنا. وعندنا أن للفلسفة دوراً أساسياً في إدراك الناشئ لذاته وفي وعيه لهويته القومية وفي تكوين نظرته المستقلة إلى العالم والأشياء. والعناية بتدريسها في مثل مجتمعنا الذي تغلب عليه روح المحافظة والتقليد مدخل لتغييرات عميقة جادة في تكوين الناشئة تكويناً يؤهلهم لأن يكون لهم دورهم في بناء مجتمعهم والإسهام في توليد حضارة أمتهم.
و) ومن القيم الأساسية التي وقف عندها التراث طويلاً وأكّدها قولاً وسلوكاً، والتي يجأر الواقع العربي والواقع العالمي اليوم بأهميتها ودورها، قيمة التضامن وما يلحق بها من تكوين روح العمل الجماعي المشترك. فالتراث يعتبر الفرد مسؤولاً عن نفسه وعن الآخرين، ويدعو إلى بناء مجتمع متكافل متضامن. والتكافل الاجتماعي مبدأ أساسي من مبادئ الدين الإسلامي. والأشكال التي اتخذها هذا التكافل عبر التراث ليست في حاجة إلى فضل من بيان، فقد نفضتها الأقلام والصحف ولم تبق فيها بقية لمستزيد (إنفاق الموسرين على أقربائهم، الأوقاف الخيرية وما شملته من ميادين واسعة – الرّكاز – أراضي الحمى – الغنائم، الخ…). ولم يقتصر التكافل الاجتماعي في الإسلام على التكافل في الميادين الاقتصادية المادية، بل جاوز ذلك إلى تأكيد العلاقات الاجتماعية وصلة الأرحام وسواهم والتزاور والتهنئة والمشاركة في الأفراح والأتراح وسائر أنماط الحياة والسلوك في المجتمع. وحسبنا في ذلك كله أن نذكر الحديث الشريف: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً» أو أن نذكر الحديث الشريف: «مثل المؤمنين في توادهم وتحاببهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى» أو أن نذكر الحديث القائل «الناس كلهم عيال الله فأحبهم إليه أفضلهم لعياله» أو أن نذكر ذلك الحديث الرائع: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. الإمام راع ومسؤول عن رعيته. والرجل راع ومسؤول عن رعيته. والمرأة راعية ومسؤولة عن رعيتها. والخادم راع ومسؤول عن رعيته. وكلكم راع ومسؤول عن رعيته». والأمثلة لا تحصى على تأكيد التراث قولاً وفعلاً على مفهوم التضامن والتعاون والمصلحة المشتركة.
وأهمية مفهوم التضامن وروح العمل الجماعي المشترك في واقعنا العربي والعالمي اليوم لا تحتاج أيضاً إلى مزيد من بيان. لا سيما إذا ذكرنا – فيما يتصل بالواقع العربي – ما لتكوين هذه الروح من شأن في خلق إرادة العمل القومي المشترك وفي تعبئة النفوس من أجل الحضارة العربية المنشودة. إن البناء عن طريق العلم وعن طريق التكنولوجيا وسوى تلك من وسائل البناء يظل جسداً بلا روح تحركه إذا لم يصحبه إيمان بوجود عمل مشترك وخطة مشتركة يجتمع لها القوم ويجهدون من أجل تشييد ذلك البناء وقيام صرحه. والعالم في مخبره، والصانع في مصنعه، والمفكر في برجه، لن يعطي كل منهم أقصى ما عنده إلا إذا قرّت لديهم القناعة بأن جهده جزء من جهود مشتركة يقوم بها كل فرد في المجتمع من أجل نجاح البناء المشترك والمشروع الحضاري القومي.
يضاف إلى هذا كله أن العمل على تكوين روح العمل المشترك هذه قمين بأن يحرر الوجود العربي من بقايا المواقف الأنانية الفردية المغرقة التي هي إرث أصلي قَبَلي أصاب الأمة العربية حتى في بواكير حضارتها ولعب دوماً دوراً هداماً في تاريخها:
وأحياناً على بكرٍ أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
وفي رأينا أن العناية بتكوين روح التضامن وروح العمل الجماعي المشترك لدى الناشئة منذ نعومة الأظفار مطلب ينبغي أن يولى عناية خاصة، ولا سيما في الحياة المدرسية، بحيث نجعل كل شيء في المدرسة يدور حول «النحن» لا حول «الأنا» على حد تعبير المربي الألماني «كرشنشتاينر Kerschensteiner» أما وسائل ذلك فقد أشبعها الأدب التربوي بحثاً (العمل في فرائق، التقويم الجماعي، الجمهوريات المدرسية، التربية المؤسسية، الخ…) وليس ههنا مجال التريث عندها.
ويتخذ الحرص على هذه القيمة التراثية وإنمائها وتجديدها شأناً خاصاً إذ نحن نظرنا إلى الأمر من الزاوية العالمية. فمن البدهي القول إن الحضارة الحديثة تشكو يوماً بعد يوم تعاظم الأنانية، وتطاول الدول والأفراد في سبيل الجشع والسيطرة، الخ… وكثيراً ما ينظر العالم الغربي إلى العالم العربي في هذا المضمار نظرة إعجاب وغبطة، حين يشهد، رغم كل شيء، بقايا روح التضامن والتكافل لدى جمهرة أبناء الأمة العربية، وحين يجد عندهم دفء العاطفة وحرارة اللقاء الإنسانية اللذين يفتقدهما في صقيع الحياة الفردية المفرطة وفي وحشة العزلة المخيفة.
ز) والقيمة الأخيرة، بل قيمة القيم ورأسها وخاتمتها، تكوين روح العمل لرسالة وروح الإيمان بالهدف الكبير، هدف بناء أمة عربية منيعة قادرة. ذلك أن الواقع يدلنا والدراسات النفسية تبين لنا أن أهم عامل في سبيل نجاح أي مشروع أو خطة هو الإيمان بالهدف. والهدف ههنا، كما سبق أن بيّنا، هو بناء حضارة عربية جديدة بماضيها، مستجيبة لمستلزمات الواقع العربي والعالمي ولطموحات المستقبل العربي. وقد رأينا منذ البداية، أن هذا الهدف هو الرد الوحيد الناجع على التحدي الصهيوني وعلى سائر التحديات العالمية، فضلاً عن شأنه الذاتي ووعوده المتصلة بسعادة الفرد العربي والمجتمع العربي. وهذه الحقيقة ينبغي أن تكون محور كل شيء في التربية، في الحياة المدرسية وخارجها، وينبغي أن تكون اللحن الدائم الذي تتحلق حوله سائر ألحان العمل التربوية وأنماطه.
وهذه القيمة بدورها قيمة تراثية وحديثة معاً. أما التراث فهو ربيب الرسالة الإسلامية التي قام بها العرب وهو محض نتاجها وإبداعها. ولولا إيمان العرب – والمسلمون بعد ذلك – أنهم يقدمون للعالم رسالة إنسانية كبرى ويقدمون لأمتهم نموذجاً لحياة مثلى، لما كان ما كان من أمر الفتوحات العربية الإسلامية التي بلغ زحفها تخوم باريس، ولما كان ما كان من شأن الحضارة العربية التي غذّت العالم وأطلقت شرارة الحضارة الحديثة. على أن الدروس التي نسقيها من التجربة العالمية لا تقل بلاغة عن دروس التجربة العربية. فالماضي والحاضر يشيران إلى أن الأمم التي استطاعت أن تحدث تقدماً سريعاً وأن تبني حضارة ذات شأن، هي دوماً تلك التي حرّكها الإيمان برسالة كبرى تؤديها أو عبأها العمل لهدف قومي كبير آمنت به وحملته في دمها وعروقها.
وتحليل واقع التجربة العالمية اليوم يقود إلى تأكيد هذه الحقيقة: وهي أن العمل للكيان القومي هو الحقيقة التي ظلت حيّة رغم كل ما قيل وقيل عن تجاوز القوميات وعن الانتقال إلى مرحلة العمل الإنساني المشترك. فالدول المختلفة تزداد تشبثاً بوجودها القومي ومصلحتها القومية، ولا تقيم أواصر التضامن فيما بينها إلا عبر مصالح ذلك الوجود القومي ومقاصده وغاياته. ولا نعني بذلك العود إلى «شوفينية» مرذولة تتقوقع فيها كل أمة حول ذاتها شامخة بمجدها، منتقصة من شأن سواها. بل نعني تأكيد ما عبّرت عنه الحركة القومية العربية دوماً منذ بزوغها عند أوائل هذا القرن وبعد ذلك، كما عبّرت عنه كثير من الحركات القومية الإنسانية في العالم، وهو أن سبيل العمل من أجل الإنسانية هو بناء الكيان القومي لكل أمة وإغناؤه بحيث يستطيع أن يسهم في بناء الوجود الإنساني المتضامن. والعمل من أجل إغناء الكيان القومي يلتقي بالضرورة مع القيم الإنسانية، فهو سبيل تحقيق وجود إنساني كريم لائق للذين يحيون في إطار ذلك الكيان.
والكيان القومي حين يعمل من أجل أن يزكو إنسان أمته يعمل من أجل كل إنسان. والسعي لبناء الوجود القومي لا يعني العدوان على القوميات الأخرى أو إنكارها، بل يعني على العكس احترام حق كل إنسان في أن يترعرع ويزكو في إطار تربته القومية وهوائه القومي، وفي أن يتفتح ويعطي كامل مداه بفضل عطائه لأمّته وبالتالي للإنسانية جمعاء.
وبعد، ما الذي خلق الكيان الإسرائيلي وما الذي يبقي عليه؟ أو ليست الرابطة القومية الخاصة التي تربط بين أبناء الشعب اليهودي والتي ظلت حية طوال قرون؟ إن هذا الشعور بالانتماء المشترك الذي تعهدته الصهيونية وغذته وعبأته هو الذي استطاع أن يعبئ كل شيء من أجل خلق هذا الكيان المصطنع: لقد استطاع، بحرارة إيمانه، أن يسخر السياسة العالمية والمصالح الاقتصادية ومشاعر الناس وشبح المذابح الهتلرية وتزييف التاريخ، وسوى ذلك كثير، من أجل إيجاد ذلك الكيان قسراً وتعسفاً. ومن هنا كان إدراكه لمعنى الرابطة القومية وقوتها وبأسها إدراكاً عميقاً جعله منذ البداية يضع على رأس أهدافه تحطيم الوجود العربي المتضامن وتفتيت الأمة العربية، كما سبق أن ذكرنا. ومثل هذا الاستمساك المتين بعروة الرابطة المشتركة لا يقوى على مغالبته إلا تحريض الشعور القومي العربي وتعبئته وبناؤه بناء علمياً منظماً.
أجل، تكوين الإيمان بالهدف القومي العربي بناء، بناء موصول دائب، وثمرة جهد ونصب، وليس عصا سحرية نحركها فتخرج لنا المارد القومي عارماً جباراً. إنه بناء علمي عقلاني طويل النفس، إنه نضال فكري متصل ومستمر. وحين ندرك هذه الحقيقة، لا نسير في طريق البناء القومي على أرض مطمئنة فحسب، بل نجتنب أيضاً خيبات الأمل، حين ندرك أن المعركة، معركة البناء القومي، مدّ وجزر وكرّ وفرّ، وأنها لا بد أن تطمسها حيناً بعض السحب المتراكمة وأن تتألب عليها حيناً آخر القوى المعادية، وعلى رأسها إسرائيل. وذلك موطن القوة فيها. إنها ليست معركة هيّنة لينة، لأنها معركة بناء الحضارة العربية والمستقبل العربي رغم كل المعوقات والمحبطات ووسط كل المؤامرات والدسائس والأحابيل.
حـ) ولعلنا، بعد هذه الجولة في عالم القيم التربوية الرئيسية التي رأينا أن تكون جوهر الفلسفة التربوية العربية القادرة على مواجهة التحدي الإسرائيلي، نستطيع أن نوجز هذا كله بالتأكيد على قيمتين كبيرتين، حولهما تتحلق سائر القيم، نعني الإيمان بالعلم والتكنولوجيا من جانب وتحريض إرادة العمل القومي المشترك من جانب آخر. قطبان كبيران إن التقيا تولدت من لقائهما لا محالة، كما دلت التجربة العالمية، شرارة التقدم وانطلاقة الحضارة: المهاد العلمي التكنولوجي مؤيداً بالعزيمة التي يولدها الإيمان برسالة مشتركة كبرى يعمل لها الجميع. من هذا اللقاء الولود الواعد، ينبجس كل شيء وتتفتح سائر القيم. والإيمان بالعمل القومي المشترك يزود أبناء الأمة بالطاقة الانفعالية الخلاقة التي تجعلهم قادرين على أن يستخرجوا كامل إمكاناتهم ويعطوا أقصى ما لديهم. والإيمان بالعلم والتكنولوجيا يعبئ هذه الطاقات من أجل بناء مجتمع حديث قادر على مواكبة العصر، يحمل في ثناياه، ما دام الإيمان القومي سداه ولحمته ومنطلقه، تراث الأمة وقيمها ونظرتها الخاصة إلى الكون والأشياء وفلسفتها الذاتية.
وتجربة اليابان، منذ عصر ميجي الشهير عام 1867، أحد الشواهد على أهمية هذا اللقاح بين قطبي التقدم كما قلنا. لقد حار المفسرون في تفسير ما سمي بالمعجزة اليابانية التي انطلقت منذ أيام «ميجي». وردها أكثرهم إلى ما قامت به اليابان من جهد استثنائي من اجل نقل التجربة العلمية والصناعية الغربية، عن طريق البعوث الكثيرة التي أرسلتها إلى الغرب، وعن طريق الخبراء الغربيين الكثر الذين استقدمتهم إلى بلادها. غير أن مفسّرين آخرين أشاروا إلى قصور هذا التفسير ونقصه. فهذا الجهد الاستثنائي من أجل نقل العلم والحضارة الغربية، وهذا العمل الدائب من أجل دخول اليابان عصر الثورة الصناعية، ما كانا ليؤتيا أكلهما لولا أن أيدهما وسار معهما جنباً إلى جنب جهد آخر موازٍ، قوامه أن يتم ذلك كله في إطار تحريض إرادة العمل القومي المشترك، وفي إطار الوحدة القومية والتعاون القومي. ولا أدل على ذلك من أن الظهير الملكي الذي صدر ذلك الحين تريث عند دور التربية في خلق المجتمع العلمي الصناعي الحديث، لكنه تريث فوق ذلك عند دورها في خلق إرادة التضامن والعمل المشترك والحفاظ على الأخلاق القومية اليابانية وعلى الروابط المشتركة التي عرفها اليابانيون منذ القدم في الريف والزراعة بوجه خاص.
وتجربة اليابان ليست التجربة الوحيدة في هذا الميدان قديماً وحديثاً. فالتجارب كثيرة تشهد جميعها أن الأمم التي استطاعت أن تحقق تقدماً سريعاً في حضارتها فعلت ذلك بفضل الزواج السعيد بين الإيمان القومي والإيمان العلمي.
والحق أن القيم التربوية الأخرى التي أتينا على ذكرها تنطلق سهواً رهواً عفو الخاطر حين يسود هذا الجو القومي الصارم المؤمن بالعمل المشترك في سبيل بناء حضارة عصبها وقوامها العلم وما يتحلق حوله. فالإيمان بالعمل والإنتاج، وتكوين قيم التغير والتغيير، وامتطاء صهوة الإبداع، والركون إلى التضامن والعمل الجماعي المشترك في كل شيء، وإطلاق الفكر النقدي الحر، وسواها من القيم مما ذكرنا أو لم نذكر، تجد سبيلها إلى الواقع سرباً، وتجد وسائلها وأدواتها ميسرة طائعة، حين يغمر كل شيء ذلك الإيمان القومي بالبناء المشترك، بناء مجتمع العلم الحديث. وقيم التراث تتوافد وتسري في إطار هذا الإيمان المشترك وتندّس طوعاً وبعمق في ثنايا كل شيء.
وقد يقول قائل إننا في هذا كله نصادر على المطلوب الأول كما يقول المناطقة. فالمطلوب هو توليد هذا الإيمان القومي العارم الذي نبيّن على العكس دوره في بناء كل شيء وفي تجنيد سائر القيم وفي لمّ شتات الجهود. والحق أن العمل الحضاري إيمان أولاً، ولكنه إيمان مسلّح بالعلم والوعي والتحليل الدقيق للواقع. والعمل الحضاري ليس مجموع جهود دائبة صبورة فحسب، بل هو وليد «وثبة حيوية» على حد تعبير برغسون، تغيّر الأشياء عن طريق تحريكها من داخلها وعن طريق إشاعة الحرارة اللازمة لالتحامها والتئامها. وعندما نعمل بالوسائل التربوية اللازمة وسواها، وهي كثيرة، على توليد هذا الإيمان القومي، تهون علينا المهمات الأخرى وتغدو تعبئة القوى في سائر الميادين يسيرة طائعة. ونحن نقول هذا عن قصد، في وقت طغى فيه الاعتقاد، بعد خيبات الأمل المتلاحقة، بأن العمل القومي ينبغي أن يكون عملاً عقلانياً بارداً. فنحن مع إدراكنا لأهمية البحث العقلاني في كل شيء نرى أن هذا البحث عقيم غير منتج إن لم تسعفه الشحنة الانفعالية اللازمة، الشحنة الانفعالية التي نبنيها في جوهرها وأصلها من حصاد العمل العقلاني والتحليل العلمي. فنحن لا ننادي بالانفعال المجاني الفارغ، بل ننادي بالانفعال العميق الذي يؤيده الغوص العقلي والتنقيب العلمي الصحيح، لا التنقيب العلمي المزيف.
لقد رأينا في بعض مواضع هذا البحث كيف أن التحليل الاقتصادي العلمي والتحليل التربوي العلمي ينتهيان بنا بالضرورة إلى القول بحتمية التكامل العربي. والدراسات والمظان التي تثبت هذه الحقيقة بأشكالها المختلفة أكثر من أن تحصى. من هنا كان القول بضرورة العمل القومي العربي المشترك قولاً علمياً، وكان جديراً بأن يكون بالتالي حقيقة نؤمن بها ونستخلص منها ما يلزم عنها من نتائج. ومما يثير العجب حقاً تكاثر الدراسات التي توصف بأنها علمية، عن جوانب الحياة العربية المختلفة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وسواها، دون أن نجد وراء هذه الدراسات غالباً هذا الإيمان البدهي الذي ينبغي أن يكوّن خيطها الرائد، نعني الإيمان بتكامل الوجود العربي. بل لعل الحديث عن تباين الوجود العربي في مثل هذه الدراسات قد غدا في نظر أصحابها وفي نظر بعض القراء مؤشراً دالاً على روحها العلمية العقلانية! أفلا يعني هذا أن أساس الداء يكمن هنا: يكمن في اهتزاز الإيمان القومي حتى لدى الصفوة من الكتاب والمفكرين، وفي أن الجهود التي تبذل سخية في الدراسات الكثيرة حول الواقع العربي تكاد تذهب أدراج الرياح إن لم تحدث آثاراً سلبية على تعبئة الشعور القومي؟ أفلا يحق لنا أن نقول إلى حد بعيد: لقد مرّت اللعبة، لعبة الصهيونية والقوى المعادية للعرب، فابتلعت النخبة نفسها السموم الفكرية التي تنفثها تلك القوى إدراكاً منها لخطورة التكامل العربي وخطورة الطوق الذي يضربه التضامن العربي حول الوجود الإسرائيلي؟
لا ينكر منكر صعوبات تحقيق التكامل العربي. ولكن الصعوبات شيء وعدم الإيمان بالتكامل شيء آخر. ومهمة الإيمان بهذا التكامل هي بالتعريف التغلب على تلك العقبات وتذليل الصعوبات. وههنا يأتي دور العمل العلمي والعقلي الدائب الصبور، ويأتي دور النضال الفكري الموصول. ومن شأن العقبات أن تقوّي الإيمان بالهدف، ولا سيما عندما يكون الهدف ضخماً ساطعاً، هدف بناء المصير المشترك والحضارة المشتركة، وعندما يكون خياراً لا محيص عنه. أما الخيار الآخر فهو أن يستمر الوضع العربي في تردّيه وأن يصبح الوجود العربي دولاً تصطرع وطوائف تحترب، وأن يتحقق حلم إسرائيل، حلم السيطرة على وجود عربي عاجز خاضع.
خاتمة:
مواجهة التحدي الإسرائيلي سبيلها الأَمَم أن نتحدى ذاتنا. الوجود الإسرائيلي باطل وساقط حكماً، عاجلاً أو آجلاً، إن استطعنا أن نكون من نحن، أمة عربية متضامنة وحضارة عربية منيعة ثرية. وعلى العكس من هذا، إن نحن أسهمنا في تسديد المقتل الذي يصوبه إلينا العدو، مقتل جعلنا شعوباً وقبائل لا تتعارف بل تصطرع، كنا كمن يحفر حتفه بظلفه ويجعل سعي عدوه ميسراً سائغاً. السلم والتعايش مع أبناء المنطقة لن تصل إليهما إسرائيل ولو ربحت الحرب بعد الحرب، وهزمت الجيوش العربية كرة بعد كرة. شيء واحد يوصلها إلى السلم الحقيقي الباقي الذي لا تزعزعه الغواشي، هو أن ينحل الوجود العربي ويذوب، ليغدو دولاً وطوائف وشيعاً وأُسراً وأحياء، وأن ينتقل الوجود العربي من مهمة محاربة إسرائيل إلى مهمة محاربة نفسه. وعند ذلك، وعند ذلك فقط، تنام إسرائيل قريرة العين هادئة البال وتغدو سيدة المنطقة غير منازعة، بل سيدة المنطقة وما حولها من دول آسيا وأفريقيا النامية، كما تطمح إلى ذلك من يوم إنشائها حتى اليوم. الزمن، مهما يطل، قادر على أن يزود الأمة العربية بالعدة الحربية اللازمة، وتغير الظروف الدولية ومصالح الدول كفيلة بأن تعطل العون الذي تقدمه الدول الصديقة لإسرائيل، والتزايد السكاني والبنى السكانية قادرة على أن تزيد في حدة التباين بين طاقات إسرائيل البشرية وطاقات العرب البشرية، والأسس الاقتصادية الواهية التي يستند إليها الوجود الإسرائيلي، إذا استمرت إسرائيل في عزلتها عن العالم العربي والآسيوي والإفريقي، لا بد أن تئد ذلك الوجود وتخنقه عاجلاً أو آجلاً… غير أن الزمن سوف يكون عاجزاً لقرون طويلة عن أن يعيد الالتئام والالتحام لوجود عربي فتّته أبناؤه ومزّقوه وأحدثوا فيه كسوراً وشروخاً لا تجبر.
هذه حقيقة أولى نضعها في خاتمة هذا البحث. والحقيقة الثانية أننا إذ نعمل على الانطلاق نحو جوهر الحل – على نحو ما بيّنا، نعني السير نحو التكافل العربي القادر عاجلاً أو آجلاً على الانتصار على العدو الصهيوني – يتوجب علينا في الوقت نفسه أن نختصر الزمن الذي يحقق لنا النصر، وهذا لا يتم إلا إذا جعلنا العمل من أجل التكامل العربي يسير جنباً إلى جنب مع العمل على خلق المجتمع العلمي التكنولوجي خاصة والمجتمع الحضاري عامة. فالطابع الصنعي للوجود الإسرائيلي، والاستمرار الزائف له، وقدرته على تحدي الوجود العربي بالوسائل العسكرية وسواها، أمور ترتد إلى التفوق العلمي التكنولوجي وإلى التفوق الحضاري جملة للوجود الإسرائيلي. ولا بد من تعطيل هذا السبق في التفوق، عن طريق العمل على بناء مشروع حضاري عربي وأصيل، كما سبق أن ذكرنا أكثر من مرة في ثنايا هذا البحث.
من هنا نرتد كرة أخرى إلى دور التربية ونجد أن دورها، انطلاقاً من هاتين الحقيقتين، أن تخلق الاتجاهات النفسية اللازمة والشروط الضرورية من أجل تعميق الإيمان بالتكامل العربي وتحقيقه، وأن تولّد في الوقت نفسه المواقف وأنماط السلوك ووسائل العمل التي من شأنها أن تطلق في البلاد العربية روح العلم والتقدم العلمي وروح الرسالة الحضارية العصرية اللازمة لبناء الأمة العربية بناءً جديراً بها وبالعصر. وتحت هذين الهدفين الكبيرين من أهداف الفلسفة التربوية العربية تندرج سائر الأهداف وسائر القيم التي ينبغي أن تؤكدها تلك الفلسفة والتي أتينا على ذكر بعضها في هذا البحث: قيم العمل والإنتاج، قيم التغير والتغيير، قيم الإبداع، قيم التضامن وروح العمل الجماعي المشترك، قيم الفكر النقدي الحر الخ…. وتحت هذه القيم تندرج دون شك قيم فرعية لم يتسع لها هذا البحث. ومن هذه القيم جميعها يستخلص التجديد الذي يتوجب إدخاله إلى نظام التربية في البلاد العربية، بنى ومحتوى وطرائق وتقنيات وإدارة ومناهج وسوى ذلك.
ما السبيل إلى وضع تلك الفلسفة التربوية العربية وإقرارها من قبل الدول العربية، وما السبيل إلى إنفاذها وتحقيق أغراضها بعد ذلك؟ ذلك هو السؤال الكبير. غير أن بداية الغيث قطر. ومن هنا فإن نقطة البداية في نظرنا هو التبشير بهذه الفلسفة وتوضيحها وشرحها، بعد تصحيحها ونقدها ما لزم ذلك. وتلك هي مهمة المربين العرب ومهمة الجامعات العربية، ولا سيما كليات التربية فيها، ومهمة المنظمات العربية المختصة. وعندما ينعقد الإيمان بهذه الفلسفة لدى المعنيين، تبقى المهمة الدقيقة والأساسية، مهمة قلبها إلى عمل إجرائي وخطوات إجرائية عن طريق الخطط التربوية الضرورية.
على أن رأس الصعوبة هو صياغة الفلسفة التربوية صياغة حكيمة ووضع تفصيلاتها. وقد ذكرنا منذ البداية أن هذه المهمة ما تزال مهملة منسية في معظم النظم التربوية في البلاد العربية. ذلك أنها ترتبط، كما قلنا أيضاً، بمهمة أوسع هي وضع الفلسفة الاجتماعية العامة والمشروع الحضاري الشامل.
ولعلنا وفقنا في هذا البحث إلى وضع اللمسات الرفيقة في طريق بناء هذه الفلسفة التربوية العربية المنشودة وما وراءها من فلسفة اجتماعية عامة. وقد لا نكون قد تريثنا إلا لماماً عند تفصيلات هذه الفلسفة وقد نكون قد اكتفينا بالإشارة إلى أهم معالمها. وقد فعلنا ذلك عن قصد، لضيق المجال أولاً، ولأننا نود أن نجعل بحثنا في تلك الفلسفة متحلّقاً جهد الطاقة حول موضوع البحث، موضوع الفلسفة التربوية في مواجهة التحدي الإسرائيلي، ولأننا بعد ذلك، بل قبل ذلك، لا نزعم أن في وسعنا أن نقوم بهذا العمل فرادى، فهو عمل جماعي مشترك، وحسبنا أن وضعنا فيه بعض الصّوى في الطريق. كذلك لم نتوقف في بحثنا عند الإجراءات العملية التي تؤدي إلى تطوير التربية العربية بوجه عام في جنباتها المختلفة لكي تستجيب لتلك الفلسفة، فالمقام ضيّق، والبحث في تلك الإجراءات يحتاج إلى بحث برأسه على أقل تقدير. وقد رأينا أن نوجه جل اهتماماتنا إلى قلب المسألة التربوية، نعني الفلسفة التربوية. ذلك أن ما يمكن أن ندخله على التربية من تطوير في جوانبها الإدارية وفي مناهجها وطرائقها وبناها وسوى ذلك لا بد أن يكون مستمداً من تلك الفلسفة التربوية أولاً. وغياب هذه الفلسفة كما قلنا ونقول مصدر الوهن والضعف في كثير من النظم التربوية العربية. ونحيل من يود الاطلاع على جوانب التطوير والتجديد اللازمة في ميادين التربية وأوجهها المختلفة إلى المظان التربوية العديدة، وإلى كتابنا عن «التربية في البلاد العربية» (نشر دار العلم للملايين، بيروت، 1983).
وقد يكون ما انتهينا إليه قليلاً جداً وكثيراً جداً في آن واحد. لقد انتهينا إلى هدف الأهداف في الفلسفة التربوية المنشودة، هدف توليد الإيمان بالعمل المشترك من أجل حضارة عربية مهادها العلم والتكنولوجيا وروحها القيم التي نستخرجها من تفاعل التراث مع الواقع العربي والعالمي ومع المستقبل المنشود. هدف واحد، قد يبدو ضرباً من البدهيات، ولكن ما أصعب الإقناع بالبدهيات إن أنكرها منكر. هدف يدعو إلى الإيمان والعلم معاً، وقد يبدو فيه خُلفٌ منطقي، ولكن طبيعة الوجود كله وطبيعة البنية الإنسانية كلها وطبيعة الحضارة وتاريخها تشير كلها إلى أن لقاء العلم مع الإيمان هو الأرض الخصيب والدفقة الخلاقة. العلم يولّد الإيمان، وهو ثمرة جافة وشجرة بلا نسغ إن لم يولد إيماناً بما يصل إليه من نتائج، والإيمان يولّد العلم، وهو هباء منثور إن لم يؤد إلى تعبئة ثوى العمل والبناء والتغيير.
عبقرية الأمم، كعبقرية الأفراد، براكين انفعالية تعصف في الأعماق ، يمكّن لها المقام عقل علمي منقّب، ويطلق قواها علم هاد يضبط أقنيتها. أو قل إنها عقل مبلّل بالانفعال، وانفعال يعانقه العلم والعقل. ومن هم كبار الرجال والمصلحين والأنبياء والذين قادوا الإنسانية؟ إنهم أولئك الذين رأوا العلم بعقلهم المحمّل بالانفعال وقبلهم المحمّل بالعقل، فاجتمع الناس حول رؤيتهم هذه كما يجتمع الفراش حول النور.
شجون كثيرة تثور في ذهن من يواجه مثل هذا السؤال الذي يزعزع الأوصال: كيف نواجه التحدي الإسرائيلي. إنها شجون الوجود العربي كله يرتجف ويرتعش أمام شبح العدم أو البقاء. إنها كرامة تاريخ وعزة أمة تنتفض لترد الذل والمهانة. أفنعجب بعد ذلك إن جاء حديثنا في هذا البحث قلقاً في اطمئنان مطمئناً في قلق؟