من مهمات الفكر العربي بعد السادس من تشرين

مقال في مجلة الديار اللبنانية، العدد /٣٤/ من ١٥ إلى ٢٠ كانون الأول/ديسمبر ١٩٧٣

من مهمّات الفِكر العَربي بَعد السِادِس من تشرين

بعد نكبة عام 1948، اتجه الإنتاج الفكري والأدبي والشعري نحو نقد الأنظمة العربية التقليدية وتجريحها، ما دانت في نظره هي المسؤولة الأولى عن النكبة. ومن وراء نقد تلك الأنظمة قام بتعرية البنية السياسية والاجتماعية التقليدية وأكد إفلاس تلك البنية العتيقة وعجزها عن تجاوز النكبة. وقاده ذلك كله إلى الغوص في أصول التخلف العربي وجذوره وإلى ملاحقة العوامل التاريخية التي جرت إليه، داعياً إلى توليد بنى فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية جديدة، قادرة على مواجهة ذلك التحدي الكبير.
وبعد هزيمة عام 1967 أدرك الفكر العربي أن النظم السياسية المحدثة التي قامت بعد النكبة لا تقوى وحدها على مواجهة التحدي الصهيوني، وأن اللقاح ينبغي أن يكون أعمق وأوثق بين «التحديث» السياسي والتحديث الفكري والحضاري. ووعى ذلك الفكر خاصة أنه لابد من إعادة بناء الإنسان العربي بحيث ينضو عنه ما خلفته عصور الانحطاط الطويلة من تفكير اتكالي سحري يؤمن بالمعجزات السهلة، ومن استسلام للارتجال والنزوة العابرة والروح الرومانطيقية، ومن افتقاد للنفس الطويلة والجهد العلمي المخطط الدائب، وبحيث يأخذ بأساليب العصر الحديث في التفكير والتدبير ويعتمد العلم والعقلانية والإعداد التكنولوجي منهجاً في شتى جوانب حياته.
وفوق هذا وذاك أدرك فكر ما بعد الخامس من حزيران أن تفجير قوى الشعب وطاقاته المكبوتة هو وحده المعجزة، وأن مشاركته الديمقراطية الفعالة في بناء المجتمع وفي الإعداد للمعركة شرط لازم لنجاح أي جهد ونفاذ أي خطة.
وهكذا وجد في الكارثة مناخاً صالحاً للنقد القاسي لمؤسسات المجتمع كلها، وكادت مرارة الهزيمة توصله إلى الشك في كل شيء، وإلى اتهام الوجود العربي في شتى مظاهره وأشكاله بل في أصوله وجذوره.
ورغم ما اتصف به هذا النتاج الفكري من عنف النقد الذاتي ومن ظواهر اليأس والسلبية، فقد ترك – في رأينا – آثاراً جيدة في الواقع العربي، لعل وقفة السادس من تشرين إحدى نتائجها الهامة. فلقد استطاع أن يكشف الحجب والأقنعة، وأن يضع موضع التساؤل أساليب العمل العربي، وأن يمحو تلك الطمأنينة السهلة التي خيلت إلى الكثيرين بعد نكبة عام 1948 خاصة – أن مجرد تغيير الأنظمة السياسية من دون تغيير الفكر ومقوماته ووسائله يمكن أن يكون سبيل الخلاص.
وكانت انتفاضة الوجود العربي يوم السادس من تشرين. وأهم ما في هذه الانتفاضة أنها عبرت عن استيعاب التجربة العربية، لكثير من دروس الماضي القريب، وعن امتصاصها للجو الفكري الذي ساد بعد النكبة عامة، وبعد الخامس من حزيران خاصة.
وأصاب الفكر بعدها صحو مفاجئ. فأخذ يشكك فيما شكك فيه من قبل، وفاجأته أمائر الحياة التي ولدت من قلب وجود ظنه عقيماً وأدهشه الأمل الذي انبثق من يأس حسبه طويلاً ومقيماً.
ولا شك أن هذا الموقف النفسي الجديد الذي وقفه الفكر موقف محمل بالوعود الكبيرة فلقد أعاد لهذا الفكر الثقة بحيوية الوجود العربي، والاطمئنان إلى قدرته على تجاوز النكبات. ولقد بين له بوجه خاص أن النكبات الكبرى – لدى الشعوب العريقة – تحمل في ثناياها بذور تجاوزها والقضاء عليها، حين يعيها أبناؤها وعياً عميقاً.
غير أن هذا الموقف النفسي الجديد الذي يقفه الفكر اليوم محمل في الوقت نفسه بكثير من المزالق وأخطرها وأدهاها أن يركن إلى طمأنينة زائفة وأن تخفت عنده وثبة النقد الذاتي وتنطفئ شعلة التحرق، وأن يعتقد أن دوره المحرض والموجه والمقوم قد أبطلته أصوات المدافع الظافرة.
والحق أن الوجود العربي بعد انطلاقته الجديدة وخروجه من عقمه المزمن، أحوج ما يكون إلى حيوية الفكر ونشاطه وحدته:
لقد فتحت حرب السادس من تشرين الآفاق الواسعة أمام تحرك 1ذلك الوجود العربي ووضعته أمام إمكانات مستقبلية ضخمة. ولقد نقلته من مرحلة والخوف إلى مرحلة الهجوم، الهجوم على وعود المستقبل كلها. وعلى الفكر أن يعرف كيف يحقق في ذاته النقلة الضرورية من مواقع الشكوى والضيق والتبرم إلى مواقع العمل من أجل المستقبل. وأمامه في هذا المجال ألف درب ودرب.
وأهم ما في هذه الدروب المنفتحة أمام عطاء الفكر، أن حرب السادس من تشرين وصلت الوجود العربي وصلاً مباشراً بالوجود العالمي كله. لقد قضت على انكفاء العالم عن العرب وإنكاره لهم، وأعادت لهم دورهم الممكن في الحياة العالمية، وأفسحت المجال لحضارتهم كيما تثبت ذاتها وتعمق أركانها في مجرى التقدم الإنساني. ولقد غدا الجو الدولي ممهداً لفهم المعنى الإنساني لذلك البناء الحضاري الجديد الذي يطمح إليه العرب وتحول دونه قوى التسلط والشر، والذي نظر إليه العالم من قبل نظرة تشكيك واستهتار. وعلى الفكر أن يهتبل هذه الأجواء العالمية الجديدة، وأن يضع في مقابل الحركة الصهيونية الغازية (التي زعمت للعالم أنها منه وله، والتي بدا العالم يشعر أنها تهدده في صلب وجوده ومستقبله) الحركة العربية التي تفهم العالم أن نموها واكتمالها وانتصارها أمور تعني في النهاية انتصار وجه من وجوه الحضارة الموجّهة نحو خدمة الإنسان أنى كان، على التركة المهترئة لحضارات الغزو والتوسع والتسلط.
إن شطراً كبيراً من بلدان العالم – المتخلف منها والمتقدم – يضيق ذرعاً بحضارة التسلط والابتزاز والاستعباد. وعلى رأس تلك البلدان (بالإضافة إلى البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وبالإضافة إلى المعسكر الاشتراكي) البلدان الأوروبية التي لا بد أن تلتقي في النهاية حضاراتها وتطلعاتها الإنسانية العريقة والعميقة بقيم الحضارة العربية الأصيلة في إنسانيتها. ومهمة الفكر العربي في هذا الميدان واسعة وخطيرة: إن عليه أن يتقن الحوار الخصيب مع جميع القوى العالمية التي تعمل للتخلص من سطوة التوسع الإمبريالي – الصهيوني – الأميركي خاصة وأن يبين لها أن النضال الذي يخوضه العرب منذ سنين ضد هذا التسلط والتوسع هو في أعمقه جزء من النضال العالمي ضد تسلط الأسياد، ضد تسخير قوى التقدم في سبيل خلق نوعين من البشر: الأسياد والعبيد.
ولا تقف مهمة الفكر دون شك عند حدود التبشير والتعريف بهذه الحضارة العربية الموعودة الموجهة نحو قيم الإنسان ومستقبل الإنسان، بل لا بد أن تتعداها إلى العمل الدائب المخطط من أجل بناء هذه الحضارة فعلاً بالتعاون مع جميع القوى المؤمنة بمستقبل إنساني أفضل. ومن هنا يتوجب على هذا الفكر العربي أن يستقي من رؤاه الحضارية والإنسانية التي يرى من خلالها حضارته القومية المنشودة، طاقة لا تنضب وجهداً لا يكل من أجل إيصال مجتمعه المتخلف إلى مستوى العصر، عن طريق «تحديث» بنيته العلمية والتكنولوجية تحديثاً يمكنه من ان يواجه تحديات السيطرة، وأن يبني كياناً حضارياً متقدماً قادراً على أن يلعب دوره الإنساني الكبير في عصره، بفضل تعامله مع لغة العصر.
إن كل شيء يؤذن اليوم بولادة الحضارة العربية الجديدة، ويومئ إلى الإمكانات البكر الهائلة التي يحملها الوجود العربي والتي تبشر بانبعاثه. وعلى الطاقات العربية كلها وعلى رأسها الطاقات الفكرية، أن تشحذ الزناد وأن تنطلق بسرعة العصر نحو بناء حضارة مائة مليون ونيف من العرب، ترمقهم مئات الملايين في أفريقيا وآسيا، وتشد أزرهم تطلعات سائر القوى العالمية الحرة.
ومن غير الجائز عندنا أن يعطل تلك الطاقات الفكرية تمزق عقيم بين اليأس والشك واليقين، بين اليأس والأمل، أو أن تريحها البوادر المطمئنة وتهدهدها الأحلام الناعمة السهلة. إن مهمتها منذ اليوم ألا تفوت لحظة من لحظات الجهد والبناء، وأن تدرك أن الفجر العربي الذي يبشر بالانبلاج، هو رهن عملها السريع والمتوتر والموصول في سبيل بناء حضارة عربية عصرية بالتعاون مع الشعوب التي تسعى في سبيل حضارة إنسانية حقة، ومن أجل هذه الشعوب ومستقبلها.
إن عليها ألا تنتظر من العالم أن يقدم لها الحلول وأن يجترح لها المعجزات، بل عليها أن تهب هي إلى بناء وجودها وأن تبرهن على جدية سعيها وأصالته، وأن تجتذب بالتالي القوى العالمية اجتذاباً أوسع فأوسع نحو تأييد تلك الجهود ودعمها بفضل ما تحمله من وعود للحضارة الإنسانية كلها.
وليس أفضل من الجو الذي خلقته وثبة السادس من تشرين لاقتحام هذه المهمة الجدية الجديدة.