السادس من تشرين وواقع الوجود الإسرائيلي

مجلة الصياد – تشرين الأول – ١٩٧٢

السادس من تشرين وواقع الوجود الإسرائيلي

بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم
الحرب التي اضطر العرب إلى خوض غمارها – بسبب التعنت الإسرائيلي والاستهتار والتآمر الدولي – من أبرز نتائجها أنها ردت الكثير من المفكرين في العالم إلى جادة الصواب. ومن المؤسف حقاً أن تكون لغة القنابل أكثر إقناعاً وبلاغة من لغة المطالبة السليمة بالحق المغتصب.
فللمرة الأولى منذ خلق إسرائيل يعود منطلق هؤلاء إلى الواقعية، وتفعل “صدمة الحرب” فعلها في عقولهم، و “تغسل” الانتفاضة العربية أدمغتهم بعد أن غطتها سحب من التجاهل المقصود أو التحيز الأعمى.
أجل للمرة الأولى ينتهي عدد من المفكرين الأجانب إلى إقرار حقائق طالما أنكروها أو أخفوها.
1- أولها أن حرب حزيران لم تكن حرباً، بل كانت مجرد ضربة بارعة اعتمدت على التنظيم والموهبة. ولهذا كان النصر فيها لإسرائيل. أما حين يعود إلى الحرب معناها الحقيقي، كما حدث في السادس من تشرين، لتكون حرباً تعتمد على تفوق العدد والعتاد، فطبيعي أن تكون الغلبة فيها للعرب، إن عاجلاً أو آجلاً. هذا ما يقوله بوضوح الكاتب الفرنسي جان فرتسوا ريفل (صاحب الكاتب الشهير: لا ماركس ولا يسوع) في هذا العدد الأخير من مجلة “إكسبرس” المعروفة بميولها الصهيونية.
2- وثانيها – وهذا ما يقرره ريفل أيضاً – أن تلك الدولة الصغيرة التي سميت إسرائيل والتي خلقها قرار من هيئة الأمم، لا تستطيع أن تبقى إلا بفضل اتفاق دولي على وجودها، وبوجه خاص بفضل موافقة الدول العربية المحيطة بها على ذلك الوجود. فمن المخالفة لطبائع الأشياء – كما يقول أيضاً – أن تبقى دولة تعد أقل من ثلاثة ملايين ساكن يهودي وسط عالم ينكرها يعد مائة وثلاثين مليون ساكن يهودي وسط عالم ينكرها، ستون مليوناً منهم يطوّقونها مباشرة (إذا أضيف العراق – وهذا طبيعي – إلى مصر وسورية والأردن).
3- وثالثها أن أي عون خارجي تتلقاه هذه الدولة المصطنعة، عسكرياً كان أو سياسياً أو مالياً، لن يقوى – كما يقول هؤلاء المفكرون، على أن يجترح المعجزة فيجعل الجيش الإسرائيلي المؤلف من ثلاثمائة ألف محارب (بعد التعبئة الكاملة) جيشاً يعد قرابة مليون ونصف (وهو تقريباً عدد جيوش الدول المحيطة بإسرائيل).
4- ورابعها أن التخلف الذي كان يعزى إلى العرب في ميدان التدريب على السلاح (والذي ترجع إليه بالدرجة الأولى تراجعاتهم وانكفاءاتهم السابقة)، قد تجاوزه واقعهم الحالي إلى حد بعيد وسوف يتجاوزنه في المستقبل دون شك تجاوزاً حاسماً.
5- وخامساً أن العرب يستطيعون على المدى الطويل أن يعتمدوا اعتماداً باقياً ومتزايداً على عون أصدقائهم وعلى تأييد الرأي العام الحر الذي يشتد التفافاً حولهم يوماً بعد يوم. وهم يستطيعون خاصة أن يعتمدوا دوماً على الاتحاد السوفياتي الذي يربح الكثير –سياسياً ونفسياً واقتصادياً ومبدئياً- من وراء تأييده لقضية العرب العادلة. بينما لا تستطيع إسرائيل أن تعتمد على دعم مستمر تقدمه لها الولايات المتحدة التي لا تفيد من تأييدها المتحيز لإسرائيل أي فائدة سياسية بل تخسر الشيء الكثير ولا سيما في المعسكر العربي.
هذا بعض ما بدأنا نقرؤه من محاكمات يقدمها عدد من المفكرين الأجانب المنحازين لإسرائيل أصلاً، والذين يسوقون ما يسوقونه من آراء في هذا السبيل لتقرير واقع موضوعي لا يغالب، ولا يفعلون ذلك انتصاراً للقضية العربية.
وهكذا فرض الواقع الحي، واقع الوقفة العربية المشرفة لاسترداد الكرامة والحق السليب، منطلقاً جديداً ظل خافتاً أو مكبوتاً طوال سنوات الهزيمة العربية. ولم يجرؤ هذا المنطق من قبل على أن يجهر برأيه، لئلا يكون سلاحاً في أيدي العرب أنفسهم… ولكن العرب أدركوا هذا المنطق ووعوه، ودلتهم عليه خاصة سنوات التجربة المريرة التي مروا بها. فإذا بهم يقلبونه إلى عمل، وإذا بالعمل يقدم لهم وللعالم أبلغ الحجج وأقواها.
* آمال زائفة:
لقد شعر العرب – وهم في ظلمات الهزيمة – أن هزيمتهم لا يمكن أن تكون إلا حادثاً عارضاً، وأنها مناقضة لمنطق الأشياء. وأدركوا بوجودهم ومشاعرهم وإحساسهم القومي العميق، أن استكانتهم لعدوان دولة صغيرة معتدية، ظاهرة زائفة غير معقولة.

وتبينوا بعمق أن العدوان الإسرائيلي لا يمكن أن ينتصر أمام إرادة أمة تملك من القدرات السكانية والاقتصادية والسياسية ما تملك، وتملك من دفعة الحضارة ما تملك. وكان لا بد لهم أن يعبئوا إمكاناتهم وقواهم واثقين من قدرتها الكبيرة والمتزايدة. فكانت وقفتهم الرائعة يوم السادس من تشرين.
أما إسرائيل فما كانت تجهل – رغم ما أصابها من عمى الغرور – حقيقة الإمكانات العربية ومعجزات تفتحها وتفجرها. غير إنها كانت تركن إلى أملين زائفين ما لبث الوجود العربي أن حطمهما:
الأول هو الأمل في كسب المعركة دون معركة، عن طريق الحرب النفسية التي شنتها، والتي أرادت عن طريقها أن توهم العرب أنها قوة لا تغالب، وأن تقنعهم بالتالي بعدم جدوى المقاومة والعناد. وقد فعلت ذلك عن طريق اللجوء إلى عمليات عسكرية خاطفة منظمة تنظيماً فنياً دقيقاً – أبرزها حملة الخامس من حزيران – لتوهم العرب أن وراء هذه “الحملات المسرحية” قوة حقيقية وطاقة سحرية لا سبيل لتحديها.
والأمل الثاني الذي حلمت به إسرائيل هو أن تعطل أكبر ورقة رابحة لدى العرب، نعني وجودهم الموحد المتكامل المتضامن، وأن تحاول تفتيت هذا الوجود العربي الهائل الذي يحكم الطوق حولها ويضيق الخناق عليها، فتحيله دويلات تصطرع وفئات تحترب.
وقد حطم العرب هذين الأملين الزائفين لدى إسرائيل عندما انتفضت كرامتهم تلك الانتفاضة الرائعة المنظمة في السادس من تشرين. حطموا الذعر الذي أرادت إسرائيل أن تمنع عن طريقه أي محاولة يتعرف بها العرب على الواقع ويخبرون من خلالها حقيقة إمكاناتهم وإمكانات عدوهم. وحطموا خاصة أمل إسرائيل في تمزيق الصف العربي، فوقفوا وقفة الرجل الواحد، وأظهروا أن ما يفرق بينهم ليس سوى الجوّ المستنقعي الذي يخلقه عجزهم عن خوض المعركة، وأن المعركة هي مبرر وحدتهم كما أن الوحدة هي مبرر معركتهم.
واليوم، وبعد أن انكشفت الحجب وزالت الأقنعة، يعود العرب أسياد الموقف. فعلى قرارهم وإرادتهم أولاً وأخراً يتوقف مستقبل اليهود الإسرائيليين هذه حقيقة يدركها اليوم كثير من المفكرين في العالم وتدركها إسرائيل، ولا بد أن يستخرج العرب منها كامل نتائجها. ولقد وضعت معركة السادس من تشرين الوجود الإسرائيلي موضع التساؤل. هذه حقيقة مكتسبة لن ترتد إلى الوراء. والعرب في ذلك أصبحوا الخصم والحكم لا مراء. وأي وجود يهودي مبني على حساب العرب ومستقبلهم وأراضيهم وحقهم في وطنهم، أصبح محكوماً عليه. من خلال هذه الحقيقة ينطلقون ومن أجلها سيناضلون ويناضلون. ولهم الغلبة دون شك، فالواقع كله إلى جانبهم، وأهم ما فيه واقعهم هم.