من حركة المقاومة الفلسطينية إلى حركة المقاومة العربية

نشر في مجلة مواقف اللبنانية، العدد ٨، آذار/نيسان ١٩٧٠

من حركة المقاومة الفلسطينية إلى حركة المقاومة العربية

كان السؤال دوماً وأبداً: كيف نعبئ الطاقة العربية الكبيرة؟ مائة مليون عربي أو يزيدون، ولكنهم غثاء كغثاء السيل. ورقعة مبسوطة من المحيط إلى الخليج، ولكنها أشبه بالسفينة التائهة يتقاذفها الموج من كل جانب. وثروات مادية وبشرية نادرة، ولكنها حرام على أهلها، حلال للطير من كل جنس. ووراء السؤال تثوي حقائق مرة عديدة:
أولها: أن الجهد العربي – الممتد خلال قرابة نصف قرن – لم يفلح، ولم يجد بعد طريقه. ولعله إن قسناه بما أصابه زمان الناس من تقدم، يسير قدماً إلى خلف. وإن قسناه بالتحديات المصيرية التي يواجهها، لم نسرف إن قلنا إنه جهد يعمل لينهزم ويتحرك ليفشل.
وثانيها، أن قدرة هذا الجهد على تجاوز ذاته، ما تزال تبدو محدودة، رغم الهزات القاصمة. فالبنية المريضة لم تثبت بعد عزمها على الشفاء واستعدادها لمقاومة الداء. والذي يبدو منها يشير في معظمه إلى أنها تكاد تستسلم لقدرها، بل تكاد تؤمن بأن المصير الأسوأ لابد آتيها. إن ما تحدّث به أشبه بما يحدّث به إنسان مصاب بـِ «عُصاب المصير» على حد تعبير بعض علماء النفس – يؤمن دوماً بمصير بشع ملاقيه، فيسعى إليه بظلفه، ويحفر حتفه بأنفه.
وثالثها، أن هذا الجهد لم يستطع بعد أن يكتشف موطن العلة فيه، ولم تعلمه الأحداث حقيقة أمره. إنه في معظمه يزداد إمعاناً في العلة كلما أقعدته تلك العلة، ويلتمس الدواء في الداء، لفرط ما ألف الداء. قد يهب لجهوده أسماء جديدة، وقد يلبسها أثواباً جديدة، ولكن ما هو عتيق عتيق من أساليب الفكر والعمل ما يلبث حتى يبرز من خلال الظاهر القشيب.
تلك هي الحقائق المرة الراسخة، وما سواها كذب على النفس وعلى الآخرين، وخداع نسلو به ونتسلى. قيل الشيء الكثير في وصف العلة وفي تشخيصها ولكن العلة باقية، بل هي ممعنة في البقاء مستشرية. ذلك أن الأمر ليس أمر تحليل العلة فحسب، وليس مجرد الكشف عن إدواء الجهد العربي، بل هو أمر تحريك الوجود العربي الساكن، والقضاء على العطالة المزمنة في هذا الوجود. ألف دليل عقلي لا يعدل اليوم عملاً واحداً منظماً يحرك طرفاً من ذلك الكيان الجامد. هنالك هوة قائمة بين الفكر والعمل لابد من تجاوزها. إن الفكر يصل إلى طريق مسدود إن لم يسعفه عمل يهب له معناه وقيمته. ولكن المسألة كل المسألة ههنا: كيف يكون العمل المنظم القادر على تحريك الجثة الهامدة؟
مسلمتان وراء أي عمل عربي ناجح:
منطلق هذا العمل في نظرنا مسلمتان:
الأولى أن المصدر الأول الأساسي للطاقة العربية هو أن تكون هذه الطاقة فعلاً عربية. أمل الوجود العربي الوحيد في التغلب على الوجود الصهيوني الدخيل نابع من هذه الحقيقة: لن تستطيع أمة مصطنعة حلت في قلب أمة عريقة الجذور، أن تقضي على هذه الأمة ما دامت تشعر بأنها واحدة الكيان واحدة المصير واحدة الإرادة. شيء واحد يتيح لتلك البذرة الدخيلة أن تنبت وتمتد، هو تفتت الكيان العربي وتشتت الشعور العربي، وزوال الرابطة التي تشد أبناء الأمة العربية بعضهم إلى بعض. لهذا تجهد الصهيونية منذ وجدت لتقضي على ذلك الوجود العربي المتماسك وتحيله بشتى الوسائل كياناً ممزقاً متصارعاً، ولتجعل منه في النهاية – فيما ترجو – دويلات لا يقوم بينها أي شعور بأواصر القربى وروابط المصير، إن لم يقم بينها العداء والصراع. وشيء واحد يحقق للوجود العربي القدرة على التقدم والثورة في شتى جنبات حياته، هو أن ينطلق عمله في سبيل التقدم والثورة من خلال صيغة عربية موحدة متكاملة، من خلال الإيمان بأن الوجود العربي الواسع هو وحدة التربة القادرة على استيعاب شروط التقدم، لا سيما أمام تحديات التفوق العالمي وفي عصر لم تعد تجدي فيه الكيانات الصغيرة.
والمسلمة الثانية أن الطاقة العربية هي مجموع الشعب العربي، وليست الطاقة المتمثلة في جزء منه، في قياداته أو حكامه أو جيوشه أو أنظمته. وقيمة أي نظام ومبرر وجوده يثويان وراء ما يستطيع أن يطلقه من قوى الجماهير وعطائها وعملها. والقيادة معناها أن نقود جموع الشعب نحو مزيد من الجهد والبذل والنتاج. إنها تعني أن نقود شعباً قائداً، لا أن نعطل قوى الشعب لنقوده. إن تحرير جموع الشعب المكبلة المغلولة بشتى أنواع القيود، هو المهمة الأولى للقيادة الحقيقية. وأياً كانت المبررات والأسباب والدعاوى، ليس من المقبول أن تكون نتائج القيادة مزيداً من العزلة بين الشعب والقيادة، تؤدي بدورها إلى مزيد من الأغلال وتعطل كل تحرر عميق. ولا يغيّر من الأمر شيئاً أن نفرض القيود باسم التقدم أو باسم سواه، فالنتيجة سواء، والتقدم لا يكون بدون شعب حر الإرادة يجند نفسه من أجله. إن الثورة الحقة هي تعبير عن إرادة الكثرة الكاثرة من الجماهير وعن مصالحهم، وهم بالتعريف جنودها وحماتها وأصحاب المصلحة فيها. ومن هنا كان مدى تعاظم إسهامهم فيها قياساً لمدى تعاظم ثوريتها. أما انحسارهم وأما بعدهم، فلا يعني إلا شيئاً واحداً: وهو أن الثورة ثورة فئة أو جماعة
أو طبقة، وليست ثورة الشعب.
هاتان المسلمتان لا يجادل في أولويتهما أحد. ومع ذلك فنتائجهما هي المهملة دوماً وأبداً، والعمل من أجلهما هو العمل المشلول المعطل. قد تقوم جهود مبعثرة كثيرة، من أجل تجاوز أزمة الوجود العربي، ولكنها جهود تخبط خبط عشواء، لأنها تهرب من هاتين المسلمتين وتأبى أن تستخلص منهما ما يلزم عنهما من نتائج.
وبداية العمل المجدي وبداية العمل القادر على تحريك الجو العربي الآسن أن ندرك ما هو أساسي وما هو ثانوي، وأن نرد العلل إلى أصولها، وأن نملك نظرة كلية تبين لنا ما هي الأصول وما هي الفروع، وما هو أولى بالتقديم وما هو أولى بالتأخير. إن العمل لكل شيء في آن واحد، يعني العمل للاشيء. وقيمة الجهود لا تكمن في عدتها بل في تنظيمها وانطلاقتها من أسس سليمة ومن استراتيجية محكمة فعالة. ومن هنا فلن يجدي الجهد العربي ما يبذل وما يحار في بذله، ما دام عاجزاً عن مواجهة الموضوعين الكبيرين اللذين تولد منهما سائر الموضوعات وتأخذ سائر الأمور من خلالهما معناها وقيمتها: نعني الوصول إلى توحيد المعركة العربية من جانب، وتوفير تفاعل جماهير الشعب وكثرته مع القيادات، من جانب آخر. هاتان هما ضالّتا الجهد العربي، ومن أجلهما ينبغي أن يعمل. والضعف في نجع الجهود التي تبذل وفي فعالية الأعمال التي تقوم، يرجع في النهاية إلى أننا لم نعزم بعد عزماً حقيقياً على أن نواجه هاتين الحقيقتين، وعلى أن نستخلص منهما ما يترتب عليهما من نتائج مهما تكن التضحيات كبيرة.
العمل الفدائي هو الصيغة الجديدة للعمل العربي الفعال:
على أننا حين نطلب إلى الأنظمة العربية القائمة أن تواجه هاتين الحقيقتين مواجهة مسؤولة وشجاعة، فكأننا نحمل الأشياء غير طباعها. فطبيعة هذه الأنظمة ومنطق تفكيرها وعملها ومبررات وجودها أمور تجعل لزاماً عليها أن تهرب من النتائج المنطقية التي تلزم عن هاتين المسلمتين. وتاريخها حتى الآن هو تاريخ الهرب من الوقوف أمامهما وجهاً لوجه. والخامس من حزيران يشهد على أن هذه الأنظمة هي التي يسرت الهزيمة حين استهترت بتعبئة هاتين القوتين: قوة العمل العربي الموحد المتكامل، وقوة الالتفاف الشعبي المؤمن. وليس هنالك حتى الآن ما يشير إلى أن هذه الأنظمة التي ولّدت الهزيمة قادرة على تجاوز ذاتها ومغالبة طبيعتها وتكوينها. وتأتي المقاومة الفلسطينية لتكون الجواب، ولتعلن عملياً عجز الصيغ القديمة والحاجة إلى صيغة جديدة، قادرة على البداية السليمة الحرة من أثقال الماضي، وتعيد الحركة الفدائية والمقاومة الفلسطينية داخل الأراضي العربية المحتلة الأمل إلى الوجود العربي وإلى الأمة العربية، وتضعها على بداية طريق الخلاص، وتقضي على عوامل اليأس لديها، وتومئ لها بأن النصر ممكن. غير أن هذه الحركة المليئة بالأمل والوعود، لابد لها – لتكون الطريق الصامدة الصابرة المؤدية إلى النصر – أن تأخذ في اعتبارها الشروط الأساسية اللازمة لاستمرارها في المعركة ولتعاظم دورها ولبلوغها النصر. وهذه الشروط تنتسب في النهاية وترتد – في نظرنا – إلى الشرطين الكبيرين اللذين كانا وما يزالان ضالة الوجود العربي، والمسؤولين عن تخبطه وضياعه. إنهما الشرطان اللذان يحققان وحدة العمل العربي والتفاف جماهير الشعب العربي. إن المطلوب إلى الحركة الفدائية وإلى حركة المقاومة الفلسطينية أن تحقق ما عجزت الوسائل الأخرى عن تحقيقه وما قصرت عنه النظم العربية، وبذلك وحده تكون تجاوزاً حقيقياً وعميقاً لتلك النظم، وتعبيراً عن ثورة عميقة في أسلوب العمل العربي. فليست مهمة هذه الحركة أن تستخدم أسلوب الفداء في إطار البنية العربية الضعيفة القائمة أو في معزل كامل عنها، بل مهمتها أن تجعل من الفداء وسيلة لتغيير هذا الإطار من أساسه. ومسألتها مسألة صراع بينها وبين هذا الإطار المريض: فإما أن تقوى على تحطيمه، وإما أن يحطمها. وعبثاً تفر من هذه الحقيقة. إن نتائجها سوف تلاحقها دوماً، وإن شعورها بأهميتها سوف يزداد يوماً بعد يوم.
غير أن مثل هذا الموقف يصطدم بصعوبات عديدة:
أولها أنها من حيث الأصل حركة فلسطينية، تريد أن تستعين بالوجود العربي القائم من أجل بلوغ أهدافها الفلسطينية الخالصة. ومعنى هذا أنها لا تريد أن تمس هذا الوجود الذي يقدم لها العون المادي والمعنوي. ومن هنا فهي تفضل ألا تستخرج من ظهورها كل النتائج والمعاني التي يحملها هذا الظهور، وتؤثر أن تقتصر على المعنى الظاهري، معنى تعبئة الفلسطينيين تعبئة دموية من أجل استعادة حقهم السليب. وتترك بعد ذلك للمستقبل ولتطور قوتها ما قد يقودها على صراع بينها وبين الكيان العربي المريض.
وثانيها أنها تخشى تعقد الوجود العربي وتعقد مشكلاته، وتخشى أن تقحم نفسها في ميدان صعب ودوامة مخيفة، حين تقحم نفسها في مشكلات هذا الوجود وعلله ومذاهبه وتياراته. ولهذا تفضل أن تقف موقف الحياد من هذه العلل والمذاهب والتيارات، وأن تقتصر على هدف أبسط وأوضح وأجدر بأن يجمع من حولها القوى ويحول دون انقسامها شيعاً، هدف التضحية من أجل تحرير الأرض المغتصبة.
وثالثها أنها تعتقد أن الوسيلة الأجدى لبناء الحركة العربية القادرة على تجاوز الواقع العربي وعلى تقديم الحل الحقيقي لازمة الوجود العربي، هي أن تتكون هذه الحركة من خلال العمل، من خلال الثورة الفعلية، من خلال تجربة الفداء والبذل. إنها ترى أن الحركة الثورية العربية المنشودة لا يجوز أن تبنى بناء نظرياً بارداً، بل لابد أن تتكون عبر المعركة، وأن تتضح معالمها من خلال التحام العناصر القادرة على دخول المعركة، وأن تقودها القيادات التي تكونت خلال المعركة ونجحت فيها.
الحركة الفلسطينية لابد أن تكون حركة عربية شاملة:
هذه كلها صعوبات واقعية وحجج فعلية صحيحة في ظاهرها. ولكنها مع ذلك لا تغير من واقع الأمر شيئاً:
1- فالحركة الفلسطينية – مهما فعلت – لن تستطيع أن تبقى فلسطينية إذا هي أرادت فعلاً أن تستمر وتبقى وتنجح. إن بعدها الحقيقي هو بعد الجماهير العربية كلها، وإن قوتها تكمن في انقلابها إلى حركة مقاومة عربية. وامتدادها العربي هو الذي يحول دون مقاومة الأنظمة العربية لها، لا العكس. صحيح أن الجماهير الفلسطينية لابد أن تكون رأس الحربة في هذه المقاومة العربية، ولابد أن تتولى القيادة في معركة هدفها الأساسي تحرير فلسطين من أجل تحرير الوطن العربي كله. ولكن هذا لا يعني أنه في وسعها أن تعمل وحيدة في الساحة. إن العمق العربي هو الذي يحميها، يحميها من عدوها الأول، الصهيونية وقواها الكبيرة، ويحميها من آفات الوجود العربي التي يمكن أن تقضي عليها.
2- إن من الخطأ الفادح أن نجعل الجماهير العربية الغفيرة تنام على أمل وثير، هو الأمل في فئة تتولى بالنيابة عنها مهمة الدفاع عن وجودها والقضاء على عدوها. ولا يجوز أن نعيد هذه الجماهير كرة أخرى إلى نوع من التفكير السحري، طالما كان مسؤولاً عن فشل المعارك العربية في الماضي، هو أن نوهمها بأن في وسع أي فئة أو جيش أو نظام أو حركة أن تتولى عنها معركة لن تنجح إلا إذا شاركت فيها بجموعها الكبيرة وقواها المحتشدة. والمهمة الأولى لحركة جعلت التضحية والإقدام على الموت شعاراً لها وآمنت بهما طريقاً للنصر، أن تقحم الجماهير العربية في هذه التجربة وأن تدربها على شعار التضحية وتبعدها عن حبّ السلامة وتعدها لامتطاء طريق الموت.
3- إذا كان التدخل العربي في المنظمات الفدائية هو الذي يشكل اليوم خطراً على هذه المنظمات وهو الذي يعمل على انشقاقها، فعلاج ذلك لا يمكن أن يكون بمنع هذا التدخل – لأنه مفروض على أي حال – بل بقلبه من تدخل تقوم به الحكومات وحدها إلى تدخل شعبي واسع يحول بين الحكومات وبين استغلال هذا العمل لأغراض ضيقة. ولا يكون ذلك إلا بتوسيع قاعدة انتماء جماهير الشعب العربي إلى العمل الفدائي. فوحدة العمل الفدائي لا يمكن أن تكون سوى انعكاس لوحدة إرادة الجماهير العربية، وإلا تحقيقاً لنزعة هذه الجماهير الطبيعية إلى العمل الموحد والهدف الموحد، عن طريق إشراكها الواسع في هذه الحركة الفدائية الثورية المنشودة. إن العمل الفدائي لابد أن يكون مشتتاً منقسماً حين يمثل فئات أو أنظمة، ولكنه لابد أن يكون موحداً حين يمثل الجماهير العربية في مداها الكبير وفي إرادتها الموحدة التي حالت دونها صراعات الفئات والأنظمة.
4- لقد آن الأوان لأن يدرك الشعب العربي – بعد تجاربه المديدة والمريرة – أن تجاهل المشكلات لا يجدي، وإن إهمالها لا يعني زوالها. لابد أن توضع النقاط على الحروف وأن نواجه الواقع، مهما بدا لنا معقداً صعباً. فالواقع هو الواقع، ولا سبيل إلى مغالبته إلا بفهمه والإقرار بوجوده أولاً. قد يكون من القاسي على آمال العمل الفدائي أن يستخرج من الواقع العربي كل ما يوحي به من نتائج. ولكن الواقع القاسي هو الذي يربي إرادة أي عمل نضالي ويزيد في ضراوته وبأسه. قد يبدو له الخوض في متاهة الوجود العربي أمراً صعباً، ومزلقاً لا يسهل الخروج منه. ولكن، لابد مما ليس منه بد. لابد أن نسلك الطريق ولو دارت. لا تستطيع الحركة الفدائية أن تدير ظهرها للوجود العربي المريض، فلا سلامة لها عند ذلك. لا تستطيع الحركة الفدائية أن تتجاهل أن المسألة مسألة إيجاد الصيغة الجديدة لإشراك الجهد العربي كله ولإشراك الجماهير العربية كلها في معركتها ومصيرها. لا تستطيع أن تنسى أنها وجدت لهذه الغاية. وجدت لتقدم الصيغة القادرة على توحيد العمل العربي وعلى لف الجماهير الشعبية العربية. إن طريقها هو طريق تحرير الجماهير من القيود التي كانت تحول دون مشاركتها في المعركة، وتحرير الكيان العربي من الحدود التي كانت تحول دون لقائه ووحدته. وقد وجد هذا الطريق، ووجدت القوة القادرة على كسر تلك القيود. إنها القوة التي يمنحها الفداء وتمنحها التضحية الصادقة للجماهير العربية حين تدفع ضريبة الدم، فتجعلها أقوى من القيود التي تغلها ومن الحدود التي تفصل بينها ومن الفئات التي تجمدها والنظم التي تفرض عليها وصايتها بالقوة.
لابد إذن من تسمية الأشياء بأسمائها. إن حركة الفداء والمقاومة ليس في معناها العميق حركة فلسطينية. فضل الحركة الفلسطينية أنها استطاعت أن تضع يدها على الداء وأن تكتشف الطريق وأن تيسر أمام الجماهير العربية مهمة التحرر والثورة. لقد أعلنت بقيامها نهاية التجارب العربية الماضية، وبينت أن الصيغة الثورية الجديدة هي الصيغة المنبثقة من طبيعة المعركة العربية مع الصهيونية والاستعمار، أي من الفداء والتضحية. وكشفت عن أن هذا الفداء هو الصيغة التي تستطيع أن تجمل الجماهير العربية وتجندها، لتخلق الحماية اللازمة للثورة الجديدة وللجماهير العربية معاً. لقد حركت الثورة الفلسطينية الجماهير العربية، فدلتها على طريق تحررها، ودلتها خاصة على طريقة حماية الثورة. ومن هنا كان التحام هذه الثورة الفلسطينية بالجماهير العربية هو الحماية لكليهما. إن الشكل المميز للثورة العربية، النابع من ظروفها وحاجاتها، ذلك الشكل العربي الذي كان ضالة الأفكار والمذاهب والتيارات خلال العقود الماضية من السنين، قد أخذ يتضح أخيراً من خلال المعركة. إنه الثورة العربية التي تبينها الجماهير العربية العازمة على المحافظة على وجودها بالتضحية والفداء. وعندما تنطلق هذه الثورة، وتصبح عربية حقاً وجماهيرية حقاً، لابد أن تكون بطبيعة الحال ثورة تعبر عن أهداف هذه الجماهير الغفيرة المشاركة في الثورة، أي لابد أن تكون أهدافاً شعبية تحررية اجتماعية واقتصادية سليمة، بالإضافة إلى كونها أهدافاً قومية شاملة.

السبل العملية لبناء حركة المقاومة العربية الموحدة:
أما السبل العملية لجعل الحركة الفلسطينية حركة ثورة عربية، فلا يعنينا كثيراً أن نتحدث عن تفاصيلها. إنها سبل تدل إليها حركة النضال ذاتها وحركة المقاومة المتعاظمة نفسها. وأهم من البحث فيها اتخاذ هذا الموقف الأساسي الجذري، وتبني حركة المقاومة له. وعند ذلك لن تعوزها السبل. بل إن الواقع يدلنا إلى حد كبير أن مثل هذا الانقلاب للحركة الفلسطينية إلى حركة عربية جماهيرية شاملة، أمر يتم من تلقاء ذاته ويزداد وضوحاً يوماً بعد يوم. وكل ما نخشاه أن تنظر إليه الحركة الفلسطينية في خجل واستحياء، أو في خشية وخوف، فتعطل انتشاره وامتداده السريع. على أننا نشير مع ذلك إلى بعض هذه السبل:
أولها دون شك أن يفسح المجال واسعاً أمام دخول أبناء البلاد العربية جميعها في العمل الفدائي، مع الإبقاء على دور الفلسطينيين البارز وقيادتهم الضرورية. إن هذه المشاركة الواسعة – بالإضافة إلى معانيها المهمة العديدة – هي الوسيلة المثلى لجعل الكيان العربي كله معنياً بالمعركة، ولدفعه دفعاً حقيقياً في طريق إدراك مستلزماتها وشروطها. وهي فوق هذا وقبل هذا، شرط ضروري لإخراجه من إطار البحث عن خلاصه مع خلوده إلى حب السلامة والراحة، إلى الإطار الجدي للخلاص، إطار البحث عن الطمأنينة العميقة الباقية من خلال تهديم الطمأنينة الزائفة.
وثانيها أن تكون مشاركة أبناء البلاد العربية مشاركة جماهيرية حقاً، تتم بالدرجة الأولى عن طريق الانتساب الحر من قبل أبناء الشعب العربي، لا عن طريق الحكومات. إننا لا نرفض اشتراك أبناء البلاد العربية عن طريق منظمات فدائية تكونها الحكومات، فقد تكون هذه الوسيلة من جملة الوسائل، غير أن المشاركة الفعلية والأساسية ينبغي أن تكون عن طريق جماهيري عفوي. بهذا الشرط تصبح الحركة الفدائية حركة جماهيرية معبرة فعلاً عن إرادة الجماهير الواسعة وأهدافها العريضة، وتزول عنها صفة التشرذم، وتصير يوماً بعد يوم حركة الثورة العربية الجماهيرية الكاملة.
وثالثها أن يكون توسيع إطار الثورة الفلسطينية على هذا النحو لتصبح ثورة عربية، عملاً مشتركاً بين الحركة الفلسطينية والقوى العربية الحقيقية الممثلة للشعب العربي ولطلائعه الفعالة. فلا يجوز أن نلقي عبء تعريب الثورة الفلسطينية على الثورة الفلسطينية وحدها، فمثل هذا العبء، قد تعجز عن حمله وقد لا ترى من المعقول والمقبول أن تتصدى وحدها لحمله. لهذا لابد من تنظيم طلائع عربية – غير حكومية ما أمكن ذلك – في كل قطر عربي من أجل قيادة الدعوة إلى حركة الفداء، ومن أجل تنظيم الانتساب إليها، ومن أجل تنسيق العمل مع التنظيم الفلسطيني المستوعب في النهاية لهذه الحركة كلها. ومن المهم أن تضم هذه الطلائع دوماً في قياداتها عناصر فلسطينية مناضلة، بل أن تكون هذه القيادات المحرك الأول لولادة هذه الطلائع واستقطابها.
ورابعها أن تعمق الثورة الفسطينية العربية صلاتها مع الحركات التحررية في العالم كله، وأن تتخذ من هذه الحركات امتداداً لها وحماية. إن من المهم أن تبرز هذه الثورة أمام الرأي العام الحر في العالم كثورة لا تستهدف مجرد استرداد أرض مغتصبة وعودة شعب إلى دياره، بل تستهدف معاني إنسانية أعمق وأشمل هي معاني النضال ضد القوى الاستعمارية والإمبريالية والصهيونية التي خلقت هذا الجسر الاستعماري في الوطن العربي، وأرادت أن يكون حاجزاً دون المد الثوري فيه ودون تحرره الحقيقي من السيطرة الاستعمارية. واتخاذ هذه الثورة مظهر الثورة العربية الشاملة التي تكون الحركة الفلسطينية رأس الحربة فيها، بدلاً من ظهورها بمظهر حركة فدائية فلسطينية محدودة هدفها العودة إلى الأرض والديار، من شأنه أن يمنح هذه الثورة بعداً عالمياً مهماً، ويمدها بقوى متعاظمة متكاثرة، ويجعل منها واحدة من حركات التحرر العالمية الكبرى، ويجند لبقائها واستمرارها ونجاحها القوى المادية والمعنوية الهائلة والمتزايدة التي تضمها حركات التحرر في العالم.
وخامسها ألا يقتصر الحوار والتعاون مع الحركات التحررية العالمية على قطر دون قطر أو على نظام دون نظام. فهنالك في جميع أنحاء العالم قوى اعتراض ونقض وتمرد وثورة، تضع النظام العالمي كله – في شرقه وغربه – موضع التساؤل، وتتهم الحضارة الحديثة وتجرّحها. إنها قوى وحركات وأفكار خفية ومنظورة، تريد أن تعيد النظر في الحضارة الصناعية الحديثة من أساسها، وترفض رياءها وتزييفها، وما تتصف به من زجر وقمع وما تقود إليه من تحكم الإنسان في الإنسان. نجد جذور هذه الحركات في الفيتنام وكوبا والصين، كما نجدها في حركات الطلاب في شتى أنحاء العالم، وفي حركة الزنوج في أميركا وفي تململ الشعوب الآسيوية والأفريقية، وفي كثير من حركات التمرد التي تقوم بها فئات وجماعات وعقول تعيش على هامش الزيف الحضاري، ولا تشترك في لعبة الشعوب. والحركة الفلسطينية المتجهة لتكون حركة عربية، لابد أن تمثل واحدة من قوى التمرد هذه، ولابد أن تلتقي معها في أمور كثيرة. إنها حركة تولد من جماعات محرومة معزولة ألقيت على هامش المجتمع، ولفظتها الحضارة الحديثة الكاذبة لتلقي بها في الخيام، ولابد لها بالتالي أن تمثل فيما تمثل رفضاً إنسانياً عميقاً لهذه الحضارة الزائفة التي تزيد في اضطهاد الإنسان باسم التقدم، والتي تستعبد الملايين استعباداً منقّى مصفّى. لابد أن تولّد هذه الحركة عمقاً فكرياً فلسفياً، يجعلها في مصاف سائر الحركات التي ترفض وتتمرد على هذه الحضارة، لا باسم العود إلى البدائية واللاحضارة، ولكن باسم السعي لحضارة إنسانية حقيقية تحترم الإنسان وتحقق سعادته وترفع عنه كابوس الكبت والزجر. لابد لها أن تهز الوعي الإنساني المريض، الذي يحمل مع ذلك ظاهر العافية والسعادة، ويمثل نوعاً من الوعي السعيد الزائف، على حد تعبير هيجل. إنها حين تحمل تعاستها وبؤسها وخيامها، حين تحمل هذا الإفراز المهين الذي أفرزته حضارة التقدم في القرن العشرين، لتمضي به متحدية محاربة، فإنما تحمل في الوقت نفسه كل ما في القيم الإنسانية العميقة من قوة وبأس وقدرة. إنها لا تحارب من أجل استعادة أرض مغتصبة فحسب، ولا تحارب من أجل تحطيم الاستعمار والصهيونية فحسب، بل تحارب فوق هذا من أجل تحطيم حضارة زائفة يفرزها التقدم التكنولوجي والصناعي، ومن أجل بناء حضارة إنسانية جديدة تتجاوزها علماً وصناعة وقيماً. وبهذا تحمل معها نفحة الإنسان الحق ونفحة المستقبل. وليس أقوى بأساً ومضاء من حركة تحمل بيدها مشعل الإنسان المضيء. ومن أجدر بمثل ذلك من حركة تحمل اليأس الإنساني العميق والتعاسة الإنسانية المصفاة تحت الخيام خلال عشرين عاماً، لتجعل منها قوة قادرة على أن تسخر من كل قوة، ما دامت تسخر من الموت.
نحو ثورة عربية شاملة:
إن الثورة الفلسطينية، السائرة لتكون ثورة عربية شاملة، يرجى لها أن تلتقي مع أترابها من ثورات العالم، لتكون ثورة الاضطهاد والمضطهدين، ثورة المعذبين في الأرض، ثورة الملايين المرشحين لأن يلقي بهم دولاب الحضارة الحديثة ويرمي بهم باسم الحضارة، ثورة العالم الثالث كله في نهاية الأمر المرشح يوماً بعد يوم – بفضل التقدم المزعوم – لأن يغدو عالم العبيد الذي يخدم عالم السادة. بل إنها مدعوة لأن تكون مع أترابها، ثورة العالم كله الذي أعطته الحضارة الشيء الكثير وأفقدته نفسه، والذي علمته تلك الحضارة أن يكبت نفسه بنفسه ويزجر نفسه بنفسه باسم التقدم والحضارة، وأن يقبل حضارة بلا روح ومدينة بلا قلب. وبعد أفلا تمثل إسرائيل التي أفرزها التقدم وأفرزتها الحضارة، قمة تعاسة هذه الحضارة وهزلها ومجونها وهزأها بالإنسان؟ أو لم يتصور العالم الغربي «المتحضر» في يوم من الأيام أن معركة إسرائيل مع الشعب العربي، أشبه بمعركة صفوة من العلماء والفنيين لهم كل حقوق العيش الكريم، مع فرقة من المتوحشين جديرة بالفناء ليحيا من هو أجدر منها بالبقاء؟
ولكن الكرامة الإنسانية قادرة دوماً أن تثبت أن قضية الإنسان ليست مجرّد قضية تفوق علمي وفني، وأن هذه الكرامة حين تحمل السلاح وتركب الموت تستطيع أن تنقل الجبل من مكان إلى مكان. ولنا في بطولة «الفيتنام» مثل ساطع. إنها النقض العملي لقيمة الحضارة الحديثة، والتبشير العميق بما يتجاوزها. إن في وسع الإيمان بقيم الإنسان أن يجلب التقدم العلمي والفني في معناه الحق، وليس في وسع التقدم العلمي والفني المفرغ من قيم الإنسان أن يجلب الإيمان القادر على حماية ذلك التقدم.
إن أعمق ما يشهد على المعاني الإنسانية التي تحملها الثورة الفلسطينية ومن ورائها الثورة العربية الممتدة منها، إنها تعلن منذ اليوم أنها لن تكون حركة تتنكر لحق اليهود في العيش في فلسطين جنباً إلى جنب مع العرب، يوم يفرق هؤلاء اليهود بين وجودهم وبين الحركة الصهيونية العالمية المستعمرة وأطماعها التوسعية.
إن هذه الثورة تلتقي في أعماقها مع الشعارات الإنسانية التي حملتها القومية العربية دوماً في عصور ازدهارها، ومع الروح الإنسانية التي بشرت بها ومع المعاني الإنسانية التي يسعى إليها الإنسان الحديث. وهي تحمل السلاح في سبيل هذه القيم، ما دامت الآسنة سبيلها الوحيد إلى توكيدها. إنها لا تدعو إلى قومية شوفينية ضيقة، على نحو ما تفعل الصهيونية، بل تحارب الصهيونية لتقيم القومية العربية المنفتحة التقدمية الإنسانية، ولتقضي إلى الأبد على مخلفات التفكير القومي التعصبي الضيق الذي تريد الصهيونية أن تحمله إلى العالم في أواخر القرن العشرين وتباشير القرن الحادي والعشرين.
ولكن يطول بنا الحديث لو أردنا أن نستنفد كل ما توحي به المقاومة العربية من شجون وما يمكن أن تحمله من معاني قومية وإنسانية عميقة. وهيهات أن نوفي في هذه العجالة جانباً مما يجدر بحثه عند الحديث عن هذه المقاومة.
وحسبنا أن أومأنا إلى أهم ما في الأمر في نظرنا: المقاومة الفلسطينية لابد أن تنتهي إلى حركة مقاومة عربية، بل إلى حركة مقاومة عالمية إنسانية. هذا هو الشأو الذي يرتفع بها إلى مستوى المعركة ويضعها في حجم المهمة ومقياسها. ولقد بدأت بوادر ذلك فيها، ولابد أن تتعمق هذه البوادر، ما دامت هذه الثورة حية مستمرة. وهدف الجهد العربي، في مختلف مستوياته، ينبغي أن يكون العمل على توفير الشروط اللازمة لتفتح هذه المقاومة وبلوغها كامل أبعادها ومداها. فأمل الوجود العربي هو هذا الأمل الوحيد، وفرصته هذه هي الفرصة الذهبية. لن يفقد شيئاً حين يضع كل ثقله في سبيل حماية هذه الحركة الفتية وحين يجعل منها حركة الشعب العربي كله، بل سوف يربح من خلالها كل شيء. لم يبق لدى الأمة العربية من أقصاها إلى أدناها ما تفقده. إنها مهددة بالفناء وبالموت البطيء. لن يجديها أن تفكر في أي شيء، في الأنظمة، في المصالح، في الأهل والولد، في حياة الدعة والسكينة. فهذه كلها لن تقوم لها قائمة إذا هي ظنت أن في وسعها أن تحافظ عليها بالركون إلى طريق السلامة. إن عليها أن تدرك وتثق أن عهد الأمن والطمأنينة والراحة قد مضى، وأن عليها أن تهدم طمأنينتها الزائفة لتبني طمأنينتها الحقيقية. من قلب المعركة وحدها يمكن أن يولد المستقبل المضيء، ومن تحدي الموت يمكن أن تولد الحياة. السلام لن يصنعه لها أحد، إن لم تصنعه بحبائل الموت.
إلى حركة المقاومة العربية الشاملة ندعو، فليس دونها خلاص.

عبد الله عبد الدائم