معركة فلسطين بين الخرافة والحقيقة

نشر في مجلة «المعرفة» الصادرة عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق،
في عدد آذار/مارس ١٩٦٦

بين الخرافة والحقيقة

مدخل:
خرافة الصهيونية وحقيقة العروبة: هاتان هما حلبتا المعركة قبل ولادة إسرائيل وبعد ولادة إسرائيل.
فهل تنتصر الخرافة على الحقيقة، وهل تلبس الخرافة ثوب الحقيقة وتتردى الحقيقة فتلامس الزيف؟
المسألة كل المسألة أن تستطيع الحقيقة تعرية الزيف، وأن يقوى الحق على أن يكون حقاً.
فالزيف لا يتراجع طائعاً أمام الحقيقة، لأنه زيف. والمزيف ماض في لعبته عازم على جريمته، سعيد بباطله، ضاحك ملء فيه، ما دام سحره قد فتك، وما دام كيده قد أفلح، وما دام الحق قد أكدى.
والحق أضعف من الزيف، ما دام مطمئناً إلى حقه اطمئنانه إلى عصا سحرية تغير الأمور سهواً رهواً، مؤمناً بنصره إيمانه بما في المثل الأعلى من إعجاز.
للباطل الغلبة على الحق، ما دام الحق يظن أنه قوة تعمل بنفسها، وأنه أمر مستبين بذاته، نور يضيء الظلمات.
الباطل عنيد مثابر، لأنه يحيا من إمعانه في باطله، ويقوم وجوده على الجهد والعناء في سبيل توكيد الزيف وإطالة اللعبة، وطمس الجريمة.
والحق قد يستكين، وقد تأخذه العزة، وينال منه الغرور، فيكتفي بحقه من أجل توكيد حقه ويرى أن نور الشمس لا يحتاج إلى برهان وأن النصر مكتوب له لا محالة.
أجل، تلك هي المعركة: صهيونية زائفة، توسلت بكل وسائل الخداع، وأيدت خداعها بالعلم والعمل والدأب، في سبيل خلق أمة وخلق كيان لتلك الأمة.
وقومية عربية عميقة الأصول والجذور، لها جميع مقومات الوجود المشترك وعناصر الوحدة المتينة وخصائص الشعب العريق التليد، تعجز حقيقتها الواحدة العميقة عن أن تنقلب إلى واقع حي، ويقصر وجودها عن مداه، ولا تدرك قواها غايتها فتلفي نفسها ضعيفة أمام باطل غيرها، وتجد قوميتها الصادقة متخاذلة أمام أسطورة الصهيونية.
(أولاً) الخرافة وأساليبها:
ولنعد قليلاً إلى الوراء: حركة صهيونية منقوصة، مختلقة الأصول. أرادت بالدأب على ممارسة الكذب وتسليحه بالفكر والذكاء، أن تخلق قومية موهومة، «أسطورة» قومية، على غرار ما أراد المفكر النازي «روزنبرغ». زيفت كل شيء: حقائق التاريخ، وأقوال التوراة، وأهداف الديانة اليهودية، لتخلق في عقول اليهود وهماً يشتد ويتزايد ويصدّق نفسه، وهم الشعب اليهودي الموحد، المنتسب إلى أصل واحد ودين واحد، الجدير بتكوين أمة واحدة، وكيان سياسي واحد.
1 – تحريف التاريخ:
لجأت إلى التاريخ، لتحمّله ما لا يحتمل، ولتتقول عليه، زاعمة أن لها حقوقاً تاريخية في فلسطين، مدعية أن يهود العالم المبثوثين في أرجاء الأرض هم من سلالة أبناء داود وسليمان ومن نسل بني إسرائيل القدماء.
لم تأبه لحقائق التاريخ تحدثنا عن أن بني إسرائيل القدماء طرأوا على فلسطين، وهي مأهولة بسكانها الكنعانيين العرب والعموريين والفلسطينيين، وأنهم خرجوا منها قبل ألفي سنة،
وأن فلسطين لم تخلص لهم سكناً ولا حكماً قط حتى في أزهر أيامهم، وأنهم كانوا لها غازين، يحتلون بعض أجزائها ردحاً من الزمن ثم يطردون منها خاسرين. تجاهلت أن فلسطين ظلت كنعانية عربية حتى عام 1000 ق.م.، وأن دولة اليهود التي أرادت أن تحتل فلسطين لم تعمر إلا أربعة قرون (1000 – 586 ق.م.) حافلة بالاضطرابات والحروب الداخلية والخارجية، وأن غزوات أخرى غير غزوات اليهود مرت بفلسطين، إذ غزاها الفرس الإيرانيون (عام 539 ق.م.) وألحقوها بدولتهم خلال قرنين، وغزاها الإسكندر المقدوني (عام 332 ق.م.) وأتبعها لدولة الإغريق، وغزاها العرب الأنباط (عام 90 ق.م.) وظلت تابعة لعاصمتهم بتراء حتى احتلها الرومان. وتجاهلت فوق هذا وقبل هذا أن العرب المسلمين حرروها من حكم الرومان (عام 636 م) وطبعوها نهائياً بالطابع العربي الخالص لغة وديانة، فتعرب سكانها الأصليون، وهم من سلالات الكنعانيين العرب أو من غزاة المهاجرين والغزاة المندمجين فيهم، ودانوا بالإسلام، وظلت فلسطين عربية خالصة شعباً ولغة وديانة، حتى عام 1918 م حين احتلها الإنكليز.
2 – خرافة العنصر اليهودي:
وأضافت إلى تحريف التاريخ وخرافة التاريخ، خرافة العنصر اليهودي، فلجأ «هرتسل» و«وايزمن» وغيرهما من مؤسسي الصهيونية إلى إقناع اليهود بالعنصرية اليهودية، رغم إيمانهم الكامل ببطلانها في نظر العلم والتاريخ. لقد زينوا لليهود أن يهودي اليوم ينحدر من أولئك اليهود الأقدمين الذين سكنوا الأرض المقدسة يوماً من الأيام. وتناسوا أن النظرية العرقية العنصرية نظرية باطلة من أساسها، وأن معظم الفئة القليلة المستضعفة التي بقيت من اليهود بعد ضربة الرومان في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد اعتنقت المسيحية واندمجت مع السكان الآخرين ثم اندمجت في الإسلام والعروبة، وأن معظم الذين تشتتوا في أنحاء سورية ومصر وشمال أفريقية واستطاعوا أن ينجوا من المذابح في عهد الرومان اعتنقوا الإسلام واندمجوا في الإسلام والعروبة، وأن الذين بقوا على يهوديتهم بين الأقوام الأخرى في آسيا وأفريقيا وأوروبا اختلطت دماؤهم بدماء هذه الأقوام. بل تناسوا فوق هذا أن كتلاً كبيرة من أصل آري في آسيا وأوروبا اتخذت اليهودية ديناً، سواء قبل ميلاد المسيح أو في حقب التاريخ المختلفة(1).
لقد زيفت الصهيونية هذه الحقائق كلها، وأغمضت عينيها عن اختلاط دم اليهود بدماء الأقوام التي عاشوا بينها. وتجاهلت أن الدم الإسرائيلي القديم قد باد أو كاد، وأن يهود اليوم شتات من أجناس ولغات ودماء متباينة، وأن الدين اليهودي، وهو الرابطة الوهمية التي تجمعهم، أعجز من أن يلمّهم حول هدف واحد، وأضعف من أن يؤمن به جميعهم.
لقد كانت مهمة الصهيونية مهمة خلق تاريخ على غرار أغراضها، وقومية على شاكلة أهدافها، ودين يخدم مآربها اللادينية، لتجعل من هذا كله أداة لتحقيق كيان سياسي لها.
ويأتي الواقع قبل خلق إسرائيل وبعد خلق إسرائيل، ليكذب المزاعم، وليفضح الزيف، ولكن الزيف يمضي في جولته ويتسلح لها بزيف أكبر فأكبر: لقد أعلن «هرتسل» نفسه عام 1903، وهو الصهيوني الأول، وصاحب كتاب «الدولة اليهودية» أنه يؤيد الاقتراح البريطاني الذي تقدم به وزير المستعمرات جوزيف تشمبرلن والقاضي بإنشاء وطن قومي لليهود في مقاطعة «أوغندة» الأفريقية. وعارضه في ذلك يومها «وايزمن» وصهيونيو روسيا خاصة، وانقسم أعضاء المنظمة الصهيونية أمامه شيعتين، شيعة مؤيدة وشيعة معارضة. أفلا يقوم هذا دليلاً قاطعاً على أن مسألة الصهيونية مسألة خلق أي كيان سياسي لليهود، وأنها في حقيقة أغراضها لا تمت بصلة إلى حق تاريخي في فلسطين، وأن تخير فلسطين كان من قبيل توكيد الزيف، وتسهيل الأغراض السياسية عن طريق مزاعم تاريخية ودينية؟
غير أن الزيف تابع جولته، وأراد أن يوهم اليهود والرأي العام العالمي أن القضية قضية تاريخ ودين وشعب وعودة.
وتتحقق العودة، وتخلق الصهيونية العالمية والدول الاستعمارية دولة إسرائيل. فيأتي الواقع من جديد مكذباً مزاعم الصهيونية.
3 – إسرائيل ويهود العالم:
فإسرائيل التي حاولت الصهيونية خلقها باسم يهود العالم وبمساعدة يهود العالم، تلقى عنتاً وأي عنت في تهجير يهود العالم إليها!..
لقد جاء الواقع الصارم ليكذب الأسطورة. لقد كانت الأسطورة سهلة ما دامت تعيش في الأذهان، حتى إذا انتقلت إلى الأعيان، بدأ زيفها يتضح. يهود الولايات المتحدة الذين أيدوا إسرائيل وقدموا من أجل خلقها جهوداً جبارة ولعبوا بالسياسة الأمريكية في سبيلها، وضغطوا على رؤساء الجمهوريات من أجلها، لا يهاجر منهم إلى إسرائيل أكثر من ثلاثة آلاف! واليهود الشرقيون يؤلفون حوالي 45 بالمائة من مجموع السكان في إسرائيل، وجميعهم تدفقوا من العراق واليمن وشمالي أفريقية وسورية ولبنان، حيث كانوا يعيشون آمنين مطمئنين قبل خلق دولة إسرائيل ثم اضطروا بعد ذلك، بسبب سياسة إسرائيل، إلى مغادرة بلادهم. ويهود العراق وحدهم الذين هاجروا إلى إسرائيل نتيجة للسياسة الصهيونية يؤلفون حوالي عشر سكان إسرائيل. ولا يفوقهم في العدد إلا يهود بولونيا ورومانيا! وهؤلاء اليهود الشرقيون جميعهم يلقون خسفاً في المعاملة وتمارس الدولة ضدهم تدابير عنصرية. حتى أنهم اضطروا في تموز عام 1951 إلى القيام بتظاهرة كبرى في تل أبيب احتجاجاً على سياسة التمييز والتفرقة!
فأين هي القومية اليهودية إذن؟ وأين هم أولئك اليهود، ورثة بني إسرائيل وخلفاء يهود فلسطين القدامى، الذين زعمت الصهيونية أنها تنشئ كيان إسرائيل من أجلهم وحفاظاً على حقوقهم؟ إن أكثر من عشرة ملايين يهودي ما يزالون خارج إسرائيل، وسيظلون خارجها، وإن نداءات زعماء الصهيونية، من بن غوريون إلى غيره، واستصراخهم ضمائر اليهود ليعودا إلى إسرائيل، تذهب أدراج الرياح، وتذهب معها الأسطورة الكبرى، أسطورة الشعب العريق، الشعب الموحّد، الشعب الحافظ لقوميته، الحريص على حقه التاريخي كما زعمته الصهيونية.
إن اليهود المشردين أنفسهم، ضحايا الاضطهاد النازي، اليهود الذين كانوا يعيشون في مخيمات بالمنطقة الأميركية من ألمانيا، عام 1948، وعددهم مائة ألف مشرد، لم يطلب العودة منهم إلى فلسطين إلا نصفهم وآثر الباقون الهجرة إلى بلاد أخرى غير فلسطين. بل إن بن غوريون يضطر في تموز عام 1948 أن يخاطب بني جلدته قائلاً: إن أجيالنا السابقة لم تتحمل الاضطهاد والآلام لكي ترى ثمرة جهادها منحصرة في جمع 800 ألف يهودي فقط في إسرائيل!
ويستمر الزيف مع ذلك، وتستمر الأسطورة، ويجلو حوالي مليون عربي عن ديارهم ويهيمون في الآفاق، من أجل عدد من اليهود لا يربو عليهم كثيراً (إذا طرحنا اليهود الشرقيين الذين اضطروا إلى مغادرة بلادهم اضطراراً بسبب السياسة الصهيونية). ويريد هذا العدد القليل النازح أن يمثل روح اليهودية وتاريخها وأمجادها ومصيرها، يريد أن يتحدث باسم يهود العالم، يريد أن يسخر سياسة العالم لمصلحته، يريد أن يقيم الدنيا ويقعدها من أجل حفنة من المهاجرين، من أجل موطئ قدم لصهيونيي العالم، يأنسون إليه حينما يشاؤون، وتلذ أعينهم رؤيته!
والزيف مع ذلك ماض في غيه، يخلق الأسطورة تلو الأسطورة، ويذكي الأوهام والتخرصات، ويحدث يهود العالم والرأي العام العالمي عن أمجاد طريفة لإسرائيل تضاف إلى أمجادها التليدة. يحدثها عن انتصاراته المزعومة، يحدثها عن معجزة خلقه لإسرائيل، عن بلائه في معركته مع العرب عام 1948، عن السحر الأكبر في زعمه، سحر الانتصار في معركة سيناء عام 1956، عن بطولاته الكبرى الدائبة في السلم والحرب! ويحدثها فوق هذا وقبل هذا عما يلقاه من عنت العرب، من عدائهم، من هجماتهم الظالمة، من نكرانهم لروح إسرائيل الطيبة، روح السلم والإخاء والمحبة، روح الإسهام في تنمية الشعوب عامة والشعوب الصغيرة والمتخلفة خاصة، روح العمل المشترك في سبيل بني الإنسان!

4 – عداء اليهود للأغيار:
تعج كتب اليهود وأسفارهم بالعداء الصارخ لغير اليهود. ويمتلئ تراثهم الفكري بالدعوة إلى الانعزال والتميز والكره والحقد للشعوب. وجميع الشعوب التي عرفت اليهود وأسكنتهم بلادها خلال قرون طويلة، عانت ما عانت من روح اليهود الحاقدة الكارهة المستعلية ومن استغلالهم البشع الجشع. ومع ذلك يتقبل الرأي العام العالمي – ما دام هذا على حساب العرب – أسطورة الشعب اليهودي المحب للسلم، المتعاون مع الشعوب الأخرى، العامل في سبيل الإنسانية جمعاء، الحريص على التعايش مع جاراته العربيات!
أما ما يقوله التلمود، وهو شريعة إسرائيل الكاملة وسجل تعاليمها وآدابها، وما يحفل به من تأكيد لمبادئ اليهودية في الاستعلاء والانعزالية والعدوان، فلا تصيخ له آذان الرأي العام العالمي:
«الأجانب – أي غير اليهود – كلاب»
«الشعب المختار فقط يستحق الحياة الأبدية، وأما باقي الشعوب فمثلهم كمثل الحمير»
«سلط الله اليهود على أموال باقي الأمم ودمائهم»
«إذا وقع أحد الوثنيين في حفرة يلزمك أن تسدها بحجر»
إن التوراة نفسها، كتاب اليهود المقدس، رسمت لليهود طريق الخلاص، فأوصتهم بالغزو والقتل وسفك الدماء دون تمييز بين محارب وغير محارب، بين رجل وامرأة، بين شيخ وطفل، وجعلت مثل هذا المصير مصير البشر من غير اليهود، وجعلت الاستعباد والإبادة نصيب البلاد التي أهداها رب إسرائيل لشعبه المختار، من مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات..
ورغم هذا كله، تحاول الصهيونية، التي أرادت أن تبعث تعاليم اليهودية وتربط بين اليهودية كدين واليهودية كقومية، أن تظهر بمظهر الحمل الوديع الذي تتكاثر عليه الذئاب.
رغم هذا كله تسري الأسطورة، وتمتد وتشتد، ويستمر الزيف، ويتذرع كل يوم بزيف جديد.
5 – الزيف ينقلب قوة:
من قلب هذا الزيف كله خلقت الصهيونية قوة. لقد استخدمت في سبيل توطيد أركان الخرافة عبقرية العلم الحديث فجندت كل ما يمكن تجنيده في سبيل الوصول إلى أهدافها وفي سبيل خلق دولة إسرائيل. وبعد خلق الدولة عبأت القوى من أجل بنائها وتدعيم كيانها، فامتاحت من العلم والتقنية خير نتائجهما، وسخرتهما في سبيل التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وعنيت خاصة بثرواتها البشرية، فنظمتها من أجل الهدف المشترك، وأفادت من خبرتها وفنها من أجل التغلب على الصعوبات العديدة التي تلقاها، وجعلت رائدها الأول تفجير الكفاءات والخبرات بحيث تقوى على مواجهة الظروف الصعبة التي وجدت فيها دولة إسرائيل وبحيث تذلل العقبات تذليلاً ذكياً مسلحاً بكل ما في العلم من قدرة على الإبداع والعطاء. لقد انطلقت من تلك الحقيقة وهي أن أقوى أداة يملكها الإنسان في معركته ضد الطبيعة وضد الظروف المحيطة به، هي الإنسان، نعني قواه الذاتية المبدعة، وطاقاته الخلاقة. وأدركت منذ البداية أن تكوين «رأس المال» البشري الخبير المزود بالمهارة والمعرفة، هو نقطة الانطلاق الأساسية لكل بلد يريد أن يسير في طريق النمو. وقرَّ في يقينها أن «العقل الرائد» العقل المبادر إلى غزو الطبيعة والأشياء، المزود بجرأة المعرفة وقوة العلم والفن، هو أثمن ما يمكن أن تمتلكه أمة.
وهكذا رسمت دولة إسرائيل الزائفة طريقها، خطوة خطوة، وحددت أهدافها مرحلة مرحلة، وعزمت على مواجهة العقبات بسلاح الإيمان بالهدف والإيمان بقدرة العلم والفن الحديث. لقد أدركت فيما أدركت أن نقطتي الارتطام الكبيرتين في حياتها هما الماء والطاقة الكهربائية، وأنهما يعوزانها بالدرجة الأولى. فأعدت الخطط للتغلب على هاتين المشكلتين، وانطلقت في طريق استغلال المياه أوسع استغلال ممكن، وسارت في مشروع تحويل نهر الأردن، وعقدت البحوث – بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية – في سبيل إزالة الملوحة من مياه البحر. وتصدت لمسألة الطاقة الكهربائية وغيرها فقدرت حاجاتها منها – لا سيما من أجل الصناعة – ورسمت الخطط في سبيل تجنيد العلم تجنيداً عنيداً للإفادة من الطاقة الذرية. بل راودها التفكير جاداً في استغلال أكبر مصدر الطاقة، نعني الطاقة الشمسية.
وأدركت فيما أدركت أن مسألة الصحراء – صحراء النقب – تتحدى إسرائيل، وأن إسرائيل بين أمرين، على حد قول بن غوريون: إما أن تمحو الصحراء. وإما تمحوها الصحراء. ولهذا عبأت كل قواها وإرادتها في سبيل التغلب على جفاف النقب، وفي سبيل الإفادة من الثروات المعدنية في صحراء النقب وفي البحر الأحمر الواقع في جنوبها، وفي سبيل تيسير المواصلات فيها لتكون همزة الوصل بين خليج العقبة (قناة السويس الإسرائيلية) وبين إسرائيل.
وبوجيز العبارة، استطاعت الأسطورة، أسطورة إسرائيل، أن تخلق الدولة وأن تقوي بنيتها، حين جعلت هدفاً لها أن تمسك السلاح بيد تغزو به جيرانها، وأن تمسك المعول باليد الأخرى وأن تسخر العلم والعقل الرائد المنقب في سبيل استخراج ثرواتها عامة واستغلال ثروات النقب الدفينة خاصة..
6 – الزيف والخروج من العزلة:
ولم تقف الأسطورة عند هذا الحد، بل جندت مهارتها السياسية في سبيل تعميق الزيف الذي انطلقت منه، فلعبت ألاعيبها في المجالات الدولية ولدى الدول الكبرى، وانطلقت تعدو نحو زيف جديد براق: انطلقت صوب الدول الآسيوية الإفريقية خاصة تزين لها سلامة أهدافها، وتزعم أنها المؤهلة لأن تقدم لها من الخدمات الاقتصادية والعلمية والفنية ما لا يقوى غيرها على فعله: فهي دولة صغيرة مثلها عانت وتعاني من مشكلات الدول الصغرى وتستطيع أن تضع تجاربها وخدماتها والنتائج التي توصلت إليها في خدمة تلك الدول. وهي بعد هذا – فيما تزعم لتلك الدول الأفريقية – دولة لا مطامع لها، وما هي بالدولة الكبرى التي تخشى مساعداتها. وجل همها – كما تقول بلغة الحمل الوديع – أن تقدم الخدمات الإنسانية للدول الصغيرة المستقلة حديثاً وأن تفعل لها بوجيز العبارة ما فعلته لنفسها. وهكذا نجد إسرائيل – عن طريق هذا التزييف الجديد الذي تلجأ إليه – تضع بين أهدافها الكبرى خلق صلات بينها وبين شعوب آسيا وأفريقيا، تمكنها من الخروج من عزلتها وتفتح لها أسواقاً اقتصادية، بعد أن أقفلت من دونها الأسواق الاقتصادية العربية. إنها تريد أن تغدو مثالاً وقدوة – على حد تعبير بن غوريون – لتلك الدول الآسيوية والأفريقية، من أجل السيطرة عليها والإفادة منها سياسياً واقتصادياً، وكسب أصوات دولها والحصول على المواد الخام الرخيصة، وتسويق البضائع الإسرائيلية. وقد بلغت في علاقاتها مع تلك الدول حد إقامة علاقات عسكرية، عن طريق إنشاء صلات مع قيادات الجيوش، وعن طريق إرسال مستشارين للإشراف على التدريب، وعن طريق إنشاء منظمات عسكرية في أربع عشرة دولة على غرار المنظمات العسكرية الإسرائيلية، وهي تفعل فعلتها الخطيرة هذه، وهي تعلم حق العلم – بل لأنها تعلم حق العلم – أن في أفريقيا وآسيا 29 دولة ِإسلامية مستقلة تضم ما يزيد على 336 مليون نسمة، 74 مليون منها في أفريقيا و262 مليون في آسيا، وأن في البلاد الإفريقية خاصة عدداً كبيراً من أبناء سورية ولبنان يمسكون بزمام التجارة والاقتصاد فيها.
تلك هذه الأسطورة، وذلك هو الزيف. إنه قوي بزيفه، قوي بإصراره على الزيف وعزمه على تثبيت أركانه. إن إسرائيل مطوقة بالزيف من كل جانب، ومع ذلك تجند كل ما تستطيع من قوى لتقلب الزيف إلى حقيقة: فالزيف يلفها في نشأتها والزيف يطعنها في قلبها لقيامها وسط وطن عربي متسع بضيق عليها الخناق ويعمل لإزالتها. والزيف يصيبها في بنية سكانها المكونين من شتات غير متجانس في اللغة والأصل والمستوى بل في المعتقد. والزيف ينال حياتها الاقتصادية المضطرة إلى أن تعتمد على مليارات الدولارات من المساعدات التي تتلقفها من الصيهونية العالمية ومن الولايات المتحدة ومن ألمانيا الغربية ومن الكثير من الدول. وبوجيز العبارة، إنها عملية تزييف واضحة فاضحة من بدايتها حتى نهايتها: إنها في واقع الأمر لا تكوّن دولة وإنما تكون ملجأ مصطنعاً، تلجأ إليه الصهيونية العالمية، وتحاول أن تمده بالحياة وأن تختلق له الروح وأسباب البقاء. إنها كائن صنعي لا يتنفس هواء طبيعياً ولا يغتذي غذاء طبيعياً، وإنما يحتاج دوماً إلى جرع مجلوبة من الهواء والماء والغذاء. إنها كائن طفيلي لا تقوى أركانه إلا بامتصاص مساعدات الدول الأجنبية، وبمحاولة امتصاص ثروات جيرانه العرب أو ثروات البلدان الآسيوية والأفريقية.
ومع ذلك تقوم الأسطورة، وتستمر، وتزأر، وتزمجر، وتتقن اللعبة وتتقن إخراج الدور، وتجذب من تجذب من الرأي العام العالمي.
(ثانياً) الحقيقة العاجزة:
وأمام هذه الأسطورة تنهض الحقيقة، الحقيقة القوية الضعيفة، الحقيقة الجريئة الخجلى، الحقيقة الواضحة الغائمة، حقيقة العرب، حقيقة الوجود العربي.
لقد تحدت الخرافة هذا الوجود، فمزقته من قلبه، وحققت هدفاً غالياً من أهداف الاستعمار، هدف فصل شمالي العالم العربي عن جنوبه وغربه، وغرس شوكة في قلب البلاد العربية تحول دون اكتمال وحدتها وقوتها.
واهتز الجسم المريض لهول الكارثة وحرضته الجرثومة، فتفجر ثورة ووعياً وعزيمة. ولا نغلو إذا قلنا إن التحدي الإسرائيلي هو العامل الأساسي الراجح في كل ما شهدناه في الوطن العربي من حركات ثورية ومن عزم على بناء كيان جديد منيع. ومع ذلك ما تزال الحقيقة مقصرة عن مداها، وما تزال خطواتها خجولة مستأنية متعثرة، وما يزال اطمئنانها إلى حقها أعمق من عملها في سبيل توكيد ذلك الحق. بل ما تزال ثورتها ضد واقعها وضد نكبتها أكبر من عملها المنظم في سبيل بناء الثورة وتعمير الواقع:

1 – العجز والوحدة العربية:
فالوحدة العربية التي هي الرد الطبيعي على تحدي إسرائيل والجواب الحاسم على كل أهدافها ومآربها، لا تقوم تهيئة منظمة لها، ولا يقوم عمل يومي من أجلها، وخطو تدريجي نحوها. ولا يلعب التفكير والتدبير والتخطيط دوراً رئيسياً في بنائها. بل كثيراً ما تهبط إلى سوق المساوةمة، وتتردى إلى شعارات ديماغوجية بالية. وما تزال ألاعيب الاستعمار وإسرائيل تعمل عملها في تشويهها والتشكيك فيها، والحيلولة دون رسوخ أقدامها.
وبدهي أن البلاد العربية جاوزت في الواقع طور الدعاوة إلى الوحدة والتبشير بها والحماسة لها، ولابد أن تنطلق في الطريق الذي يلبي أهداف المرحلة التي توجد فيها، نعني طريق البحث والدراسة والتخطيط من أجل بناء الكيان العربي الواحد. وغدا من الواضح أن تعميق الإيمان بالوحدة وتعبئة العزائم في سبيلها أمور تحتاج اليوم أولاً وقبل كل شيء إلى توضيح الطريق ورسم السبيل المؤدية إلى الوحدة ووضع الصيغة الواقعية العملية اللازمة. وإذا كانت البلاد العربية في حاجة إلى الخطط العلمية الواضحة في شتى مجالات حياتها الاقتصادية والاجتماعية، فهي أحوج ما تكون إلى مثل هذا التخطيط العلمي في المجال الأكبر، مجال الوحدة العربية.
من هنا كان من الواجب ألا يظل العمل من أجل الوحدة العربية في أيدي السياسيين وحدهم، ولابد أن يغدو هذا العمل قضية الشعب العربي كله، وعلى رأسه مفكروه وقادة الرأي فيه وخبراؤه. ولابد أن يطرح هذا الموضوع الهام طرحاً علمياً واضحاً صريحاً جريئاً، في معزل عن الإرهاب الفكري الذي تفرضه السياسة. ولا يجوز بحال من الأحوال أن تكون نتيجة اهتمام القادة السياسيين بشعار الوحدة وتبنيهم له تعطيل القوى الحقيقية التي تبني هذا الشعار وتهب له مضمونه وترسم طريقه، قوى الفكر الحر والبحث العلمي الدائب والعمل الشعبي الجاد.
2 – العجز والتخلف العلمي التقاني:
والعجز الذي يقعد هدف الوحدة، يكاد يعم سائر جنبات الحياة في الوطن العربي، نعني به ضعف روح البحث والدراسة والتنقيب، وضعف الاعتماد على ريادة العقل الحديث.
ومهما تكن العوامل العديدة التي تلعب دورها في تأخير حركة التطور والتنمية في شتى جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الوطن العربي، يظل من الصحيح أن هنالك عاملاً كبيراً يلفها جميعها تصدر عنه وتتفرع، هو عامل التخلف العلمي والتقني. فالبلاد العربية – التي أصيبت بتخلف القرون الطوال بعد حكم عثماني مظلم وبعد حكم استعماري مفقر – مدعوة إلى أن تلحق بالركب خلال فترة قصيرة من عمرها، ومدعوة إلى التعجيل في تطورها وتنميتها بسبب التحدي الإسرائيلي خاصة، ذلك التحدي الذي أفاد من ضعف بنيتها، فدق في قلبها وتداً. لقد انقطع حبل الحضارة العربية، وانفصل ماضيها عن حاضرها منذ سقوط بغداد على يد هولاكو ودخول أخلاط المغول والتتر والأعاجم وسيطرة الدولة العثمانية المريضة. ولابد للعرب من معاودة حضارتهم وعطائهم، لابد من وصل ما انقطع من أمر تلك الحضارة، لابد من عود جديد إلى روح الحضارة العربية، وأهم ما في تلك الروح الانطلاق نحو البحث العلمي التجريبي الذي كان خير ما أعطته الحضارة العربية للعالم، والذي خلق ما دعاه «فانتاجو» بالمعجزة العربية. لابد من عود إلى روح الاستقراء والبحث والتجربة، التي سادت أبحاث «دار الحكمة» ببغداد وخرجت كبار العلماء في المشرق العربي والمغرب الأندلسي، وكانت العامل الأول في قلب أسلوب البحث المنطقي الصوري الذي كان سائداً في أوروبا، وتكوين أسلوب البحث الجديد الذي ولدت منه الحضارة الحديثة، أسلوب البحث العلمي التجريبي الاستقرائي، الذي يدعوه الغربيون باسم أسلوب «بيكون» والذي يرجع الفضل فيه إلى العلماء العرب، كما يبين «راندال» وغيره من المؤرخين المحدثين.
ولئن كانت إسرائيل تستخدم عطاء العقل الحديث والعلم الحديث والفن الحديث في سبيل تثبيت كيانها الزائف وفي سبيل التغلب على المشكلات التي خلقها تزييف ذلك الكيان، فالوطن العربي مدعو إلى أن يسخر العقل والبحث والتجربة في سبيل استخراج ثرواته المبذولة والإفادة من إمكانيات موفورة قلما تتاح لبلد آخر.
إن نقطة الانطلاق الأساسية في البلاد العربية هي العناية بالثروة البشرية عناية تجعلها قادرة على استغلال خيرات الوطن العربي استغلالاً علمياً ذكياً. والعائق الأكبر في طريق النمو وفي طريق القوة بالتالي، في هذه البلدان العربية، هو ضعف العنصر الإنساني، ضعف خبرته وكفاءته وعلمه. ولقد غدا من البدهي اليوم أن العامل الأساسي الذي يلعب الدور الأكبر في ثراء شعب من الشعوب وفي زيادة إنتاجه، هو العامل الإنساني الذي يفوق دوره في الواقع دور المال ودور الموارد الطبيعية. فرائد التقدم في العالم، يومنا هذا، هو التقدم التقني الفني. ومحرك الثروة والتنمية هو الطاقة الفكرية للسكان، نعني القدرة على تطبيق نتائج البحث العمي المنظم على مشكلات الإنتاج وعلى مشكلات الاقتصاد. وإذا كان هذا صحيحاً في كل عصر ومصر، فهو أوضح وأقوى في بلادنا العربية التي تشكو تخلف القرون والتي تحتاج إلى تطور يفوق المألوف في سرعته والتي تواجه تحدياً إسرائيلياً سلاحه الأكبر هو هذا التقدم العلمي والتقني.
لقد يُسّر لإسرائيل ما لم ييسر لغيرها من الدول، إذ وجدت نفسها عشية وجودها أمام طاقة بشرية خبيرة مدربة، وفدت إليها من البلدان المتقدمة ووضعت خبرات تلك البلدان وحصاد تجاربها بين يديها. ولا يمكن البلاد العربية أن تواجه مثل هذا التحدي، إلا بتعبئة سريعة منظمة للطاقات البشرية وتكوين متعجل واسع لليد العاملة الخبيرة الفنية. ولدى هذه البلدان العربية من الأعداد السكانية الكبيرة ومن الاستعدادات العديدة الموفورة ما يجعل هذه المهمة يسيرة إن جندت لها القوى وسلطت عليها الأضواء.
3 – نقائص التربية العربية ودورها:
وإذا كان تكوين العقل الحديث الرائد، والعناية بالعنصر الإنساني وبإعداده وتكوينه، واستخدام نتائج البحث العلمي في مشكلات الإنتاج والتنمية، هي العوامل الحاسمة في تطوير بنية الوطن العربي واستخراج ثرواته وتزويده بالقوة والمناعة، فمعنى ذلك أن المطلب الأكبر الذي ينبغي أن يحتل مقام الصدارة بين سائر المطالب هو مطلب التعليم والتربية. فالتربية هي الأداة اللازمة لتكوين رأس المال البشري، وهي وسيلة الإعداد والتدريب وخلق الخبراء والأخصائيين والفنيين. وقد غدا من البدهي اليوم أن العامل الأساسي في التنمية هو التربية وما يثوي وراءها من إعداد سليم للطاقة العاملة الخبيرة المدربة وما يثوي وراء ذلك كله من تقدم تقني وعلمي.
وإسرائيل – رغم ما توافر لديها من أخصائيين وخبراء وفدوا من البلدان المتقدمة – جعلت على راس مطالبها العناية بالمدرسة، وأدركت أن خير مجال لاستثمار رؤوس الأموال هو ميدان التربية، وأن الأموال التي توظف في التعليم هي التي تعطي ثمراتها أضعافاً مضاعفة في مجال زيادة الدخل القومي وزيادة الثروة القومية. لقد أدركت كما أدركت سائر بلدان العالم اليوم أن إعداد الإنسان إعداداً ملائماً لمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية هو العامل الأساسي في التنمية والثروة والقوة، وأن المساعدات المالية لا يمكن أن تكفي البلدان السائرة في طريق النمو، وأن النجاح لا يتم إلا إذا امتلك الرجال الإرادة والعزيمة من جهة والمعرفة والخبرة من جهة ثانية. لقد أدركت أن استخراج الحد الأقصى من الثروة الزراعية والحيوانية في إسرائيل يحتاج إلى استغلال حصاد العلم وتجاربه إلى أكبر حد ممكن (كما فعلت في تربية الأبقار وزراعة القطن والحمضيات والفواكه، وزراعة الشمندر، وكما فعلت حين لجأت إلى نظام «الكيبوتز Kibboutz» في الإنتاج الزراعي، أو إلى نظام «الموشاف أويفيديم Mochav Ovedim» ونظام «الموشاف شيتوفي Mochav Chitouffi» أو غيرها من الأنظمة التعاونية). وأدركت أن توفير مياه الري وتوفير الطاقة اللازمة للصناعة وغيرها والإفادة من الثروات المعدنية وإرواء صحراء النقب واستغلالها أمور تحتاج إلى الخبرة والرجال أكثر من حاجتها إلى المال، وتحتاج إلى العزيمة والإرادة كما تحتاج إلى الكفاءة والخبرة.
والدول العربية التي أهمل فيها العنصر البشري ردحاً طويلاً من الزمن وأهملت فيها طاقات الإنسان وقدراته الخلاقة، وأهملت فيها خاصة تلك الثروات الفكرية المبدعة الثاوية في الجمهرة الكبرى من المواطنين الفقراء المحرومين، لابد أن تجعل مقام الصدارة للعناية بالخدمات التربوية وتوفيرها لجميع المواطنين، وتوفيرها للطبقات الشعبية المحرومة التي تثوي فيها قوى الإبداع والعطاء الكبرى. ولابد أن تدرك خاصة أن هذه الخدمات التربوية ينبغي أن تكون متكاملة مع أهداف التنمية الاقتصادية، وأن بنية التربية لابد أن تخدم بنية الاقتصاد وبنية المجتمع. فالتربية – أي تربية – ليست المفتاح الذهبي للنمو دوماً وأبداً، وليست العصا السحرية التي تغير الأمور من تلقاء ذاتها، وهي لا تكون حقاً أداة من أدوات التنمية إلا إذا توافرت لها الشروط اللازمة، وعلى رأسها الصلة الوثيقة بين أهدافها وأهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية العامة. وتتوافر هذه الصلة خاصة عن طريق عناية التربية بتكوين الطاقة العاملة الخبيرة الفنية اللازمة لتسيير عجلة الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ومن هنا يبرز إعداد الطاقة العاملة إعداداً متلائماً مع متطلبات الخطة الاقتصادية والاجتماعية، ويتجلى مطلباً أكبر من مطالب التقدم والمناعة في بلادنا العربية. ولا شك أن مثل هذا الإعداد يستلزم جملة من الشروط. منها توافر الدراسات الإحصائية والاستقصائية عن وضع الطاقة العاملة وعددها ووضعها التعليمي وتوزعها على قطاعات النشاط الاقتصادي الكبرى وعلى المهن المختلفة. ومنها العناية بالتعليم الفني والمهني مع كل ما يشمله هذا القول من تغيير أساسي لنظام التعليم ومناهجه وطرائقه. ومنها تغيير موقف الناس من العمل المهني والعمل اليدوي وخلق المواقف الجديدة المدركة لما في العمل المهني من عطاء وخدمة للاهداف العامة، وما في العمل اليدوي من إبداع وتحقيق لوجود الفرد ووجود المجتمع. ومنها تنويع التعليم وتفريعه ولا سيما في مرحلة التعليم الثانوي ومرحلة التعليم العالي، وإقامة هذا التنويع والتفريع على أسس ملائمة لحاجات المجتمع وحاجات الاقتصاد من جهة ولحاجات الفرد وقابلياته من جهة ثانية. ومنها إشراف وزارة التربية وإشراف الخطة التربوية على كل ما له علاقة بإعداد الطاقة العاملة، سواء كان يجري ذلك في المعاهد والمدارس أو في المهنة نفسها أو في مجالات أخرى. ومنها، بل فوقها، وضع خطة كاملة دقيقة للبعثات العلمية، وتوجيهها التوجيه اللازم، وجعل هذه الخطة جزءاً لا يتجزأ من خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وقد يقال الشيء الكثير في هذا المجال، مجال إعداد الإنسان العربي إعداداً حديثاً وتكوينه تكويناً ملائماً لمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. غير أننا أردنا أن نضع اصبعنا على أهم مفاصل هذا الموضوع، وأن نشير أولاً وآخراً إلى أن رأس مطالب النمو والقوة في الوطن العربي ورأس أدوات التغلب على إسرائيل، تكوين الطاقة العاملة الخبيرة، تكوين رأس المال البشري، والعناية بالثروة البشرية، مصدر سائر الثروات ومحركها.
إن تعبئة هذه الثروة البشرية من أجل الهدف المشترك، هدف بناء كيان عربي موحد قوي قادر على الخلاص من الجرثومة الزائفة التي حلت في القلب منه. وإعداد تلك الثروة البشرية إعداداً يجعلها قادرة على استخراج ثروات بلدها، مزودة بقوى العلم الحديث والتكنيك الحديث محملة بالعقل الرائد، العقل الجوال، العقل الذي يزول أمامه الصعب ويذل المستحيل، هما الوسيلتان الأساسيتان من وسائل قوة البلاد العربية، وهما سلاحها الأكبر في وجه عدوها الأكبر. إن تلك التعبئة وذلك الإعداد هما سلاح الحقيقة التي تملكها البلاد العربية أمام الزيف المسلح الذي تملكه إسرائيل. إنهما القادران على قلب الحقيقة الصامتة إلى حقيقة ناطقة حية، وعلى نقل الحقيقة من طور الإمكان إلى طور الفعل، من الأذهان إلى الأعيان. إن الحقيقة العزلاء لا تقوى على إثبات حقها، والحقيقة الناجعة اليوم هي الحقيقة المزودة بسلاح العلم والتكنيك، بسلاح العقل المؤمن بالهدف، المدرك للوسيلة، الخبير بالأداة.
4 – أهمية التعريف بالقضية الفلسطينية:
وإذا كان تسلح الحقيقة بالعلم والفن والمقدرة خير مفصح وخير داعية لها، فإن من عناصر هذا التسليح دون شك، ومن عناصره الهامة، تعبير الحقيقة عن نفسها وتعريفها بذاتها، والدعوة لها ولأهدافها. لا سيما عندما تكون تلك الحقيقة أمام باطل يريد أن يطمسها وأمام زيف يحاول إخفاءها. ومن هنا تبدو أهمية التعريف بالقضية الفلسطينية، وأهمية الدعاوة لها دعاوة منظمة، منطلقة أيضاً من تجارب العقل الحديث والعلم الحديث.
إن أهم ما مكن لإسرائيل وساعدها على خلق كيانها الزائف، قوة الدعاوة الصهيونية وبلوغ هذه الدعاوة المستوى الفني والعلمي. وما تزال هذه الدعاوة تفتك في عقول الملايين من بني الإنسان، في العالم المتقدم وفي البلدان المتخلفة والنامية، بل في البلدان العربية نفسها. وهي تستخدم من أجل أغراضها خير الأساليب النفسية وخير نتائج العلم الحديث. وهي مضطرة إلى أن تولي هذا الجانب حظاً كبيراً من عنايتها، لأنها مضطرة إلى تغطية الزيف، إلى تعميق الخرافة، إلى تثبيت الأسطورة.
وإذا كانت الدول العربية في غير ما حاجة إلى دعاوة من أجل دحض التزييف، وإذا كان حقها الصريح الواضح خير داعية لها، فهذا لا يعني أن تركن إلى الأحلام وأن تكتفي بحقيقتها وتحتفظ بها لنفسها دون أن تعرف بها العالم ودون أن تقنع بها العالم. وليس صحيحاً أن حقيقتنا بينة واضحة لدى معظم الرأي العام العالمي، بل الصحيح هو العكس تماماً. فما تزال الكثرة الكاثرة من أبناء الأرض مأخوذة بالدعاوة الصهيونية، لأنها لم تعثر على غيرها في معظم الأحيان. وما تزال جمهرة سكان الأرض تجهل أبسط الأمور عن القضية الفلسطينية، بل يجهل بعضها أن سكاناً عرباً كانوا في فلسطين وطردوا منها.
وما تزال الكثير من الدول الصغيرة والناشئة في آسيا وأفريقيا تجهل الأهداف الاستعمارية لإسرائيل، وتجهل مآرب الصهيونية العالمية وأهدافها، ولا تقدر التضامن القائم بين الاستعمار في العالم وبين إسرائيل، ولا تعي الغايات التوسعية البعيدة لهذه الدولة الزائفة. ولم يفتضح أمر السياسة الإسرائيلية لتلك الدول الإفريقية بعد، رغم بعض المواقف الواضحة التي تكشف دورها الاستعماري، من مثل تزويد البرتغال بالأسلحة ومن مثل دعم حكومة العميل تشومبي.
وأهم من هذا وذاك، ما تزال الكثرة الغالبة من الدول في العالم مأخوذة بالدعايات الصهيونية حول ما أبلته «الهاغانا» في معركة فلسطين مع الدول العربية عام 1948، وما يزال بعضها يصدق أن معركة قد قامت بالفعل وأن دولاً عربية خمساً قد انهزمت فيها! بل ما يزال هنالك من يعتقد مع الدعاية الصهيونية أن جيش مصر قد هزم في معركة سيناء عام 1956 وأن قلة من اليهود استطاعوا – بإيمانهم وتنظيمهم كما تزعم الدعاوة الصهيونية – أن ترد جيش مصر على أعقابه. وقليل من هذه الدول يدرك حقيقة معركة سيناء، ويدرك الترابط بين الهجوم الإسرائيلي وإنزال الجيوش الإنكليزية والفرنسية في بور سعيد.
حتى أن مشكلة اللاجئين نفسها ما يزال يجهلها معظم الرأي العام العالمي، وما يزال يجهل ضخامتها كماً وكيفاً. وبعضه، ما يزال يعتقد – كما تريد الدعاوة الصهيونية أن تقول – أن مشكلة بقاء اللاجئين في وضعهم الصعب بعد (17) عاماً، ترجع إلى عجز البنية العربية عن امتصاص هؤلاء اللاجئين وعن تقصير اقتصاديات البلاد العربية عن استيعابهم.
ومشكلة مياه الأردن – المشكلة الكبرى التي تواجه الدول العربية – من يعرفها في أوساط الرأي العام العالمي حق معرفتها؟ ومن يقدر أهداف إسرائيل من وراء جر مياه الأردن؟ ومن يدرك عدوان إسرائيل الصريح في هذا المجال؟
وهجمات إسرائيل المتكررة على حدود البلدان العربية المجاورة، كم من الرأي العام العالمي يدرك تجني إسرائيل فيها، وكم منه لا يؤخذ بالدعاية الصهيونية التي توهم الناس أنها لا تعدو أن ترد الاعتداءات على حدودها وأن الدول العربية هي الظالمة، وأنها حين قامت بالهجوم على مصر في سيناء فإنما فعلت ذلك رداً على هجمات مصر المتكررة وعلى أعمال الفدائيين؟
وعشرات المسائل، ومئات الحقائق، من يعرفها من الرأي العام العالمي حق معرفتها، ومن لا يتأثر بالصورة المقلوبة التي تكونها الصهيونية حولها؟
إن الدعاوة الصهيونية تغزو بأساليبها الملتوية البارعة، معظم بلدان العالم، ولا ينجو من تزييفها حتى أكبر الدول وعياً لأهدافها الاستعمارية، نعني الدول الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي، فالدعاوة الصهيونية قائمة هناك أيضاً على قدم وساق، في المجالات العلمية والفنية والفكرية عامة، في المؤتمرات والمهرجانات وغيرها، وتشويه حقيقة القضية الفلسطينية في نظر أبناء الاتحاد السوفياتي ينطلق نقداً إلى حد يثير الدهشة. حتى بلغ الأمر أن صور تحويل مجرى نهر الأردن من قبل إسرائيل علقها اليهود في موسكو، على واجهات مقهى «ماروجنيه» حيث كتبت عليها بحروف كبيرة بارزة «ليكن الماء أبداً، ليتدفق دائماً» وكتب تحتها: «فلتذكر». بل إن نصوصاً أخرى علقت في موسكو حاولت أن تغطي اغتصاب إسرائيل لمياه الأردن فورد فيها أن العرب هم الذين يحجبون الماء عن إسرائيل!
إن الصهيونية العالمية تلجأ إلى ألف أسلوب وأسلوب في سبيل الدعوة إلى أغراضها وتشويه أغراض العرب وتقديم صورة مشوهة عنهم تصمهم بالتخلف والوحشية. وهي لا توفر لهذه الغاية شرقاً أو غرباً، بلداناً رأسمالية أو بلداناً شيوعية، بلداناً استعمارية أو بلداناً معادية للاستعمار، بل تتوغل فيها جميعها وتلبس لكل حال لبوسها وتوفق حسب مقتضى الحال شكل دعايتها مع أهداف البلد الذي تقدم به، فنجدها في البلدان الأفريقية مثلاً تحمل وجهين فتلبس لبوس الاشتراكية في الدول التي تأخذ بهذا النظام، وتلبس لبوس الرأسمالية في سواها، وتتقرب لحركات التحرر الأفريقية حيناً وتعمل مع الإمبريالية ضدها حيناً آخر (شأنها حين تزود البرتغال بالأسلحة وتتعاون معها ضد أنغولا).
إن دعم العالم ودعم الحكومات لحق البلاد العربية لابد أن يكون متناسباً مع مدى تعريف العالم بذلك الحق ومهما تكن أغراض بعض الدول – وعلى رأسها الولايات المتحدة – ومهما يكن تجنيها وتحيزها لإسرائيل، يظل من الصحيح أن حكومات هذه الدول لا تستطيع إلا أن تخضع – ولو بمقدار – لضغط الرأي العام الشعبي عندها، ولضغط الرأي العالمي. ولابد بالتالي من تعبئة الرأي العام هذا تعبئة علمية وتعريفه بالحقيقة في شتى أبعادها.
وإذا كانت الصهيونية العالمية تجند في خدمتها وخدمة دعاوتها حوالي 12 مليوناً من اليهود، مبثوثين في معظم بلاد العالم وفي الدول الكبرى خاصة، فيجب أن لا ننسى أن الدول العربية تضم حوالي مائة مليون عربي، إلى جانبهم عرب مبثوثين في كثير من بلدان العالم ومسلمون يعدون مئات الملايين. وإلى جانبهم بعد هذا وفوق هذا البلدان المتحررة حديثاً في آسيا وأفريقيا – إن توثقت الصلات اللازمة معها – وسائر الحركات التحررية في العالم وسائر القوى المعادية للاستعمار، ثم الرأي العام العالمي الحر في سائر أرجاء العالم – حين تذاع له الحقيقة ويوضع أمام الصورة الواضحة للأمور.
5 – سلاح النفط:
ولا شك أن المصالح المادية والرأسمالية لعبت وتلعب دوراً كبيراً في التمكين لدولة إسرائيل المزيفة. ولا شك أن الرأسمالية اليهودية كانت وما تزال من العوامل الكبرى في خلق الخرافة واستمرارها.
ومن هنا يبدو أمام العرب سلاح خطير كبير، يمكن أن يقف في وجه هذا السلاح الصهيوني وأن يبذه ويغرّ قاطعه، نعني سلاح البترول العربي.
فإذا كانت الحقيقة وحدها لا تكفي، ولو تسلحت بالعلم والفن وسائر الدعاوة الحديثة، وإذا كانت المصالح المادية والسياسية لبعض الدول الكبرى ما تزال عاملاً كبيراً من عوامل الحرص على كيان إسرائيل، وإذا كانت المطامع الاستعمارية في البلدان العربية وفي الشرق قد لعبت دوراً حاسماً في تأييد الدول الكبرى لإسرائيل، منذ أيام وعد بلفور حتى قيام كيانها الزائف، إذا كان هذا كله صحيحاً، فمن الصحيح قبله وفوقه أن الدول العربية ليست أضعف سلاحاً في هذا الميدان من الصهيونية، إن هي أحكمت أمرها وأحسنت استخدام هذا السلاح. إن بترول البلاد العربية الذي يقدم أكثر من 55% من بترول العالم، والذي يملك مزايا في الاستخراج والتكاليف والتسويق لا تتوافر لأي بترول في العالم، هو السلاح الحاسم الذي يستطيع أن يقف في وجه الدعم المادي والمعنوي لإسرائيل من قبل بعض الدول الخاضعة للصهيونية المتعاونة معها في سبيل مصالحها وأهدافها الاستعمارية.
ولا شك أن تحقيق هذا المطلب، نعني تحرير البترول العربي من السيطرة الاستعمارية، وجعله سلاحاً ضد الدول المؤيدة لإسرائيل، وقوة اقتصادية واجتماعية وعسكرية في يد الدول العربية، يتطلب تغييراً جذرياً في حياة البلاد العربية، ويتطلب تحقيق كثير من المطالب الأخرى التي أتينا على ذكر بعضها، من مثل العمل المنظم المخطط للوحدة العربية، ومن مثل تكوين الطاقة العاملة الخبيرة القادرة على استخراج ثروات الوطن العربي، ومن مثل قلب المجتمع العربي من مجتمع ما يزال يحمل تخلف القرون إلى مجتمع حضاري حديث.
ولعلنا ههنا أمام ضرب من الدور الفاسد: فتحرير البنية الاقتصادية والاجتماعية الفاسدة في البلاد العربية عامل أساسي في تحرير البترول العربي، وتحرير البترول العربي بدوره عامل أساسي من عوامل تحرير تلك البنية. غير أننا لسنا في الواقع أمام دور فاسد، بقدر ما نحن أمام صلة دائرية، أمام تأثر وتأثير متبادلين، أمام مهمة ينبغي أن تسير في الميدانين جنباً إلى جنب.
إن ضرب أنابيب في سورية أيام معركة قناة السويس كاد يشل شرايين الحياة في أوروبا وكاد يردها إلى عصر الظلمات، وإن جزءاً ضئيلاً من عائدات البترول في البلاد العربية قادر على تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية ضخمة وقادر على تسليح أقوى الجيوش وأمنعها.
وبدهي أن مسؤولية عدم تحرير البترول العربي لا تقع على الدول العربية المنتجة للبترول، وإنما تقع على الدول العربية كلها. فالمسألة ليست فقط مسألة الدول العربية الغنية بالبترول التي يقع عليها عبء كبير دون شك، وإنما هي مسألة البلاد العربية كلها، مسألة بحث البلاد العربية جمعاء عن صيغة عملية مدروسة تقودها نحو توحيد أهدافها وتوحيد كيانها خطوة بعد خطوة، وتصل بها إلى التكامل بين أوضاعها الاقتصادية، وتصل بها أخيراً إلى الوحدة العربية الكاملة.
إن الدول الكبرى، الدول الاستعمارية، يمكن أن تتخلى عن إسرائيل. فهي تدعمها ما دامت مصالحها مرتبطة بهذا الدعم وما دام هذا الدعم لا يحقق لها خسارة كبرى من جانب الدول العربية تفوق الفوائد التي تجنيها من وراء إسرائيل، وما دامت تلك الدول قادرة على أن تعطل تحرر هذه البلدان وتقدمها عن طريق إسرائيل. غير أن هذه الدول الاستعمارية لابد أن تتخلى عن إسرائيل حين يكلفها دعمها غالياً، وحين تجد أن مصالحها الكبرى، الاقتصادية والسياسية، أصبحت مهددة تهديداً حقيقياً عملياً لا لفظياً، وحين تجد في دعم هذا الكيان الزائف، وفي دعم شرذمة قليلة جاءت إلى هذا الكيان، خسارة مادية ومعنوية كبرى.
إن اللغة البليغة التي يمكن أن تطهر أذهان المكابرين من مؤيدي إسرائيل، والتي تستطيع أن تجري انقلاباً حقيقياً في تفكيرهم، هي اللغة التي يطلقها كيان عربي قوي متين، يفرض وجوده، ويملك ثرواته، ويمنع تلك الثروات عن أولئك الذين يقدمونها لقمة سائغة لنمو إسرائيل ودعم إسرائيل. إن لغة التقدم العلمي والفني والاقتصادي، ولغة البترول الحر ولغة الجيش القوي الحديث، ولغة الوحدة العربية المكينة، وهي عناصر المعركة الكبرى مع إسرائيل ومع من وراء إسرائيل.
6 – أهمية التخطيط للمدى البعيد والنضال اليومي المتصل:
وقد تبدو هذه الأهداف أهدافاً للمدى البعيد، وقد تبدو المسألة الفلسطينية مسألة لا تحتمل التأجيل. غير أن علينا أن ندرك أن بلوغ هذه الأهداف الكبرى – في شكلها الكامل – لا يعني ترك الأمور الراهنة، وأن الهدف البعيد لا ينبغي أن يعطل الأهداف القريبة. والواجب أن يقوم في آن واحد جهد يومي مرحلي متصل – هو جزء من الجهد الطويل البعيد – إلى جانب التخطيط البعيد والأهداف الكاملة. والخطأ كل الخطأ أن نأخذ في هذا الميدان بالمبدأ القائل «كل شيء، أو لا شيء». بل اللازم أن نجعل من عملنا اليومي وعملنا المرحلي جزءاً من البناء الأعم والهدف الأشمل، وأن نشتق خططنا القريبة من خططنا البعيدة وعملنا الطارئ من جهدنا الباقي الطويل.
على أن أصدق الطرق وأكثرها واقعية هي أقصرها في الوقت نفسه. وإن سلوك الطريق الصحيح – ولو طالت – خير من تنكبها والحيد عنها. لقد انقضى من عمر القضية الفلسطينية عشرون عاماً تقريباً، وانقضت قبلها أعوام في محاولة اجتناب النكبة. وجدير أن نسائل أي شوط قطعنا عبر الطريق خلال هذه الحقبة الطويلة، وما هوة مقدار اقترابنا من الغاية. إن خطوات قد تحققت دون شك، وإن مكاسب قد تمت في بنية البلاد العربية وقوتها المعنوية والعسكرية. غير أن من الصحيح مع ذلك أن مكاسب أكبر كانت ممكنة لو قام التخطيط للمسألة منذ بدايتها،
ولو كان الجهد المبذول من أجل القضية الفلسطينية حلقة متتالية من خطة متكاملة مدروسة.
إن تجنب العمل المرتجل، العمل الذي يحيا كفافاً يوماً بيوم، مطلب أساسي من مطالب أي مجتمع حديث، وهو شرط أساسي من شروط عملنا لمعركتنا الكبرى. ورسم الخطة وبيان أهدافها ومراحلها ووسائلها، وتجزئة هذه الخطة إلى أجزائها، وربط العمل الطويل المدى بالعمل القصير المدى، والآجل بالعاجل، هي سمات العقل الحديث، سمات المجتمع الذي ينزع إلى مغادرة التخلف والانطلاق نحو التنظيم العلمي الفعال. ولابد أن تصبح هذه السمات مقومات أساسية لعملنا من أجل القضية الفلسطينية.
إن القضية الفلسطينية قضية سهلة صعبة حقاً. إنها قضية سهلة، إذا نظرنا إلى إمكانيات الدول العربية وطاقاتها الكبرى السكانية والاقتصادية والبترولية وغيرها. غير أنها صعبة إذا لم نعرف كيف نستخرج هذه الإمكانيات ونضع الخطة اللازمة لتعبئتها تعبئة ذكية علمية. وإن ما يعوز البلاد العربية – قبل أي شيء آخر – وضع الإمكانيات والجهود ضمن إطار خطة حكيمة تعرف المصير وترسم السبيل وتجزيء الصعوبات وتعمل بوحي العقل الرائد الخبير.
خاتمة:
وبعد، هذه هي الخرافة وتلك هي الحقيقة، خرافة مزودة بسلاح العلم والعقل الحديث، وحقيقة ما تزال تجرها إلى ماضيها المتخلف أثقال كثيرة، غير أنها بدأت تستيقظ وتعي ذاتها وتدرك متطلبات وجودها. ولن تقوى الحقيقة على الخرافة بمجرد كونها حقيقة، ولن تزول الخرافة أمام الحقيقة لمجرد كونها خرافة، والمسألة صراع عنيد وسباق جاد. والعلم والتقدم أهم عناصر الصراع والسباق.
إن الحقيقة العربية حقيقة عميقة الأصول ثابتة الجذور، قوامها وجود قومي لم ييسر لغيره من مقومات الوحدة والتضامن والتكامل ما يسر له، وطاقات بشرية سكانية هائلة، وثروات طبيعية ضخمة، ومكان جغرافي واستراتيجي مرموق، وتراث عريق يزود أبناءها بالدفء والإيمان. والمسألة كل المسألة أن تستخرج طاقات الوطن العربي هذه وإلا تبقى في مرحلة الإمكان. وسبيل ذلك أولاً وقبل كل شيء تكوين الأداة البشرية الخبيرة المزودة بسلاح العلم المؤمنة بالهدف.
إن الحقيقة العربية مارد جبار حين تستيقظ وتعي ذاتها حق الوعي. ويقظتها من يقظة العقل، من يقظة الروح، من يقظة الإنسان العربي، إن رعشة الإبداع والخلق التي تسري في أعصاب هذا الإنسان، بفضل التربية والثقافة، بفضل الإيمان بالهدف والإيمان بالعلم، هي القمينة بأن نجلو الحقيقة العربية وتحيلها وجوداً فعالاً هادراً وأن تكوين العقل الرائد، العقل الثائر لأنه رائد، المتمرد لأنه واع، هو سلاح الحقيقة العربية ضد خرافة الخرافات.