بالماء تحيا إسرائيل

مجلة المعرفة السورية – أيار / مايو ١٩٦٤

بالماء تحيا إسرائيل

للدكتور عبد الله عبد الدائم
إن المعركة المائية معركة حربية في حقيقتها.
إن استراق (المياه) العربية لا يقل خطراً عن
استراق (الأرض) العربية.. بل يفوقها.

يشهد العرب – وهم في قلب إحدى معاركهم الكبرى الحاسمة ضد مؤامرات إسرائيل – أقتل السهام توجه إلى أسمى القيم الإنسانية، وأخطر كبوة تتعرض لها هذه القيم، في فترة خُيِّل للإنسان فيها أن شعاعاً من الأمل الجديد أخذ يشرق في الفجر، مبشراً بانطلاق جدي نحو عالم يستطيع فيه الإنسان أن يحقق الحضارة الجديرة بالإنسان.
وأخطر ما في هذه المعركة، أن منتهكي القيم الإنسانية فيها، يفعلون ذلك باسم القيم الإنسانية، وأن صارعي آمال الإنسان يلبسون لبوس حواريي الدعوة الإنسانية.
لقد قلنا أكثر من مرة – مع جمهور أصحاب الفكر الحر في العالم – إن الإيمان بالقيم الإنسانية لدى أمة من الأمم، لا يقاس عن طريق «القيم – الأصنام» المنقوشة في الدساتير
أو المسطورة في الأقوال، وإنما يقاس بمقدار ما للإنسان فعلاً في داخل هذه الأمة وخارجها من قيمة واحترام. وأخطر ما تصاب به المبادئ الإنسانية والديمقراطية أن تصبح «حجة وتبريراً» وأن تغدو «تتويجاً رائعاً للوحشية» على حد تعبير ماركس.
ومثل هذا الاصطناع للمبادئ من أجل تهديم المبادئ، ومثل هذا التحليق الزائف في عالم القيم على حساب القيم، هو ما يراه العالم اليوم، وسط هذا الضجيج الذي تبثه الدول الكبرى والذي يهدف إلى الانتصار لإسرائيل في محاولتها الجديدة للتمكين لوجودها على حساب العرب.

فالدعوة إلى السلام وإلى التعايش السلمي، تغادر العالم النامي في الكثير من أطرافه بما اجترحت أيدي الكبار، وتغادر المعنيين الحقيقيين بهذه الدعوة وبذلك التعايش، وتتجه إلى العرب وإلى العرب وحدهم! فهم المدعوون – قبل سواهم – إلى السلم والحياة المطمئنة الآمنة مع جيرانهم! وهم الذين يتوجب عليهم – على حساب تعاسة مئات الألوف من اللاجئين وعلى حساب بؤس أمتهم بأسرها – أن يعملوا لخلاص الإنسانية من مشكلة الحرب عن طريق انتجاع الأساليب السليمة، تلك الأساليب التي يؤمن الكبار – في مثل هذه المناسبة وحدها – أنها أفضل الحلول وأعقلها! والأمل الكبير – الأمل المسطور في كلام الأنبياء وعلى مباني الأمم المتحدة – الأمل في يوم تمتنع فيه دولة عن أن تستل السيف في وجه دولة أخرى – يتخلى عن حمله القادرون على تحقيقه، ويحملونه العرب، والعرب وحدهم في هذه الآونة: فعليهم تعقد الآمال في تحقيقه، وإياهم يرجون أن يديروا خدهم الأيسر لم صفعهم على خدهم الأيمن، وهم الذين يتوجب عليهم أن يقابلوا بالعناق جيرانهم الذين اغتصبوا دارهم وشردوا رجالهم! وعند ذلك، عندما تسلك الدول الصغيرة سلوك الأغبياء هذا، وعندما تقابل آلات الفتوح بمسوح الأتقياء، تغدو السبيل ممهدة أمام الدول الكبرى، «سبيل مقاومة الفقر والجهل والتعاسة والمرض وأعداء الإنسانية الذين يشنون منذ سنوات حرباً على الإنسان وآماله».
أما الماء فينبغي أن يكون ترياقاً يجمع بين الأمم ولا يفرق، وأن يكون نميراً وسلسبيلاً ييسر سبل السلم ويبعد عن سبل الحرب! وماذا لو اقتسم العرب مياههم مع إسرائيل، ليوفروا لها أسباب الحياة والقوة وهي الجارة العطشى الغرثى! بل، لماذا لا يتعاون الجميع من أجل التغلب على مشكلة المياه في إسرائيل – إسرائيل في كل مكان – ولماذا لا نضع العلم والبحث العلمي والتقدم الفني في خدمة هذه القضية الإنسانية، فنقلب الملح الأجاج إلى عذب فرات، ونقدم تجربة تفيد منها إسرائيل وجارات إسرائيل أيضاً؟ وهل من الإنسانية في شيء أن نمنع الري عن الأرض البوار، وأن ندع الصحراء – صحراء النقب فهي وحدها الصحراء – تئن وتتلوى حنيناً إلى قطرات الماء؟
هذا هو صوت الإنسانية الذي نسمعه اليوم، وهذا هو اللحن المبتكر الذي يقدمه لنا كبار المنادين بالمبادئ الإنسانية العاملين لها في زعمهم. إنه الدعوة إلى سلم يحققه الأقوياء على حساب الضعفاء وإلى تعايش ومساكنة يفرضها الغاصبون على الأبرياء، وإلى محبة تملأ قلب المظلومين لتيسر طعنة الظالمين. إنه صوت الآمال الكبار، آمال الإنسانية في عالم أفضل يكون العرب أول بناته عندما يطأطئون هاماتهم أمام من استل سيفه ليخرجهم من ديارهم. إنه صوت القوي يقهقه وهو يدعو إلى الاحتفال بمقتل الضعيف ويعده بأكاليل الغار تتراشق على قبره، قبر من مات ليحيا غيره، ليحيا عدوه ولتحيا الإنسانية ممثلة بهذا العدو. ولماذا لا يكون العرب شهداء الإنسانية وقربانها؟ أو ليست الإنسانية في أشد الحاجة إلى شهداء أبطال؟

وبعد، وراء هذا الواقع الضاحك الباكي، تنهض الوقائع صارخة جلية، لتقول كلمتها في غير استحياء. إنها تصرخ بملء فيها لتقول شيئاً واحداً لا ثاني له: لقد أوجد الاستعمار إسرائيل على حساب العرب، ولكن إسرائيل ومعها الاستعمار يدركان اليوم أن العرب لم يدفعوا بعد الثمن الكافي لبقاء إسرائيل، وأن لا سبيل لهذا البقاء إلا على حساب تضحيات جديدة يقدمها العرب. إن عليهم – بعد أن استلبت إسرائيل جزءاً من ديارهم – ألا يدعوا هذا الجزء نهباً للصعوبات والعقبات التي يواجهها – وعلى رأسها مسألة ندرة المياه – وعليهم بالتالي – بعد أن قدموا فلسطين هدية لبني إسرائيل أن يقدموا لإسرائيل أسباب البقاء. والدول الكبرى التي أوجدت إسرائيل، لا يجوز أن تبقى عند حدود هذا الشوط، فوجود إسرائيل الحقيقي يعني قدرتها على التغلب على ما تعانيه من صعوبات ويعني أن تكسر الطوق المضروب حولها، لتنتهي يوماً بعد يوم إلى ابتلاع الأرض العربية. إذ هل يعقل أن تستمر إسرائيل وتبقى ما دامت هنالك دول مجاورة معادية، لا تتخلى عن حصارها لإسرائيل ولا تيسر لها سبيل البقاء! إن هذه الدول عقبة في طريق إسرائيل، وإنها تجعل حياتها صعبة وبقاءها عسيراً، وتثير بذلك المشكلات، مشكلات السلم في المنطقة. وتظلم إسرائيل وتحول دون أبسط حقوقها المشروعة، حقها في الحياة، في تعمير أرضها، في رفع مستواها الاقتصادي، في توفير الدخل اللائق لمليونين ونيف، في إعداد العدة لاستقبال أعداد جديدة من المهاجرين ينبغي أن تتزايد يوماً بعد يوم!
ولكي نفهم معنى هذه الحقيقة، لنحاول أن نبحث بحثاً موضوعياً علمياً في كيان إسرائيل وأن نتبين في خاتمة المطاف أن هذا الكيان في حاجة إلى الماء كي يبقى، وفي حاجة إلى صلح قسري أو طوعي مع الدول العربية ليحيا ولتكون له جولته الثانية مع هذه الدول.
إن هذا البحث الموضوعي هو الذي سيرينا أن إسرائيل – التي خلقها واصطنعها
الاستعمار – لم توجد بعد وجوداً باقياً مكيناً على نحو ما ترجو، ولن توجد كما ينبغي أن توجد وتستقر إلا بالماء أولاً، وبفك الطوق العربي من حولها ثانياً، وبالاتساع على حساب العرب ثالثاً نتيجة لهذا كله. إنه يرينا رؤيا العين أن جولتها الحقيقية التي تثبت وجودها وتمكن لكيانها لم تكن جولة عام 1948 وإنما هي الجولة التي تجند لها اليوم كل قواها وقوى المنتصرين لها، جولة الماء، جولة الحياة الثاوية وراء الماء، جولة القوة التي يأتي بها الماء. إنه يقدم الدليل على تلك الحقيقة التي أصبحت ذائعة لدى جميع الذين درسوا أوضاع إسرائيل، وهي أن نقص المياه هو العائق الحاسم في وجه التطور السكاني والاقتصادي والعسكري لإسرائيل، وأن إسرائيل لن توجد حقاً إلا عندما يوجد الماء. فالجهود الفنية المبذولة، والمساعدات المالية السخية التي تتلقاها إسرائيل وسائر أنواع الدعم التي تتمتع بها، سوف تقف عند حد لا تتجاوزه إذا لم تجد الماء اللازم لري أراضيها واستغلال ثرواتها:
1- مساحة فلسطين المحتلة مساحة صغيرة: 20700 كم2. وما هو قابل للزراعة من هذه المساحة مع ذلك لا يفوق ربعها، أي حوالي 5 آلاف كيلو متر مربع. ونصف مساحتها تقريباً، أي حوالي 10 آلاف كيلو متر مربع، تشغله الصحراء.
وبالإضافة إلى صغر المساحة وصغر ما يزرع منها، تقوم مشكلة الري، فلا تكفي المياه الموجودة في إسرائيل للإفادة من جميع الأراضي الصالحة للزراعة. ورغم كل الجهود التي بذلت في السنوات الأخيرة لا تتجاوز الأرض المروية 1400 كم2 فقط. وعندما تستنفذ سائر الجهود لن تزيد مساحة الأرض المروية – كما يقدر الخبراء – على ضعف هذه المساحة.
2- وفي مقابل ذلك يتزايد عدد سكان فلسطين المحتلة تزايداً كبيراً، فبعد أن كانوا عند خلق دولة إسرائيل في الخامس عشر من مايس عام 1948 يقلون عن 800 ألف نسمة، أصبحوا يطوفون الآن حول المليونين ونصف المليون، والمقدر حسب الخطط الموضوعة أن يبلغوا أربعة ملايين على الأقل في عام 1970.
3- ثروات إسرائيل الطبيعية الأخرى ثروات محدودة، فالثروات المعدنية قليلة (البوتاس وبعض المعادن الأخرى من البحر الميت، والفوسفات من النقب، وبضعة آلاف من الطونات من النحاس في السنة من مناجم «تيمنا» والقليل القليل من البترول). والطاقة الكهربائية خاصة معدومة، بسبب انعدام المياه الكافية.
4- ونتيجة هذا كله أن الجانب الكبير من الدخل القومي مصدره القطاع الاقتصادي الثالث، أي قطاع التجارة والخدمات، بدلاً من أن يكون مصدره خاصة القطاع الاقتصادي الأول نعني الزراعة ثم القطاع الاقتصادي الثاني نعني الصناعة. ومن هنا نجد أن ثمة كثيراً من الأعمال الطفيلية والزائفة في إسرائيل، وأن ثمة فيضاً في عدد التجار خاصة. ومن هنا نرى أيضاً أن القوة العاملة في فلسطين المحتلة موزعة توزيعاً شاذاً: فأقل من 2/10 من هذه القوة العاملة يعملون في الزراعة، و3/10 منها يعملون في الصناعة، و5/10 في الخدمات. وهذا يعني تضخم قطاع الخدمات تضخماً فاضحاً، على حساب قطاع الزراعة خاصة، فهو قطاع ضامر رغم أن الأرض هي الثروة الأساسية في إسرائيل. ومرد ذلك خاصة إلى نقص المياه اللازمة لاستثمار الأرض.
5- يجمع الباحثون على أن إسرائيل مدينة ببقائها خلال السنوات الماضية للمساعدات الخارجية بالدرجة الأولى، فلقد تلقت خلال السنوات العشر الماضية عوناً خارجياً متوسطه مائة دولار لكل شخص في السنة. ولولا هذا العون لما تمكن الاقتصاد الإسرائيلي أن ينهض على قدميه. على أن هذا العون لا يمكن أن يستمر – أو لا يمكن أن يستمر بالمقدار نفسه على أقل تقدير (فالتعويضات الألمانية مثلاً تتوقف) – وإن هو استمر فلن يستطيع حل المشكلات الرئيسية التي لا يقوى على حلها. نعني مشكلة القيود الصارمة التي يفرضها نقص المياه على مشروعات التنمية.
مشكلة المياه إذن عقبة حاسمة في طريق تقدم إسرائيل وفي طريق بقائها. فلنحاول تبين هذه المشكلة بتفصيل أكبر:
1- مياه الأمطار في إسرائيل كما نعلم قليلة. وهي لا تتجاوز في المتوسط 300 مم في العام، يضيع ثلثاها في التبخر عن طريق حرارة الشمس.
2- تقوم جهود كبيرة لزيادة كمية المياه. ومع ذلك فكمية المياه المستخدمة في إسرائيل لم تجاوز 1.275 مليار متر مكعب عام 1960. ويأمل الباحثون أن تؤدي المشروعات المستمرة إلى أن تبلغ المياه عام 1970 كمية قدرها 1.8 مليار متر مكعب، لا تمكن الاستفادة إلا من 1.5 مليار متر مكعب منها. وهذه الكمية الأخيرة ستكون موزعة على النحو التالي (فيما إذا قامت إسرائيل بتحويل مجرى نهر الأردن حسب خطتها):
800 مليون متر مكعب من مياه الآبار
500 مليون متر مكعب من نهر الأردن والأنهار والينابيع الأخرى
100 مليون متر مكعب من مياه الوديان
100 مليون متر مكعب من تكرار استخدام المياه
هذا مع العلم أن نهر الأردن لا يقدم الآن سوى 150 مليون متر مكعب.

وهذه الكميات كلها كميات ضئيلة، وإذا لم تتمكن إسرائيل من تحويل مجرى نهر الأردن فمعنى هذا أن اقتصادها سوف يواجه في المستقبل القريب سداً لا يستطيع تجاوزه.
3- وإن كمية المياه المستخدمة حالياً، وقدرها 1275 مليون متر مكعب كما ذكرنا، موزعة (حسب إحصاءات عام 1962)، على النحو التالي:
1040 مليون للزراعة
60 مليون للصناعة
175 مليون للاستهلاك المنزلي
ومعنى هذا أن معظم المياه الحالية مستخدمة في الزراعة، ولكنها مع ذلك لا تفي بجزء من حاجاتها. فلقد ذكرنا أن فلسطين المحتلة تشمل 500 ألف هكتار تقريباً من الأراضي الصالحة للزراعة، بينما لا يروى منها حالياً إلا حوالي 140 ألف هكتار. أي أن كل هكتار يستهلك حوالي 7 آلاف متر مكعب من الماء. وعلى هذا القياس يحتاج ري القسم الباقي من الأراضي الصالحة للزراعة إلى 3 مليارات متر مكعب. ومن هنا نرى ضخامة المشكلة، ومن هنا نرى بوضوح أن الماء – لا التربة – هو العامل المضيق للإنتاج وللاقتصاد القومي هنالك.
4- ثمن التكلفة للمتر المكعب من الماء يبلغ حوالي عشرين قرشاً سورياً. على أنه سوف يبلغ – بعد المشروعات الجديدة المرتقبة – قدراً أكبر (حوالي 25 قرشاً سورياً). والثمن مرتفع كما نرى. أما ثمن البيع في الزراعة فيبلغ الآن حوالي 11 قرشاً سورياً لكل متر مكعب من الماء. ولا يعوض هذه الخسارة الناجمة عن سعر البيع بالقياس إلى سعر التكلفة، ارتفاع سعر مبيع المياه في الخدمات المنزلية، ولابد من مساعدة تقمها الحكومة تبلغ حالياً حوالي القرشين في كل متر مربع.
5- في مقابل هذا كله، يزداد عدد سكان إسرائيل كما ذكرنا زيادة كبيرة عن طريق التكاثر الطبيعي وعن طريق الهجرة. وفي حين تبقى الموارد المالية ثابتة تقريباً، وفي حين لا يقدر أن يتوافر للزراعة في إسرائيل عام 1980 أكثر من 1.1 مليار متر مكعب، من المتوقع أن يتضاعف عدد السكان وأن تصبح أعباء إطعامهم وتعهدهم متعذرة.
6- من أجل هذا جهدت إسرائيل وتجهد من أجل إيجاد مخرج لمشكلة المياه هذه، عن طريق العديد من المشروعات:
فهي تقوم بتجارب لإحداث مطر صناعي، لن تكون نتائجها واضحة قاطعة قبل حوالي عشرين عاماً، كما يقدر الخبراء.
والمشروع الذي أشار إليه الرئيس جونسون في خطابه، ليس بالمشروع الجديد كما نعلم. فالجهود تبذل منذ سنوات في إسرائيل من أجل إزالة الملوحة من المياه المالحة ومن مياه البحر. والأبحاث قائمة منذ أمد، لهذه الغاية، بالتعاون بين إسرائيل وبين الولايات المتحدة. على أن العلماء ما يزالون يشككون في إمكان نجاح مثل هذه التجارب. ذلك أن ثمن تكلفة المتر المكعب من المياه التي يتم الحصول عليها عن هذا الطريق سوف يبلغ، في تقدير الخبراء، حوالي 125 قرشاً سورياً؛ وأشد الباحثين تفاؤلاً يقدرون الثمن بما لا يقل عن ثمانين قرشاً سورياً. ومثل هذا الثمن يمكن أن يقبل إلى حد ما في الاستخدام المنزلي،
ولا تصح الفائدة منه في الزراعة. ومع ذلك فالجهود التي تبذل في هذا الميدان واسعة، وكثير من الباحثين يعقدون الآمال الجسام على التقدم العلمي الذي يفوق في سرعته في كثير من الأحيان أكثر النبوءات تفاؤلاً. والرجاء معقود، عند بعضهم، على أن يتمكن العلم وتقدمه من جعل ثمن تكلفة المتر المكعب من ماء البحر الذي أزيلت ملوحته حوالي أربعين قرشاً سورياً. وعند ذلك – فيما يقول هؤلاء – تحل مشكلة المياه نهائياً. وقد أشار الرئيس الأميركي في خطابه الأخير إلى المساعدات المالية الضخمة التي ستقدم لهذه الغاية، كما أشار إلى استخدام الطاقة النووية في هذا السبيل.
وفي هذه الإشارة الأخيرة تثوي معان هامة، غير المعاني الظاهرة. فهي تعني أن الولايات المتحدة سوف تعير اهتمامها بعد اليوم للأعمال السرية التي تقوم منذ سنوات في مركز الطاقة الذرية في «ديمونا» (في صحراء النقب). ويزيد من أهمية هذا الموقف الجديد أن الولايات المتحدة لم ترحب من قبل الترحيب الكافي بالاتفاق الفرنسي الإسرائيلي الذي أدى منذ سنوات إلى إنشاء مركز «ديمونا» هذا الذي يستهدف صنع قنبلة ذرية إسرائيلية. وكلنا يذكر أن بن غوريون صرح في عام 1960، رغبة منه في التخفيف من امتعاض الولايات المتحدة وإنكلترا تجاه هذا الاتفاق، أن مركز ديمونا سوف يقتصر على الأبحاث الذرية ذات الأغراض السلمية الخالصة. ومع ذلك فمثل تلك التصريحات لم تقنع أمريكا فيما يبدو، ولهذا جاء تصريح جونسون الآن وجاءت معه تصريحات المسؤولين والصحف تشير إلى أن اقتراح جونسون يمكن أن يؤدي إلى مراقبة الولايات المتحدة المباشرة لأبحاث مركز ديمونا. لا سيما أن هذا المركز لا يملك القوة اللازمة لتحقيق الأبحاث التي أشار إليها خطاب الرئيس جونسون الخاصة بإزالة ملوحة مياه البحر.
ومن هنا نرى أن الموضوع معقد، وأن وجهه الفني يخفي وجهه السياسي والحربي، وأن المساعدات الأمريكية لن تقف عند حدود المساعدات الفنية والمالية في هذا لمجال، بل ستمتد يوماً بعد يوم لتشمل المساعدات الخاصة بإنتاج الطاقة الذرية من أجل الأغراض الحربية، لتظل إسرائيل في هذا الميدان تحت وصاية الولايات المتحدة، وتخرج من الوصاية الفرنسية.
على أن أخطر هذه الجهود التي تبذلها إسرائيل في سبيل التغلب على مشكلة المياه هي المحاولات الدائبة لتحويل مجرى نهر الأردن، فالآمال الكبرى هناك معقودة في الواقع على هذا التحويل، وهو الذي يقوى في نهاية الأمر على حل مشكلة المياه في إسرائيل حلاً واسع النطاق كما رأينا. ولهذا تعمل إسرائيل جاهدة في هذا السبيل منذ سنوات. وقد أنجزت المراحل الأولى اللازمة للمشروع ومدت الأنابيب الضرورية، وتحاول الآن الإقدام على المرحلة التالية، مرحلة التحويل. ولن ندخل في تفصيلات المشروع الذي يعرفه الرأي العام العربي ويعرفه الخبراء. والذي أردنا أن نبينه هو الأهمية الخاصة التي لهذا المشروع، وما يلعبه من دور حاسم في حياة إسرائيل. فهو الذي ترتجي إسرائيل منه أن يقدم لها حوالي 500 مليون متر مكعب من المياه (قد تبلغ فيما بعد حوالي 800 مليون متر مكعب). أي أن يقدم الحل الأساسي لمشكلة المياه وما وراءها.
وهكذا نرى بوضوح – بعد هذا العرض للواقع الإسرائيلي – أن قضية تحويل مجرى نهر الأردن قضية يتوقف عليها اقتصاد إسرائيل وإمكانيات نمائه، وترتبط بها حياة إسرائيل الحقيقية. ومنها تريد أن تنطلق إسرائيل لتجد مخرجاً نهائياً لكيانها الاقتصادي والسياسي، وحلها هو الذي يقدم لإسرائيل الأوتاد اللازمة لتمكين بقائها ولمد هذا البقاء بحيث يطغى على الكيان العربي المجاور.
ومن هنا كانت معركة تحويل مجرى نهر الأردن في نظر العرب معركة تفوق في قيمتها وشأنها معركة عام 1948. ذلك أن وجود إسرائيل الحقيقي سوف يتقرر بالدرجة الأولى في هذه المعركة. لقد كانت معركة عام 1948 معركة استلاب النبتة، أما معركة اليوم فمعركة الحصول على النسغ اللازم لتبقى النبتة.
وبعد، أين صوت الإنسانية من هذا كله؟ وأين لحن السلام من هذا كله؟ وهل يعني السلم – في نظر دعاته – أن يحفر العرب حتفهم بظلفهم، وأن يقبلوا على الموت صاغرين طائعين؟ هل يعني السلام أن يقدموا الهدايا لإسرائيل، من مائهم واقتصادهم وتربتهم، وأن يحملوا إليها، على طبق من ذهب، الخنجر المسموم الذي ستطعنهم به؟

لقد خلق الاستعمار إسرائيل، خلقاً مصطنعاً، وكان طبيعياً أن يكون قوامها زائفاً ووجودها نابياً وسط كيان عربي قامت على جراحه وفي القلب منه. والآن يطلب الاستعمار من هذا الكيان العربي أن يلجأ باسم السلام إلى المنطق التالي: لا وجود لإسرائيل إلا على حساب العرب، وإلا إذا سبحت ضمن الجو العربي واغتذت من مياهه واقتصاده بل وأرضه، وعلى العرب إذن أن ييسروا هذه المهمة لإسرائيل، لأن إسرائيل وجدت، ولأن إسرائيل ينبغي أن تبقى، ولأن وجودها الزائف ينبغي أن يصبح وجوداً حقيقياً. عليهم أن يضموا إسرائيل إلى جسدهم وأن يغذوا سرطانها من أعصابهم ودمائهم!
والاستعمار يعلم، وإسرائيل تعلم، أن وراء كل خطوة خطوات، وأن خاتمة المطاف القضاء على الوجود العربي، إن لم يبطل هذا الوجود ما يأتمرون عليه. وإن هذا الاستعمار يعلم أن هنالك وجودين متناقضين لا بقاء لأحدهما مع الآخر، ولا بد أن يزول أحدهما. ومع ذلك فهو يدعو باسم التعايش والسلم إلى زوال الوجود العربي بكل بساطة. فإسرائيل لا تستطيع أن تبقى إلا إذا سرقت مياه العرب وفتحت أسواق العرب وامتدت على حساب العرب، وفرضت في النهاية وجودها على وجود العرب. إنها تريد أن تقلب وجودها المصطنع إلى وجود راسخ وطبيعي. ولن يكون ذلك إلا إذا استسلم لها الوطن العربي ودانت لها ثرواته وإمكاناته. أما العرب، فمن واجبهم – باسم السلام وحق الجوار وحفظ الأمن والطمأنينة في العالم الجريح – أن يمكنوا لوجود إسرائيل وأن يفتحوا أمامها السبل والآفاق، وأن يموتوا شهداء الإنسانية والعدل!
وأمام حملات التزييف هذه، وأمام الخديعة الكبرى التي يحاول الاستعمار وإسرائيل أن ينسجا خيوطها، لابد أن تقف البلاد العربية الوقفة التي يمليها الحفاظ على وجودها وشرفها: إنها تعتبر المعركة القائمة معركتها الحقيقية الحاسمة مع إسرائيل، ولا تبيح أن يعيد عام 1964 مأساة عام 1948 على شكل أعمق وأدهى، وتدرك أولاً وآخراً أن المعركة المائية معركة حربية في حقيقتها، وأن استراق المياه العربية لا يقل خطراً عن استراق الأرض العربية، بل يفوقها.
وإذا كانت المعركة غير مستبينة المعالم في ظاهرها وإذا كان بعض جوانبها خداعاً، فإن العرب لا يؤخذون بهذا الظاهر، وهم يعرّون المسالة ويضعونها موضعها الصحيح: إنهم ليدركون أن هذه المعركة التي تسوقها إسرائيل والتي لا تحمل معنى الحرب في ظاهرها، هي المعركة الحربية الكبرى والحقيقية، وهي الجديرة بأن تجند من أجلها جميع القوى. إن موقفهم في هذا موقف لا يتزعزع، موقف من يأبى أن يقاد إلى ساحة القتل خداعاً وتضليلاً، موقف من لا يجادل في أمر فيه حياته أو مماته. إنهم يدافعون عن الإنسان العربي – وعن قيم الإنسانية من خلاله – ويخاطبون العالم بمثل قول الشاعر القروي:
حتى يدين بحبه أقوانا
أما السلام فإننا أعداؤه

إنهم أعداء سلام المأساة، سلام تشريد الشعوب، سلام موت اللاجئين، سلام شقاوة الأجيال العربية. إنهم مع الحرب، إذا لم يوجد مركب سوى الأسنة، وإن طريقهم إلى سلامهم الحقيقي هو طريق فرض حقهم المشروع.
إن إسرائيل تريد المياه العربية لتحيا وليموت غيرها، وتريد سرقة ثروات العرب وأرض العرب لتبقى ويزول سواها. إنها وجدت على حساب العرب، وقوام بقائها التطفل على هذا الوجود وامتصاص مائه وغذائه. ولابد أن يلفظها هذا الوجود قبل أن تورق من دمائه وترقص على أشلائه. ولن يجرعها ماءه لتجرعه السم، ولن يغفو أمام السيف المصلت على قدره ومصيره.