حول كتاب مكسيم رودنسون «إسرائيل والرفض العربي»

نشر في مجلة الآداب عدد شباط / فبراير ، ١٩٦٩

حول كتاب «مكسيم رودنسون»
»إسرائيلُ وَالرفض العربي«
مدخل:
يحاول »ماكسيم رودنسون«، عالم الاجتماع والمؤرخ الفرنسي، في كتابه الأخير »إسرائيل والرفض العربي«، أن يدرس المسألة الفلسطينية والنزاع العربي الإسرائيلي دراسة يريدها علمية، مستندة إلى منهج البحث الاجتماعي والتاريخي. وهو بذلك يقوم بمهمة صعبة وجريئة: إنها تصطدم بالصعوبات الثاوية وراء أي محاولة لدراسة التاريخ من زاوية علم الاجتماع. وهي ترتطم بالحدود التي تمليها مثل هذه الدراسة على من آثر أن يصطنع فيها منهجا ذا اتجاه ماركسي، فيه الاتجاهات الاجتماعية والاجتماعية التاريخية التي وضع أسسها ماركس، وفيه بالإضافة إلى ذلك رغبة في تفسير الماركسية تفسيراً جديداً ونزعة إلى التحرر من أشكالها الرسمية المألوفة. وهي فوق هذا وذاك تركب هذا المركب العلمي الخطير، في موضوع شائك، يحمل طابعاً عملياً سياسياً، كما يحمل سمة راهنة وحادة، ومن الصعب بالتالي فصل الحقيقة فيه عن الموقف السياسي. هذا إذا لم نشأ أن نذكر الصعوبة النفسية الداخلية العميقة التي لابد أن يواجهها كاتب مثل هذا البحث من خلال الضغوط النفسية والاجتماعية التي يمكن أن يتعرض لها بوصفه يهودياً، مهما يكن الجهد الذي يبذله في سبيل الحقيقة المجردة، ومهما تكن صلته باليهودية حرة من قيود الدين أو التعصب.
من خلال هذا كله تبرز نقاط القوة والضعف معا في مثل هذا الكتاب: أنه محاولة جادة وصادقة وجريئة من أجل دراسة المشكلة الفلسطينية دراسة اجتماعية تاريخية علمية، جرب فيها صاحبها أن يكون مخلصاً لمنهجه العلمي ما وسعه ذلك، وجرب أن يقاوم ويقاوم في سبيل هذا الإخلاص للبحث العلمي مشوهات كثيرة في داخله وخارجه.
وهي من هذه الزاوية أول محاولة ظهرت في هذا الميدان، ولا بد أن يتقبلها المفكرون والباحثون باستبشار وأمل.
غير أن هذه المحاولة لا بد أن تكون – بحكم طبيعتها والظروف التي تقوم فيها – معروضة لكل ما يمكن أن يتعرض له البحث الاجتماعي والتاريخي العلمي من مزالق ومخاطر، لا سيما عندما يتصدى لمشكلة لم تصبح بعد ملكاً للتاريخ، وما تزال ملكاً للحاضر بكل حرارته وقسوته ومرارته. وصاحب المحاولة – إخلاصاً منه للحقيقة – لا يزعم لنفسه العصمة في ذلك، ولا يدعي أنه يستطيع في مثل هذا الميدان من البحث أن يجترح ما لم يجترحه سواه، وأن ينجو من المخاطر والأخطاء التي لا بد أن يواجهها أي بحث علمي في ميدان الظواهر الإنسانية عامة وفي ميدان الظواهر الاجتماعية والتاريخية خاصة. وحسبه وحسب غيره من الباحثين أن يبذل ما يستطيع للحصول على الوثائق والمعلومات التي تبدو له صحيحة وأن يسلط عليها منهج البحث العلمي وأن يتخير منها ما يبدو له معبراً عن المظاهر الأساسية للموضوع المدروس، وأن يعرضها متجردا ما استطاع من ضغط الأفكار السائدة والآراء الشائعة والعواطف المفسدة. وهذا ما فعله وجربه بعمق وصدق.
وظننا – ضمن حدود ما نعرف أيضا وما نقوى عليه من تجرد – أنه وفق في ذلك إلى حد كبير. لقد جاءت الحقائق التي أثبتها صحيحة دقيقة في معظمها، وجاء تفسيره للأحداث وتحليله لمجرى الأمور قادراً على الكشف عن محركاتها وبواعثها الحقيقية في أكثر المواضع، وأراد في الجملة أن يلعب دور القاضي الحكم بين طرفين متنازعين يصعب الحكم بينهما.
سوى أن جهوده الصادقة هذه أفسد بعض جوانبها في نظرنا عدد من العوامل:
1- مخاطر الموقف التوفيقي:
أولها أنه أراد بالذات أن يلعب دور الحكم كما قلنا. والحكم يحرص بطبيعة مهمته أن يصل إلى التوفيق بين المتنازعين أكثر من حرصه على أن يحكم لأحدهما من دون الآخر. إن هدفه أن يقبُل المتخاصمان أحدهما الآخر، ولو على حساب أحدهما، ما دام يعتقد أن الصراع في غير مصلحة كليهما، وما دام يصدر عن منازع إنسانية في نظره وعن جنوح إلى السلم كثيراً ما يبدو له وكأنه الشيء الأخلاقي والإنساني الأول.
ومن هنا – وهذا ثاني العوامل المفسدة لبعض نظرات الكاتب – ينطلق الباحث من أمنية لا من حقيقة علمية اجتماعية تاريخية مجردة، هي الاعتقاد بأن مثل هذا التوفيق بين المتنازعين شيء ممكن. وبدون هذا الاعتقاد ما كان له أن يكتب ما كتب أو أن يبذل ما يريد أن يبذل من جهد يراه نافعاً. وهو بهذا يجاوز دون شك حدوده كباحث وعالم ويتخذ موقف المفكر الحريص على السلام الراغب في التسوية السليمة، الناظر إليها على أنها تعلو على سواها في جميع الأحوال.

2- رغبة إسرائيل في التعايش السلمي وهم خادع:
وثالث هذه العوامل الخلفية الموجهة لنظرات المؤلف المفسدة لها أحيانا والصادرة أيضا عن هذا الباعث الأساسي المحرك لتفكيره – باعث التوفيق والإصلاح – اعتقاده أو رغبته في الاعتقاد أن إسرائيل يمكن أن تكون حريصة على التعايش الحقيقي مع البلاد العربية ويمكن أن تقبل في سبيل ذلك تنازلات تصل إلى حد إنكار نزعاتها التوسعية بل إنكار كيانها الذي قام بعد عام 1948، وقبول قيام دولة يهودية عربية في فلسطين يعيش فيها الطرفان في وئام فردوس أرضي لا أجمل ولا أحسن! أن تنصيبه إرادته ورغبته – إرادته ورغبته في الوصول إلى
توفيق – ينقله نقلا غير علمي وغير منطقي إلى اعتبار هذه الإرادة هي الواقع، والى عدم الفصل بين الرغبة وبين القدرة. وهكذا يضمِّن ثنايا كتابه معلومات وأفكاراً عديدة – يشعر القارئ أنها مقتسرة وأنها موجهة برغبة لا بدراسة علمية – هدفها أن تثبت أن مطامح الصهيونية التوسعية وأحلامها الكبرى في دولة من الفرات إلى النيل ليست هي شعار سكان إسرائيل – أو ليست شعار معظمهم – وأنها وقف على بعض القادة الصهيونيين وعلى بعض الزعماء الإسرائيليين المتصلبين. وكأنه يريد من خلال ذلك أن يوجه كلا الطرفين المتنازعين: يريد أن يوجه أبناء إسرائيل إلى ضرورة اتخاذ مثل هذا الموقف اللاصهيوني، كما يريد أن يوجه العرب إلى إمكان افتراض حدوثه!
3- مزالق وضع النتيجة قبل المقدمات:
من خلال هذه العوامل، يقع التحليل التاريخي والاجتماعي الذي يقوم به للأحداث فريسة فكرة مبيتة مسبقة، توجه أخيرا طراز تخيره للحوادث وتفسيره لها. هذه الفكرة المبيتة هي الرغبة أولا في إيجاد حل للنزاع والاعتقاد بالتالي أن هذا الحل ممكن وتأييده – بعد ذلك – بالأحداث والمعلومات والحجج. أنه يضع النتيجة إلى حد كبير قبل المقدمات، ويختار الموقف ليتخير على ضوئه كثيرا من الحقائق والحوادث. ولا نعني بهذا أنه يقوم بهذا العمل عن وعي كامل وعن سابق تصور وتصميم. فمن الصعب أن نبين – لدى أي مؤلف – مدى وعيه الفعلي لخطته ومدى انسياقه عن إيمان وصدق وراء خطة يخالها وليدة بحث علمي، وكثيراً ما تكون محصلة مجموعة من العوامل الذاتية وغير الذاتية لا يعيها صاحبها كامل الوعي. من العسير أن نقول أيهما أسبق في التكوين في فكر الكاتب: النتيجة التي وصل إليها أم الأحداث التي أيد بها النتيجة. ولعلهما في واقع الأمر متعاصران لدى كثير من الكتاب: فالأحداث يتم اختيارها وتفسيرها من خلال نتيجة قد تكون في البداية غامضة غير متبلورة، والنتيجة ما تلبث حتى تبلورها الأحداث والوثائق. وهكذا تنمو الأحداث والنتائج متكاملة إلى حد بعيد، متآزرة في معظم الأحيان.
على أن في وسعنا أن نقول غير متجنين أن أولوية النتيجة وسبقها وقيادتها للأحداث بارزة واضحة بل تكاد تكون فاضحة في الدراسة التي بين أيدينا. ولعل مما يبرر ذلك كون النتيجة المفروضة نبيلة كما تبدو للكاتب، موجهة بالجوانب التي تتراءى إنسانية خيرة. ومن هنا فهي لا تبدو للباحث العلمي – ولا سيما إذا كان غريبا – عاملا مشوها يحسن استبعاده، والتصديق بها وقبولها يكادان يندسان بيسر.
وهكذا تطرح هذه الدراسة موضوع صلاح البحث الاجتماعي العلمي في الدراسات التاريخية والسياسية، وتكشف بشكل نموذجي معبر عن مزالق مثل هذا البحث، حين يريْد في الأصل أن يضع الحقائق والوثائق قبل التفسيرات والنتائج، وحين لا يعدو في واقع الأمر أن يفعل ما فعله غيره، فينطلق من النتائج عن شعور أو غير شعور، سوى أنه يخرجها وكأنها وليدة الحقائق والبيانات والمعلومات الموضوعية. غير أن مزالق مثل هذا البحث الاجتماعي العلمي عامة لا تبرر الأحجام عنه، ولا تبطل شأنه، بل تبين حدوده، وتحفزه إلى مزيد من الموضوعية. وأيا كانت الحال فلا بد للباحث أن يغتبط حين يرى كاتبا مثل رودنسون يقتحم مثل هذا المنهج ويركب هذا المركب الصعب في موضوع شائك، يجلله ضباب العواطف ويسوده سوء الفهم وتعشش فيه الضلالة المزمنة، حتى لدى أكثر المفكرين تجردا ووعيا في دنيا الغرب. ولا يسع القارئ، والقارئ العربي خاصة، إلا أن يقدر المسافة الهائلة التي قطعها مثل هذا البحث الذي ساقه الكاتب والشأو الذي بلغه في توضيح المسألة وجلائها وإبراز أوصالها ومعالمها.
تحليل الكتاب ونقده:
على أن هدفنا ما هو أن نكتب مقالة عن قيمة البحث الاجتماعي التاريخي وعن مدى نجاح المؤلف فيه. فلنمض توا إلى تحليل الكتاب عن كثب، فمثل هذا التحليل هو القمين بأن يلقي مزيدا من الضوء على الملاحظات التي قدمنا بها لهذه الدراسة.
يضم الكتاب ثمانية فصول وخاتمة. أولها يتحدث عن الأصول التاريخية للشعب اليهودي. وثانيها يشير إلى نشأة الفكرة الصهيونية وفكرة الوطن القومي اليهودي. وثالثها يتحدث عن السنوات العشر الأولى التي تلت ولادة ذلك الوطن. ورابعها يحلل الوجود العربي بعد معركة قناة السويس ويشير إلى تباشير الحركات الاشتراكية التي أخذت في الظهور. وخامسها يصف بعض معالم الصراع العربي الإسرائيلي حوالي عام 1963 ويقف خاصة عند الوضع في إسرائيل وأمائر الصراع بين الفئة المعتدلة فيها والفئة المتصلبة. وسادسها يقدم وصفا للإطار الذي يقوم ضمنه واقع السياسة العربية. إطار الدول العربية والدول الأفريقية والدول الإسلامية. وسابعها يوضح الهدوء النسبي الذي ساد العلاقات العربية الإسرائيلية منذ عام 1964 حتى قبيل محنة حزيران، والانفجار المفاجئ الذي حدث في الموقف قبيل هذه المحنة. وثامنها يسرد الأحداث التي سبقت الخامس من حزيران والعوامل التي أدت إلى وقوع الاصطدام. أما الخاتمة فهي التي تحاول أن ترسم صورة المستقبل الممكنة كما يتراءى للكاتب من خلال الأحداث الواردة في الفصول السابقة، ومن خلال آماله وتطلعاته. وهذه الخاتمة هي التي تفتح في واقع الأمر باباً واسعاً للجدل والمناقشة، وتكاد تلقي على سائر الفصول هالتها وتهب لها معناها النهائي.
(أولاً) محاولة تهوين المسألة:
والحق أن فصول الكتاب كلها مرتبطة بخيط رائد أساسي، قوامه البحث عن كل العوامل والعناصر التي من شأنها أن تهوِّن المسألة، سواء في نظر العرب أو في نظر الصهاينة. وهدف هذا التهوين إمكان فتح باب لحل يبدو للكاتب أبعد الحلول عن مزيد من المآسي والآلام للفريقين. فكثير من الحقائق المثبتة والتحليلات الواردة تريد أن تقدم بعض الأعذار للطرفين، فعلةَ من يريد التوفيق والإصلاح. أنها تقر بحق العرب الأصلي وتقر بالحيف الذي وقع بهم، غير أنها تفترض ولادة حق جديد لإسرائيل، حق البقاء في دولة قامت وتكونت. وبين هذين الحقين، بين قرني الإحراج كما يقول المناطقة، تريد أن تجد مخرجاً! ومن هنا يقع الكاتب في مأزق صعب وفي تناقضات لا مفر منها. وهذه بعضها:
(1) لقد أراد هرتزل وأتباعه عام 1900 أن يقيموا مستعمرة في فلسطين. غير أن ذلك حدث، لسوء الحظ، في زمن لم تكن فيه فكرة الاستعمار مستهجنة، كما أنه قام في فترة ما كان يأبه فيها الأوروبيون لسكان أي بلد خارج عالمهم، وكانوا يفترضون أي رقعة وراء ذلك العالم وكأنها خلوة فارغة تنتظر من يحتلها. تلك حقيقة تاريخية »علمية« في نظر الكاتب تبدو له وكأنها كافية لتفسير موقف هرتزل وصحبه! ولعلها تتراءى عنده وكأنها أسباب مخففة للجريمة.
(2) وقيام إسرائيل ألحقَ حيفاً دون شك بسكان البلاد الأصليين حين طردهم من ديارهم، غير أن مثل هذا الحيف ليس أول حيف من نوعه يقع في تاريخ الإنسانية، وتاريخ العرب نفسه يشهد أنهم أوقعوا مثل هذا الحيف على شعوب أخرى! صحيح أن ما فعله العرب كان في حقبة زمنية قائمة على الفتوحات وعلى غزو أمة لأمة، وأن ما فعلته الصهيونية تم في عصر يأبى طرد شعب لشعب، غير أن في وسعنا – فيما يبدو للكاتب – أن نعتبر ذلك أيضاً سبباً من الأسباب المخففة للجريمة!
(3) وبعد قيام إسرائيل – فيما يروي المؤلف – حاول بعض قادتها أن يرفضوا حلم إسرائيل الكبير (من الفرات إلى النيل) وأن يجنحوا إلى السلم وأن يقدموا حلولاً معقولة على نحو ما فعل »شاريت« مثلاً. غير أن موقف الفئة »المتصلبة«، وعلى رأسها بن غوريون (فضلاً عن الرفض العربي) لم يوفر لمثل هذه المحاولات شروط النجاح. وكأن هذه النوايا المفترضة لدى بعض زعماء إسرائيل وبعض سكانها تبدو مرة أخرى للكاتب أسباباً مخففة للجريمة!
(4) وإسرائيل واقع ارتبط بالغرب وبالوجود الغربي الأميركي خاصة، غير أن هذا الارتباط لا يعني أنها في جوهرها قاعدة استعمارية، ما دام وليد ظروف سياسية أملته. وليس هنالك ما يحمل على الاعتقاد – في رأيه – أن مثل هذا الارتباط جوهري وأساسي ومستمر وغير قابل للتغير.
تلك أفكار منثورة هنا وهناك في ثنايا الكتاب، هي التي تنبئ عن نقطة الضعف التي أشرنا إليها، نعني وجود »خلفية« وراء البحث، تجعله مشدوداً أنى تيسر له ذلك شطر »تهوين« الجرم الإسرائيلي، واجتراح معجزة التوفيق. ولا بد أن نقول أن الكاتب يقوم بمثل هذا الجهد أيضاً من أجل تبرير موقف العرب أمام الرأي العام العربي خاصة وأمام إسرائيل أيضاً، وأن تكن مهمته الأخيرة هذه أيسر مأخذاً دون شك ما دام الأمر أمر حق العرب الصريح الواضح (رغم غموضه للرأي العام الغربي).
إن الكاتب ينطلق من حلقة قوامها المحاكمة التالية: إن قيام المستعمرة الصهيونية قد أثار ردود الفعل العربية، وردود الفعل العربية هذه أثارت وتثير المواقف الإسرائيلية. وهكذا يستمر الدور الفاسد Cercle Vicieusc ويزداد الأمر تعقيداً. وفي قلب هذا الدور الفاسد يبحث عن مخرج. والمخرج في نظره لا بد أن يكون عنصره الأساسي قبول العرب للأمر الواقع، واعتراف إسرائيل بالأضرار التي ألحقتها بالعرب! لا بد في نظره أن يعترف العرب للإسرائيليين بحق الحياة ضمن المؤسسات التي أقاموها. ولا بد في مقابل ذلك أن يعترف الإسرائيليون بأنهم الحقوا بالعرب خسائر كبرى، وبأنهم حرموهم من حقهم في الحياة في أرضهم.
وعند ذلك يمكن التفكير في تعايش بين المجموعتين، بحيث يعود عدد كبير من اللاجئين العرب إلى ديارهم، وبحيث يمكن قيام دولة ثنائية القومية!
ولن نناقش هذه النتائج التي يخلص إليها الكاتب من زاوية إمكانها أو عدمه. وهو نفسه يقر بأنها قد تكون من قبيل الأحلام. وكأنه يريد أن يقول أن الإيمان بالحلم يمكن أن يهيئ الشروط لانقلابه إلى واقع. والذي نريد أن نقف عنده هو مدى انسجام هذه النتائج مع المنهج العلمي الذي اختاره، ومدى اتفاقها مع التفكير المنطقي والعلمي.
(ثانياً) تناقضات الكتاب:
لقد قلنا أكثر من مرة أن المهمة الخيرة في نظره التي نذر الكاتب نفسه لها لا بد أن توقعه في تناقضات عديدة. فهو يريد التوفيق والإصلاح ولا يريد الحكم لزيد أو لعمرو لمجرد الحكم. ولا نريد أيضا أن نناقش هذه النية نفسها، فقد تكون – ضمن جملة الشروط التي يكتب فيها الكاتب كتابه – نية خيرة. وقد لا يرى الكاتب – ضمن إطار الظروف التي توجد فيها المشكلة – بديلاً أفضل منها. غير أن هذا ليس كافياً ليجعل المنطق خُلفاً، وليقلب الحق على عقبيه، وليجعل الجاني والمجنى عليه في منزلة تكاد تكون واحدة:
(1) أن المنطق العقلي لن يقبل – في سبيل إيجاد مخرج لمأزق صعب – أن يجعل كلا العرب والإسرائيليين أصحاب حق، ينبغي أن يعترف به كل منهما للآخر.
وكتاب »رودنسون« نفسه في معظم أجزائه ينكر على الإسرائيليين أي حق تاريخي أو غير تاريخي في احتلال بلاد غيرهم. لكنه ما يلبث فجأة، في خاتمة كتابه خاصة، أن يتحدث – حديث من لا يريد أن يثير الجاني طمعاً في إقناعه بالحل – عن حق لإسرائيل في البقاء. أنه في نظره الحق الذي فرضه قيام إسرائيل، واغتصاب إسرائيل. ولا ندري ماذا يبقى من حقوق الدول إذا اعتبرنا سياسة الأمر الواقع أصلاً. ومن يستطيع عند ذلك أن يفرق بين شريعة القوة والغاب وبين شريعة حقوق الإنسان والأمم.
(2) أن من الصعب على من يقرأ كتاب »رودنسون« نفسه ويقرأ تاريخ الصهيونية وولادة دولة إسرائيل، أن يعتقد مع «رودنسون» أن إسرائيل صادقة في أي محاولة ظاهرية من محاولات السلام والوفاق مع العرب.
والأحداث التي يذكرها حول مقاومة كثير من اليهود في الأصل للفكرة الصهيونية، وحول جنوح بعض زعماء إسرائيل بعد ولادتها نحو حلول وتنازلات، وحول عودة إسرائيل عن أحلامها الكبرى، تعبر في واقع الأمر عن حقيقة واحدة لا ثاني لها، هي حقيقة الكر والفر، والسير تبعاً لمقتضيات الظروف، تيسيراً للهدف النهائي وتجزيئاً له إلى مراحل وخطوات. وتاريخ الصهيونية منذ أيام »هرتزل« حافل بمثل هذه المناورات، وبمثل هذه التراجعات التي يقصد منها الاستعداد لهجوم أكبر. والنتائج وحدها كافية للتدليل على ذلك. وتمسك إسرائيل بعد كل جولة بمزيد من الأراضي واقتناصها كلما سنحت الفرصة لجزء من بلاد العرب لا يتركان مزيداً لمستزيد. قد يقول الكاتب بينه وبين نفسه أن مثل هذه المواقف الممعنة في الجشع هي نتيجة »الرفض العربي«. ولكن ما أسعد هذا الموقف الإسرائيلي إذن وما أشد مجونه: لقد اقتطعت إسرائيل أرض العرب، فإذا هم رفضوا القبول بالأمر الواقع فليس أمامها إلا أن تقتطع أرضا أخرى! إنها دعوة سهلة إلى السلم تلك التي تدعو إليها على أسنة الحراب. وأنه لإيمان عميق حقاً بالتعايش ذلك الذي يجعل منه مبرراً وأداة لمزيد من التوسع!
(3) إن كتاب »رودنسون« نفسه ومقاله الشهير السابق في مجلة »الأزمنة الحديثة« يشهدان أن »إسرائيل واقع استعماري«. غير أن المؤلف ينعطف فجأة في خاتمة الكتاب الذي بين أيدينا ليدخل بعض التعديل على موقفه، وهو تعديل تمليه عليه أيضاً في نظرنا تلك الرغبة في التوفيق. أنه يرفض انتساب إسرائيل وارتباطها بالعالم الغربي ارتباطاً جوهرياً. ويعتبر ذلك الارتباط عارضاً وليد ظروف سياسية. ويبلغ به الأمر حداً يشوه فيه معنى القاعدة الاستعمارية حين يفهم من هذه الكلمة قيام دولة هدفها استغلال العالم الثالث المتخلف واستثماره من قبل قوة صناعية حديثة. وعند ذلك ينكر أن تكون إسرائيل قاعدة استعمارية بهذا المعنى، وأن يكون انتسابها إلى العالم الغربي قائماً من خلال بنيتها الاقتصادية المتقدمة. وهو بهذا يضيق معنى القاعدة الاستعمارية كما أنه ينسى الارتباط بين البنية الاقتصادية والبنية السياسية في أي بلد. والأدلة واضحة على الدور الاستعماري الذي تقوم به إسرائيل بالنسبة إلى البلدان العربية، بحيث لا نحتاج إلى سرد لها. وحسبنا أن نذكر واحداً منها، أورده المؤلف نفسه في معرض حجته، وهو جدير بأن نورده في معرض الرد على تلك الحجة. أنه يقدم كدليل على عدم ارتباط إسرائيل بالاستعمار الغربي ارتباطاً جذرياً أنها لا يمكن أن تكون حجر عثرة في طريق تقدم البلدان العربية، وأن الثورة الاجتماعية والاقتصادية والتقدمية في البلاد العربية لا تقلقها ما دامت لا تهدد وجودها وحياتها! وههنا جوهر المشكلة: إن أي تقدم وتحرر حقيقي يمكن أن يحدث في البلاد العربية، لا يمكن أن يكون لصالح إسرائيل. ومن هنا فهي متآزرة مع جميع قوى الرجعية والسيطرة في العالم من أجل الحيلولة دون ذلك التقدم. وذلك هو دورها الاستعماري الكبير، وهذا هو بالدرجة الأولى معنى وجودها كقاعدة استعمارية. إنها بالتعريف وبحكم طبيعتها ضد تقدم البلدان العربية، بل ضد بقائها ووجودها. وجهودها المتآزرة مع المعسكر الرأسمالي والإمبريالي موجهة بالدرجة الأولى نحو تعطيل ذلك التقدم، ونحو إضعاف الوجود العربي نتيجة لذلك. بل إن مهمتها الأولى إنعاش أعمق صيغ التسلط لدى ذلك المعسكر وحثه على ممارسة سياسة إمبريالية في البلاد العربية لعله يمارسها في غير ما قناعة أو حماسة. يشهد على ذلك أن كثيراً من الدول الغربية بدأت تضيق ذرعاً بمطالب إسرائيل وموقفها، وتهتبل الفرص للتحرر من ضغطها اللامعقول، في عالم لم يعد يتسع لأشكال التسلط والاستعمار البالية. ويشهد على ذلك أن إسرائيل جرت فرنسا وإنكلترا إلى معركة خاسرة لا معقولة عام 1956، وهي اليوم تجني بعض ردود الفعل على ما ورطتهما فيه. إن إسرائيل لا تبدو مرتبطة بالعالم الغربي وبالسياسة الإمبريالية مكرهة، بل العكس هو الصحيح، إنها تريد أن تنعش السياسة الإمبريالية وتحييها من أجل مطامعها، ولو لم تكن الإمبريالية موجودة لخلقتها.
(ثالثاً) مزايا الكتاب وإيجابياته:
هذا جانب من التناقض المنطقي الذي يقع فيه الكاتب نتيجة للفكرة المبيتة لديه، فكرة التوفيق والتعايش. وهذا لا يعني أنه لا يعرض أفكاره هذه في كثير من الحيطة ومحاولة الدقة. وإنه لا يبين في كثير من الأحيان ما لها وما عليها. غير أن خطها الغالب هو الخط الذي ذكرناه، أما الليونات والترجح فتدل على الحيرة التي أوقع نفسه فيها وعلى المركب الصعب الذي ركبه.
ومع هذا وذاك، فالكتاب في جملته عامر بغير هذه الأفكار المتناقضة. إنه عامر بحقائق وآراء قيمة سديدة. وأن له فضل جلاء الكثير من الغموض الذي يجلل القضية الفلسطينية لدى الغرباء عنها. ولقد استطاع أن يكشف زيف كثير من الأفكار التي يؤمن بها الناس هنا وهناك حول إسرائيل ووجودها. كما أنه استطاع أن يقدم في كثير من الأحيان شرحاً سديداً لأحداث الصراع العربي الإسرائيلي يخالف الأخطاء الشائعة لدى الرأي العام الغربي وغير الغربي على حد سواء. ولا يتسع المقام لذكر هذه الأفكار السديدة التي يأتي بها، والتي يغير من خلالها نظرات الغربيين الخاطئة بل بعض أفكار العرب المألوفة.
وحسبنا أن نشير إلى بعضها:
(1) يؤمن الكثيرون في العالم الغربي وفي البلاد العربية أن قيام دولة إسرائيل يتفق مع النبوءات التي جاءت في الديانة اليهودية حول عودة اليهود إلى أرض صهيون. ويبين المؤلف خطأ هذا الاعتقاد: فالنبوءة الواردة في الكتب الدينية تتحدث عن عودة في آخر الزمان (تشبه عودة المهدي المنتظر أو المسيح)، يقوم خلالها عصر ذهبي في فلسطين، ولا تتحدث عن عودة سياسية مبتسرة كالتي بشرت بها الصهيونية. ومثل هذه العودة التي تمت تناقض في نظر كثير من رجال الدين تلك الوعود الدينية وتخالفها. ولهذا كان رجال الدين اليهودي أعدى أعداء الصهيونية في أيامها الأولى خاصة. وهكذا نجد الصهيونية قد استغلت في واقع الأمر شعوراً دينياً. غيرت حقيقته وأعطته طابعاً سياسياً »علمانياً«. فالحديث عن أرض الميعاد لم يرد قط في كتب اليهود على الصورة التي اصطنعتها الصهيونية من أجل أغراضها الدنيوية.
(2) يقبل كثير من الغربيين الفكرة الشائعة القائلة إن مئات الآلاف من العرب الذين غادروا فلسطين أثناء حرب عام 1948، فعلوا ذلك بدافع من زعمائهم العرب أنفسهم. ويبين الكاتب للرأي العام الغربي خطأ هذا الاعتقاد، ويشرح الأسباب الحقيقية لهجرة العرب، وهي أسباب يأتي على رأسها الإرهاب الذي مارسه اليهود، والذي نجد مثالاً عليه في مذبحة »دير ياسين«.
(3) يبين الكاتب للرأي العام الغربي أيضاً أن الشعب اليهودي الذي جاء ليحتل فلسطين شعبٌ مغاير كل المغايرة للشعب اليهودي القديم الذي سكن تلك البلاد منذ نيف وألفي سنة، وأن اليهود منذ أيام تحريرهم وتوزعهم على الأرض لم يعودوا شعباً بأي معنى من معاني الكلمة. لقد زالت عنهم صفات الجماعة المتجانسة والأمة المتشابهة وأصبحوا أفراداً تربطهم فيما بينهم أحياناً رابطة الديانة المشتركة وأحيانا أخرى ثقافة مشتركة ضيقة تكونت ضمن حدود البلدان التي سكنوها (وما هي بالتالي ثقافتهم القديمة). وأحياناً ثالثة ذكرى أصولهم المشتركة جزئياً. وهكذا فإن الجماعة التي أرادت أن تحتل فلسطين جماعة جديدة. شعب غير متجانس، بل لا تصدق عليه كلمة شعب. وهذا الشعب غير المتجانس الذي لا يكون شعباً هو الذي أراد أن يطرد شعباً متجانساً أصيلاً عريق الحضارة موحد الكيان. ومن هنا فالكارثة مضاعفة: أنها كارثة طرد جماعة لجماعة، وأنها فوق هذا كارثة طرد جماعة غير متجانسة ولا تكون شعباً لجماعة أخرى متجانسة عريقة الأصول.
(4) وكنتيجة لذلك يدحض الكتاب معتقدا آخر شاع لدى الغربيين، وهو المعتقد الذي يرى أن سكان فلسطين العرب لم يكونوا سوى محتلين لأرض لم تكن لهم. وأنهم قد فتحوا تلك البلاد عنوة في القرن السابع للميلاد، لا يختلفون في ذلك عن الرومان أو الصليبيين أو الأتراك الذين احتلوا تلك البلاد في فترات مختلفة. ولهذا فهم ليسوا في نظرنا هذا المعتقد الخاطئ المضلل سكاناً أصليين للبلاد أكثر من سواهم، بل ليسوا أكثر أصالة من اليهود الذين سكنوا هذه البلاد في القديم وكان لهم فضل احتلالها قبلهم! ويرد »رودنسون« هذا الزعم، ويبين أنه على الرغم من قلة عدد العرب الذين فتحوا فلسطين وجاءوا من بلاد العرب في القرن السابع، فإن سكان تلك البلاد ما لبثوا حتى تعربوا سريعاً بتأثير عوامل عديدة، على رأسها عامل الدين الإسلامي. وهكذا غدت فلسطين عربية وانصهر سكان البلاد مع الفاتحين، في حين أنها لم تصبح يوماً رومانية أو تركية أو غير ذلك.
(5) وقريب من ذلك ما يفعله الكاتب حين يوضح للرأي العام الأجنبي الفارق الأساسي بين »احتلال« العرب في الماضي لبلاد سواهم، وبين احتلال اليهود اليوم مثلاً لبلاد فلسطين (رغم أنه يعود فيقع في شيء من التناقض حول هذا الموضوع في خاتمة كتابه كما ذكرنا).
فلقد قام العرب بفتوحاتهم في عصر كانت فيه الفتوحات أمراً عادياً. وهم بعد ذلك فتحوا بلاداً تحتلها شعوب غربية عنها كانت تسومها العذاب، ولهذا فإن معظم سكان تلك البلاد تلقوا الفاتحين العرب كمنقذين. ثم إن العرب لم يعاملوا الشعوب التي فتحوا بلادها معاملة المغلوبين، بل عاملوهم معاملة الند للند، وأحسنوا حتى إلى من بقي منهم على دينه النصراني أو اليهودي. هذا إذا لم نرد أن نقول إن سكان معظم تلك البلدان التي فتحها العرب ينتسبون في الأصل إلى موجات جاءت من جزيرة العرب (بعض الحجج الواردة هنا أضفناها نحن إلى حجج المؤلف). ومن هنا دانت لهم تلك البلاد طوعاً. وانصهرت في بوتقتهم وما لبثت حتى استعربت.
وآية هذا كله أنه لا يجوز تشبيه احتلال اليهود اليوم لفلسطين باحتلال العرب لبلاد غير الجزيرة العربية أيام الفتوحات الإسلامية، ولا يجوز بالتالي في أي حال من الأحوال أن نبرر تلك بهذه، كما يفعل كثير من الكتاب المضللين.
(رابعاً) الكتاب ومخاطبة الرأي العام الغربي:
والكتاب في جملته يخاطب الرأي العام الأجنبي أولاً وقبل كل شيء. ويوفق إلى حد كبير في أن ينضو عن القضية الفلسطينية ما علق بها من أفكار خاطئة في أذهان الغرب، بفعل الدعاوة الصهيونية خاصة. ومن الجوانب القوية التي نقع عليها في الكتاب، تلك التي تفند كبريات الحجج التي يتذرع بها الصهاينة والتي ينساق معها كثير من المضللين في الغرب.
ونقدم فيما يلي جانباً من مناقشة المؤلف لتلك الحجج الشائعة والخاطئة:
(1) يقف المؤلف عند ذلك السلاح الذي طالما استخدمته الصهيونية، لاجتذاب العطف إليها، نعني التحدث عن آلام الشعب اليهودي وما لقيه عبر التاريخ من خسف وهوان، وما لقيه على يد النازية خاصة من تقتيل وتشريد. والصهيونية كما نعلم تعتبر هذا الواقع الأليم الذي تعرضت له كافياً لتبرير مطالبتها بوطن قومي تأوي إليه وتنهي فيه قصة آلامها وعذابها. وتستغل الصهيونية في هذا المجال ما يساور الغربيين من شعور بالإثم أمام المآسي التي تعرض لها اليهود، ومن رغبة في التكفير عن ذلك الإثم، ولو على حساب غيرهم. وجواب المؤلف على هذه الذريعة الصهيونية واضح صريح: لو حق لآلام اليهود أن تبرر في نظر بعضهم إنشاء دولة مستقلة، فليس في ذلك على أية حال ما يبرر أن تقوم تلك الدولة على حساب العرب. والعرب غير مسؤولين أولاً وآخراً عن آلام اليهود في أوروبا. ومن حقهم أن يقولوا: إذا كان الأوروبيون يشعرون بالإثم وبالمسؤولية تجاه اليهود، فما عليهم إلا أن يقدموا لهم بعض أرضهم، بدلاً من أن يتنازلوا لهم عن أرض سواهم.
(2) ويفند الكاتب كذلك ذريعة »العداء للسامية« التي يريد الصهاينة أن يمتطوها من أجل أغراضهم. فهم يتهمون بالعداء للسامية كل من لا ييسر مهمة الصهيونية ومطامعها التوسعية، وكثيراً ما يوهمون الرأي العام الغربي بأن عداء العرب لهم يسقي من نزعة عامة ضد السامية وضد اليهود. ويجيب المؤلف بأن موضوع »العداء للسامية« موضوع وجد لدى الأوروبيين، ولم يعرفه العرب. غير أن خلق دولة إسرائيل كان من أهم عوامل إذكاء هذه النزعة دون شك. فلقد أثارت الصهيونية في البلاد العربية نزعة معادية للصهيونية كان لا بد لها أن تؤدي بشكل من الأشكال إلى نزعة عداء للسامية ولليهود. ومعنى هذا أن الصهيونية لم تستطع في الواقع، كما زعمت، أن تسهم في حل مشكلة العداء للسامية، بل عملت على إذكائها في كثير من الأحيان، لدى العرب ولدى سواهم.
(3) ويضطر الكاتب أن يقف عند حجة واهية تصطنعها الصهيونية مع ذلك، كجزء من خطتها التي تجرب فيها ألا تهمل أي سلاح في معركتها. فكثيراً ما يوهم الصهاينة الرأي العام الأجنبي أن الصراع بينهم وبين العرب صراع بين التقدم والتخلف، بين المدنية والبربرية، وأن أبرز أسبابه تلك النقائص التي تنسب إلى العرب، وذلك التخلف الذي يعانون منه في حياتهم السياسية والاجتماعية. ويجيب الكاتب على هذه الذريعة العجيبة: ليس من حق أحد أن يقول أن شعباً يشكو من نقائص تجعله جديراً بأن تقتطع أرضه وتحتل دياره. ومثل هذه الحجة الفريسية التي تصطنعها الصهيونية حجة طالما لجأ إليها الفاتحون المغتصبون في شتى الصور، غير أن الضمير الحديث يرفضها ويمجها.
(4) كذلك يبين الكاتب أن المسألة ليست، كما تحاول بعض الأوساط اليسارية الغربية أن تقول، مسألة صراع بين الاشتراكية والرجعية أو الفاشية العربية. فالصهيونيون، كما يجيب بوضوح، جاءوا إلى فلسطين لينشئوا دولة يهودية، ولم يأتوا إليها ليكونوا حواريين مبشرين بالاشتراكية. ولقد بيَّن الكاتب في مواضع كثيرة من كتابه حقيقة النزعات الأيديولوجية الاشتراكية في إسرائيل، وحقيقة القطاع الاشتراكي في الاقتصاد الإسرائيلي، وذكر أن البنية النهائية للاقتصاد الإسرائيلي بنية رأسمالية تعتمد على رؤوس الأموال الكبرى الأجنبية. وأيا كان الأمر فيمكن التأكيد بأن المجتمع الإسرائيلي في جملته مجتمع لا يمت إلى الاشتراكية، وأن الدولة الإسرائيلية لا تستهدف في سياستها الخارجية توسيع نظامها الاشتراكي. بل يمكن القول على العكس من هذا، إن الصراع في حقيقته صراع بين الاشتراكية العربية ضد النزعة الاستعمارية الصهيونية.
(5) ويزيل الكاتب وهماً آخر عالقاً في بعض الأذهان، هو الوهم القائل بأن عداء العرب لإسرائيل عداء ديني يرجع إلى عداء الدين الإسلامي للدين اليهودي. وههنا يبين الكاتب أيضاً أن الدين الإسلامي في جوهره لا يعادي الدين اليهودي، كما أن المسلمين لم يلجأوا أيام فتوحاتهم إلى إكراه اليهود أو سواهم على الدخول في دينهم. بل أن كثيراً من اليهود الذين اضطهدهم مسيحيو أوروبا وجدوا في أرض الإسلام ملجأً وملاذاً. والعلاقات بين الطوائف الدينية كانت غالباً في البلاد الإسلامية علاقات قائمة على التسامح والتعايش.
(6) وتريد حجة صهيونية شائعة أن تقول أن الصراع في أعماقه تعبير عن نزعة »التوسع العربي«. وجوهر هذه الحجة أنه إذا كان من الطبيعي أن تدافع كل دولة عربية عن وجودها ومصالحها، فمما ينبئ عن نزعة توسعية أن تحاول الدول العربية المختلفة أن تدافع عن فلسطين وأن تقاتل من أجل فلسطين. وتضيف هذه الحجة في كثير من الأحيان أنه لو أتيح لعرب فلسطين أن يتركوا وشأنهم لأمكن الوصول إلى تفاهم بينهم وبين إسرائيل؟ وأمام هذه الحجة الواهية. يعجب الكاتب من أن يشكك في مشروعية مشاعر التضامن بين العرب، الصهاينةُ أنفسهم الذين يرون أن من واجب يهود العالم كلهم أن يتضامنوا مع إسرائيل! ويضيف أن بين العرب في مختلف ديارهم أواصر وثيقة من التاريخ والثقافة المشتركة، يشعر بها كل فرد من أفراد ذلك الشعب المتجانس منذ قرون وقرون. في حين أن الصلات بين اليهود صلات واهية تعوزها حتى وحدة اللغة وهي الحد الأدنى الضروري لقيام ثقافة مشتركة. وللعرب أن يتحدوا أو يبقوا مجزئين، كما يحلو لهم، وليس من حق أحد أن يأخذ عليهم وحدتهم، ما داموا لا يستخدمون هذه الوحدة من أجل غزو أراضي غيرهم.
خاتمة:
هذه ملاحظات عابرة على كتاب »رودنسون«.. وكنا نتمنى أن نتريث عند كثير من الأفكار والحقائق الأخرى الواردة في الكتاب. كما كنا نتمنى أن نستطيع عرض وجهة النظر العربية من المسألة الفلسطينية عرضاً منطقياً واضحاً، يتجاوز الإشارات العابرة التي نثرناها في هذه الكلمة هنا وهناك. غير أن مثل هذا المطلب يستلزم وحده أكثر من مقالة. ولعل لنا إليه عوداً في مناسبة أخرى. وحسبنا هنا أننا قدمنا – فيما نعتقد – عرضاً موضوعياً لكتاب أثار الكثير من الجدل، وأوقع بعض الكتاب في أحكام متناقضة. بعضها متطرف في الهجوم عليه وبعضها الآخر مجتزئ بامتداحه عن تحليله ودراسته. ونعتقد، في الجملة، أن أفكار الكتاب جديرة بأن تدرس وتحلل وتتخذ من قبل المفكرين العرب منطلقاً لدراسات تخاطب الغرب وتعقد حواراً مع الرأي العام الصادق فيه، بغية الوصول إلى مزيد من التوضيح للقضية العربية الأولى، وبغية الوصول إلى تضامن أوثق فأوثق بين الضمائر والعقول الشريفة في العالم. وأياً كان الأمر. فالموقف السليم الذي ينبغي أن يقفه الفكر العربي من أي محاولة تتصدى لقضيته، سواء كانت محاولة إلى جانبها أو ضدها، أن يتخذ من ذلك مناسبة لعرض وجهة نظره وتفنيد الحجج التي يراها خاطئة، وفتح حوار فكري مع الآخرين. وأسوأ المواقف هو موقف »الرفض«، رفض الحوار مع الآخرين، واللجوء بالتالي إلى الانكفاء على الذات والاعتكاف ضمن الحقيقة الذاتية، التي تتراءى لصاحبها بينة بدهية، وما هي كذلك للآخرين. أن موقف الإيمان الصامت بالحقيقة، لا يختلف في نتيجته العملية عن موقف الشك بها والخوف من إخراجها إلى النور. ولم تكن الحقيقة يوماً »جوزة« قابعة في قشرتها، على حد تعبير »جيمس«، وإنما هي حوار وتفاعل وانفتاح.
أن الصهيونية استطاعت، عن طريق الجهد والدأب وعدم اليأس، أن تقلب باطلها حقاً في نظر الكثيرين، فمتى يقوى العرب على أن يجعلوا حقهم كما يرونه هو الحق الذي يراه الآخرون؟