إسرائيل وهويتها الممزقة

في بحثه عن الهوية الممزقة للدولة الصهيونية يؤكد عبد الدائم أن العقيدة الصهيونية، وعلى العكس مما يظن الكثير من العرب، ليست عقيدة جامعة مانعة واضحة المعالم، بينة الأركان تلتف حولها الكثرة الكاثرة من أبناء إسرائيل ومن يهود العالم. بل هي، بحق، متخمة بالتناقضات، تتلاعب بها الأهواء وتلعب هي بالأهواء. ومن هنا يوجه عبد الدائم اهتمامه باتجاه قراءة هذه التناقضات وذلك على صعيد ثلاثة مستويات تتوزع على مدار أربعة فصول هي: (1) التناقضات في صلب الديانة اليهودية عبر التاريخ، (2) التناقضات في صلب الدعوة الصهيونية، (3) التناقضات بعد ولادة إسرائيل وحتى اليوم، (4) إسرائيل الممزقة والمستقبل.
وفي تناوله موضوع «التناقضات في صلب الديانة اليهودية عبر التاريخ»، يتابع عبد الدائم هذه التناقضات على مستويين: اليهودية التقليدية، التي ظلت سائدة حتى عهد التنوير. وخلافاً للأوهام الشائعة، الديانة اليهودية لم تكن دوماً ديانة توحيدية. ففي معظم أسفار العهد القديم ثمة إشارة إلى آلهة أخرى معترف بها لم يكن يهوه أقواها. ولكن مستوى اليهودية بعد عصر التنوير وحتى بزوغ الصهيونية والذي قاد إلى إصلاح ديني يهودي. دفع اليهود إلى الخروج من الغيتو Ghetto وسباتهم الفكري والمادي الطويل. وكان من نتائج الإصلاح الديني اليهودي، وبخاصة في أمريكا، نشوء «عقلانية يهودية» تخلت نهائياً عن أي طموح قومي يهودي ولكنها سرعان ما تراجعت تحت ضربات المقاومة العنيفة للحركات الدينية اليهودية الأخرى (ص 27).
وفي بحثه في «التناقضات في صلب الدعوة الصهيونية» يركز المؤلف على التناقضات الفكرية وكذلك الغموض والإبهام في داخل الدعوة الصهيونية. فهناك التناقض بين الصهيونية الثقافية والصهيونية السياسية، وبين المنادين من الصهاينة بالعودة إلى أرض إسرائيل المزعومة والصهاينة المخالفين، الذين راحوا يبحثون عن وطن قومي في مكان آخر. كذلك التناقضات بين المنادين بإحياء اللغة العبرية والمخالفين لهذه الدعوة. وهناك «دوماً وأبداً» التناقض بين الدعوة الصهيونية والديانة اليهودية، فضلاً عن التناقض بين أصحاب النزعة الصهيونية المتدينة والاتجاهات الدينية الأخرى المناهضة للصهيونية، والتناقض بين الصهيونية الهرتزلية وفروعها، من جهة، وبين الاتجاه القومي الصهيوني الفاشي، من جهة أخرى.
وفي تناوله «التناقضات بعد ولادة إسرائيل وحتى اليوم» يرى الدكتور عبد الدائم أن الشقاقات القديمة والحديثة حول هوية إسرائيل ولَّدت مزيداً من التناقضات والصراعات، توالدت بدورها وتكاثرت، إلى الدرجة التي تجعل من تاريخ اليهودية والصهيونية شبكة معقدة متنافرة من الرؤى والأفكار والسياسات والصراع، التي تمزق الكيان الإسرائيلي منذ ولادته (ص 73). والأهم من ذلك أن النزعات المتناقضة داخل الدولة الإسرائيلية خلَّفت لهذه الدولة تركة تشبه القنبلة الموقوتة. وفي هذا يقول المؤلف: ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا: «إن كل شيء في إسرائيل ينتهي نهاية سيئة لأن كل شيء بدأ بداية سيئة» ص (72).
ما يطمح إليه الدكتور عبد الدائم هو أن ندرك، من وراء هذا كله، كيف تعاظم التناقض في قلب المجتمع الإسرائيلي بعد ولادة دولة إسرائيل وكيف طرحت هذه الولادة مشكلات عصية على الحل، بسبب التناقض الذاتي العميق القائم في قلب الصهيونية قبل ولادة هذه الدولة وبعدها. وقد أدى هذا كله إلى توالد حركات دينية متباينة منها أحزاب دينية أرثوذكسية ومنها أحزاب «مسيحانية» معارضة للصهيونية ومكفرة للدولة، ومنها أحزاب دينية مسيحانية سفاردية، ومنها قوى دينية معارضة للصهيونية ومنها حركات مغالية في التشدد الديني وتكفير الدولة، ومنها، أخيراً، وليس آخراً، حركة «غوش ايمونيم» المتطرفة (ص 108).
وهذا ما يخلص إليه المؤلف وهو يتحدث في الفصل الرابع عن «إسرائيل الممزقة والمستقبل» فالدكتور عبد الدائم يسيّج هذا الحديث بمزيد من التساؤلات: إلى أين مصير إسرائيل؟ هل تفلح إسرائيل في إنقاذ كيانها ولملمة شظايا هذا الوجود المبعثر؟ أم أن ما تشكوه من تمزق معنوي في بنيانها أعمق من أي علاج مؤقت وجزئي ولا يجدي معه أي رتق مصطنع ما دام ينبع من تناقض أصيل، مقيم منذ القدم، في تطور الوجود اليهودي عبر التاريخ؟
الأهم من هذا كله، هو تساؤل عبد الدائم عن قدرة إسرائيل على الأخذ بخيار السلام. فمن وجهة نظره أن قدرة إسرائيل على إقامة سلام حقيقي مع العرب معطلة، تعطيلاً شبه كامل، بالتناقضات التي تميز كيانها وتهدد وجودها منذ القدم. وهي تناقضات تتجلى نتائجها الخطيرة أكثر فأكثر كلما تقدم الزمن. ومن العسير على مثل هذا الكيان، الذي تقعده الصراعات المرضية المتجاذبة عن أي عمل صحي وعن أي جهد صادق، أن يحقق سلاماً فعلياً مع العرب قابلاً للبقاء والاستمرار.
بعد هذا العرض الموجز لكتاب «إسرائيل وهويتها الممزقة» لا بد من بعض الملاحظات المنهجية حوله، وهي: أولاً: الكتاب لا يأتي بالجديد في سياق دراسته للتناقضات التي تحكم المجتمع والدولة الإسرائيليين. وثانياً: الكتاب يقطع مع التراث النظري المتراكم الذي كتبه باحثون عرب في مجال الإيديولوجية الصهيونية. وثالثاً: إذا كان الخطاب القومي العربي خطاباً في «الممكنات الذهنية» كما بيّن الجابري في الخطاب العربي المعاصر، فإن خطاب عبد الدائم عن إسرائيل وهويتها الممزقة يدخل في هذا الإطار.