نحو فلسفة تربوية عربية

مجلة الأبحاث التربوية – كلية التربية في الجامعة اللبنانية – العدد الأول 1973
نحو فلسفة تربوية عربية
عبد الله عبد الدائم
لن ندور حول المسألة، ولن نفتح أبواباً مفتوحة. لن نكرر الصيغ المنقوشة في الدساتير وفي قوانين التربية.
لن نعيد أقوالاً مكرورة كادت تفقد معناها، تحدثنا فيما تحدث عن الأسس التي ينبغي أن تبني عليها التربية، الأسس الاجتماعية والاقتصادية والنفسية وسواها…
لن نردد قصة قديمة أبدا، جديدة أبداً، نفضتها الأقلام دون ما طائل، قصة الفلسفة التربوية، التي ينبغي أن تجمع بين الأصالة والتجديد، بين التراث القومي والحضارة الإنسانية، بين التليد والطريف.
همنا في هذا المقام أن نصيب الهدف رأسا:
والهدف عندنا، الهدف اللازم لكل تربية، وللتربية في البلدان النامية بوجه الخصوص، هو أن نجد الطريق لتفتيح طاقات الإنسان حتى أقصى مداها، وإن نعزم أمرنا على صياغة تربية تحرر الإنسان من الجمود والقيود، وتطلق قوى الخلق والإبداع والتجديد عنده.
لا، ليس الهدف أن نربط نمو التربية بنمو الاقتصاد وحاجاته، ولا الهدف أن ندمج الفرد مع مجتمعه، مع تراث مجتمعه وأهدافه ونظرته إلى الحياة، ولا الهدف أن تخلق المواطن الصالح، المواطن المؤمن بأمته ووطنه، المناضل في سبيلهما.
تلك كلها أهداف لا ننكرها، ولكنها لن تكون ولن يكون سواها في نظرنا إذا لم ترتبط جميعها بهدف أساسي ينبغي أن يسودها وينبث فيها. ذلك الهدف الذي بدونه لا يكون أي هدف، هو أن يتم كل شيء من خلال إطلاق مواهب الإنسان وطاقاته وقوى التجديد والمبادرة والخلق عنده.
التربية والنمو الاقتصادي
أن نربط نمو التربية بنمو الاقتصاد وحاجاته، مطلب سليم دون شك وهدف أكدت عليه الدراسات الاقتصادية والتربوية في السنوات الأخيرة، ووضع له التخطيط الاقتصادي والتخطيط التربوي أصوله وتقنياته. ولكن هذا الهدف يصبح ورقة جافة وشجرة بلا نسغ وهيكلا بلا روح، إذا لم نجعل سبيله وغايته تكوين الإنسان الخلاق المجدد، القادر وحده على أن يجعل من تربيته وثقافته عنصرا فعالا في تنمية الاقتصاد والإنسان معا.
ولا نقول هذا لأن الاقتصاد لا يزهر ويثمر إلا بفضل مثل هذا الإنسان المبدع، بل نذهب إلى أبعد من هذا لنقول إن النمو الاقتصادي نفسه، على كونه عنصرا هاما من عناصر نمو الأمم والمجتمعات، ليس هو النمو أخيرا، ولا يختلط به. فالنمو لا يعني مجرد زيادة القدرة على الإنتاج أو زيادة الدخل، بل يعني فوق هذا وقبل هذا حدوث تغيرات أساسية هامة في البنى الاقتصادية والاجتماعية. وقد أن الأوان لأن ننبذ مفهوم “النمو” بالمعنى الضيق للكلمة، لنأخذ بمفهوم أشمل وأعمق، مفهوم “التغيير” أو بتعبير أدق النمو عن طريق التغيير، تغيير الفرد وتغيير أسس البنى الاجتماعية والاقتصادية عن طريقه. ومثل هذا التغيير لا تقوم به إلا تربية جديدة ومجددة، سنشير إلى بعض معالمها، ولا يمكن أن تضطلع به تربية كالتربية التقليدية المتحجرة التي نعرف.
لقد جاء حين من الدهر، بعد السنوات التي لحقت بالحرب العالمية الثانية، ساد فيه التأكيد على دور التربية الاقتصادي وعلى أهمية الربط بين أهداف التربية وأهداف النمو الاقتصادي. وانتشرت في الجو شعارات، تؤكد أهمية تنمية العنصر البشري ودور رأس المال الإنساني في كل تنمية اقتصادية. وانبثق التخطيط التربوي من خلال ذلك، واشتد عوده، ووضعت الخطط التربوية لتلبي حاجات القوى العاملة وحاجات الاقتصاد ولتكون في وفاق مع الخطة الاقتصادية والاجتماعية العامة لكل دولة.
ولا نماري في هذا الموقف، موقف الربط بين تنمية التربية والتنمية الاقتصادية، بين التخطيط التربوي والتخطيط الاقتصادي. ولكن المسألة في نظرنا أعمق من هذا بكثير:
لقد أخذ شعار الربط هذا بين تنمية التربية وتنمية الاقتصاد طابع التقدير الكمي في الغالب، ونحا عند التطبيق منحى آلياً ميكانيكياً، لا يعدو في الجملة أن يبحث في مقدار ما يحتاج إليه بلد ما في سنيه المقيلة من قوى عاملة مدربة على مختلف المستويات وفي شتى الفروع والاختصاص، وأن يبني التوسع التربوي بالتالي على هذا الأساس، بحيث يعد النظام التربوي المقبل تلك الأعداد التي تحتاج إليها السوق من عديد الاختصاصيين والمؤهلين.
وما نريد أن نقوله أمام هذا الواقع أمران:
– أولهما أن الربط الحق بين التربية والاقتصاد ليس مجرد ربط كمي ميكانيكي، بل ينبغي أن يكون أولا وقبل كل شيء ربطاً عميقاً، قوامه وأساسه تكوين الإنسان لا تكوين ألاختصاصي فحسب، تكوين الإنسان القادر على التغيير والتجديد والإبداع في مجال مهنته وخارجها.
– وثانيهما أن الهدف الحق للتربية ليس النمو الاقتصادي، بل الكائن الإنساني وإن غايتها الأولى والأخيرة، إعداد هذا الكائن الإنساني وتفتيح قواه بحيث يصبح قادرا على أن يضع نظام مجتمعه ووسائله وغاياته موضع التساؤل والبحث، وبحيث يغدو عاملا دائما من عوامل التجديد فيه. هدف الربط بين تنمية التربية وتنمية الاقتصاد، طريقه إذن واصلة تجديد تربية الإنسان ليكون قادرا على التجديد.
التربية والمجتمع
أما هدف الربط بين الفرد ومجتمعه، هدف دمج الفرد بالمجتمع، فهدف لا نشك فيه كذلك، وإن كنا نفهمه أيضا فهما أعمق:
لقد قيل الكثير عن دور المجتمع في تنمية الفرد والارتفاع بمستواه الإنساني، وقيل الكثير أيضا عن أهمية ارتباط تكوين الفرد بأهداف المجتمع، من أجل تنمية المجتمع وتنمية الفرد معاً. وأشار من أشار من الباحثين إلى أن الفرد لا يزكو إلا في تربته الاجتماعية ومناخه الاجتماعي، وأنه يكون من هو من خلال الدور الذي يقوم به في المجتمع. وأكد الكثير من علماء الاجتماع إن السمة المميزة للإنسان أنه كائن ذو دور، ذو دور اجتماعي، وأنه يتفتح إنسانا من خلال تكامله مع المجتمع وسعيه في سبيله.
وهذا كله قول حق، ولكن لا ننسى إن هذا الهدف، هدف ربط الفرد بالمجتمع، يمكن أن ينحدر، ليغدو أشبه بالترويض، ترويض الحيوان، كما يمكن أن يرقى ليأخذ المعنى الجدير بالإنسان، فيصير حقا سبيلا لإغناء الفرد عن طريق المجتمع المفتوح المطلق للطاقات، ولاغناء المجتمع عن طريق الفرد المجدد السيد لنفسه ولمجتمعه.
صحيح أن لا تربية بدون مجتمع وتراث اجتماعي، وإن المجتمع بقيمه وتجربته وتراثه، ينقل الفرد من مستوى الحياة الحيوانية الغرزية إلى مستوى الحضارة والحياة الإنسانية. وصحيح أن صورة الفرد المتروك لغرائزه وحدها ولطبيعته المعطاة له عند الولادة بعيدة عن تأثير المجتمع، هي صورة طفل “الافيروني” أو وحش “الافيروني” الشهير. وصحيح بالتالي أن نقول أن لا تربية بلا مجتمع. ولكن من الصحيح أيضا أن التربية لا تكون تربية حقه إذا كانت مجرد تربية اجتماعية، هدفها ربط الفرد بعادات مجتمعه وتراثه وقيمه وأماله. فالتربية الاجتماعية المحضة لا بد أن تكون تربية محافظة، أتباعه لا إبداعية، ولا بد أن تكون تربية إلزامية قائمة على السلطة والتلقين والتأديب والأمر. وكثيرا ما يكون هدفها أن تكون لدى الناشئ، عن طريق عناصر ومؤثرات خارجة عن وعيه، طبيعة ثانية ليس بينها وبين بنيته البيولوجية النفسية أي تأخذ وارتباط. وفوق هذا وذاك، لا يرقى الفرد إلى الوجود الإنساني الحق ولا يغدو قادرا على تطوير قيمه الإنسانية وعلى تطوير مجتمعه إلا إذا انتزع نفسه بمعنى من المعاني من المجتمع، وإلا إذا أصبح في النهاية سيد نفسه وأفكاره، وإلا إذا غدا في خاتمة المطاف «من هو» أي ما يصبو إلى أن يكون.
فالمجتمع أداة، أداة للرقي بالفرد ورفعه فوق مستوى الغريزة والطبيعة الغرزية الممنوحة له عند الولادة، وهو ككل أداة عائق وحد. ولابد أن يستخدم الكائن مجتمعه ومؤسساته وعاداته، كما يستخدم طبيعته الفطرية وجسده وميوله، من أجل التحرر من المجتمع والارتفاع فوقه، من أجل أن يغدو ما يصبو إلى أن يكون. والتحرير الحق هو في خاتمة المطاف عمل لابد أن يقوم به الكائن نفسه وأن يحققه في ذاته، وليس في وسع أي كائن آخر أن يحل محله.
وفي مجتمعاتنا النامية خاصة، وفي المجتمعات الإنسانية عامة، لا يكون تطور الفرد وتطويره للمجتمع إلا من خلال اتكائه على المجتمع ليعلو فوقه وليتجاوز قيوده وليتحرر من جموده. وما يطلب إليه أولا وقبل كل شيء أن يكون قادرا على أن يضع وجود مجتمعه ومؤسساته وغاياته موضع التساؤل والتشكيك والرفض. وعوائق التنمية الاجتماعية الحقة ثاوية أخيراً في عجز الأفراد عن تجاوز قيم المجتمع المألوفة وعاداته السارية وأهدافه الموضوعة، في غلبة الإتباع لديهم على الإبداع. ومشكلة التقدم الأولى، في بلادنا خاصة، تسليم الأفراد، بسبب التربية الاجتماعية المغلوطة، بأطر وأنماط من التفكير والسلوك، هي المسؤولة في الأصل والجوهر عن جمود المجتمع وعجزه وإفلاسه. وبدون التساؤل عنها والثورة عليها، لا تكون أي ثورة إلا ضرباً من الدوران الزائف يعيدنا إلى النقطة التي بدأنا منها.
أن المسألة أولاً وأخرا صراع بين الجمود والتغيير. ولا سبيل إلى غلبة التغيير على الجمود إذا لم تخلق التربية الأفراد الذين يريدون التغيير ويقدرون عليه. ولن يكون هؤلاء سوى الأفراد الذين يسرت التربية لهم سبل التفتح والتجدد، وأطلقت لديهم تلك القوة الإنسانية العملاقة التي لا يقف أمامها حد أو سد، قوة الخلق والإبداع، القوة التي تصل الإنسان بأعلى مراتب القدرة الإنسانية، عن طريق وصله بالكون وتفتحه له، ليخلق الكون خلقاً جديدا، وليجعله يتكلم حقا لغة الإنسان وينطق بغاياته العميقة.
تلك هي الفلسفة التربوية المنشودة في نظرنا. إنها الفلسفة المؤمنة بقدرة الإنسان على تجاوز ذاته ومجتمعه وعلى الارتقاء في معارج الإنسانية الحقة وعلى خلق المجتمع الإنساني المتحضر حقا، والمؤمنة بالتالي إن غاية كل غاية وأصل كل تربية أن تقتلع الزيف الذي يعصف بتكوين الإنسان، فيغل قواه، ويعطل إبداعه، ويشل تحركه نحو التجدد. إنها الفلسفة التي تجعل همها احترام تلك القوى الدفينة والامكانات المحبوسة، قوى التجاوز والارتقاء والإبداع، وإمكانات البحث والكشف والتنقيب. إنها الفلسفة التربوية التي ترفض الفلسفة التربوية إن كانت تعني وضع الأفراد في أطر مبيتة وقوالب مرسومة، والتي لا تقبل من الفلسفة إلا ما يجعل الفرد أقدر فأقدر على تغييرها وتجديدها. إنها الفلسفة التربوية التي تصغي إلى نداءات الطبيعة الإنسانية، إلى أنينها وشكواها من الحواجز والحدود والسدود، وتقيم نفسها أداة لتفتيق ما تجهله من امكانات الإنسان ورؤاه، ولتيسير ما لا تعرفه من قدرته وطاقته. إنها الفلسفة التي تدرك إنها نفسها قيد وحد، مهما يكن شأوها وإن تيار التقدم كامن أولا وأخرا في مفاجآت الطاقة الإنسانية حين تنطلق حرة أصيلة متصلة بنبع الحياة.
كيف نجسد الفلسفة التربوية المنشودة
قد يبدو هذا كله ضربا من التجريد ولونا من ألوان الصبوة العائمة الغائمة. فلنمض إذن إلى بعض التشخيص والتحديد:
1- التساؤل عن إطار التربية أصلاً:
نحن نعيش في نظم تربوية، غدت غاية في ذاتها وقلما نسائل عنها. لقد ألفناها حتى
لا يساورنا الشك في صلاحها وقيمتها. إنها نظم تربوية، عرفها الإنسان منذ القديم: نظم قوامها غرفة الصف ذي العدد المحدود من الطلاب، والمعلم والكتاب والسبورة. وقلما نفكر في أن نضع هذا الإطار الأزلي الأبدي موضع التساؤل والشك، حتى لكأنه الإطار الوحيد المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكل ما في النظام التعليمي يدور حول هذا الإطار : المنهاج والمعلم والطالب. وتخطيطنا للتربية وتقديرنا لحاجاتها ونفقاتها والأعداد المقبولة فيها، ينطلق أولا وأخرا من هذا الإطار. لقد حبسنا أنفسنا في هذا الحذاء الصيني دون أن نسائل عن جدواه وقيمته. وأدركتنا الأزمة. أزمة تقصير الموارد المالية والبشرية عن الوفاء بحاجات التعليم المتزايدة، إذا نحن تابعنا الخطى في هذا الإطار المألوف، ومع ذلك لم نفكر قط في تحطيمه وتجاوزه. لم نعد إلى ضرب من البداهة الدريكارتية لنسائل: هل من الضروري أن يكون السبيل الوحيد لتربية الأفراد والجماعات هو هذا القالب وحده، قالب الغرفة والصف والمعلم والكتاب؟ وهل هذه الأداة هي أنجع الأدوات وأجداها وأكثرها عطاء؟ هل التربية التي تحقق تفتح الفرد وطاقاته هي بالضرورة تلك التربية التي تجري في غرفة صف تضم عددا محدودا من الطلاب مهما عظم، يجلسون صامتين منفعلين، يقودهم معلم سيد مسيطر لا معقب لأحكامه ولا بديل عن عمله، ويقدم المعارف والمعلومات فيها كتاب مطبوع يتجاوزه الزمن ساعة دخوله إلى المطبعة، إن لم يكن قبلها؟
هل خطر لنا على بال أن نذكر قولة “الكسندر دوما” صاحب الفرسان الثلاثة، حين تساءل متعجبا: لماذا نجد ذلك العدد الكبير من الأطفال الأذكياء الموهوبين، ونجد في المقابل ذلك العدد الكبير من الكبار الحمقى المغفلين؟ وحين أجاب بالبداهة: لا بد أن تكون العلة في التربية وفي نظامها المألوف.
هل حاولنا أن نحلل دور المعلم في قتل قوى الإبداع والكشف والتساؤل عند الأطفال، وفي تشويه طباعهم وشخصيتهم وإنسانيتهم؟ أفلا يحق لنا أن نتدارس أثر ذلك الحاكم السادي، الذي يحكم على فعالية الطلاب ونشاطهم وقدراتهم ومواهبهم، دون أن يقبل حكمه أي استئناف أو تمييز؟
هل تساءلنا: ماذا ننمي حقا من قوى الإنسان وطاقاته الخلاقة، عن طريق هذا النمط من التعليم الموجه خاصة إلى الأذن والبصر، دون أن يرعى حواس الإنسان الأخرى ودون أن يأبه لحياته الإنفعالية والوجدانية العميقة؟
هل سألنا: أين تكمن قوى الإنسان الحقة وطاقاته الخلاقة: أفي الخضوع والخنوع لمنهاج مرسوم، أم في حركة الشوق إلى معرفة الكون واكتشافه؟ أفي ترويض الفكر على بعض المعارف المشتتة المأخوذة من هنا وهناك، أم في التعرف الواسع، بالفكر والعاطفة والجسد، على قوانين الحياة وأساليب التعامل مع الحياة وأشكال السلوك والتصرف عبر الحياة؟
هل قيض لنا أن نفكر: أين تثوى العبقرية والموهبة! هل هي عند أولئك الأطفال الذين يتألف منهم ما نستطيع أن نسميه “بالطالب الجيد مدرسيا”، الطالب الخانع المطيع المغالب لنفسه ولفضول المعرفة الحقة لديه، أم هي عند أولئك الأطفال الذين يتحرقون شوقا إلى إبداع يتجاوز ما في الدرس والمنهاج، ويشعرون بالغربة عن عالم المدرسة، ويعانون من الطلاق بين الصف والحياة من حوله؟
أسئلة كثيرة لا نريد أن نمضي في تعدادها. آيتها كلها أن الأوان قد آن أمام الفلسفة التربوية الحقة لأن تشك في إطار التربية من أصله، وأن تفكر في الإطار القادر على ربط الإنسان بحركة الحياة من حوله وبمستقبل الحياة حوله.
ألم تفجأنا بعض الحقائق العلمية المذهلة، من مثل الحقيقة التي انتهت إليها دراسة الأستاذ “لويس برايت”، والتي بينت أن نسبة الذكاء لدى بعض الشبان الذين لم يكملوا دراستهم أعلى من نسبة الذكاء لدى أولئك الذين حصلوا على البكالوريا؟
أفلا يحق لنا أن نتريث لحظات أمام ما يلجأ إليه المؤلف والموسيقي “كارل أورف” حين يرفض أن يقبل في معهده الموسيقي أطفالاً يختلفون إلى المدرسة ويعرفون القراءة والكتابة، لاقتناعه أن مثل هذه المكتسبات تحرم الطفل من حريته أمام الإدراكات الحسية الأخرى؟
أفلا يصح أن نعمّم، فنرضى في مدرسة الحياة من مر بالمدرسة العازلة عن الحياة، المشوهة لقواها؟ ولم التعميم، مادام الواقع نفسه يقوم عنا بهذه المهمة، حين تلفظ سوق الحياة بالفعل أولئك الذين لا يملكون من المؤهلات إلا مؤهلات النجاح في المدرسة؟
2- تجاوز الإطار التقليدي للتربية والأخذ بتكنولوجيا التربية:
وما هو أدهى وأمر إننا نثابر في تقبل هذا الإطار التقليدي للتربية في عصر نمت فيه وسائل المعرفة غير المدرسية واتسعت أبعادها. لقد نمت وسائل المعرفة الجماعية وأساليب الاتصال الجماعي، كالراديو والتلفزيون والأفلام والحاسبات الالكترونية والأقمار الصناعية وسواها. وغدت جميعها مصدراً هاما من مصادر نقل المعلومات والتعريف بالكون والكشف عنه. ومع ذلك ما نزال نجهل هذه الوسائل أو نتجاهلها، ونربي ونعلم كأن شيئا لم يكن.
أفلا نلاحظ إن الأطفال يتعلمون اليوم عن طريق المدرسة الموازية، عن طريق التحاك مع العالم الخارجي، بوساطة وسائل البث الجماعية، أفضل وأسرع مما يتعلمون في أسوار المدرسة؟
إن من الحق أن نقول إن مدارسنا –بإطارها التقليدي- تقضي وقتا يزداد طولاً، وتنفق طاقات بشرية ومادية تزداد اتساعا، من أجل إعداد الطلاب لعالم لم يعد موجودا، أو هو في طريق الزوال؟
إننا أمام عصر جديد تجتاحنا فيه التكنولوجيا الإلكترونية، وهذه الوسائل من الاتصال الجماعي والمعرفة الشاملة، لا تجتاحنا فحسب، بل تحررنا وتقدم لنا إطار جديدا لتربية الفرد تربية حقة: إنها تنقلنا من تربية مهمتها البحث عن إضعاف وإبطاء عمليات النضج والتطور الفردي إلى تربية تشجع الناس على الاكتشاف والتعلم الحي وعلى أن يجعلوا من حياتهم عملية تقدم مستمر. إنها تنقلنا من التربية في غرفة الصف إلى التربية التي تتم عن طريق الحوار مع البيئة والكون كله. إنها تيسر سبيل المبادرات الشخصية والحلول غير المكتوبة بدلا من الخوف منها كما تفعل المدرسة التقليدية. أن من مهماتها الأساسية أن ترفع المحرمات القديمة الشائعة في المدرسة التقليدية والتي تقتل الأصالة الحقة وتحول دون ظهور اللحن الشخصي والطابع الفردي.
أن تلك الشبكة العالمية من البث التلفزيوني مثلاً تساعد الطلاب على اكتشاف الواقع على أوسع نطاق ممكن، وتنمي حواس الطالب وادراكاته كلها، في حين إن التربية التقليدية القائمة على الكتابة تنمي حاسة البصر وحدها. وإنها تحطم الجدار القديم الذي يفصل المدرسة عن الحياة اليومية، وتوصل إلى الناس كافة حيث كانوا تجربة وخبرة ممتدة واسعة. وهي بذلك تجعل الفرد يدرك أن المكان الحقيقي لدراساته هو العالم نفسه، هو المعمورة كلها والكون كله، لا تلك النافذة الصغيرة التي تفتحها المدرسة بل تغلقها على العالم والكون. إنها تجعل الطالب يدرك أولاً وأخرا أن المعلومات والخبرات قائمة في البيئة والمحيط وقائمة في العالم خارج غرفة الصف. وأهم من هذا وذاك أنها تضعه نتيجة لذلك في موضع الباحث المكتشف المنقب عن أسرار الكون وقواه وعن أفكار العصر وتقنياته، وتجعله يحيا حياة الصياد المتربص على تلك الأرض الواسعة، أرض عالم المعلومات المنبثة في كل شيء، إلا في غرفة الصف.
وما يقال عن الراديو والتلفزيون يقال من باب أولى عن الحاسبات الإلكترونية: فالشبكة العالمية من الحاسبات الإلكترونية سوف تجعل أي معرفة ميسرة للطالب في دقائق معدودة. ولا سيما حين يمدها علم المعلومات (informatique). وعند ذلك لا يحتاج العقل البشري إلى أن يقوم بدور” الدرج” الحافظ للمعلومات الخاصة، بل تتحرر الذاكرة من هذا العبء، حين تقوم الآلة به، وينطلق الإنسان نحو وظائف أخرى وأعمال ألصق بإنسانيته.
وهكذا حين تنتشر المعلومات بين الناس بسرعة التيار الكهربائي، تحذف قيود المكان والزمان بين الناس، وتضع كلا منهم وجها لوجه أمام العالم كله.
ويطول بنا البحث لو أردنا أن نستعرض ما تحدثه هذه التقنيات الحديثة من انقلاب جذري في وسائل المعرفة وفي إطار التعليم بالتالي. وحسبنا أن نقول إنها تحطم إلى غير رجعة ذلك الإطار التقليدي للتعليم، الإطار المؤلف من غرفة الصف المحدودة والمعلم والكتاب، وتحطم معه أساليب التربية التقليدية وأهدافها، لتنقل الأجيال الحديثة إلى إطار الحياة كلها، إلى إطار المدرسة خارج جدران الصف، إلى المدرسة في الهواء الطلق، في الحياة، في الكون. وهي بذلك تحرر قوى البحث والتنقيب والإبداع التي تطمسها التربية التقليدية ولا تجد مجالا لتنميتها، وتحرك بالتالي المارد الإنساني الجبار، من خلال تحريك قوى التجديد والبحث لديه.
3- إيقاظ الجسد والحواس جميعها:
وأهم ما في هذا التحطيم للإطار التقليدي في التربية، من خلال التقنيات الجماعية الجديدة وسواها، أنه يدفع إلى توليد طرائق هدفها إيقاظ الجسد والحواس جميعها، لا حاسة البصر وحدها، وإلى إثارة دهشة الإنسان أمام الكون، تلك الدهشة، التي هي أساس المعرفة كما قال أفلاطون منذ القديم, ولعلها تُبلّغ الإنسان حالات نفسية جديدة ومشاعر كونية طرية واتصالات إنسانية محدثة، تجعله يرقى في فهم العالم والكون وفي إعادة بنائه وتنظيمه وفق أسس إنسانية حقة.
لعلها تحرر حياته الانفعالية والعاطفية، وتجعل من هذا التحرير سبيلا لإنسانية جديدة مستجيبة لمطالب الإنسان وحاجاته العضوية والنفسية، محققة لسعادته.
أفلم تبدأ بتغيير مفهوم الإنسان عن الجنس نفسه؟ أولم تبدأ بتحطيم معنى الجنس التقليدي، المعنى القائم على الفصل بين الجنسين والعزل بينهما، المعنى المستمد من الأصل اللاتيني لكلمة جنس (Sexus)، المشتقة من المصدر: (Secare)، الذي يعني القطع والفصل؟ أو لم تبدأ في توجيه الجنسين نحو الانصهار في إنسانية مشتركة لا فواصل فيها ولا تمييز؟
أو لم تجعل مصدر الرجولة والأنوثة الكاملين ومصدر إغرائهما قدرة الإنسان على أن يشعر ويحس بكل وجوده، بدلا من مفهوم الرجولة المستعدية والأنوثة الخانعة؟ أفلا تتجه نحو تحرير الإنسان من البحث عن الارتواء الجنسي كهدف أساسي وحاسم لتجعله قادرا على بلوغ لذات تتجاوز ذلك الارتواء.
4- زيادة فعالية العملية التعليمية نفسها:
ولا تقف الثورة التكنولوجية عند هذه الحدود بل يمتد أثرها إلى زيادة فعالية العملية التعليمية نفسها، بمعنى أنها تستطيع أن تعلم تعليما أفضل وأسرع، وبمعنى أنها تعرفنا بشكل أفضل بعملية التعلم لدى الإنسان، لنفيد منها في تعليمه تعليما أنجع وبإمكانات وجهود أقل.
ويطول بنا البحث أيضا لو أردنا أن نبحث عما تقدمه التقنيات الجديدة من فهم لعملية التعلم ومن تطوير لأساليب التعليم، ولو أردنا أن نفصل فيما تقدمه لنا الوسائل السمعية البصرية والمخابر اللغوية وأدوات التعليم المبرمج والحاسبات الإلكترونية من أساليب جديدة في التعلم، تجعل تعلمنا أفضل وأسرع وألصق بنزعات البحث والتنقيب والاكتشاف.
حسبنا أن ننظر إلى أطفال صغار يتعلمون مبتهجين، كما يجري في بعض البلدان، عن طريق الحاسبات الإلكترونية. حسبنا أن نطلع على تجربة كالتجربة الإسبانية التي تستهدف إعداد نيف وربع مليون من أساتذة التعليم الثانوي عن طريق شبكة الحاسبات إلكترونية. حسبنا أن نرى أطفالا في سن السابعة أمام العقول إلكترونية يتعلمون القراءة والكتابة وحدهم بقواهم الذاتية ووفق إيقاعهم الشخصي والسرعة الخاصة بكل منهم، حسبنا أن نذكر أن مثل هذه التقنيات تمكن الأطفال في الخامسة من تعلم الضرب على الآلة الكاتبة بسرعة مذهلة، كما تعلمهم الموسيقى وسواها، وأن نتذكر أن العديد من التجارب أثبتت قدرة الطفل الهائلة التي لا نقدرها عادة حق قدرها، تلك القدرة التي تجعله يتعلم الرياضيات في أسسها النظرية وفي معادلاتها من الدرجة الأولى بل الثانية منذ سن التاسعة.
حسبنا أن نرى بعض هذا وإن نذكره، لندرك أننا لا نتجنى على التربية التقليدية ونتهمها زورا وبهتانا حين نصفها بأنها أداة للجم قوى الطفل وتشويهها وغلها، وأنها بالتالي تمارس عملية هدر منظمة للطاقات ولقوى الإبداع في المجتمع.
5- عجز الإطار التقليدي للتربية عن الوفاء بحاجات التعليم المتزايدة
ولنمض إلى لغة المادة والأرقام، ليطمئن من يقدسون هذه اللغة وحدها:
إن هذه اللغة تحدثنا أفصح حديث وأبلغه لتقول لنا أن الإمكانات البشرية والمادية المتاحة للتربية، ضمن إطارها التقليدي المألوف، عاجزة منذ اليوم عن الوفاء بحاجات المطالب المتزايدة للتربية، وسوف تكون في السنوات المقبلة أعجز. إنها تبين إن العديد من الدول في العالم، ومن الدول النامية خاصة تنفق على التعليم ما يقرب من 25% من ميزانيتها أو أكثر وما يقرب من 7% من دخلها القومي وتزيد أحيانا. ومع ذلك فهذا القدر الكبير من الإنفاق لم يحقق التربية إلا لعدد محدود من الأطفال في سن التعليم، ولم يستطع أن يوصل التعليم الابتدائي وحده لمن هم في فئة العمر المقابلة، فضلاً عن التعليم الثانوي والعالي. إن بلدا كتونس ينفق ما يبلغ 30% من ميزانيته و10% من الناتج الداخلي الخام على التربية، ومع ذلك فهيهات أن يوفيها بعض أغراضها! وأن بلدا كالعراق ينفق على التعليم الابتدائي وحده ما يقرب من 5% من الدخل القومي، دون أن تنال خيرات هذا التعليم أكثر من 60% من الأطفال في سن التعليم. وأن بلدا كلبنان ينفق على تعليم رسمي ليس واسع الانتشار ما يقرب 20% من ميزانية الدولة. وهكذا…
ومعنى هذا إن ما ينفق على التعليم في مثل بلادنا بلغ حدا لا يمكن تجاوزه:
فمن العسير أن نطالب الحكومات بأن تخصص للتربية أكثر من هذا النصيب الضخم من الإنفاق. ومع ذلك فما تزال خدمات التربية مقصرة عن الشأو المطلوب، وما زالت بلداننا جميعا عاجزة عن تحقيق التعليم الابتدائي الإلزامي وحده، فضلا عن أنواع التعليم الأخرى. بل أن اتجاهات نمو التعليم في السنوات الأخيرة تشير إلى أن تموه السنوي بدأ يهبط في الستينات وأن هبوطه في نهايتها يفوق هبوطه في بدايتها، وأن البلدان النامية إن استمرت على سيرتها الحالية لم تستطع تعميم التعليم الابتدائي البتة، ما دام معدل التزايد السنوي في المسجلين عندها أقل من معدل تزايد السكان.
فماذا نصنع أمام هذا الواقع؟ واضح أن لا سبيل إلى حل الأزمة، إذا نحن تابعنا السير ضمن إطار التربية التقليدي، وآلينا أن نعلم بطريقة واحده، بطريقة غرفة الصف المحدودة والمعلم. ولابد بالتالي من اللجوء إلى طرائق تعليمية جديدة وإطار تعليمي جديد. لابد من التفكير جديا في أسلوب تعليمي يعلم عددا أكبر تعليما أسرع وبإمكانات أقل. ومثل هذا الأسلوب لا يمكن أن يكون سوى الأسلوب الذي يلجأ إلى استخدام تقنيات جديدة، متعددة الأشكال، منها التقنيات السمعية البصرية، وإلى إيجاد تشكيلات ونظم تربوية محدثة غير قائمة دوما وأبدا على غرفة الصف، ولا تحدد حاجاتها وإمكاناتها تلك العلاقة العددية الثابتة بين عدد الطلاب والمعلم. أو ليس في وسعنا أن نلجأ إلى تعليم أعداد واسعة عن طريق التلفزيون أو الراديو أو التعليم بالمراسلة أو التعليم المبرمج أو التعليم بالحاسبات الإلكترونية؟ أو ليس من الواجب أن نقدم تعليما في جميع المواقع، لا في غرفة الصف وحدها، نعني في المصنع والمزرعة والمتجر والمعسكر وسواها؟ أو ليس من الممكن أن نعمق أساليب التعليم الذاتي، أساليب تعليم الطلاب أنفسهم بأنفسهم أو تعليم بعضهم لبعضهم الآخر؟
6- التربية الدائمة المستمرة:
ثم إن التعليم في عصرنا، العصر الذي تتقدم فيه المعارف بسرعة وتتقادم بسرعة، لا يمكن أن يكون تعليما مرة وإلى الأبد، يتم على مقاعد الدراسية وعبر مراحل النظام المدرسي. ولا بد في عصرنا هذا من تعليم يمتد من المهد إلى اللحد. لابد من تربية مستمرة كما يقال اليوم. وهدف التربية والإعداد لا يجوز أن يقتصر، كما كان بالأمس، على تربية الفرد وإعداده خلال مرحلة محدودة من عمره، مهما تطل سنوات تلك المرحلة، ولابد أن يمتد إلى سائر أعمار الإنسان، فيشمل التربية السابقة على دخول المدرسة، كما يشمل تربية الكبار وتربية الشيوخ وتأهيل جميع أفراد الطاقة العاملة وإعادة تأهيلهم باستمرار. ومثل هذا المطلب جدير بأن يقلب نظام التربية رأساً على عقب. انه لا يصل إلى أغراضه عن طريق شكل واحد من التعليم والإعداد، هو التعليم في غرفة الصف عبر سنوات التعليم الرسمية، بل لابد أن يتخذ التعليم والإعداد فيه أشكالا عديدة تتناسب مع كل مرحلة من مراحل العمر ومع طبيعة الأفراد والجماعات التي نوجه إليهم ذلك التعليم والإعداد. فالتعليم والتدريب حين يتجهان إلى الطفل قبل دخول المدرسة، أو إلى الشبان في مواقع العمل والإنتاج، في الحقل والمصنع والمتجر، أو إلى الشيوخ الذين تتكاثر أعدادهم بعد ارتفاع متوسط العمر لدى الإنسان، أو إلى المرأة في منزلها، أو إلى الجماهير الواسعة العريضة، لا يمكن أن يتجمدا على شكليهما التقليدي، شكل المدرسة والصف، ولا بد أن يأخذا أشكالا عديدة ومتنوعة، وأن يصطنعا وسائل جديدة وفعالة، من شأنها أن تعلم هذا الجمهور الواسع المتنوع تعليما مفصلا على قدّ كل فئة فيه وعلى مستوى التقنيات السمعية والبصرية، تقدم عونا ثمينا في هذا المجال، مجال التربية المستمرة المتجددة التي نقدمها لهذه الكتل الواسعة.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى ما هو أعمق: فمفهوم التربية المستمرة أو الدائمة، لا يكتفي بالعناية بأنواع التعليم والإعداد التي تتم خارج إطار النظام المدرسي، بل يضع موضوع التساؤل مضمون التعليم النظامي نفسه ومحتواه وأساليبه ومدته. ذلك إن مثل هذا التعليم النظامي يغدو في إطار ذلك المفهوم، مفهوم التربية المستمرة، جانبا صغيرا من عملية تعليمية أكبر، وتغدو مهمته أن ييسر مثل هذا التعليم المستمر المتجدد، وأن يقدم له أساسيات المعرفة التي يحتاج إليها، لا أن يقدم كل معرفة وعلم. إن مهمته الكبرى تغدو إذ ذاك أن يجعل الفرد قابلا لأن يتعلم ولأن يكتمل تعليمه وإعداده في المستقبل دوما وأبدا. ولا يتم ذلك إلا إذا اقتصر ذلك التعليم النظامي على تزويده بأدوات المعرفة الأساسية وبأساليبها وطرقها، قبل أن يزوده بمعرفة منتهية وعلم مختوم. وعند ذلك قد توضع مدة هذا التعليم النظامي موضع البحث، كما توضع مناهجه المثقلة موضع التشذيب، ليرتد في النهاية إلى الحجم الذي يطلب إليه في إطار تربية مستمرة، وليضطلع بالوظائف التي تجعل منه مجرد مدخل لمتابعة الإعداد والتدريب عبر سنوات العمر كلها.
الفلسفة التربوية العربية؟
وبعد، قد يسائل القارئ ونسائل: هل هذه هي الفلسفة التربوية المرجوة؟ قد يفتقد فيما نقول كثيرا مما ألف الباحثون أن يضعوه تحت عنوان الفلسفة التربوية، نعني أهدافها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وتصورها لصورة المواطن الذي نبغي إعداده. ولكننا قلنا ونقول أننا اجتنبا عن قصد مثل هذا العود المكرور إلى الحديث عن أهداف التربية المألوفة. فتكرار الحديث عن دور التربية في خلق المواطن المؤمن بمجتمعه وأمته، المزود بإرادة النضال، المتحلي بالخلق، لن يجعلنا نتقدم خطوة واحدة في طريق فلسفة التربية. ذلك أن هذه الأهداف جميعها يمكن أن تعطلها تربية تتم في الإطار التقليدي وبالوسائل التقليدية. ومن التناقص والخلف أن نفكر في مثل هذه الأهداف في سياق تربية أقل ما فيها أنها تحول بين الإنسان وتحقيق ذاته، وتقتل قواه، وتحرمه من طاقة التغيير التي لا يكون بدونها تطوير للمجتمع أو تحقيق لأهدافه. وأي هدف تربوي، مهما يسم، لا يجد مكانا له في إطار ذلك الحذاء الصيني القاتل لاصل كل هدف، نعني موهبة الإنسان وروح الابتكار لديه وتوفه إلى معرفة العالم والتأثير فيه. أن الفلسفة التربية الحقه هي التي تعالج أزمة النضوب والعقم، تلك الأزمة المسؤولة عن تردي حياتنا الفردية والاجتماعية والقومية وسواها. أنها الفلسفة التي تحرر طاقات الإنسان وتطلق قوى الإبداع لديه، ليستطيع حقا أن يبني نفسه ومجتمعه. أنها الفلسفة التي تريد أن تخلق الإنسان الجديد، القادر وحده على تحطيم البنى الاقتصادية والاجتماعية الجامدة، بفضل اتصاله الحي بالكون من حوله، وبفضل ما أفسح من مجال أمام توقه إلى التنقيب والبحث والتأثير.
الفلسفة التربوية الحقة هي التي تعيش هذا القرن ومنجزاته، وتطل من بعده إلى القرن الذي يليه، وتدرك أنها مدعوة إلى أعداد أبناء القرن الحادي والعشرين، أبناء مجتمع ما بعد الصناعة، أبناء الثورة الصناعية الثانية، ثورة العلم والتكنولوجيا، أبناء عصر الأوتوماتية والسبرانية والإلكترون. ومثل هؤلاء لا تعدهم أطرنا التربوية الجامدة، ومناهجنا المبيتة وأساليبنا المعطلة.
وقد يسائل المرء بعد ذلك عن المعالم الخاصة بالفلسفة التربوية المنشودة في بلادنا. وها هنا أيضا لا نقبل أن نطرق ميادين مطروقة. شيء واحد وحيد يحدثنا به واقعنا، هو الجمود والعقم في شتى المجالات، هو العجز عن الإبداع والابتكار واللحن الشخصي. وشيء واحد أساسي ينبغي أن تتجه إليه فلسفة تربوية تريد أن تغير ذلك الواقع، هو أن تفكر في الإنسان الذي نقتل قواه منذ نعومة الأظفار، في المواهب التي نضيعها عن طريق إطار التربية القديم ومحتواها وأساليبها الجامدة. عليها أن تفكر في القدرة على التجديد التي لا يكون بدونها تطوير للمجتمع، وأن تبحث عن وسائل خلقها وتكوينها. عليها أن تبتدع الإطار والمحتوى اللذين يخلقان مجال الحرية أمام الأفراد، حرية الكشف والبحث والبناء.
السمة الخاصة للفلسفة المرجوة لبلادنا تتأتى من شيء واحد: هو أن تخلق الأشكال والأطر والمحتويات التربوية الجديدة بعد تعرف على واقع كل بلد وإمكاناته، وأن يكون رسمها لإطار التربية ووسائلها مستقى من تجارب وأبحاث ميدانية، مستمدة من مشكلات بلادنا وإمكاناتها. وما سوى ذلك لفظ وعقم وتجريد.
مبدأ أول وأخير ينبغي أن يقر في ذهن أي فلسفة تربوية أصيلة هو أن المعلم الحقيقي هو الكون. وهدف التربية بالتالي أن تفتح أعين الناشئة على الكون ومعلوماته وتحدياته، ليتمكنوا من التعامل معه والتأثير فيه. وهدف أي تربية قومية أصيلة أن تصل الناشئة بمشكلات الكون وبمشكلات مجتمعهم الخاص في إطار ذلك الكون. ومثل هذا الهدف يبعدنا عنه إطار التربية المألوف وتبعدنا عنه وسائلها الشائعة. ولابد بالتالي من تغيير الإطار والوسائل إذا كنا جادين حقا في الوصول إلى أهدافنا.
هل يعني هذا كله إن فلسفتنا التربوية هي التحرير، تحرير الفرد من قيود المدرسة التقليدية وإطارها ووسائلها؟ أجل، وهل من هدف أسمى وأشمل وأعمق من هدف التحرير، تحرير الإنسان من الأغلال، أغلال الجهل المنظم الذي تمارسه المدرسة، وأغلال العقم الذي تكرهه عليها؟ إن شرارة التحرير الأولى للمجتمع، ثاوية هناك، في الثورة التربوية التي تسمح للإنسان بأن يرى ويكتشف ويبتدع، والتي تطلقه في طريق توق ذاتي لا يكل، وجهد ذاتي لا يتوقف، يرقى بهما إلى غير حد، ويرتقي بمجتمعه دون ما سد.
أما وسائل ذلك كله، فالحديث عنها يطول، وقد اكتفينا في هذا الفصل الختامي بإشارات وإيماءات عابرة، تاركين المزيد من التفصيل في هذا المجال لكتابنا الذي نرجو أن يظهر قريباً، والذي أفردناه للتكنولوجيا الحديثة في التربية(1).
بعض المراجع حول البحث:
1- صحيفة التخطيط التربوي. عدد خاص عن التقنيات الجديدة في التربية. العدد 28، كانون الثاني- نيسان1972.
2- الدكتور عبد الله عبد الدائم: الثورة التكنولوجية في التربية. صحيفة التخطيط التربوي. العدد العشرون، أيار- آب1969.
3- الدكتور عبد الله عبد الدائم: الثورة التكنولوجية في التربية. دار العلم للملايين بيروت (تحت الطبع).
4- الدكتور عبد الله عبد الدائم: التعليم المتخلف في البلاد العربية لا تنهض به الأساليب التقليدية. مجلة العربي الكويتية – العدد 149 – نيسان 1971.
5- Faure et autres: Apprendre a etre, Unesco – Fayard, 1972.
6- P.Lengrand: Introduction a I’education permanente, Unesco, Paris, 1970.
7- M.Mc Luhan: La galaxie Gutenberg, Mame, Paris, 1967.
8- I. IlIich: Deschooling Society, Harper and Row, New York, 1971.
9- J. Writtwer: Pour une révolution pédagogique. Editions universities. Paris, 1968.