مستقبل الثقافة العربية والتحديات التي تواجهها

مجلة المستقبل العربي – العدد – /260/ – تشرين الأول /2000/
مستقبل الثقافة العربية والتحديات التي تواجهها (*)
عبد الله عبد الدائم
مفكر ومربّ قومي ووزير سابق – سوريا
أولاً: تعريفات لابد منها:
1- الثقافة بالمعنى الواسع تعني النتاج الأدبي والفكري والفني.
2- الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي الموسع تعني أنماط السلوك المادية والمعنوية السائدة في مجتمع من المجتمعات والتي تميزه من سواه.
3- الثقافة اليوم: اتسع معنى الثقافة في العقود الأخيرة، فأصبحت تعني جملة النشاطات والمشروعات والقيم المشتركة التي تكون أساس الرغبة في الحياة المشتركة لدى أمة من الأمم والتي ينبثق منها تراث مشترك من الصلات المادية والروحية يغتني عبر الزمان ويغدو في الذاكرة الفردية والجماعية إرثاً ثقافياً بالمعنى الواسع لهذه الكلمة هو الذي تبني على أساسه مشاعر الانتماء والتضامن والمصير الواحد.
4- الثقافة (Culture) والحضارة (Civilzation): هذان المفهومان يكادان يندمجان، بعد أن اتسع معنى «الثقافة» كما ذكرنا، وغدت الحضارة هي الثقافة بالمعنى الواسع للكلمة (الحضارة نتاج الثقافة)، وغدا كلا اللفظين يضم «القيم والمعايير والمؤسسات وأنماط التفكير التي أولتها أجيال متتالية، في مجتمع أو أمة معينة، أهمية حاسمة». ومن هنا يرى باحثون من أمثال داوسون (Dawson) أن الحضارة نتاج عملية مبتكرة من الإبداع الثقافي الذي قدمه شعب معين.
وجميع الحضارات اليوم حضارات وجدت منذ أكثر من ألف عام. ولئن كانت الحضارات تبقى وتستمر، فإنها تتطور أيضاً. إنها تولد وتموت. إنها تمتزج وتنفصل.
5- أسباب نشوء الحضارات وسقوطها: مثل هذا البحث بحث عسير ذو أبعاد كثيرة (1).
وفي رأي توينبي (Toynbee) على سبيل المثال: «تتفتح الحضارة نتيجة استجابتها للتحديات».
وآراء بول كينيدي (Paul kennedy) معروفة سجلها في كتابه الشهير صعود وسقوط القوى العظمى.
6- جميع الباحثين يقولون بوجود حضارة إسلامية متميزة تميزاً واضحاً. وفي هذه الحضارة الإسلامية عدة ثقافات أو حضارات فرعية: الثقافة العربية – الثقافة التركية – الثقافة الفارسية – ويضيف بعضهم: الثقافة الماليزية.
ثانياً: الثقافة في عالمنا اليوم
1- لا تصح معالجة واقع الثقافة العربية ومستقبلها من دون معالجة مشكلة الثقافة في العالم.
2- وهذه المشكلة اشتدت وأخذت أبعاداً جديدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وبعد انتشار ظواهر «العولمة» بأشكالها المختلفة (وما أدت إليه من اختراق للثقافات، من قبل الثقافة الغربية، بل الثقافة الأمريكية الطاغية).
3- هذا الوضع الجديد قاد مجموعة من الباحثين على رأسهم هانتنغتون (Huntington) في كتابه صدام الحضارات (The Clash of Civilizations)(2) إلى طرح مشكلة الثقافة (أو الحضارة) في العالم طرحا جديداً يؤكد أهميتها وأنها القضية المحورية في عالم اليوم وأن مستقبل اليوم مرتبط بها.
وعلى الرغم من عدم اتفاقنا معه حول بعض النتائج التي استخلصها، ولاسيما في ما يتصل الحضارة الإسلامية فإننا نتفق معه في الطرح الإجمالي الذي قدمه لمشكلة الثقافة ومستقبلها في العالم بوجه عام.
4- وأياً كان الأمر، ففي وسعنا أن نستخلص من دراساته ومن دراسات الكثيرين من الباحثين ومن تحليلنا لكل هذه الدراسات تلخيصاً لأبرز ما انتهى إليه التحليل اليوم لواقع الثقافات العالمية ومستقبلها.
وفي وسعنا أن نُجمل هذا الطرح الجديد لمسألة الثقافة في العالم في فكرة أساسية رائدة وهي أن الثقافة والهويات الثقافية (التي هي إلى حد بعيد هويات حضارية) هي التي تحدد بنى التماسك أو الانفراط أو الصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة.
5- وتندرج تحت هذا القول جملة من الحقائق:
أ- للمرة الأولى في التاريخ، السياسة العلمية هي في آن واحد متعددة الأقطاب ومتعددة الحضارات.
ب- وبشكل خاص: التحديث (Modernization) في عالمنا يأخذ في التميّز من التغريب (Occidentalization) تميزاً واضحاً – بمعنى أن هذا التحديث لا يولّد أبداً حضارة إنسانية شاملة، كما لا يؤدي إلى «تغريب» المجتمعات غير الغربية. فأثر الغرب يتراجع، بينما القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للحضارات الآسيوية تتعاظم. والحضارات غير الغربية تعود لتؤكد قيمة ثقافتها الخاصة. والحضارة الإسلامية تؤكد أيضاً ذاتها ووجودها وتتفجر سكانياً وفكرياً: فنسبة المسلمين في العالم آخذة في التزايد بشكل واضح، وهي تبلغ اليوم زهاء 20 بالمئة من سكان العالم، وحوالي عام 2025 سوف تتجاوز من دون شك 30 بالمئة.
ج- يبزغ نظام عالمي منظم على أساس الحضارات المتباينة. والمجتمعات التي تقوم بينها روابط ثقافية تتعاون في ما بينها، والجهود التي تبذل من أجل جذب مجتمع ما إلى حضن حضارة أخرى تفشل. والحدود السياسية ترتسم من جديد بحيث تتفق مع الحدود الثقافية.
والتجمعات الثقافية تحل تدريجياً محل التكتلات الإيديولوجية التي سادت أيام الحرب الباردة. والحدود بين الثقافات هي من الآن فصاعداً النقاط الأساسية للصراع على المستوى العالمي. وفي عالمنا الجديد، الهوية الثقافية هي التي تحدد الاتفاقات والشراكات والتناقضات والصراعات، حتى قبل المصالح الاقتصادية.
والسؤال القديم الذي ساد أيام الحرب الباردة: إلى أي معسكر تنتسب؟ حل محله اليوم السؤال: من أنت؟
دعاوى الغرب المتصلة بالعولمة والعالمية تقوده يوماً بعد يوم إلى أن يدخل في صراعات مع حضارات أخرى ولاسيما الإسلام والصين.
هـ- لا ينقذ الغرب (ولا ينقذ العالم) إلا أن يقرّ بأن حضارته فريدة ولكنها ليست عالمية شاملة. وهكذا يتم اجتناب حرب شائنة بين الحضارات إذا اعترف الزعماء السياسيون بأن السياسة الشاملة غدت سياسة متعددة الحضارات، وإذا ما تعاونوا للإبقاء على هذا الأمر الواقع بل لتجويده.
6- بإيجاز: العالم – بعد الحرب – يضمّ سبع حضارات كبرى أو ثمانياً. والغرب لم يعد وحده القوي. والسياسة الدولية أصبحت متعددة الأقطاب ومتعددة الحضارات. وتاريخ الإنسان هو تاريخ الحضارات. ومن المتعذر تصور الإنسانية على غير هذه الشاكلة منذ أيام الحضارات الإسلامية والمسيحية.
7- هذا الموقف ليس جديداً كل الجدة، بل له أنصار من المفكرين قديماً وحديثاً:
– «توينبي» مثلاً كان ينكر حماقة الغرب وأوهامه المركزّة على الذات، التي كانت ترى أن العالم يدور حوله (كما كانت تدور الشمس حول الأرض في النظام البطلميوسي)، وأن الشرق «ساكن» لا يتحرك، وكان يرفض – مثل اشبنغلر (Spengler)(3). في كتابه أفول الغرب – القول بوحدة التاريخ، وينكر ألا يكون هنالك إلا تيار واحد من المدنية هو مدنية الغرب وألا تكون سائر التيارات سوى روافد صغيرة له ستضيع في الرمال.
ثالثاً: التحديث والتغريب:
هذا التحليل – الجديد نسبياً، لدى المفكرين الغربيين على أقل تقدير – يطرح مشكلة أساسية، تعني الثقافة العربة الإسلامية بوجه خاص كما تعني سواها، وهي مشكلة التحديث والتغريب:
1- كما رأينا، التحديث الحقيقي لا يعني التغريب حتماً بل يعني العكس:
أ- ما يجري في البلدان المختلفة إجمالاً هو أن التحديث يبدأ مرتبطاً ارتباطاً قوياً بالتغريب (عصر محمد علي – عصر التنوير العربي) حيث الانبهار بالغرب واضح. فالمجتمعات غير الغربية تمتص في البداية عناصر من الثقافة الغربية وتتقدم تقدماً بطيئاً نحو التحديث. ولكن عندما يتزايد التحديث تهبط نسبة التغريب وتستعيد الثقافة القومية الذاتية قوتها وعزمها على الإيغال في طريق التحديث. واستمرار التحديث يغير ميزان القوة بين الغرب وبين المجتمع غير الغربي ويقوي الارتباط والالتزام بالثقافة القومية (مثال اليابان منذ عصر مييجي (Meiji) الشهير عام 1868). إذن في المراحل الأولى من التقدم ييسر التغريبُ التحديث. وخلال المراجل التالية ييسر التحديثُ الانصرافَ عن التغريب وييسر بزوغ الثقافة القومية على شكلين:
(1) على مستوى المجتمع ككل، يقوي التحديث البنية الاقتصادية والعسكرية والسياسية للمجتمع في جملته ويشجع السكان على أن يثقوا بذاتهم وبالتالي بثقافتهم ويتيح لهم أن يتجذروا في هويتهم الثقافية.
(2) وعلى مستوى الفرد يولد التحديث مشاعر الاستلاب والهجنة والاغتراب عن الذات، الذي يؤدي إلى أزمة هوية يقدم التمسك بالدين الجواب عنها غالباً. بتعبير آخر: التعلق بالهوية الثقافية الذاتية هو إلى حد كبير نتيجة التحديث الاقتصادي والاجتماعي: نتيجته على مستوى الفرد الشعور بالانفصام والاستلاب والشعور بالحاجة إلى هويات أغنى بالمعنى، ونتيجته على المستوى الاجتماعي أن الموارد والقوة التي يولدها التحديث لدى المجتمعات غير الغربية تؤدي إلى إعادة القوة للهويات الأصيلة. وفي العالم المعاصر – عالم الاتصالات والمعلوماتية – يؤدي تقدم المواصلات الاتصالات إلى تفاعل أكبر وأشد وأوثق بين الأناس المنتسبين إلى حضارات مختلفة، وينجم عن ذلك أن تغدو هوياتهم الحضارية أكثر متانة يوماً بعد يوم. فالألمان والبلجيكيون والفرنسيون والهولنديون يشعرون أكثر فأكثر بأنهم أوروبيون. ومسلمو الشرق الأوسط يتماهون مع البوسنيين والشيشان.
ب- والنتيجة هي أن التحديث لا يعني بالضرورة التغريب. ومن حيث الجوهر: العالم كله يغدو يوماً بعد يوم أكثر حداثة وأقل تغريباً.
رابعاً: أفول الغرب:
1- إذن، تفوق الغرب آخذٌ في الانحسار. وانتصار الغرب في الحرب الباردة لم يؤد إلى ظفره، بل إلى خوره وإنهاكه. وسيعود جزء من سلطان الغرب إلى حضارات أخرى وإلى دول أخرى بارزة وصاعدة. وسيكون تزايد القوة هذا في قلب الحضارة الآسيوية بوجه خاص، وستصبح الصين، أكثر فأكثر، المجتمع القادر على تحدي الغرب وعلى اكتساب أثر عالمي شامل. وأبناء شرق آسيا – بوجه عام – يعزون نجاحهم الاقتصادي ليس إلى الاقتباس من الثقافة الغربية، بل إلى تمسكهم بثقافتهم الخاصة. وثورتهم ضد الغرب مردها إلى اعتقادهم بأن القيم غير الغربية أسمى من القيم الغربية المتداعية. والإسلام والمسيحية واليهودية والهندية والبوذية وسواها سجلت كلها تصاعداً في الالتزام بذاتها.
2- وأفول الغرب هذا له صفات ثلاث أساسية:
أ- إنه عملية بطيئة: فصعود الغرب استغرق أربعة قرون. وأفوله لابد من أن يستغرق مثل هذا الزمن.
ب- التقهقر لا يسير وفق خط مستقيم، بل هو غير منتظم إلى حد بعيد، فيه وقفات – وانتكاسات – واستعادة للقوة… الخ.
ج- نصيب الغرب من جميع مصادر القوة بلغ أوجه في بداية القرن العشرين. ثم أخذ في التراجع النسبي بالقياس إلى باقي الحضارات. وحوالي عام 2030 (أي بعد مائة عام من أوجٍ ازدهاره) من المتوقع أن يكون تحت سيطرة الغرب 24 بالمئة من أراضي العالم (بدلاً من 49 بالمئة) و10 بالمئة من سكان العالم (بدلاً من 48 بالمئة) وحوالي 30 بالمئة من الثروة الاقتصادية العالمية (بدلاً من 70بالمئة) وربما 25 بالمئة من صادرات البضائع المصنعة (بدلاً من 84 بالمئة) وأقل من 10 بالمئة من المحاربين (بدلاً من 45 بالمئة).
3- وأياً كان الأمر فالثقافة الغربية تواجه اليوم أزمة حقيقية يمكن أن نلخص أهم معالمها في النقاط الآتية:
أ- عندما تبلغ حضارة معينة مستوى العالمية والشمول يعمي أبناءها ما أطلق عليه توينبي اسم: «سراب الخلود».
ب- الانحدار الأخلاقي والانتحار الثقافي والتفكك السياسي تشكل بالنسبة إلى الغرب مشكلات أعوص من المشكلات الاقتصادية والديمغرافية.
ج- وبين تجليات الانحدار الأخلاقي العديدة، نذكر ما يلي:
– تزايد أنماط السلوك المعادية للمجتمع (كالجريمة والمخدرات والعنف بوجه عام)؛ أفول دور الأسرة وما يرافق ذلك من تزايد في معدلات الطلاق وفي الولادات غير الشرعية وفي حمل المراهقات وفي العائلات ذات الولد الوحيد وفي تردي القيم الأخلاقية (بسبب غياب الأنا العليا (Super ego) والمثل الأعلى بالتالي)؛ انحدار رأس المال الاجتماعي (في الولايات المتحدة على أقل تقدير)، أي ضعف الإسهام في الجمعيات الخيرية وتراخي روابط الثقة التي تربط بين أفرادها؛ الضعف العام للقانون الأخلاقي (Ethics) ومنح الأولوية للمتعة والسعادة الفردية والكسب الفردي؛ ضعف الارتباط بحب العلم وبالنشاط العقلي.
4- ومن هنا نجد أن الثقافة الغربية تنكرها جماعات كثيرة داخل المجتمعات الغربية نفسها، وكثيراً ما نجد في الغرب تعلقاً بديانات أخرى كالبوذية، بل تعلقاً بجماعات غريبة الأفكار، ذات معتقدات شبه سحرية (Moon – Scientolojie… الخ).
5- يرى الفيلسوف الياباني تاكيش أوميهارا (Takesh Umehara) أن الإخفاق الكامل للماركسية وتفكك الاتحاد السوفياتي ليس سوى إشارات مسبقة إلى انهيار الرأسمالية الليبرالية التي تعتبر التيار الأساسي في الحداثة. وبدلاً من أن يمثل هذا التيار البديل من الماركسية وبدلاً من أن يصبح الإيديولوجيا السائدة حتى نهاية التاريخ، فإن هذا التيار الليبرالي سوف يكون حجر الدومينو المقبل الذي سوف يسقط.
6- ويبين باحثون آخرون أن اعتقاد الغرب بالرسالة العلمية لثقافته يشكو آفات ثلاثاً: أنه اعتقاد خاطئ؛ أنه اعتقاد لا أخلاقي؛ إنه اعتقاد ضار وخطر. فالفكرة التي ترى أن على الشعوب غير الغربية أن تتبنى القيم والمؤسسات والثقافة الغربية، فكرة لا أخلاقية في نتائجها. والإمبريالية هي النتيجة المنطقية لادعاء العالمية على نحو ما تراها. وهي فكرة خطرة لأن هذه النزعة يمكن أن تكون مصدراً لحرب بين الدول البارزة والكبرى في العالم التي تنتمي إلى حضارات مختلفة.
خامساً: الثقافة والعالم اليوم:
1- إن قيام عالم متعدد الثقافات أمر لا يمكن اجتنابه لأن قيام إمبراطورية عالمية أمر مستحيل، وأمان العالم واستقراره لا يمكن تصوره إلا من خلال قبول تعدد الثقافات.
2- بعبارة واحدة: في الأزمنة القادمة، يمثل الصدام والصراعات بين الحضارات التهديد الأساسي للسلام في العالم، ولكنه أيضاً (حين يتم من خلال نظام عالمي مبني على أساس تعايش الحضارات) هو الوقاية المضمونة من حرب عالمية.
3- ونتيجة هذا كله أن «العالمية» (وهي غير العولمة) ليست حقيقة معطاة وجاهزة، بل هي إعادة بناء صبورة جوهرها التعاون الثقافي والتلاحم الثقافي. والحوار والتواصل بين الثقافات هما وحدهما اللذان يجعلاننا قادرين على إدراك ذاتنا من خلال إدراكنا لسوانا. وبتعبير آخر إن المهمة الأساسية الملقاة على عاتق الثقافات المختلفة هي أن تحول الترابط المفروض فرضاً بين ثقافات العالم إلى ترابط مراد ومقصود وإلى تضامن متكافئ ومنشود. وهذا ينقلنا تواً إلى الثقافة العربية، قديمها وحديثها.
سادساً: الثقافة العربية والعالم:
الأفكار التي أتينا على ذكرها، والتي تؤكد أن العالم لا يمكن أن يبنى بناءً واقعياً وسليماً إلا على أساس الثقافات المتباينة والمتضامنة، تردنا تواً إلى منطلقات الثقافة العربية الإسلامية وإلى مبادئها القديمة والحديثة:
1- الثقافة العربية الإسلامية كانت دوماً ثقافة قوامها الانفتاح على الثقافات الأخرى والتمازج مع الثقافات الأخرى، وقد تجلى هذا في جميع فترات التاريخ العربي الإسلامي بعد الفتح.
أ- ففي العهد الأموي مثلاً «حوّل الخلفاء الأمويون، (كما يقول فانتيجو (Ventejoux)) في كتابه المعجزة العربية(4) الجمهورية الدينية العربية إلى إمبراطورية حقيقية شبيهة بتلك التي كانت تحلم بها زنوبيا من قبل، وذلك بفضل تحررهم الفكري وضعف عصبيتهم الدينية. فضربواً الدنانير الذهبية على نسق الدراهم البيزنطية، وأسندوا إلى المسيحيين مركز الوزير الأول، ولم يقيموا أي انقطاع في مجال الفكر والعلم بين التراث الجديد والحضارات القديمة، وعلى رأسها اليونانية، فضلاً عن الهندية والفارسية، بل أقبلوا على الإفادة من أطباء اليونان ومعارفهم. ولجأ أعيان بني أمية إلى استشارة هؤلاء الأطباء وتكليفهم بتربية الشباب، بغض النظر عن دينهم المسيحي واليهودي. وفي عهدهم استمرت المدارس اليونانية الصغيرة في دمشق وأنطاكية والرها ورأس العين في نقل المخطوطات إلى السيريانية، وكان الأساقفة يضيفون إلى وظائفهم الدينية وظائف الأطباء وأساتذة المنطق والمهندسين.
ب- ويبزّ ما جرى في عهد الدولة الأموية التمازج الثقافي الواسع في عهد الدولة العباسية (بين الثقافات العربية والثقافات اليونانية والفارسية والهندية).
ج- هذا إذا لم نتحدث – والحديث هنا ذو شجون – عن التمازج الثقافي الرائع والمبدع الذي تم في الأندلس حيث أحسن العرب، من جانب، معاملة أبناء المدن الإسبانية التي فتحوا أكثرها صلحاً ومن دون مقاومة، وتركوا لهم حرية التعبير في كنائسهم، وحق المقاضاة أمام قضائهم الخاص. كما أنهم – من جانب آخر – عززوا وجودهم في إسبانيا العربية الإسلامية عن طريق الزواج من سكان البلاد العربية الأصليين وعن طريق اقتباس كثير من تقاليدهم وأنماط ثقافتهم. وولد من ذلك كله مزيج سكاني فريد اختلط فيه القوطي بالعربي واللاتيني بالبربري. كما ولد مركب ثقافي جديد فذ امتزجت فيه عناصر ثقافية عديدة في ظل قيادة الثقافة العربية الإسلامية.
2- والثقافة العربية الإسلامية (كما نعلم) أغنت بهذا التفاعل سائر الحضارات العالمية وكانت محرك النهضة الحديثة التي ظهرت في الغرب.
3- وفي القرن العشرين، من أهم مقومات الفكرة القومية العربية منذ أوائل هذا القرن حتى اليوم، وفي الخمسينيات بوجه خاص (بفضل أفكار حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العربي والناصرية وسواها وبفضل أفكار كبار المفكرين القوميين)، أنها كانت دعوة إنسانية ترتبط فيها القومية بالإنسانية ارتباطاً عضوياً عميقاً، ولا تدعي العنصرية ولا تقول بتفوق أمة على أخرى. وجوهر هذه الدعوة القومية – كما نعلم – أن الفرد – أنّى كان – لا يستخرج كامل إمكاناته ولا يعطي كامل عطائه إلا من خلال عمله لأمته. بل إن هدف الدولة القومية الأول أن تهيئ للفرد المناخ الملائم والظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمكنه من أن يتفتح عطاؤه حتى أقصى مدى ممكن. ومن اجتماع القوميات (التي تمثّل التربة الخصبة لتفتح الإنسان داخلها) يتكون العالم الإنساني الذي تهيأ لكل إنسان فيه أن يعطي أقصى ما عنده للإنسانية كلها (بفضل ارتباطه بتربته القومية).
4- وكتابنا القومية والإنسانية(5) الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1957 يشهد على حرص الفكر القومية العربي على الربط الوثيق بين القومية والإنسانية. وفي مقابل الروح الإنسانية وروح التفاعل والحوار والتمازج بين الثقافات التي تجلت في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، بيّن الكتاب ما ساد الثقافات الغربية (في معظم مراحل تاريخها) من نزعات التعصب العرقي والديني والشوفينية والمعاداة للثقافات الأخرى وللديانات الأخرى. وتحدث بوجه خاص عما آلت إليه النزعات القومية الغربية في القرن التاسع عشر بوجه خاص من خصومات عسكرية وحروب من أجل زعامة أوروبا ومن أجل السيطرة على العالم، على نحو ما حدث – على سبيل المثال لا الحصر – في بروسيا عام 1860 وفي فرنسا عام 1870. هذا إذا لم نذكر النزعة القومية العدوانية التي تجلت في الصهيونية منذ دعوة هرتزل، بل قبلها وما حملته من عداء للأغيار (Goyim) الأشرار في نظرها، ومن مزاعم تقول بتفوق العرق اليهودي والدم اليهودي (كما نجد – على سبيل المثال – عند أمثال موسى هيس (Moses Hess) وماكس نوردو (Max Nordeau) وإيغناز تسولتشان (Ignaz Zollschan)(6))، ومن نزعات فاشية نازية تدعو إلى استئصال الشعب الفلسطيني وطرده من دياره عن طريق الإرهاب والعنف كما حدث في المذابح المتتالية التي قامت بها العصابات اليهودية قبل قيام دولة إسرائيل وبعده، وهي كلها نزعات رافقت الفكر الصهيوني منذ ولادته، على نحو ما نجد بوجه خاص عند جابوتنسكي (Jabotinsky) وعتد أتباعه من أصحاب الاتجاه القومي اليميني المتطرف (ولاسيما من حزب الليكود: من أمقال بيغن وشامير وشارون ونتنياهو الذي كان جده لأمه من أتباع جابوتنسكي)، الأمر الذي دفع فيلسوف إسرائيل الشهير ليبوفتش (Leibovitz) (وقد كان يهودياً متديناً وصهيونياً) إلى القول: «إن إسرائيل، بعد احتلال لبنان عام 1982، أصبحت دولة فاشية نازية»(7) (وليته عاش حتى يرى مذابح «قانا» ومجازر تحطيم البنية اللبنانية التحتية اليوم). ويدعو كتابنا «القومية والإنسانية» منذ طور مبكر إلى ما أخذ يشيع اليوم بعد الحرب الباردة وبعد ذيوع مخاطر الإمبريالية الاقتصادية الوحشية والغزو الثقافي الغربي لسائر الحضارات، ونعني بذلك: القول بأن طريق الإنسانية الحقة هو طريق القومية الحقة، أي طريق الثقافات القومية المتفتحة والمتعاونة، على نحو ما تحقق لدى العرب عبر تاريخهم، وعلى نحو ما نادى بذلك الفكر القومي العربي الجديد الذي ذاع منذ الخمسينيات، بل قبلها.
سابعاً: الأزمة الذاتية للثقافة العربية:
غير أن الثقافة العربية لا تزال حتى اليوم تعاني أزمة ذاتية قديمة وحديثة لها جوانبها المتعددة. وأبرز هذه الجوانب:
1- الثقافة العربية الإسلامية لم تنجح (منذ أكثر من قرن حتى اليوم) في صنع حداثتها لأسباب كثيرة (لا مجال لذكرها) أهمها عدم الإدراك الواضح للفرق بين التحديث والتغريب (كما سبق أن بينا).
2- الثقافة العربية من أعرق الثقافات في العالم. وهذه العراقة تمنحها القوة والقدرة على البقاء، ولكنها كثيراً ما تكون (حين لا يُفهم دورها فهماً حقيقياً) عبئاً ثقيلاً معرقلاً للتجديد والتجويد والتحديث، ذلك التجديد الذي لا تكون من دونه أي ثقافة حية، بل تندثر وتزول.
3- ازدهار الثقافة العربية الإسلامية ينتسب إلى ماضيها البعيد منذ ظهور الإسلام بوجه خاص. وأوج تفتحها وعطائها الحضاري انقضت عليه خمسة قرون على أقل تقدير (هذا إذا نحن أخذنا في الحسبان حضارة الأندلس). وهذه الحقيقة تخلق نوعاً من الانتماء الماضوي والنزعة الماضوية يصبح التجديد في إطارها أصعب منالاً.
4- المشاركة الجماهيرية في بناء الثقافة العربية الحديثة المرجوة لا تزال محدودة جداً.
5- محاولات تحديث الثقافة العربية الإسلامية لم تتم في معظم الأحيان من داخلها، بل تمت غالباً بحكم الاصطدام بالثقافة الغربية ومحاولة تقليدها حيناً ونبذها أحياناً أخرى.
6- الكثيرون من المثقفين العرب حين يخططون لنهضة الثقافة العربية لا يخططون لها تخطيطهم لبديل يجب تشييده انطلاقاً من الحاضر في ضوء مكوناته وحاجاته (الأمر الذي يجعل صورة البديل تغتني في أذهانهم عن طريق ممارسة النهضة)، وإنما يخططون لها من خلال نماذج جاهزة آخذة في الابتعاد عنهم باستمرار:
أ- النموذج الإسلامي في شكله الموغل في القدم (إيغالاً يجعل التفكير فيه يفقد أسبابه الموضوعية).
ب- والنموذج الغربي الذي يزداد مع الزمن بعداً في المستقبل بصورة تجعل احتمالات اللحاق به تنعدم أمام اطّراد التطور اللامتكافئ(8).
من هنا أهمية الأعمدة الأربعة للثقافة العربية المنشودة على نحو ما نراها: الماضي؛ الحاضر العربي؛ الحاضر العالمي؛ المستقبل العربي(9). فالتراث بناءٌ وليس اكتشافاً. والحداثة العربية الحقة لا تتم عن طريق القطيعة مع التراث، بل تتم من خلال استيعابه والانتظام فيه من أجل تجاوزه ومن أجل القفز منه إلى «تدشين العمل من أجل بناء تراث جديد سيكون هو الحداثة نفسها»(10).
ثامناُ: التحديات الخارجية التي تواجه الثقافة العربية:
بالإضافة إلى الأزمة الداخلية الذاتية التي تعانيها الثقافة العربية، يفتّ في عضد هذه الثقافة ويضاعف أزمتها ما تواجهه من تحديات تأتيها من خارجها أبرزها:
1- أن النظام العالمي الجديد – بعد الحرب الباردة – أخذ يوجس خيفة من الثقافة العربية الإسلامية (الشيطان الجديد) وأخذ يتحداها تحدياً سافراً ومباشراً (تحت ذرائع مختلفة ومختلقة)، الأمر الذي كثيراً ما يولّد لدى أبناء هذه الثقاة ردود فعل مغالية تجنح إلى التقوقع والانكماش وإلى احتماء الذات العربية بجلدتها وإهابها التقليدي المألوف.
2- وفوق هذا وذاك تؤدي العولمة (على الشكل الوحشي السائد اليوم) إلى هجمة شرسة على الخصوصيات الذاتية للشعوب وعلى الشعب العربي بوجه خاص (الذي لا يكتمل عقد العولمة، ولا تكتمل السيطرة الاقتصادية على العالم إلا بالسيطرة على موارده الغنية). وهكذا تواجه الأمة العربية الأزمة التي واجهتها في بدايات اتصالها بالغرب ولكن على نحو أشد وأخطر.
3- ويتعاظم هذا الخطر إذا نحن ذكرنا حقيقة مهمة، وهي أن الغرب كان ولا يزال يعارض «التقدم» العربي أساساً، حتى إذا اتخذ من الغرب أنموذجاً لذلك التقدم، ونه – اليوم الأمس – مهتم أساساً بمصالحه الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية المباشرة، أكثر من اهتمامه برسالته الحضارية وبالقيم الإنسانية التي يدّعيها: قيم الحرية والعدالة والمساواة والإخاء(11).
4- وفوق هذا كله – وأخطر من هذا كله – تواجه الثقافة العربية الراهنة في ظل النظام العالمي الجديد خطراً من طراز خاص، وهو اجتماع وجهي العولمة الأقبحين (على حد قول أبو يعرب المرزوقي)(12): وجه الخصوصية النافية لكل من عداها والمتجلية في الخطر الصهيوني، ووجه العمومية الساحقة لسواها المتجلية في الإمبريالية الأمريكية؛ ومن نتائج ذلك أن العدو الجديد في هذا العصر الجديد ليس الكنيسة والغيبيات الدينية (كما كانت عليه الحال في عصر التنوير الأوروبي)، ولا هو الشيوعية والإيمان بصراع الطبقات (كما كانت عليه الحال في عصر التنوير الأمريكي)، بل هو الآن كل من يعادي المشروع الصهيوني ويقاوم التوسع الإسرائيلي، وهو ما يسمى حالياً بالإرهاب والأصولية الإسلامية.
وتتجلى هذه المعركة واضحة في الصراع العربي – الإسرائيلي وفي معركة السلام نفسها. ذلك أن الرهان الإسرائيلي – قبل السلام وبعده – هو على السلام الثقافي. فهذا السلام الذي يؤدي إلى اختراق الضمير العربي والحاجز النفسي العربي وإلى تهشيم وتفتيت جدار التراث العربي الإسلامي المنيع، العصي، هو وحده الذي يضمن لإسرائيل الطمأنينة وطول البقاء، وهو المدخل الضروري لشتى أنواع السلام الأخرى، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعسكري. ومعنى هذا أن معركة مقاومة التطبيع الثقافي هي المعركة الواجبة دوماً بين الوجود العربي والوجود الصهيوني. وعلى أرض هذه المعركة سوف يتم حسم نتائج الصراع بين الوجودين، هذا الصراع الذي يفرضه استمرار مبادئ الصهيونية وأهدافها حتى بعد السلام (تشهد على ذلك مناداة قادة إسرائيل حتى اليوم بهذه المبادئ: تصريح باراك بعد نجاحه في الانتخابات… الخ)(13).
ومن هنا لابد من التخطيط الدؤوب والمبكر والدقيق لمقاومة التطبيع الثقافي بشتى الوسائل، ولابد من شبكة من الجهود المتكاملة لهذه الغاية على الأرض العربية كلها، ولابد من شبكة من المنظمات النشيطة في هذا المجال على الساحة العربية الشاملة.
ولا يجدي أن نقول: إن الثقافة العربية الإسلامية ثقافة منيعة يصعب اختراقها وأنها أثبتت قدرتها على الصمود في شتى المعارك عبر التاريخ العربي كله. فوسائل الغزو الثقافي اليوم (وعلى رأسها وسائل الاتصال والمعلومات) وسائل مخيفة. ونحن نشهد منذ اليوم بدايات الشقوق والشروخ في سور الثقافة العربية الإسلامية، وإن كنا نشهد في الوقت نفسه صلابة أكبر وصموداً أشد. ونحن في كل الأحوال لا نستخرج من الأشياء إلا ما نضعه فيها. ونهضة الثقافة العربية الإسلامية وصمودها في وجه التحديات (وعلى رأسها التحدي الصهيوني) أمور لا يمكن أن تتم عن طريق النيات الطيبة والإنكار الصامت، بل هي نضال يومي وعمل دؤوب وتخطيط دقيق وموصول.
5- والتأمل في مستلزمات الصراع الثقافي بيننا وبين القومية الصهيونية (بل في مستلزمات تطوير الثقافة العربية بوجه عام) يقودنا إلى حقيقة أساسية: وهي أن السلوك الفعال في هذا المجال ينطلق من إدراكنا العميق للارتباط المتبادل بين الثقافة والعلم الحديث. حتى أن بعضهم يعرّف الثقافة المتقدمة والحديثة بأنها «العلم حين يغدو ثقافة» ويعرّف الثقافة المتخلّفة بأنها العلم «حين ينفصل عن الثقافة» أو «الثقافة التي لا يؤسسها العلم. والحق، إن الظاهرة العامة التي تلخص معطيات التخلف في البلدان النامية هي عدم اندماج العلم في حياة المجتمع المادية والفكرية والروحية. ونتيجة ذلك (كما نشهد يومياً) قيام كيان المجتمع على كتلة من المفارقات والتناقضات: التناقض بين السيارة من أحدث طراز وبين سلوك راكبها (وكأنه يركب جملاً أو حصاناً). التناقض بين المكتبة الغنية بالكتب وبين صاحبها الذي لا يدخلها إلا حين يريد اطلاع زواره عليها… الخ(14).
6- ولا ننسى – فوق هذا كله بل قبل هذا كله – خطراً تزداد حدته يوماً بعد يوم وتستلزم مواجهته جهوداً ثقافية من نوع جديد، ونعني به: خطر التغير السريع المذهل في المعرفة في عصرنا. فالمعلومات كما تشير الإحصاءات – وكما بيّن تقرير نشرته جامعة (MIT) الأمريكية (معهد ماساشوستس للتكنولوجيا) – تتضاعف الآن خلال فترة تتراوح بين 18 شهراً و24 شهراً. غير أن هذه الفترة (كما تبين تلك الإحصاءات أيضاً) سوف تتضاءل في نهاية العقد الأول من القرن الحالي فتبلغ حوالي أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. وهكذا فالأميون (في القرن الحادي والعشرين) (كما يقول توفلر (Toffler) في كتابه الأخير «تحول السلطة (Power Shift)(15) «لن يكونوا أولئك الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، بل هم أولئك الذين لا يعرفون التعلم ثم نسيان ما تعلموه ثم التعلم من جديد».
ومن أجل مواجهة هذا التغير السريع في ميدان المعرفة لابد من جهود استثنائية في مجال الثقافة بوجه عام وفي مجال التربية بوجه خاص. ولا سبيل إلى الحديث عن هذا في هذا المقام (ولقد أفردنا لذلك كتاباً برأسه سميناه الآفاق المستقبلية للتربية في البلاد العربية)(16)، وحسبنا أن نقول ههنا – بإيجاز مخلّ: إن التغير في المعرفة يتطلب إعداد المواطن العربي من أجل التغير بحيث يكون قادراً (بفضل ما اكتسب من أدوات للمعرفة ومن مهارات ومن مواقف واتجاهات) على أن يتكيف إبداعياً مع كل متغير. وأهم ما في هذا الإعداد الجيد لمواجهة عالم متغير أن يكون من نتائجه امتلاك القدرة على التعلم الذاتي وعلى التعلم المستمر واكتساب المواقف والاتجاهات النفسية الملائمة لمتطلبات سوق العمل، وعلى رأسها:
أ- اكتساب روح النقد والشك وروح البحث العلمي عن الحقائق – وإدراك النسبية في كل شئ – وتنمية الخيال المبدع (منذ نعومة الأظافر) – وتنمية القيم الخلقية ولا سيما قيم التعاون والتكافل… الخ.
ب- بل لعل على رأسها أن يمتلك الفرد القدرة على التفكير تفكيراً مغايراً لفكره (على حد قول الفيلسوف الألماني هايدغر (Heidegger)).
خاتمة:
وبعد، إن موضوع الثقافة العربية وأزمتها ومرتجياتها موضوع قديم أبداً، جديد أبداً.
لقد تقضّى على طرح المسألة الثقافية العربية الإسلامية، في علاقتها بالغرب بوجه خاص، نيف ومائة عام. وقد سال من أجل ذلك الكثير من المداد. ومع ذلك، فلا يزال التصدي لهذه المسألة يراوح في مكانه إلى حد بعيد. ولا تزال المشكلة قائمة على نحو ما طرحها أمثال عبد الرحمن الكواكبي، وشكيب أرسلان، وأحمد فارس الشدياق، وجورج أنطونيوس، ونجيب عازوري، ورفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وخير الدين التونسي، ومن بعدهم سلامة موسى وطه حسين وحسن البنا ومحمود عزمي وعبد الرحمن عزام وعبد الرحمن البزاز وكثير سواهم.
فهؤلاء جميعاً – ومن جاء بعدهم – لم يتجاوزوا البحث في الثنائية القائمة بين الغرب والشرق، بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية، ولم يجدوا سبيلاً لعلاج تلك الثنائية إلا في الاختيار بين أحد حلول ثلاثة:
أولها رفض الثقافة الغربية والانكفاء إلى الثقافة العربية الإسلامية التقليدية، على نحو ما نجد لدى أتباع بعض الاتجاهات الدينية المغالية. وثانيهما الاستسلام الكامل للثقافة الغربية وتقليدها، كما نجد عند بعض التنويريين العرب الذين عادوا ما عاداه التنويريون الغربيون، وصادقوا ما صادقوه. وثالثهما التوفيق – أو بتعبير أصح التلفيق – بين الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية، عن طريق اختيار أفضل ما في كلتيهما، كما ذاع وشاع لدى الكثيرين، بحيث تبدّى هذا الموقف وكأنه الموقف الأمثل.
ولاشك في أن داخل كل من هذه الاتجاهات الثلاثة ألواناً، بل لوينات.
وبعد نهاية الحرب البادرة، وظهور الإمبريالية الثقافية، باسم العولمة وباسم مبادئ الحرية والديمقراطية، ظهرت الحاجة، في أجواء الثقافة العربية إلى أسلوب جديد في علاج أزمة الثقافة العربية الإسلامية. وقوام هذا الأسلوب الجديد – في نظرنا وعلى نحو ما نقول به – رفض الحلول الثلاثة التي أشرنا إليها، وذلك عن طريق تأكيد الفكرة التي تريثنا عندها في مطلع هذه الكلمة، ونعني بها التمييز بين الحداثة والتغريب، بل التأكيد على أن الحداثة الحقيقية ترفض التغريب، وبأن التغريب يشكل حائلاً دون التحديث الحقيقي.
وقوام هذا التمييز أن للتحديث مضموناً يتجاوز المضمون الغربي، كما بينا، وأن الحداثة ليست حكراً على الغرب، وأن الثقافة الغربية ليست أفضل الثقافات، وليست النموذج الأمثل الذي ينبغي على الثقافات الأخرى أن تحذو حذوه، وأن تلهث من أجل اللحاق به، مخافة أن تعد متخلفة. فهنالك ثقافات عالمية كبرى غير ثقافة الغرب، تحقق الحداثة من خلالها ذاتها، لا من خلال استهلاك منتجات حضارة الغرب. والتحديث اليوم – كما نراه ويراه الكثيرون – صيغة حضارية تجمع بين عناصر عديدة تتجاوز الغرب.
وقد رأينا – عبر دراستنا كلها – أن من الوهم أن نتخيل أن في وسع أي ثقافة أن تنزع عن جلدتها، وأن الثقافات الذاتية كانت ولا تزال الوعاء الطبيعي لعطاء الإنسان، من أجل ذاته ومن أجل أمته ومن أجل الإنسانية، بل رأينا أن أي تحديث لا يتم من داخل التراث ومن خلال الانتظام فيه من أجل اتخاذه منطلقاً لتجديد ذلك التراث، تحديث واهم، ينقل منتجات الحضارة الحديثة ولا ينقل دفقة الإبداع الثاوية وراءها والتي هي نتيجة الالتحام العضوي الوجداني بين الإنسان وثقافة أمته. وهذا ما أكده الفكر القومي العربي منذ الخمسينيات، وهذا ما تأتي الأحداث العالمية بعد الحرب الباردة لتؤكده وتؤمّن عليه.
وفي اعتقادنا أن هذا المنطلق الجديد في رسم صورة الثقافة العربية المنشودة – في صلتها بالعالم – يصلح لأن يكون أساساً لإجماع فكري عربي، تتحرر فيه الثقافة العربية من صراع الاجتهادات والمذاهب حول تلك المشكلة القديمة والحديثة، مشكلة موقف ثقافتنا من ثقافة الغرب، وتتخلص بالتالي من عقدة الغرب. والفصل بين التغريب والتحديث من شأنه، في نظرنا، أن يتجاوز تلك العقدة، ولاسيما عندما يتم الانطلاق في طريق التحديث من رحم الانتظام في التراث، وتجديده من داخله.
وهذا ما فعلته اليابان منذ عصر ميجي (Meiji) الشهير (بدءاً من عام 1868)، وهذا ما تتابع السير فيه اليوم. وهذا ما فعلته وتفعله الصين ودول جنوبي شرقي آسيا. وهذا ما تفعله الهند المرشحة لأن تكون إحدى الدول البارزة.
لقد اتخذت جميعها من تعاليم البوذية والكونفرشيوسية وسواها من الثقافات الآسيوية، ومن تراث الآباء والأجداد وقيمهم وأنماط سلوكهم الفردي والجماعي، منطلقاً لصنع حداثة خلوة من عقد الاستلاب والانسلاخ عن الذات. وهي اليوم تفخر بتفوق ثقافتها على ثقافة الغرب وعلى الثقافة الأمريكية بوجه خاص.
وحذار أن يظن أحد أن في مبادئ الثقافة العربية الإسلامية ما يناقض الحداثة ويحول دونها. وكما يقول المستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسون (Maxime Rodinson) في كتابه الشهير عن الإسلام والرأسمالية: «ليس هنالك ما يبين على نحو مقنع أن الدين الإسلامي قد منع العالم الإسلامي من أن يتطور على الطريق المؤدية إلى الرأسمالية الحديثة». وهو يرى بحق أنه في معظم المسائل غير الاقتصادية أيضاً «ليس هنالك صراع بين الإسلام والتحديث».
وهذا واضح في برامج معظم الحركات الدينية التي ظهرت في البلدان العربية منذ أوائل القرن العشرين، بل قبل ذلك. ولعل العكس هو الصحيح: أي أن غياب التحديث بالمعنى السليم لهذه الكلمة، وظهور نزعات ليبرالية مفرطة تعتبر القطيعة مع التراث العربي الإسلامي شرطاً لازماً للتحديث (أو للتغريب بمعنى أصح)، وترى أن التحديث يعني التغريب حتماً، هي التي حملت بعض الاتجاهات الدينية التقليدية على الانكماش والتقوقع حول ذاتها، والاحتماء بجلدتها.
آفاقٌ كثيرة يفتحها الفصل بين التحديث والتغريب أمام الثقافة العربية، وأمام النهضة العربية المرجوة، لا يتسع المقام للحديث عنها. وحسبنا في ختام هذه الكلمة أن ندعو إلى ثقافة عربية ذاتية جامعة، من خلال العمل على تحقيق التفاعل العضوي الخصيب – بل الاتحاد الكيميائي المتين – بين التجذر في التراث وفي البنية الجيولوجية للأمة العربية، إن صح التعبير، وتجديد ذلك التراث من خلال ذاته في ضوء حاجات الوجود العربي في هذا العصر، ومن خلال الغوص في التجربة العالمية الحديثة التي تتجاوز حدودها حدود الغرب، وفي رحاب الثورة العلمية والتقانية التي هي حظ مشترك بين ثقافات عديدة ونتاج لثقافات متنوعة قديمة وحديثة (على رأسها الثقافة العربية الإسلامية أيام ازدهارها).
وبذلك نولّد ثقافة عربية حديثة وذاتية، هي في آن واحد تراث محدث، وحداثة منطلقها وأداتها تجديد التراث، وحصادها التفاعل الخصيب بين الذات والسِّوى. وأهم صفات هذه الثقافة العربية الذاتية الحديثة – كما بينا عبر بحثنا كله – أنها هي الإطار المنتج والفعال للتفاعل مع سائر الثقافات في العالم، وأنها هي التي تضع العلاقة بين الشعوب اليوم في إطارها الإنساني الشامل، انطلاقاً من إيمانها التليد والطارف بأن الوعاء القومي هو البوتقة الخصبة للنزعة الإنسانية السليمة، وللتعاون والتفاهم الإنساني.