“دور بيروت في النهضة الثقافية العربية في القرن العشرين”

مدخل: هل يستطيع البلد الصغير أن يبدع ثقافة كبرى؟ سؤال يلقى الجواب عليه في لبنان بوجه خاص. فمهما تختلف الموازين تجأر أمام الأعين حقيقة لا مراء فيها: وهي أن لبنان الصغير لم يبدع بقدر اتساع أرضه بل أبدع وأعطى بقدر شموخ جباله وعمق وديانه وإشراق أفقه وتطلعه الدائم إلى السماء وإلى المدى البعيد. إنه استطاع أن يشرئب إلى الذرى وقدماه مطمئنتان إلى أرض خصيب تحمل وتتئم وتثمر. وثقافته ليست نتيج اليوم بل غذّية الحقب المتعاقبة، وهي إذ انفلتت من أسر المكان بدت أشبه بينبوع يمتح من قاع الوجود كله.
وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة أخرى لا تقل عنها شأناً، وهي أن لبنان أبدع من ذاته ولذاته، كما احتضن إبداع سواه من البلدان العربية، ويسّر للثقافة العربية بالتالي أن تغتني وتتجدد عن طريق المزاوجة الحضارية وبفضل التلاقح والتثاقف فيما بينها، من جانب، وفيما بينها وبين ثقافات العالم، من جانب آخر.
ولا حاجة إلى القول إن ذلك كله يرجع من جانب إلى أصالة اللبناني التي إمتاحها من قدرته على التأليف الخلاق بين الجذور الحضارية المتنوعة التي اغتذت منها ثقافته، كما يرجع من جانب آخر إلى مناخ الحرية الذي نعم به لبنان وأوى إليه الظامئون من سائر البلدان العربية.
على أن أهم ما في الثقافة التي أمرعت في لبنان ما هو الحجم الكمي لتلك الثقافة، على شأنه، بل وزنها وقدرتها على تجاوز ذاتها. فأهم سمة من سمات تجربة لبنان الثقافية أنها تجربة واعية لما فيها من إبداع وتفوق وتميز، بل غالية في ذلك، وأنها في الوقت نفسه مشبوبة حادة ناقدة دوماً وأبداً لعطائها، معرّية له، كاشفة عن مثالبه، وأنها في ذلك أيضاً مغالية متعسفة. وفي هذا الغلو المزدوج يكمن سر فرادتها وعمقها. ومن شرارة اللقاء بين المنزعين، منزع الإفراط ومنزع التفريط، منزع الثقة المشرئبة إلى أن تثبت ذاتها، من جانب، ومنزع الريبة والشك والقلق المؤرق والمقضّ للمضاجع من جانب آخر، تنبثق قدرتها على التجدد المستمر. إنها بذلك تستنبط أعمق وأخصب ما عند الإنسان، نعني قدرته على «أن يفكر تفكيراً مناقضاً لفكره» على حد تعبير الفيلسوف الألماني «هيدجر Heidegger» ولعل مرد هذه القدرة – بالإضافة إلى الحرية التي ينعم بها لبنان والتي كثيراً ما تلتقي فيها الحرية الأصيلة بالليبرالية السائبة – اتصال لبنان الوثيق والموصول – بحكم موقعه وبنيته – بالحضارة العالمية، وما يثوي في بنيانه الاجتماعي من تنوع يحمل الخصب كما يحمل بذور العقم والعطالة والشقاق.
1- تجربتي مع الثقافة اللبنانية منذ الأربعينيات:
ولندع هذا المدخل، ولنتحدث عن تجربتنا المباشرة مع الثقافة اللبنانية، على نحو ما عرفناها عن قرب، تلك الثقافة التي أسهمت إسهاماً بيّناً في توليد تجربتي الثقافة الشخصية، كما أسهمت في التكوين الثقافي لعدد واسع ومتميز من المثقفين العرب، بل التي احتضنت الكثير من عطاءاتي الثقافية، ولعلها جعلتها جزءاً من بنيتها الخاصة.
فلقد ارتضعت أفاويق الثقافة اللبنانية منذ السنوات التي تلت الاستقلال بل قبلها، وكنت منها، وأنا في دمشق، قريبٌ على بعد وبعيدٌ على قرب، وكانت الثقافة اللبنانية آنذاك في أوج انطلاقتها، بل بدأت بيروت منذ ذلك الحين تسابق القاهرة في هذا المجال، بفضل ما يتوافر فيها من عومل مشجعة وميسرة، على رأسها سهولة تنقل الكتاب، وبداية ظهور دور نشر هامة منذ ذلك الحين، من مثل دار العلم للملايين وسواها، وما أعقب ذلك من ظهور اتحاد للناشرين في لبنان، منذ عام 1954.
وبينما غابت مجلة «الرسالة» المصرية، وغابت من بعدها مجلة «الثقافة» المصرية – وقد كانتا منارتين بارزتين للثقافة العربية – حلت محلهما إلى حد كبير منذ أوائل الأربعينيات مجلة «الأديب» لصاحبها ألبير أديب، ثم مجلة الآداب التي أصدرها سهيل إدريس منذ عام 1953، والتي كان لها منذ ذلك التاريخ دور حاسم في تحقيق التفاعل الخصيب بين المثقفين اللبنانيين وبين سائر المثقفين العرب، هذا بالإضافة إلى مجلة “الطريق” التي قدمت نتاجاً مبتكراً ومتجدداً منذ عام 1941.
ولقد كان لي حظ الكتابة في المجلتين منذ بداية ظهورهما، ولا أفشي سراً إن قلت إن بواكير نتاجي الأدبي والفلسفي، هي التي ضمتها أعداد مجلة «الأديب» عام 1942 وعام 1943، قبل احتجابها بعد حين. أما أفكاري المتحلقة حول القومية العربية – التي ما تزال هي الغالبة عندي حتى اليوم إلى جانب همومي ودراساتي التربوية – فلقد تصدرت أعداداً كثيرة من مجلة «الآداب» منذ صدورها عام 1953. وكانت صلتي بهذه المجلة وصاحبها أشبه بصلة الشريك في رسالة واحدة ومهمة مشتركة. ولا غرو فلقد نشر لي في هذه المجلة بين عام 1953 وعام 1983 أربعة وعشرون مقالاً، يتحلّق جلّها حول الفكر القومي. وكان لهذه المقالات فيما أزعم، صدى واسع وأثر فكري باقٍ في معظم الأقطار العربية، وأسهمت في تكوين الفكر القومي في تلك الأقطار.
وإلى جانب الرفد الثقافي اللبناني الذي أخذ يمتد إلى البلاد العربية عن طريق المجلات، اغتذيت وسائر أتراب جيلي آنذاك، أعني بدءاً من الأربعينيات بوجه خاص، بالعطاء الثقافي الفذّ لنخبة من كبار المبدعين اللبنانيين في شتى مجالات الثقافة، من أمثال ميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، وسعيد تقي الدين، وتوفيق يوسف عواد، ومارون عبود، والأخطل الصغير، وسعيد عقل، وخليل حاوي، وإيليا أبو ماضي، والشاعر القروي وإلياس فرحات والياس أبو شبكة وسواهم من شعراء المهجر، وعبد الله العلايلي، وعمر فروخ، وقدري القلعجي، وعمر فاخوري، وقسطنطين رزيق، وشارل مالك، وفؤاد صروف، وكثير سواهم، فضلاً عن كبار شعراء الزجل اللبناني وعلى رأسهم ميشيل طراد، وفضلاً عن أشعار الرحبانيين الفريدة.
يضاف إلى هذا كله ما كان يتاح لنا في دمشق من التزود بالزاد الثقافي المتنوع والرفيع الذي كان يقدمه «النادي الثقافي العربي» الذي ولد مع الاستقلال، والذي كان وما يزال بوتقة فذّة للتفاعل الفكري اللبناني والعربي، وما قدمته الندوة اللبنانية التي أسسها ميشال أسمر منذ عام 1946، وما قدمته رابطة «العروة الوثقى» ومجلتها منذ مطلع الثلاثينيات. وهذا كله من قبيل المثال لا الحصر، فالنتاج الثقافي اللبناني كان ذائعاً ومبثوثاً في ما لا يحصى من أدوات الثقافة، بما فيها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، ولاسيما بعد أن ذاع التلفاز في سورية منذ عام 1959.
2- الثقافة اللبنانية وتباشير الثقافة التقدمية والثورية:
على أن الثقافة اللبنانية واجهت بعد الأربعينيات، وبعد ثورة تموز/ يوليو 1952 في مصر، وبعد الوحدة المصرية السورية في 22 شباط/ فبراير عام 1958، رياحاً جديدة، أخرجتها من جنة الإبداع المطمئن، إلى حميّا الإبداع الملتزم بما له وما عليه. ومما يلفت النظر ويثير الإعجاب أن المشكلات التي طرحتها الحركات التقدمية والثورية في البلاد العربية، وجدت في أرض لبنان وهواء لبنان الحر، خير ملاذ لدراستها ونقدها وتسديد خطاها، كما وجدت في بوتقة لبنان خير موئل لاحتضانها وتبنيها. ولئن كانت الظروف السياسية وسواها قد حالت دون الخروج بمركّبٍ عقلاني سليم يحدد المعالم المرجوة لحركة الثورة العربية، فإن مما لاشك فيه أن لبنان بدأ يجد نفسه على نحو أفضل ويحدّد دوره ووجوده تحديداً أوضح في إطار الوجود العربي المتكامل. ولعلنا نستطيع أن نقول إن مجمل الخطاب الذي وجهته الثقافة اللبنانية آنذاك للمد القومي العربي يمكن إيجازه في جملة واحدة، وهي «أن لبنان العربي يزداد التحاماً بالعروبة بمقدار ما تثبت الحركة القومية العربية تقدميتها».
ويمكن أن نضيف إلى ذلك الوجه الثاني للعملة فنقول: إن لبنان يستطيع أن يلعب دوراً تقدمياً أساسياً يدفع الوطن العربي إلى المزيد من التحرر، حين يأبى إلا أن يكون عربي الوجه واليد واللسان، وحين يرفض – وهو من أبلى خير بلاء في التاريخ العربي العريق كله قبل الإسلام وبعده – أن يكون انتماؤه إلى العروبة دون انتماء سواه.
ذلكم هو الدرس الكبير الذي قدمه لنا تفاعل الثقافة اللبنانية مع الثقافة العربية خلال الخمسينيات والستينيات بوجه خاص.
3- الثقافات اللبنانية المتحفزة بعد الخامس من حزيران عام 1967:
غير أننا نصل في الربع الأخير من الستينيات إلى مفترق خطير وهام يهزّ الثقافة اللبنانية والثقافة العربية كلها، ويوكل إليها دوراً جديداً.
ذلكم أن نكسة الخامس من حزيران عام 1967، لم تكن زلزالاً عسكرياً فحسب، بل كانت أيضاً براكين تفجرت من عقول المثقفين بوجه خاص.
فقد بدت هذه النكسة لأعين المثقفين على أنها برهان حاسم على حقيقتين: أولاهما ضعف البنية الحضارية العربية في شتى أوجهها وفي وجهها الثقافي بوجه خاص بالمعنى الواسع لكلمة ثقافة، وثانيهما إفلاس القيادات السياسية التي تولت قيادة الصراع العربي الإسرائيلي بعد نكبة عام 1948، والتي أبعدت المثقفين عن هذه المعركة، في معظم الأحوال، بل أنزلت بهم الخسف والهوان أحياناً.
وهكذا جاءت نكسة عام 1967 فأعادت إلى المثقفين دورهم السليب، ومثّلت ظفراً للمثقفين على الساسة. بل إن بعض الساسة اتجهوا بملء إرادتهم إلى المثقفين يلتمسون لديهم الحلول، على نحو ما نجد ذلك جلياً في تلك الندوة الفكرية الهامة التي دعت ليبيا إلى عقدها في مدينة بنغازي عام 1967، والتي حضرتها كوكبة بارزة من السياسيين والمثقفين من مختلف البلاد العربية، ومن بينها لبنان، وقد أعلن الرئيس معمر القذافي في افتتاحها فشل الساسة وأوكل أمر النهوض من الكبوة إلى المثقفين.
واضطلع المثقفون كما نعلم بهذا الدور الناقد، وتلقفوا هذا الحدث ليكشفوا عن مواطن الضعف في البنية العربية الشاملة، وليمضوا في تحليل الأسباب العميقة التي أدت إلى النكسة، ولم يوفروا في هذا المجال أي لغة وأي أسلوب: فلقد عرّوا الوجود العربي وفضحوه وأمعنوا فيه نقداً وتجريحاً، ولجأوا في كثير من الأحيان إلى «جلد للذات» لا يخلو من غلوّ.
وكان لبنان أيضاً أخصب أرض لهذه المعركة. والحديث عن بلاء المثقفين فيه حديث يلتهم أسفاراً بكاملها. وحسبنا أن نشير إشارات عابرة إلى أهم المظاهر الثقافية التي ذرّ قرنها في لبنان، والتي تصدّت لثقافة الهزيمة ولأرباب الهزيمة، ونادت بثقافة جديدة عبر عنها الشاعر الكبير بل أكبر شعراء العصر نزار قباني تعبيراً رائعاً في قصيدته الشهيرة، «هوامش على دفتر النكسة» حين قال:
أنعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمة
والكتب القديمة
أنعي لكم
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة
ومفردات العهر والهجاء والشتيمة
أنعي لكم
أنعى لكم
نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة
وفيها يلخص المأساة بقوله:
خلاصة القضية
توجز في عبارة
لقد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهلية
كما يوجزها في بيتين بليغين:
ما دخل اليهود من حدودنا
وإنما
تسربوا كالنمل كم عيوبنا
ومن العسير أن نلم بمظاهر الثقافة الجارحة التي أمعنت في نبش آفاتنا، وسلخ جلودنا،
أو التي استخلصت من ذلك الدروب الجديدة التي علينا أن نمضي في شعابها.
وحسبنا أن نذكر سلسة المحاضرات الهامة التي نظمتها الندوة اللبنانية بإشراف ميشيل أسمر عام 1968، وشارك فيها مفكرون بارزون ومتعددو الاتجاهات، من بينهم أدونيس، وجورج خضر، وصادق جلال العظم، وإيلي سالم، وهشام نشابة، ومحمد عطا الله، وغسان كنفاني، وبهيج طبارة وسواهم، كما كان لي شرف الإسهام فيها بإلقاء محاضرة تريّثت عند «اليقظة الشعبية الشاملة» ودورها في المعركة، وقد نشرت الندوة هذه المحاضرات في سفر يضم (340) صفحة عنوانه: «بعد الخامس من حزيران 1967، أي لبنان»؟
كذلك نشرت مجلة الآداب اللبنانية، في عددها الممتاز الصادر بتاريخ أيار/ مايو 1974، وقائع تلك الندوة الهامة والفذة التي عقدت بالكويت من 7 – 11 نيسان/ إبريل 1974، والتي أسهم فيها كتاب من مختلف البلدان العربية، وأسهم فيها من لبنان قسطنطين زريق وأدونيس وسهيل إدريس وحسن صعب، وقد كان لي أيضاً حظ المشاركة في هذه الندوة، وقدمت خلالها بحثاً حول “دور التربية في مواجهة الأزمة”، وقد تناولت محاضرات الندوة ومناقشاتها مختلف العوامل التي تؤدي إلى تخلف الوجود العربي في شتى الميادين.
وإلى جانب هاتين الندوتين الكبيرتين الهامتين حول دور الثقافة في الكشف عن آفات الوجود العربي وسبل معالجتها، ظهر أدب واسع الأرجاء حول النكسة، ناقداً أيضاً ومعرياً، أو مشخصاً وهادياً إلى الطريق، نجده متناثراً في عدد واسع من المجلات والصحف اللبنانية، ومن العسير الإحاطة به. منه على سبيل المثال لا الحصر، العدد الممتاز الذي أصدرته مجلة “الآداب” (عن شهري تموز/ يوليو – آب أغسطس 1967)، والذي حمل ذلك العنوان الهام: «طريقنا الجديد»، والمقصود بذلك «طريقنا إلى النصر» كما ورد في مقال لي ضمن هذا العدد. ومن هذا النتاج المبعثر أيضاً العدد الممتاز الذي أصدرته مجلة الآداب في أيار/ مايو 1970 والذي اختارت له هذا العنوان المعبر «نحو ثورة ثقافية عربية»، ومن مزايا هذا العدد أنه تريّث – بالإضافة إلى المشكلة الثقافية الحضارية العامة – عند بعض جوانب الإبداع الثقافي الهامة في معركة الحضارة أنّى كانت، كالفلسفة والمسرح والأقصوصة والشعر.
ومن هذا النتاج المبعثر المتصل بنكسة الخامس من حزيران/ ما نشره هشام شرابي في مجلة القضايا المعاصرة الصادرة عن دار النهار (عدد تموز/ يوليو 1969) حول »هزيمة حزيران: عبرها وذيولها».
4- تنوع الثقافة وغناها بعد الخامس من حزيران:
على أن ثمة جوانب أخرى هامة للثقافة اللبنانية الناقدة بعد الخامس من حزيران تشهد على أن الثقافة اللبنانية – إلى جانب تفاعلها مع الأحداث العربية الكبرى – تعمل دوماً في شتى الظروف على تنمية أعمدة الثقافة وأركانها الأساسية وتحرص على جعلها الأساس المكين لأي تغيير اجتماعي أو سياسي.
ومن تجليات هذه الثقافة المؤّسسة للثقافة إن صح التعبير الدراسات التي بدأت تعالج للمرة الأولى معالجة علمية رصينة متكاملة مسائل التنمية المختلفة في لبنان من اقتصادية وسياسية واجتماعية وتربوية وإعلامية وغير تلك من الجوانب، منطلقة من حقيقة غدت بدهية وهي أن التنمية إما أن تكون شاملة متكاملة أو لا تكون، مؤكدة أن الصلة بين الثقافة والتنمية بوجه خاص صلة عضوية راسخة، وأن الثقافة ليست وسيلة التنمية فحسب بل هي غايتها وهدفها الأول (كما سيرد في مقررات المؤتمر الثقافي الدولي الذي عقدته اليونسكو في المكسيك عام 1982).
وقد عبرت عن هذا المنطلق الجديد أفضل تعبير «ندوة الدراسات الإنمائية» التي أسسها حسن صعب عام 1964 والتي انتسبت إليها وشاركت في نشاطاتها المتوالدة نخبة بارزة من رجال الثقافة في لبنان. ومن بين النشاطات الهامة التي قامت بها الندوة تلك الحلقة التي نظمتها بين السادس والعشرين والثلاثين من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1970، وعنوانها «الإنسان هو الرأسمال»، وقد قامت فيها دراسات هامة حول شتى جوانب تنمية الموارد الإنسانية في لبنان، تولت الندوة طباعتها في سفر ناهز السبعمائة صفحة. كذلك أسهم في هذا المنطلق الإنمائي الهام إسهاماً مؤثراً وموصولاً «معهد الإنماء العربي» الذي تم تأسيسه في لبنان في أواخر السبعينيات.
وهذا الميدان الجديد الذي انطلق فيه لبنان، ميدان تنمية الموارد الإنسانية في تكامل وتفاعل مع الموارد المادية والمالية، رافقه جهد جديد أيضاً من أجل بناء نظام تعليمي لبناني متطور، لصيق بحاجات المجتمع اللبناني وبمطالب سوق العمل ومستلزمات التنمية الشاملة، وعلى رأسها التنمية الثقافية. والحديث عن لبنان التربوي لا يتسع له المقام، على الرغم من اهتمامي الخاص بالشأن التربوي بحكم اختصاصي، وعلى الرغم من مواكبتي لتطوره ونشاطه من خلال عملي ببيروت، بين عام 1962 وعام 1970، خبيراً وأستاذاً للتخطيط التربوي بالمركز الإقليمي لتدريب كبار موظفي التعليم في البلاد العربية الذي أنشئ بالتعاون بين منظمة اليونسكو والحكومة اللبنانية عام 1961، بل على الرغم من قيامي بالتدريس في الجامعة اللبنانية من عام 1972 إلى عام 1974. وحسبي أن أقول إن هذا النظام التربوي – وقد أصابه تطور كبير لاسيما بعد إنشاء «مركز البحوث التربوية» وتأليف لجنة لتخطيط التربية في لبنان شاركت في اجتماعاتها المحدودة بوصفي مستشاراً – كان بمثابة الخصم والحكم في معادلة التنمية اللبنانية بوجه عام، وفي معادلة التنمية الثقافية بوجه خاص وفي معادلة حياته السياسية بوجه أخص.
ولا أدل على ذلك من أن بوادر الحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة قد أرهصت بها إلى حد بعيد الحركات الطلابية العنيفة التي قامت في لبنان في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، والتي كانت واضحة ومعبرة في دلالاتها في الجامعة اللبنانية بوجه خاص، والتي قدمت دليلاً واضحاً على أن وراء الانهيار السياسي دوماً انهياراً ثقافياً.
5- غنى الحركة الثقافية بعد الخامس من حزيران:
وهكذا يستبين لنا أن أثر نكسة الخامس من حزيران على الثقافة في لبنان لم يقتصر على ما أملته من مراجعة شاملة وكاملة لمنطلقات الثقافة اللبنانية والثقافة العربية بوجه عام، ولم يكن مجرد استجابة مرحلية للواقع السياسي العربي الجديد. فالثقافة في لبنان – مهما تكن الظروف – هي بمثابة اللحم والدم في بنيانه، وهي خبزه اليومي بالمعنى المادي والروحي لهذه الكلمة. ومن هنا عرفت مرحلة ما بعد الخامس من حزيران نهضة ثقافية محضة، فكرية وأدبية وفنية، لم تعرفها من قبل، في شتى مجالات الإبداع الثقافي. ويشهد على ذلك ما قذفت به دور النشر الكبرى في تلك الفترة من نتاج نادر في كمه ونوعه. وهكذا شهدنا – فيما شهدنا – ولادة موسوعات كبرى في مختلف الميادين: من مثل الموسوعة الفذة عن دول العالم الإسلامي ورجالها، وكالموسوعة السياسية، والموسوعة الفلسفية، وموسوعة الحضارة العربية الإسلامية، وموسوعة تاريخ الفن، وموسوعة المصطلح النقدي، وموسوعة تاريخ الطب، والموسوعة الفلسطينية. والموسوعة العسكرية وسواها، كما شهدنا عناية خاصة بنشر الأعمال الكاملة لعدد من كبار أئمة النهضة العربية الحديثة، من أمثال محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعلي مبارك ومحمد رشيد رضا وأمين الريحاني وسواهم، بالإضافة إلى آلاف الكتب التي قذفت بها دور النشر اللبنانية، والتي لم تدع صغيرة ولا كبيرة من جوانب الثقافة العربية والأجنبية
إلا وأحاطت بها.
وفي وسعنا أن نقول مثل ذلك عن الإبداع الفني بمظاهره المختلفة، وعن الآداب بمظاهرها المتعددة من قصة ورواية ومسرح وشعر ونقد وسوى ذلك. وحسبنا أن نذكر، في مجال الإبداع الشعري، مثالاً واحداً، ونعني به المدرسة الشعرية المحدثة المجددة التي تحلقت حول مجلة «شعر» لصاحبها يوسف الخال. كذلك حسبنا أن نذكر – في مجال القصة والرواية والمسرحية – الريادة المتقدمة لدار الآداب، ولمسرحيات الرحابنة. هذا إذا لم نذهب إلى أبعد من هذا فنشير إلى الدور الريادي الذي اضطلعت به في لبنان مسرحيات دريد لحام التي عرضت في لبنان، والتي هي نتاج الجهد الثقافي الفذ الذي قدمه الشاعر المبدع محمد الماغوط والروائي البارز سعد الله ونوس وسواهما.
وحين نذكر محمد الماغوط يجدر بنا أن نتذكر أن هذا المبدع الكبير احتضنته بيروت منذ أن قدم إليها من السلمية مشرداً ضائعاً في نهاية الخمسينيات، واحتضنت الكثير من شعره منذ مجموعته الشعرية الأولى في مطلع الستينيات «حزن في ضوء القمر» وبواكير شعره المتمرد الذي نشرته مجلة «شعر». ولطالما احتضنت بيروت شعر الكثير من «صعاليك الشعراء» كما يقال، وتلقفت إبداعهم الثائر.
6- الثقافة اللبنانية والعمل الفدائي:
وإن ننس لا ننس التفاعل بين العمل الفدائي بعد الخامس من حزيران وبين الثقافة في لبنان، فقد كانت تلك المرحلة مرحلة توهج العمل الفدائي وعقد الآمال الكبرى عليه. وقد عبرت النخبة الثقافية اللبنانية عن هذه الآمال ومحّصتها.
وهكذا أصدرت الآداب عدداً ممتازاً خاصاً بالثورة الفدائية (في شهر آذار/ مارس 1969)، وقد ضمّ هذا العدد – بالإضافة إلى المقالات الفكرية الهامة – نتاجاً أدبياً مبدعاً يدور حول العمل الفدائي، من أبرزه قصيدة نزار قباني وعنوانها “القضية” ومسرحية «زهرة من دم» لسهيل إدريس، وقصة لمحمود الريماوي، وأخرى لممدوح عدوان، وقصائد حول العمل الفدائي لنيّف وعشرين شاعراً، ومقال أدبي وفكري بارز لشاكر مصطفى عنوانه «هذا التراب الغريب المرعب».
ومن النتاج الثقافي الهام الذي تحدث عن العمل الفدائي، ما نشرته مجلة «مواقف» في عددها الثامن (آذار – نيسان 1970). وفي هذا العدد نقع على قصيدتين ثائرتين لنزار قباني، عنوان الأولى «الوصية» وعنوان الثانية «بانتظار غودو». ونقع في العدد نفسه على مقالات حول فلسطين والعمل الفدائي لمحمود الريماوي وغسان كنفاني وجبران مجدلاني وشفيق الحوت وإبراهيم بدران ومحمد برادة. وقد أسهمتُ في هذا العدد بمقال عنوانه «من حركة المقاومة الفلسطينية إلى حركة المقاومة العربية». كذلك نقع في مجلة «القضايا المعاصرة» (تموز/ يوليو 1969) على أعمال ندوة هامة حول «العمل الفدائي ودور لبنان»، شاركت فيها وجوه ثقافية وسياسية لامعة، منها بيير إده ونسيب البربير وغسان التويني وسليم حيدر وكاظم الصلح ومحمد علي حمادة.
وكلنا يعلم ما كان للشعر – ولاسيما في لبنان – من جولات رائعات في ميدان العمل الفدائي. وإن نذكر نذكر قصيدة نزار قباني أيضاً وعنوانها «منشورات فدائية على جدران إسرائيل» وفيها يقول مخاطباً أبناء إسرائيل:
تذكّروا
تذكّروا دائماً
بأن أمريكا – على شأنها –
ليست هي الله العزيز القدير
وإن أمريكا – على بأسها –
لن تمنع الطيور من أن تطير
قد تقتل الكبير بارودةٌ
صغيرة في يد طفل صغير
7- الثقافة اللبنانية بعد حرب تشرين 1973:
ولعل هذا كله قد حمل وأتأم وانضاف إلى سواه من الجهود السياسية والعسكرية، وتمخض في خاتمة المطاف عن حرب التحرير في الثالث من تشرين الأول عام 1973.
وههنا جاءت الثقافة لتدلي دلوها بين الدلاء. لقد نجح سعيها إلى حد كبير، وتحطمت أوهام راسخة كانت تؤمن بعصمة دولة إسرائيل وتفوقها تفوقاً لا يقهر، وصفق الكتاب والأدباء والفنانون والمفكرون لهذا الحدث الجديد، وتبارى القوم في الإشادة بالنصر، غير أنه أعقب ذلك رويداً رويداً في الأقلام ولين في الأفكار دعوات إلى واقعية انهزامية استسلامية.
وليس المقام مقام تحليل بعض الردة الفكرية التي أعقبت هذا النصر لدى طائفة من المثقفين. وما يعنينا أن الكثرة من مثقفي البلاد العربية بوجه عام، ومن مثقفي لبنان بوجه خاص، ظلوا أوفياء لرسالة الثقافة، فلم يهنوا ولم يستكينوا، وحاولوا أن يجعلوا من حرب تشرين منطلقاً لمزيد من الجهد في سبيل تعزيز الكيان العربي، وهذا ما نجده، على سبيل المثال لا الحصر، لدى تلك الطائفة الكبيرة من الأدباء العرب الذين أدلوا بدلوهم في معركة تشرين، والذين ضمهم ذلك العدد الممتاز الرائع الذي أصدرته مجلة الآداب، (عدد تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر 1973) تحت عنوان: «أدباؤنا في المعركة». وقد توج ذلك العدد بيان للمثقفين العرب باسم اتحاد الكتاب اللبنانيين. وضمّ العدد – بالإضافة إلى شهادات الكثير من الكتاب والأدباء العرب – شهادات ومقالات هامة لنيف واثني عشر كاتباً ومفكراً وأديباً لبنانياً، من بينهم منح الصلح وأنسي الحاج وأدونيس ومنير البعلبكي وليلى البعلبكي وسواهم، وقد بدا لنا آنذاك – في مقال مجلة «الديار» الأسبوعية (بتاريخ 15 – 31 كانون الأول 1973) – أن نلخص مهمة الفكر العربي والثقافة العربية بعد حرب تشرين، على النحو الآتي:
«من غير الجائز أن يعطل الطاقات الفكرية تمزّق عقيم بين اليأس والأمل، وأن تريحها البوادر المطمئنة وتهددها الأحلام الناعمة السهلة. إن مهمتها منذ اليوم ألا تفوّت لحظة من لحظات الجهد والبناء، وأن تدرك أن الفجر العربي الذي يبشر بالانبلاج هو رهن عملها السريع والمتوتر والموصول في سبيل بناء حضارة عربية عصرية…».
8- الثقافة اللبنانية والحرب الأهلية المشؤومة:
وعلى الرغم من هذا الغنى والتفجر الثقافي الفريد الذي عزفه لبنان بعد نكسة الخامس من حزيران عام 1967 والذي استمر حيناً من الزمن بعد حرب تشرين الأول 1973، تردى الوضع اللبناني العام كأبشع ما يكون التردي، وتفجرت صراعات عنيفة بدت فيها الثقافة اللبنانية بكل تراثها وتجاربها أشبه ما تكون بصورة «دوريان غري» المزدوجة.
ذلكم أن الثقافة، مهما يكن شأوها، تظل نظاماً فرعياً من نظام اجتماعي وسياسي شامل، يؤثر فيها وتؤثر فيه، ولا يكون صلاحها وصلاحه إلا عن طريق الحوار بينهما من أجل إحكام الوصول والتكامل داخلهما، سعياً للوصول إلى خطة عمل أشبه ما تكون بشبكة متآخذة.
بل لعلّ من حقنا أن نقول – انطلاقاً من التجربة اللبنانية – إن على الثقافة أن تحقق التفاعل والتكامل داخلها، إذا هي أرادت أن تحقق الحوار والتفاعل مع سواها من مقومات النظام الاجتماعي.
ومن النصف للمثقفين في لبنان أن نقول إن معظمهم لم يوفروا في هذا السبيل، ولعل خير هذا الجهد هو ما جاء بعد الكارثة، كارثة الحرب الأهلية.
فلقد طرحت الحرب الأهلية اللبنانية – بفظاظتها ولا معقوليتها – مشكلات جذرية تمس أعماق الكيان اللبناني، تصدى لها معظم المثقفين بجرأة وبسالة. واتجه الجهد الثقافي نحو البحث عن الجذور، وعن جذور الجذور، التي فجرت الحرب الأهلية، سواء كانت طائفية أو عائلية أو تاريخية، وسواء كانت أصيلة أو دخيلة، وظهرت المؤلفات اللبنانية تَتْرى، أثناء الحرب، في لبنان وخارج لبنان، تحفز وتكشف وتفضح وتفسر.
غير أن هذه المعركة التي خاضها المخلصون من المثقفين اللبنانيين – وهم الكثرة – كشفت عن نقطة ضعف أخرى في الثقافة اللبنانية، إلى جانب نقطة الضعف الأولى المتصلة بضعف الحوار بينهم وبين القيّمين على المكونات الأخرى للمجتمع. ونقطة الضعف الثانية والهمة هذه، التي كشفت عنها الحرب الأهلية، هي ضعف التواصل وضعف التأثر والتأثير بين النخبة الثقافية النزيهة وبين جماهير الشعب الخاضعة لغرائز متأصلة أو لتهييج فئوي ذميم.
وليس المجال مجال الإفاضة في هذا الميدان، فلقد طرقته أقلام لبنانية أكثر علماً وأدرى بحقائق الأشياء. غير أن من الهام أن نذكر أن دور النشر والمجلات والمراكز الثقافية وسواها من مؤسسات الثقافة أنتجت في هذا المجال وما تزال تنتج مئات الكتب والدراسات والأبحاث، وأن الفن اللبناني بأشكاله المختلفة، بما في ذلك النتاج السينمائي، قدم زاداً غنياً وثميناً حول هذه المحنة. ولعل ذلك كله أو جانباً منه قد تمّ امتصاصه من قبل اللاوعي الجماعي، ليكون درعاً ووقاية.
وفي قلب الحرب الأهلية اللبنانية، شنّ العدو الإسرائيلي عام 1982 عدوانه الأثيم على لبنان. وحاول أن يحقق حلماً راوده منذ قيام دولة إسرائيل وداعب مخيلة بن غوريون، حلم احتلال لبنان، وبلغ هذا الحلم الهلاس حد المهزلة المأساة لدى «موشي أرينز» وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك ووزير الدفاع المنصرف حالياً، حين قال في لقاءٍ مع قادة وسياسيين ودينيين في إسرائيل عام 1983: «إن غزو لبنان عام 1982 كان إرادة إلهية. فهي حرب مقدسة مستمدة من العهد القديم، تؤكد أن معركة «همرجدّون» قد اقتربت» ولكن الحس اللبناني العميق ما لبث حتى تفجر ساخطاً صامداً. وصمد لبنان، وصمدت بيروت صموداً جباراً كاد يفاجئ أهلها أنفسهم، وانقلب السحر على الساحر وخرجت إسرائيل من أرض لبنان ذليلة صاغرة، ورضيت من الغنيمة بالإياب، وبدت سوآتها للعالم كله، وحمل عليها الكثير من أبنائها أنفسهم، بل اتهمها بعض كبار مفكريها من أمثال الفيلسوف الشهير “ليبوفتش” بأنها أصبحت بعد دخول لبنان، دولة فاشية نازية، وتنبأ لها بسقوط ليس ببعيد، وشحذت الثقافة اللبنانية زنادها وتفجر كنهها وازدادت لصوقاً برسالتها الوطنية والقومية والإنسانية البديئة.
* * *

وتقف معايشتنا المباشرة للثقافة اللبنانية عند هذا الحد. فلقد عشنا وسط هذه الثقافة وعرفناها عن قرب حتى بدايات الحرب الأهلية. وبعد ذلك غادرنا بيروت، بحكم انتقال عملنا مع اليونسكو فيها، وبعد أن ألقينا عصا الترحال في باريس بحكم عملنا مع اليونسكو أيضاً.
وهذا لا يعني أننا توقفنا منذ ذلك الحين عن مواكبة النشاط الثقافي في لبنان، ذلك النشاط الذي يسرت لنا وسائل الاتصال العديدة والجديدة متابعته، عن طريق الصحف والمجلات والكتب ومحطات التلفزيون وسائر أجهزة الإعلام، لاسيما بعد أن كاد العالم يصبح قرية واحدة.
غير أن حديثنا عن النتاج الثقافي الذي أعقب الحرب الأهلية في لبنان حديث لا يتسع له المقام، ولا تكفي فيه المجلدات، فضلاً عن أننا لسنا الأقدر على الخوض فيه، وحسبنا أن نذكر مظهراً واحداً من مظاهر الثروة الثقافية المتجددة دوماً وأبداً في لبنان، هو إنشاء «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت، منذ عام 1979 وفي قلب الحرب الأهلية، ذلك المركز الذي قدم نتاجاً ثقافياً ضخماً يفوق في مستواه وجديته ما أنتجه أي مركز آخر وأي مؤسسة أخرى وأي دار نشر، سواء في لبنان أو في البلاد العربية.

خاتمة:
وبعد، نستطيع أن نقول، بعد هذه الجولة الخاطفة المنقوصة على أهم محطات الثقافة في لبنان، أن هذه الثقافة اتسمت بسمات مميزة أهمها:
– حيويتها المستمرة وقدرتها على التكيف والتجدد.
– احتضانها للثقافة العربية ولكثير من المثقفين العرب، وقد بلغ هذا الاحتضان حداً يصعب معه التمييز بين المثقف اللبناني والمثقف الوافد.
– استجابتها للظروف الاجتماعية والسياسية المتغيرة في لبنان والوطن العربي، استجابة لعبت فيها دور الحكم في كثير من الأحيان.
– تعاظم حركة النشر فيها وتكاثر دور النشر تكاثراً يتجاوز بكثير حجم رقعة لبنان الجغرافية وحجم سكانه، وتحول لبنان بالتالي يوماً بعد يوم إلى مركز نشر أساسي لمعظم المثقفين من شتى البلدان العربية.
– قدرتها على النقد الذاتي الممعن في قسوته أحياناً، ونزوعها في الوقت نفسه إلى قدر مفرط من النرجسية، وهي نرجسية طالما رافقت كل إبداع أنى كان.
وعلى الرغم من ذلك كله تظل الثقافة في لبنان مفتوحة لتطورات جديدة، تتجاوز فيها ذاتها، وتبني حداثتها وما بعد حداثتها، وتظل في حاجة ماسة إلى أجهزة ثقافية فعالة تتولى ثلاث مهمات أساسية: أولاها التعريف الكامل والتحليل الوافي لأمهات الكتب والأعمال الثقافية التي يجود بها لبنان كل يوم. وثانيهما توفير حركة نقدية منظمة ورفيعة المستوى تتبنى أساليب النقد الحديثة في الأدب والفكر والفن وسواها. وثالثها إنشاء مؤسسة للترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية ومن اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، تتخير ما هو جدير بالترجمة وتحرص على سلامتها، وتعنى بوجه خاص بترجمة أمهات الكتب،كما توجه جهدها نحو ترجمة أحدث وأهم نتاج المجلات الفكرية والأدبية والفنية والعلمية الأجنبية.
ولاشك أن إحداث وزارة الثقافة اللبنانية خطوة أولى هامة في طريق طويلة، وفي مهمة أساسية وشاقة، تستلزم أن تتوافر لها إمكانات مادية وبشرية كافية.
وفي الختام، لا مراء في أن بيروت استطاعت منذ زمن أن تفرض نفسها عاصمة ثقافية. وحسبها في ذلك أن الثقافة عندها كانت دوماً ولا تزال تعني التثاقف والحوار الثقافي بينها وبين سائر البلدان العربية، ثم بينها وبين ثقافات العالم في مرحلة يشتد فيها المد والجذب بين صراع الثقافات من جانب وحوار الثقافات من جانب آخر. حسبها أن ثقافتها كانت دوماً ثقافة من أجل الإنسان، الإنسان اللبناني الذي لا يزكو إلا عن طريق انغماسه في تربة لبنان الواحد، والإنسان العربي الذي لا يتفتح إلا في هوائه القومي المشترك، والإنسان أنّى كان الذي لا يكتمل إلا عن طريق حواره مع سواه من أبناء العالم.

دمشق في 1/ تموز – يوليو 1999