صراع اليهودية مع القومية الصهيونية: الصهيونية ومستقبل إسرائيل

الصهيونية ومستقبل إسرائيل
(من منشورات دار الطليعة، بيروت عام2000)
-1-
سبق أن صدر لـ عبد الله عبد الدائم كتاب إسرائيل وهويتها الممزقة – ضمن «سلسلة الثقافة القومية – 30» لمركز دراسات الوحدة العربية – وكان لي شرف عرض ذلك الكتاب في العدد رقم 217 من مجلة المستقبل العربي (آذار/مارس 1997).
وقد تحدث المؤلف في كتابه السابق عن التناقضات الموجودة في صلب الديانة اليهودية عبر التاريخ، وتلك القائمة في صلب الدعوة الصهيونية ولم تنته بإنشاء دولة إسرائيل، بل إنها مستمرة في تمزيق الهوية الإسرائيلية حتى اليوم. وأوضح أن هذه التناقضات، منها ما يثير التساؤل عن معنى المواطنة الإسرائيلية، ويبرز المعضلة الخاصة بالمقيمين في إسرائيل من أبناء الديانات غير اليهودية، وموقف الدولة من الأغيار وتفريقها في المعاملة بين المواطنين اليهود أنفسهم، بما يجعل المواطنة لديها على درجات ومراتب، كما تحدث عن التناقض الأكبر بين التيارات الدينية والتيارات العلمانية والذي تعاظم في الآونة الأخيرة.
وقد انتهى المؤلف في كتابه السابق إلى استخلاص آثار هذه التناقضات في موقف إسرائيل من قضية السلام مع العرب، معرباً عن رأيه في أن السلام الحقيقي والمطمئن والدائم لا يمكن أن يتحقق من دون التصدي للتناقضات داخل اليهودية والصهيونية ودولة إسرائيل.
وقد أكدت التطورات التي شهدتها الساحة الإسرائيلية، منذ أن صدر الكتاب السابق عام 1997، تعاظم التناقضات التي تحدث عنها عبد الدائم تفصيلاً في كتابه الجديد موضحاً ما أدت إليه من تمزق داخل المجتمع الإسرائيلي بدا واضحاً خلال الحملة الانتخابية، ودلت عليه نتائج الانتخابات المذكورة. ففي حين كان الصراع قائماً في الانتخابات السابقة بين الحزبين الكبيرين: العمل والليكود، كشفت الصراعات الدينية والعرقية وغيرها عن أوضاع مجتمع فسيفسائي غير متجانس يتصارع فيه العلمانيون، وأتباع حركات السلام، والمؤرخون الجدد، والقائلون بما بعد الصهيونية، وأنصار الأحزاب الدينية بتياراتها المتعددة.
فقد تقدمت 33 قائمة بطلب رسمي للانتخابات، وتم اختيار 15 قائمة منها، وكانت نتائج الانتخابات واضحة الدلالة على فقدان الناخب الإسرائيلي الثقة في قيادته السياسية ولجوئه إلى أحزاب صغيرة تمثل مصالح قطاعية (للنساء والرجال – وحماية البيئة – وحزب لليهود ذوي الأصل المغربي – وحزبان روسيان – وأحزاب عربية.. الخ). ويفسر علماء الاجتماع هذا التمزق السياسي والاجتماعي بأنه دليل على فشل عملية المزج والصهر أو ما يعرف بالبوتقة، كما يعتبره البعض تحولاً إلى القبلية.
ويذكر المؤلف أن هذا التمزق يكشف عن الصراع الاجتماعي والإثني والثقافي والأيديولوجي داخل إسرائيل، ويبرز أزمة الهوية وفشل الفكر الصهيوني بعد أربعة أجيال وست حروب مع العرب. ويستدل من نتائج الانتخابات وفوز إيهود باراك على رفض الأجيال اليهودية الجديدة لطغيان الأصولية اليهودية على حياة المجتمع وقوانينه من جهة، وعلى نبذ استراتيجية الحرب من جهة أخرى. ويذكر أن مهمة «باراك» لا تقتصر على إيجاد حل توفيقي أو تلفيقي مع العرب، بل إن عليه أن يحقق الوفاق بين القبائل التي تتكون منها بلاده. أما تحقيق سلام منقوص يفرضه على العرب من منطلق القوة، فإنه أقدر على تفجير قنبلة الهوية داخل إسرائيل. ذلك إن السلام الزائف من شأنه أن يطرح مشكلات الهوية ويبقي على القضايا التي أبرزتها المعركة الانتخابية، سواء فيما يخص العلاقة بين الكنيست والدولة، أو مسألة سن دستور مدني، أو الموقف من إعفاء طلاب المدارس الدينية من الخدمة العسكرية، أو إشكاليات الهوية، وبخاصة قانون العودة، والعلاقة مع يهود الشتات، وتعريف اليهودي، والصراع بين اليهود الشرقيين والغربيين، والخلافات بين المذاهب الدينية، وحدود دولة إسرائيل، وعلاقتها بدول المنطقة.
وينتهي عبد الدائم في خاتمة كتابه إلى استخلاص حقيقتين: الأولى هي أن الصهيونية حركة قومية استعمارية فُرِضت على الشعب اليهودي نفسه رغماً عنه (أو على أكثريته الساحقة)، ولم يتيسر لها النجاح إلا بتأييد الدول الغربية لها. والحقيقة الثانية هي تلك الصحوة التي تتجلى بوجه خاص لدى «المؤرخين الجدد» وعلماء الاجتماع والأدباء والفنانين وسائر المنادين بـ «ما وراء الصهيونية»، والتي تمثل تياراً واسعاً آخذاً في النمو ويشكل خطراً حقيقياً على دولة إسرائيل إذا هي تابعت مسيرتها الصهيونية. فأتباع «ما وراء الصهيونية» يؤكدون أن السلم الدائم والحقيقي لا يمكن أن يقوم على الكذب والخداع، ومن ثم تلتقي مواقفهم في بعض جوانبها مع المواقف العربية.
ويذكر المؤلف أن على العرب توليد فكر عربي وغربي مهمته تعبئة الرأي العام العالمي ضد التزييف الصهيوني ودفع الاتجاهات المعادية للصهيونية، من خلال خطة عمل قوامها إعادة الحقوق العربية كاملة إلى أصحابها، إذ لا حل للصراع العربي – الإسرائيلي ولا نجاة لشعب إسرائيل ما دامت المنطلقات الصهيونية قائمة.
-2-
اصطدمت الحركة الصهيونية بمواقف الشتات اليهودي المعادية والمقاومة لها، وشهدت الصراع عند نشأتها بين الاتجاهات والتيارات المختلفة من جهة، والقومية الصهيونية والمذاهب الدينية من جهة أخرى.
واستمر هذا الصراع بعد ولادة إسرائيل. فالاتجاهات السائدة من حث الموقف من الدين متعددة ومتباينة: فنصف الإسرائيليين تقريباً يعتبرون أنفسهم علمانيين، وما بين 30 بالمائة و35 بالمائة منهم متدينون غير أورثوذكس، والباقون يعتبرون أنفسهم صهاينة متدينين. والصراع حول الهوية مستعر بين أنصار الهوية العلمانية من المؤرخين الجدد والقائلين بما بعد الصهيونية، وبين أنصار الهوية الدينية أو الصهيونية الجديدة، وبين هؤلاء وأولئك وبين فريق ثالث يمثل موقفاً أكثر اعتدالاً.
وفي نظرته الإجمالية إلى الصراع حول الهوية في إسرائيل، يذكر المؤلف أن ثمة وطَنين آخذين بالتكون في إسرائيل، هما وطن الإسرائيليين ووطن اليهود. فالإسرائيليون قد أنهكتهم الحروب، ونسوا الصهيونية، ولم يعرفوا اليهودية، وأصبحوا يرون أن الأرض قد غدت عقبة في وجه التطبيع. أما فريق المنتمين إلى وطن اليهود، فيرى أن التطبيع خطر على الهوية الإسرائيلية.
ويتساءل عبد الدائم عن احتمالات تفجر الكيان الإسرائيلي. وبعد أن يستعرض العوامل التي أدت إلى خلق هذا الكيان على رغم تناقضات الصهيونية والصراعات داخلها، يعدد العوامل التي تبقي على إسرائيل حالياً والتي يمكن أن تبقي عليها في المستقبل، ذاكراً أنها تتمثل في: قدرة الكيان الإسرائيلي على امتصاص المشاكل، وعداء الإسرائيليين للعرب، والغطاء الأمريكي الذي يوفر لإسرائيل الطمأنينة والاستقرار ويمدها بالقوة من أجل تحقيق سلام كاذب، في حين أن سلم إسرائيل الداخلي والخارجي لن يتحقق ولن تبقى هذه الدولة إلا إذا وافق العرب على بقائها، الأمر الذي قال به كثير من زعماء الصهيونية.
-3-
أما عن الحقيقة الثانية التي استخلصها عبد الدائم، فهي تلك التي تتمثل في الصحوة لدى كثير من أبناء إسرائيل وقوامها حركة المؤرخين الجدد وأمثالهم ودعاة ما بعد الصهيونية. فقد أفرد المؤلف فصلاً تتبع فيه نشأة هذه الحركة والمعركة التي فجرتها منذ النصف الثاني من الثمانينيات بعد أن أفرج عن الوثائق الإسرائيلية. فقد راع هؤلاء المؤرخين الجدد ما كشفت عنه هذه الوثائق من أن تاريخ دولة إسرائيل هو تاريخ أقلية أوروبية بيضاء استولت على فلسطين بالقوة والعنف، وارتكبت أسوأ المظالم في حق الفلسطينيين، وقامت بعملية التهجير العدوانية ضدهم، وهو ما أسماه بعضهم بـ «خطيئة إسرائيل الأولى».
وتحدث المؤلف عن المؤرخين الجدد والأدباء وعلماء الاجتماع، وقام بتحليل كتابات أبرز أصحابها: بني موريس، وإيلان بابيه، وسمعان فلابان، وأشار إلى الانتقادات التي وجهت إلى هؤلاء المؤرخين الجدد من قبل الإسرائيليين والعرب، وموقف السلطة الإسرائيلية الرسمية منهم؛ وأكد أن النقاش القائم اليوم في قلب المجتمع الإسرائيلي حول الصهيونية يمثل إعادة التفكير في تاريخ إسرائيل، ويعني بالنسبة لليهود إعادة صياغة هذا المجتمع، بل وضعه كله موضع تساؤل، ويعكس أزمة هوية عميقة. كما أن أهم نتائج دراسات المؤرخين الجدد اهتزاز صورة إسرائيل في الغرب، تلك الصورة المثالية عن عودة اليهود إلى أرض صحراوية يسكنها قليل من البدو وتحويلها إلى جنة من نخيل وأعناب.
وربما يتصل بهذا التطور داخل المجتمع الإسرائيلي ذلك الذي يتمثل في حركات السلام التي أفرد لها المؤلف فصلاً بعنوان «الصهيونية وحركات السلام في إسرائيل». وقد تناول في هذا الفصل تاريخ هذه الحركات وتطورها، وبخاصة في أعقاب حرب 1967. وأوضح الكاتب ثلاثة ملامح رئيسية لحركة «السلام الآن»، وهي أنها حركة صهيونية وليست مسالمة، كما أنها ليست حركة مناهضة للمؤسسة الحاكمة، وأنها على الرغم من تبنيها عدداً من المبادئ، منها تقديم الحاجة إلى السلام على التمسك بالأراضي المحتلة، واعتبار المستوطنات عقبة على طريق عملية السلام، وأن حل النزاع مع العرب يكمن في إعادة تقسيم أرض إسرائيل؛ على الرغم من ذلك فإن هذه المبادئ لا ترقى إلى مستوى برنامج للعمل. وأشار المؤلف إلى ما ذكره عاموس عوز أحد نشطاء الحركة البارزين من أن هذه الأخيرة ليست حركة مؤيدة للفلسطينيين، كما ذكر أن هذه الحركة قد وضعت في نهاية الأمر تصوراً لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة طبقاً لحدود ما قبل 1967 مع بعض التعديلات، وبشروط محددة (تتفق مع لاءات باراك المعروفة). وفي تقويم المؤلف لحركات السلام، ينتهي إلى أن إخفاقها يرجع إلى الموقف الأيديولوجي الذي تبنته، وهو تأييدها للصهيونية على رغم الخلاف بينها وبين أفكار التيار الرئيسي الصهيوني، وإلى عجز دعاة السلام عن التوفيق بين قيمهم الصهيونية وتأييد الحقوق الفلسطينية.
-4-
ويطرح الكتاب سؤالاً أساسياً عن مستقبل الصهيونية وإمكان تخلص إسرائيل منها.
ولا شك أن تخلي الإسرائيليين عن هذا المذهب تكون له – لو حدث – آثاره البعيدة في المجتمع الإسرائيلي، وفي مستقبل السلام بين إسرائيل والعرب.
والسؤال قديم قدم الحركة الصهيونية نفسها، بل إنه طرح قبل ولادتها عندما أثير ما يعرف بالمسألة اليهودية التي تعددت الآراء حول حلولها. فقد قوبلت فكرة إقامة دولة يهودية في فلسطين بالمعارضة قبل مؤتمر بازل الذي وضع برنامج الحركة، وبرز موقف الأورثوذكس، وعارض تصريح بلفور الوزير البريطاني اليهودي مونتغيو عضو الحكومة البريطانية التي أصدرته، ولا يزال المذهب الصهيوني يلقى معارضة شديدة من بعض قطاعات اليهود داخل إسرائيل وخارجها.
ومع ذلك، فقد تمكنت الحركة الصهيونية من احتواء صراعاتها الداخلية ومواجهة التيارات المعادية لها، واستفادت من الظروف الدولية واستغلتها بنجاح في تنفيذ مخططاتها، وإقامة دولة يهودية على درجة كبيرة من التقدم. وكان الخلاف الرئيسي داخل تلك الحركة هو الذي كان قائماً بين من يسمون: «الصهيونيون السياسيون» ومن يطلق عليهم: «الصهيونيون العمليون»، فقامت الحركة بمزج الاتجاهين فيما يعرف بالصهيونية المركبة أو التوفيقية، وتعايش التيار الرئيسي بزعامة حاييم وايزمان مع تيار الصهيونية التصحيحية بزعامة فلاديمير جابوتنسكي. ووجدت الحركة الصهيونية حتى في صفوف الحاخامات اليهود الأورثوذكس من يؤيدونها ويدعون إلى التعاون معها باعتبار أن إقامة دولة إسرائيل هو بداية للعهد المسيحاني، وكان من أوائل هؤلاء الحاخام إسحق كوك، وتبعه في ذلك ابنه الحاخام تسفي، ثم الحاخام موسى ليننغر الذي يتزعم حركة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
والواقع أن الحركة الصهيونية قد أبدت دائماً كثيراً من المرونة من أجل تحقيق أهدافها وكسب أنصار لها. ويفسر دافيد غولدبرغ – في كتابه الأرض الموعودة – نجاح هذه الحركة «بأنها ادعت إعطاء كل شيء لجميع اليهود على اختلاف نزعاتهم، سواء للعلمانيين منهم أو للاشتراكيين والدينيين والمحافظين، وجمعت بسبب مصطلحاتها شبه الدينية بين أنصار البروليتاريا الثورية ومن يريدون تمهيد الطريق لمقدم المسيح، وخلقت أسطورة العودة إلى وطن قاحل وقليل السكان، وحاولت تبرير هدفها بحق تاريخي يعتبر قد سقط بانقضاء ألفي عام، وتسببت في خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين».
وعلى الرغم من الظلم الشنيع الذي أوقعته الصهيونية بالشعب الفلسطيني وما تسببت فيه من الحروب مع العرب، فقد تمكنت هذه الحركة من تصوير نفسها لدى اليهود والرأي العام العالمي (وبخاصة الغربي) على أنها حركة قومية. وكان أقسى ما واجهته هو إصدار الأمم المتحدة قراراً يدينها كحركة عنصرية، فظلت تكافح حتى تمكنت – بمساعدة الولايات المتحدة – من إلغائه. وتسعى الصهيونية، بكل الوسائل، لكي تحافظ على صورتها كحركة قومية تدافع عن حقوق اليهود في كل مكان، وممارسة نفوذها على الساحة الدولية لخدمة مصالح إسرائيل واليهود في كل مكان.
أما في إسرائيل، فأياً كان الجدال الدائر بشأن مستقبل البلاد وموقفها من الصهيونية، فإنه لا شك في أن الغالبية العظمى من الشعب لا تزال تدين لهذه الحركة بالفضل في إنشاء الدولة ودعمها والدفاع عن اليهود في كل مكان.
وبعد، فلا شك في أن المجتمع الإسرائيلي يعاني التناقضات والصراعات، بأشكالها المختلفة الدينية والمذهبية والسياسية والإثنية. فهو مجتمع تشكل من يهود قادمين من أنحاء المعمورة كافة، حاملين ثقافاتهم المتباينة، ومن «الصابرا» الذين ولدوا في إسرائيل قبل إنشائها وبعده. وقد قام د. عبد الدائم بعرض هذه التناقضات والصراعات عرضاً وافياً وتحليل أبعادها وآثارها بأسلوب شيق وقدرة فائقة وإلمام واسع.
والذي يعنينا – نحن العرب – هو أن تتخلى إسرائيل عن مطامعها التوسعية، وأن تنسحب من الأراضي العربية المحتلة كافة، وترد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وتحترم الشريعة الدولية. ولن يتحقق لنا ذلك إلا من خلال استراتيجيا موحدة تبدأ بتوحيد الصف العربي وتجاوز الانقسامات وتحقيق المصالحة بين البلدان العربية، وتنسيق المواقف، وتعبئة إمكانات الوطن العربي كافة وتفعيلها.
أما الصهيونية، فإنه من المتوقع أن تظل طويلاً، وعلى رغم تناقضاتها، طالما رأت الغالبية العظمى من اليهود فيها مذهباً يشكل أساساً لإقامة الدولة اليهودية، ومنظمة تبذل قصارى جهدها لتهجير اليهود إلى فلسطين، وتعمل بنشاط كبير من أجل الحصول على الدعم السياسي والعسكري والمادي لهم ولدولتهم، مستخدمة في ذلك الأساليب والضغوط كافة.