الفكر التربوي عند ساطع الحصري

بحث قدم إلى الندوة التي عقدها معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة بالتعاون مع مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت بمناسبة مرور ثلاثين سنة على وفاة ساطع الحصري، وقد نشر مركز دراسات الوحدة العربية أعمال الندوة كاملة في كتاب بتاريخ 11/1999 محتوى البحث الصفحة
-I القسم الأول: مدخل: الحصري بين القومية والتربية 3
-II القسم الثاني: مسيرة ساطع الحصري التربوية 9
(أولاً) أنظاره التربوية العامة 10
1- الأبحاث المتصلة بأسس التربية ومبادئها 10
2- الأبحاث الخاصة بفن التربية وطرائقه ووسائله 14
(ثانياً) العمل الميداني للأستاذ ساطع الحصري 19
1- أعماله خلال الحقبة العثمانية (1900 – 1919) 21
2- أعماله في سورية خلال الحقبة الفيصلية (1919 – 1920) 21
3- أعماله في العراق (1921 – 1941) 22
4- أعماله في سورية (1944 – 1947) 27
5- أعماله في جامعة الدول العربية (1948 – 1957) 32
خاتمة: أصالة التربية عند الحصري 35
ملحق: تاريخ حياة ساطع الحصري بقلمه 40
الفكر التربوي عند ساطع الحصري
الأستاذ الدكتور عبد الله عبد الدائم
-I القسم الأول:
مدخل: الحصري بين القومية والتربية
كثيراً ما يظن أن الفكر التربوي عند ساطع الحصري ليست له منزلة فكره القومي. لا سيما أن الكثرة الكاثرة من المثقفين العرب عرفت هذا الرائد القومي الفذ من خلال ما كتب حول القومية العربية، وحول القومية بوجه أعم.
والحق، إن الفكر التربوي لدى هذا العلامة الذي أحاط بالعديد من جوانب المعرفة الإنسانية، من رياضية وعلمية واجتماعية وتربوية، لا يقل شأواً وشأناً عن فكره القومي. بل قل، بتعبير أدق، إن كلا المفكرين، القومي والتربوي، متآخذان عنده ومتكاملان يصعب الفصل بينهما. وتلك هي أهم صفة من الصفات المميزة لعطائه.
فهو أولاً يؤمن بتضامن المعرفة الإنسانية، ولا يجيز الفصل بين جوانبها المختلفة. وقد كان هو نفسه مثالاُ يحتذى بهذا الشأن، حين أحاط منذ بواكير عمره بالعلوم الرياضية وتولع بها ولعاً شديداً على حد قوله في ترجمة حياته، ثم أولع بالعلوم الطبيعية واشتغل بتشريح الحيوانات وتحنيطها، ودرس العلوم السياسية والحقوقية، وأتبع ذلك كله بدراسة علم النفس والتربية والاجتماع، بعد أن كان قد قطع شوطاً كبيراً في دراسة العلوم الطبيعية(1). وقد كتب وألف بين هذه المجالات جميعها، سواء باللغة التركية أو باللغة العربية.
وهو ثانياً وخاصةً ينطلق في فكره التربوي من خلال فكره القومي، وينطلق في فكره القومي من خلال فكره التربوي. فالتربية العربية عنده تعني أولاً وقبل كل شئ التخلص من التبعية الثقافية، سواء في العراق أو سورية أو مصر أو السودان. وفي حديث له مع الدكتور جميل صليبا عام 1944 عن تجربته في العراق – على سبيل المثال – أكد دون لبس أن همه الأول هناك كان تطهير مناهج التربية من رواسب الثقافة الإنكليزية، وإحياء الروح العربية، وبث الفكرة القومية في النشء(2).
وأهم أهداف التربية لديه – كما سنرى – توثيق الصلات الثقافية بين البلدان العربية، ووضع نظام تربوي جديد موحد عربي الوجه واللسان، من شأنه أن يجمع أوصال الأمة العربية، عن طريق الوحدة الثقافة أولاً وقبل كل شيء. وقد كان هذا الهدف جوهر عمله كله في ميدان التربية. أو ليس هو القائل: «اضمنوا لي وحدة الثقافة، وأنا أضمن لكم ما تبقى من ضروب الوحدة»؟ (آراء وأحاديث في الوطنية والقومية). القاهرة/ 1944/ ص 120.
وقد تجلى ذلك بوجه خاص في حركة الإصلاح التربوي التي قادها في العراق (من 5/ 3/ 1922 – 11/ 6/ 1941)، وفي تقاريره ومشروعاته من أجل تطوير التربية في سوريا (من 1944 إلى 1947) وفي حوليات الثقافة العربية الست التي أصدرها بين عام 1949 و1963، وفي سائر أعماله ومؤلفاته وكتاباته. وحسبنا أن نذكر – من قبيل المثال لا الحصر – بعض ما ورد في المقدمة التي صدّر بها الحولية الثقافية الأولى (والتي أعاد نشرها كاملة في مقدمة كل من الحوليات الخمس)، حيث أشار إلى أن أهم أهداف هذه الحولية القضاء على الفروق القائمة بين نظم التعليم العربية – بسبب مخلفات الاستعمار – وتعديل تلك النظم والأوضاع القائمة في البلاد العربية، وفق ما تقتضيه مصالحها الحقيقية، بنظرات شاخصة نحو المستقبل البعيد والمثل الأعلى الذي تنطوي عليه فكرة العروبة الخالدة(3). وفي نهاية هذه المقدمة يرجو أن يكون قد تمكن من إقناع من بيده زمام أمور التربية والثقافة في مختلف البلاد العربية، بأهمية العمل من أجل إزالة تلك الفروق الثقافية بكل اهتمام واندفاع، من أجل الوصول إلى وحدة تربوية وتعليمية وثقافية، تقود بالتالي إلى تحقيق الوحدة الشاملة بين أقطار الوطن العربي.
وبوجيز القول لقد انطلق ساطع الحصري في فكره وعمله في مجال التربية من فكرة أساسية، وهي أن وضع أسس تربوية سليمة، مبدعة لا متبعة، قادرة على امتصاص التجربة التربوية العالمية في كيانها الذاتي، هي نقطة البدء لخلق أجيال واعية وقادرة على تحقيق أماني الأمة العربية. فالعروبة عنده إيمان وعقيدة، والسبيل إليها هي سبيل التربية والتربية القومية بالذات.
لقد ناضل ساطع الحصري نضالاً فكرياً دائباً موصولاً من أجل نشر الوعي القومي والتبشير بوحدة الأمة العربية. وتسلح في سبيل تلك الدعوة بشتى الأسلحة العلمية والفكرية.
وربح معركته هذه بقلمه وفكره، دون أن يلجأ إلى سلاح الدعوة السياسية أو الحزبية أو سواهما. ولكنه لم يهمل، كما قد يظن، النضال العلمي اليومي من أجل فكرته القومية هذه. فلقد كانت التربية عنده هي مسرح النضال العملي الميداني المباشر من أجل نشر دعوته القومية:
لقد خاض في سبيل هذا النضال العلمي – بل السياسي – معارك تربوية. أبرزها صراعه العنيد مع الإنكليز وممثليهم في العراق، انطلاقاً من إيمانه بأن أمور المعارف – التربية والتعليم – يجب أن تكون في مقدمة الأمور التي ستؤخذ من الإنكليز(4). وهو في هذا الصراع قد اختار في الواقع طريق «الجهاد التربوي» من أجل القضية العربية، كما اختار عدد من زملائه في بلاد الشام طريق الجهاد السياسي والثورة المسلحة بعد أن صرع الفرنسيون الدولة العربية السورية الوليدة في «ميسلون» عام 1920 (5). وقد تجلى هذا الجهاد التربوي بوجه خاص في معركته مع «فارل» الإنكليزي الذي كان قابضاً على مقدرات وزارة المعارف العراقية ومع سواه، حول توزيع المساعدات على المدارس الأهلية والطائفية والأجنبية، وفي نقده الشهير لتقرير لجنة «مونرو» الأمريكية، وفي جملة الإصلاح التربوي الذي قام به في العراق. ومثل هذا النضال الميداني ساقه في سورية، حين تم اختياره عام 1944 مشاوراً فنياً لوزارة المعارف. فلقد كان همه الأول – إلى جانب بل من خلال إصلاح نظام التعليم إصلاحاً شاملاً – تخليص سورية من النظام التعليمي الذي خلفه الانتداب، وتصفية آثار النفوذ الفرنسي، وتحرير سورية من القيود والشوائب التي خلفها الانتداب، ممهداً السبيل بذلك إلى توحيد الأهداف والمناهج مع العراق ومصر وسائر البلاد العربية. ولا أدل على ذلك من المحاضرة الهامة التي ألقاها على مدرج الجامعة السورية عام 1947، عن «الاستقلال الثقافي وسياسة التعليم في سورية»(6). وفيها يتحدث عما خلفه الحكم الأجنبي من جذور خانقة في مختلف ميادين الحياة، لعل أسوأها وأخطرها تلك التي انتشرت وامتدت في أرض الثقافة والمعارف. الأمر الذي حمله على سن قانون جديد للمعارف، يلغي في جملة واحدة جميع نظم المعارف الموضوعة في عهد الانتداب، ويقرر الأسس التي يجب أن يبنى عليها صرح المعارف الجديد(7). ويصف الحصري قانون المعارف العام هذا، الذي وضعه لهذا الغرض، بأنه، بمثابة صك الاستقلال الثقافي في هذه البلاد(8). ويضيف دون لبس أن أهم الغايات التي سعى لتحقيقها قانون المعارف الجديد هي: رفع الموانع وهدم الحواجز التي أقامتها سياسة الانتداب بين سوريا وبين سائر الأقطار العربية، في ميدان التربية والثقافة(9).
وتشهد كذلك على الطابع النضالي للتربية عند الحصري على نحو ما تجلت طوال عمله في سورية (لمدة ثلاثة أعوام)، مقاومته العنيدة لمشروع «الاتفاقية الجامعية» التي حاول الفرنسيون – في بداية عهد الاستقلال – فرضها على سورية.
فلقد حاولت فرنسة، قبل أن تتخلى عن الانتداب أن تفرض على سورية معاهدات ثقافية واقتصادية وعسكرية، تحفظ لها مكانتها المتميزة في سورية. وهكذا قدّمت للحكومة السورية مشروع اتفاقية دعتها باسم «الاتفاقية الجامعية» ترمي من ورائه إلى توسيع نطاق امتيازاتها. فوقف الحصري في وجه تلك الاتفاقية المجحفة وسارع فوراً إلى تسليط الأضواء على بنودها، وبين أنها تهدف إلى ربط الحكومة السورية بـ «مصلحة المؤسسات الفرنسية» القائمة في سورية ولبنان، فضلاً عن منحها اللغة الفرنسية والمعاهد الفرنسية امتيازات كبيرة. وقد أدى نقده الموضوعي لهذه الاتفاقية إلى رفض الحكومة السورية لها.
والأدلة كثيرة تشهد جميعها على أن ميدان التربية عند الحصري، كان ساحة للنضال القومي، وأن الترجمة العملية لأفكاره القومية تجلت في أفكاره التربوية بوجه عام وفي نضاله الميداني من أجل توليد نظم تربوية متحررة من رواسب الاستعمار، قادرة على إبداع ثقافة عربية موحدة، هي حجر الأساس في بناء الكيان العربي القومي الموحد.
ولم يقتصر نضاله هذا من أجل توليد تربية عربية أصيلة موحدة، على الصراع بينه وبين سلطات الانتداب في العراق وسورية ومصر وسواها، بل شمل القيمين على النظم التربوية وعلى الثقافة في البلدان العربية نفسها. ويتجلى ذلك واضحاً في صراعه مع الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، وفي المعركة التي شنها من أجل الحفاظ على الأهداف القومية الأصلية لمعهد الدراسات العليا، ذلك المعهد الذي تولى إنشاءه والتدريس فيه وإدارته ثم هجره يائساً بعد سنوات قليلة، لئلا يكون شريكاً في جريمة انحرافه عن هدفه القومي وانقلابه إلى «مؤسسة تمنح الشهادات لجماعة من الطلاب، وتوزع أجور المحاضرات لطائفة من الأساتذة»(10) ومن خلال هذه الصورة التي رسمناها لعطاء هذا المربي القومي الكبير، يمكن الرد على قولين:
الأول هو أن عطاءه التربوي لم يكن في مستوى عطائه القومي.
والثاني هو أن دعوته القومية كانت مجرد دعوة فكرية نظرية لم تناضل من أجل تغيير الواقع نضالاً عملياً ميدانياً.
فأستاذنا الكبير، كان يوازن موازنة دقيقة بين النظر والعمل، بين الفكر والتطبيق. وسنرى أن أهم ملامح نظرته التربوية إيمانه بضرورة «التوزين» بين العوامل المختلفة على حد قوله… وهو يدرك أعمق الإدراك أن النظر بلا عمل مُقْعد، وأن العمل بلا نظر أعمى.
وهو يملك بالإضافة إلى ذلك كله عقل العالم المدقق، صاحب المنطق الصارم، الأمر الذي يجعله قادراً دوماً على ربط الأسباب بالمسببات، وعلى وضع نظام دقيق للأوليات، وعلى التمييز بين المستحيل والممكن. وهذا كله من خلال إيمان قومي قادر على أن يعبئ كل الطاقات والعوامل والوسائل في سبيل الهدف المنشود.
لقد كان سعيه التربوي حقاً أداة إيمانه القومي وسلاحه، وكان إيمانه القومي مصدر نضاله التربوي فكراً وعملاً. لقد كان – بكلمة واحدة – قومياً ومربياً قومياً. وتلك هي أهم معالم أصالته.
-II القسم الثاني
مسيرة ساطع الحصري التربوية
لنتريث الآن عند العطاء التربوي للمفكر الكبير، عبر المراحل التي مر بها، ومن خلال الصوى الأساسية التي تحدد مسيرة ذلك العطاء.
وفي وسعنا – لهذا الغرض – أن نقسم هذا العطاء إلى قسمين أساسيين: أولهما يشتمل على أنظاره التربوية العامة وعلى أمهات أفكاره في حقل التربية والتعليم، على نحو ما نجدها في أبحاثه ودراساته النظرية التي تضمها كتبه ومقالاته في المجلات المختلفة.
وثانيهما يتصدى لبلائه المشخص وعمله الميداني في مجال تطوير النظم التربوية في بعض البلاد العربية، على نحو ما نجد ذلك في الإصلاحات التربوية التي قام بها في العراق وفي سورية وفي بعض البلدان الأخرى.
(أولاً)- أنظاره التربوية العامة:
على عكس مما كتب الكثيرون من المتحدثين عن ندرة العطاء التربوي الفكري لمربينا الكبير، قدم هذا المربي زاداً كبيراً وغنياً من الدراسات التربوية النظرية، تتجلى بوجه خاص في طائفتين من الأبحاث: أبحاث تتصل بمبادئ التربية العامة، وأبحاث تعالج المسائل المتعلقة بفن التربية وأساليبه وطرائقه.
1- الأبحاث المتصلة بأسس التربية ومبادئها:
نقع على هذه الأبحاث بوجه خاص في اثنين من كتبه المنشورة، كما نقع عليها متفرقة ومبثوثة عبر نتاجه كله.
وأهم كتبه المنشورة التي تتصدى لمبادئ التربية العامة كتابان:
أولهما «أحاديث في التربية والاجتماع»(11). وثانيهما كتاب «آراء وأحاديث في العلم والأخلاق والثقافة»(12).
والكتاب الثاني هو الذي يشتمل على أمهات الأنظار التربوية لساطع الحصري. بينما يقتصر الكتاب الأول على معالجة موضوعات تتصل بالثقافة العربية بوجه عام (الثقافة العربية وما يسمى ثقافة البحر الأبيض المتوسط – العلاقات الثقافية بين البلدان العربية – التعاون الثقافي بين الأمم المتحدة، اليونسكو – الثقافة لعربية وثقافة الشرق الأدنى) بالإضافة إلى بحث لصيق بالتربية بالاستقلال الثقافي وسياسة التعليم في سورية، وهو بحث عاود الحديث عنه في الكتاب الثاني، وستكون لنا عنده وقفات عبر حديثنا عن العمل التربوي الميداني للمربي الكبير. لهذا سوف نقتصر فيما يلي على عرض أمهات الأفكار التربوية لساطع الحصري على نحو ما وردت في الكتاب الثاني، نعني كتاب «أحاديث في التربية والاجتماع».
1-1- كتاب «أحاديث في التربية والاجتماع»
يتناول هذا الكتاب بوجه خاص موضوعات ثلاثة أساسية (بالإضافة إلى موضوعات فرعية):
(أ)- العلاقة بين علم الاجتماع والتربية وفيه يبين الصلة الوثيقة التي ينبغي أن تقوم بين التربية وحاجات المجتمع، مؤكداً أن نجاح المدرسة في مهمتها يجب أن يقدّر بمبلغ خدمتها للمجتمع الذي أنشأها. فالمدرسة عنده – كما هي عن أصحاب المدرسة الاجتماعية في التربية وعلى رأسهم عالم الاجتماع الفرنسي «دوركهايم Durkheim» – مؤسسة اجتماعية تعكس حاجات المجتمع وتحقق أغراض وغايات المجتمع الذي ولدها. وبتعبير آخر – كما يقول بعض علماء الاجتماع الفرنسيي اليوم (من أمثال «بورديو Bourdieu» وباسرون «Passeron» وإيستابليه «Establet») – مهمة المدرسة (ولاسيما في البلدان الرأسمالية) أن تعيد توليد المجتمع الذي ولدها.
ويضرب الحصري أمثلة عن نشوء نظام التعليم الثانوي في مختلف البلدان الأوروبية، تبين التشابك الشديد والترابط المحكم الذي يقوم بين مسائل التربية والتعليم وبين قضايا السياسة والاجتماع. وهذا كله لينتهي إلى القول بأن البلدان العربية تسير في عكس هذا الاتجاه، فلا تربط نظمها التربوية بطبيعة مجتمعاتها، وتقتبس من سواها اقتباساً منقوصاً في هذا المجال مولّده نظماً تربوية هجينة لا أصيلة.
ثم ينتقل الحصري من تأكيد هذه الحقيقة إلى تأكيد حقيقة ثانية تتصل بالعلاقة بين التربية والمجتمع. وقوام هذه الحقيقة أن التربية الملبية لحاجات المجتمع ينبغي أن تنمي روح «النحنية» على حد تعبيره، أي أن تغلب «النحن» على «الأنا» وأن تربي الأطفال منذ نعومة الأظفار على الإيثار بدلاً من تربيتهم على «الأثرة» وحب النفس.
ومن هنا ينتقل إلى الوسائل التربوية التي من شأنها أن تقوي «الاجتماعية» في نفوس الناشئة وعلى رأسها الألعاب الاجتماعية المشتركة، وتعويد الأطفال والشبان العمل المشترك و«الإلبي» على حد تعبيره، وإشراك الطلاب في الإدارة والمراقبة، وسوى تلك من وسائل تنمية إدارة العمل المشترك، تلك الوسائل التي أكدها المربون المحدثون. ويضيف إلى هذه الوسائل وسيلة يهب لها شأناً خاصاً، ولاسيما في بلادنا العربية، هي الخدمة العسكرية، ويطنب في امتداح هذه الوسيلة، وفي أهمية الحياة العسكرية بوصفها حياة تضحية وإيثار وعمل مشترك، ويتحدث عن تجربة «كتائب العمل» في بلغاريا. وقد بلغ من اهتمامه بهذه التربية أنه أوصى في التقارير التي وضعها لإصلاح التعليم في سوريا، بإنشاء «نظام الفتوة» في المدارس الثانوية. وقد لقيت وصيته هذه أذناً صاغية، وما يزال هذا النظام سائداً في سورية حتى اليوم، لدى البنات والبنين على حد سواء.
(ب)- والموضوع الهام الثاني الذي يتناوله الكتاب الذي نحن بصدده، هو الحديث عن «تيارات التربية والتعليم» الكبرى في عصره، منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى تاريخ كتابة كتابه.
وليس المجال مجال التفصيل في الحديث عن تلك التيارات، ولاسيما أن كتب التربية، وكتب تاريخ التربية بوجه خاص(13)، حافلة بوصفها ونقدها. وحسنا أن نشير عابرين إلى أن الحصري يتريث فيها عند بزوغ «عصر الطفل» (على حد تعبيرالمربية السويدية «إيلين كي Ellen Key»)، وعند التعليم العام الإلزامي، وعند تنويع المدارس وتخصيص التعليم، وعند دور الأطفال ودور الحضانة ودور الرضاعة، وعند ما يعرف اليوم باسم التربية الخاصة (أو تربية المعوقين) والاهتمام بالمعلولين والعجزة والأغبياء والعميان، وعند الاهتمام بالأطفال «الشواذ» ووضعهم في صفوف خاصة.
وفي إطار هذا الموضوع الثاني الذي يتناوله الكتاب، نعني التيارات الكبرى في التعليم في عصر الحصري، يتحدث عن طرق التدريس، وعن تطورها بحكم عاملين أساسيين: توسع الدراسات النفسية من جانب وتطور وجهات النظر الاجتماعية من جانب آخر. الأمر الذي يقوده إلى الحديث عن أهم المراحل التي قطعتها «أصول التربية والتعليم» تحت تأثير هذين العاملين.
وينتقل من ذلك إلى الحديث عن المدارس التي طبقت نتائج هذه الدراسات الخاصة بطرق التدريس وأصول التربية والتعليم، وعلى رأسها المدارس التي عرفت باسم «المدارس الحديثة» و«المدارس الفعالة» ( إشارة منه إلى تلك التي استخدمت ما عرف باسم «الطرق الفعالة Methodes actives» في التربية).
ثم يختم هذا الموضوع بالحديث عن عظماء المربين الذين أطلقوا روح التربية الحديثة هذه، في شتى البلدان.
ويقف وقفة خاصة عند حدائق الأطفال ودور الصغار. ويتريث عند التعليم الاقتباسي والأساليب الإفردية في التعليم (وما يتحلق حول ذلك من حديث عن نظام الصفوف والفوارق النفسية والفردية، وعن المدرسة «المفصلة على قد الطلاب Sur mesure» وعن الصفوف المتوازية، والصفوف المتحركة والمتحولة، والدروس الإضافية). وفي هذا المجال يخص خطة «دالتون» بوقفة مستأنية، كما يتحدث عن خطة «ونتكا» وسائر الطرائق التي تجعل التعليم إفرادياً.
(ج)- والموضوع الهام الثالث الذي يخصه بالعناية في كتابه هذا هو موضوع «نظم التعليم في سياسة الاستعمار» والتي يلخصها وصفه لها بأنها نظم تقدم تعليماً من غير تثقيف. ولن نتوقف طويلاً عند هذه المسألة التي يمكن اعتبارها محوراً أساسياً من محاور الفكر التربوي عند ساطع الحصري، فلقد رأينا منذ حين كيف ترجمها إلى نضال ضد التربية التي أشاعها الانتداب في كل من سورية والعراق. كما أننا سنعود إلى الحديث عنها، عند تصدينا للشق الثاني من عطاء ساطع الحصري التربوي، نعني شق عمله الميداني لإصلاح نظم التربية في البلاد العربية. وحسبنا أن نشير ههنا إلى أنه يتصدى لهذا المسألة في كتابه هذا في نطاقها العالمي الشامل، لا في نطاق الوطن العربي وحده، متحدثاً عن غايات الاستعمار بوجه عام ومشيراً إلى انعكاس هذه الغايات على تعليم أبناء المستعمرات. ومن أجل ذلك يستشهد بما فعلته سياسية الاستعمار الأميركية مع الزنوج، حين حرمت عليهم تعلم القراءة والكتابة، معرجاً على مناهج التعليم التي وضعها الفرنسيون لأبناء الجزائر، متريثاً عند موقف السلطات التربوية الإيطالية من التعليم الديني في طرابلس الغرب. على أنه يتوقف عند نقطة هامة، تظهر من جديد ترابط العمل التربوي والقومي عنده، تتصل بدعوة الاستعمار في البلاد العربية إلى تغليب اللغة العامية على الفصحى، وهي دعوة لقيت بعض الآذان الصاغية لدى بعض الكتاب العرب، وما يزال لها مؤيدوها وأنصارها. وههنا يقول بوضوح وعزم: يجب على كل مفكر عربي أن يحارب اللغة العامية التي يرجو المستعمرون من ورائها خيراً عظيماً لسياستهم، على حساب الضرر البالغ بمصالح الأمة العربية ومستقبلها(14).
(د)- وثمة قسم ثان من الكتاب الذي نحن بصدده، جعل مؤلفه عنوانه: مشاهدات وملاحظات. وفيه يبدي ملاحظات تربوية حول بعض المشاهدات التي كانت له في زيارته للمدارس. غير أن أهم ما فيه ذلك البحث الخاص بـ «التأليف والتوزين في أعمال التربية والتعليم». وفي هذا البحث يقدم فكرة لعلها من أهم مقومات فلسفته التربوية، قوامها أن التربية السليمة ينبغي أن تنأى عن «الأحكام الثابتة» و«القواعد المطلقة» وأن تأخذ «بالتوزين بين غايات التربية المتنوعة» وأساليبها المتعددة. وذلك لا يتيسر إلا بالجمع بين وجهات النظر المختلفة، والإحاطة بالنتائج المتنوعة. فأفاعيل الحياة النفسية في منتهى الدقة والإعضال، كما إن مطالب الحياة الاجتماعية في غاية التنوع والتعقيد. «وهذا التعقيد وهذه الدقة وهذا التنوع، يحتم على كل مربٍ – يروم القيام بواجباته حق القيام – أن ينظر في كل أمر من الأمور من وجوه عديدة…».
(هـ)- ويشتمل الكتاب الذي نتحدث عنه على قسم ثالث أفرده صاحبه لتراجم كبار «أساطين التربة الحديثة»، كما يشتمل على قسم رابع جعل عنوانه «انتقادات» يتحدث فيه ناقداً عن كتاب «روح التربية» لغوستاف لوبون الذي ترجمه الدكتور طه حسين، كما يقدم فيه نقده الشهير الهام لكتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» الذي صدر عام 1983.
2- الأبحاث الخاصة بفن التربية وطرائقه ووسائله:
سبق أن قلنا إن الأنظار التربوية التي أتى بها ساطع الحصري تشمل نوعين من الأبحاث: أولهما الأبحاث المتصلة بمبادئ التربية العامة، وقد أتينا على الحديث عنها في الجزء السابق. وثانيهما الأبحاث المتصلة بفن التربية، وهي التي سنعرض لها الآن، مدركين أن الفصل بين هذين النوعين من الأبحاث هو من قبيل تسهيل العرض، ما دامت مسائل التربية متشابكة متداخلة عنده.
ولقد كتب ساطع الحصري الشيء الكثير – منذ طور مبكر – عن فن التدريس وطرق التدريس. ولا عجب في ذلك، فهو دوماً أقرب إلى الأمور العملية المشخصة في ميدان التربية منه إلى الأنظار الفكرية (التي لم يهملها كما رأينا) وذلك بحكم تكوينه العلمي وروح الدقة والوضوح عنده.
(أ)- وقد بدأ أبحاثه في هذا الميدان منذ الفترة التي قضاها في تركيا، وكانت كتبه كلها بهذه اللغة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
وبالإضافة إلى سلسلة الكتب المدرسية التي كتبها آنذاك (في العلوم الطبيعية والزراعية وعالم الحيوان والنبات)، وبالإضافة أيضاً إلى مقالاته العلمية التي نشرها في المجلات (نحو القطب – التلغراف اللاسلكي – الأشعة المجهولة – الخ..) كتب كتاباً في مجلدين عن «فن التربية»(15) (يتضمن مجموعة الدروس التي ألقاها في دار المعلمين)، وكتاباً في «علم الأقوام» ( وهو مجموعة دروس له في المدرسة الملكية)، وكتاباً عنوانه «الوطن» يتناول قضايا التربية المدنية والوطنية.
(ب)- أما في اللغة العربية فقد كتب الكثير من الكتب والمقالات عن فن التربية بدءاً من مغادرته لتركيا إلى سورية عام 1919 مشاركاً في الحكومة الفيصلية. وعلى رأس تلك الكتب:
– دروس في أصول التدريس (في جزأين): أولهما عن أصول التدريس العامة، وقد صدر في بغداد عام 1924، وثانيهما عن أصول تدريس اللغة العربية، وقد صدر في بيروت عام 1948. وقد لقي الكتاب بجزأيه رواجاً كبيراًُ وكان المعين الأول للمعلمين في العراق وسورية وسواهما (ولاسيما في أقطار المغرب العربي). وقد صدرت منه طبعات عديدة.
– مبادئ القراءة الخلدونية (الألفباء) وقد صدر في بغداد عام 1922 (ثم في البصرة عام 1923).
– طريقة تعليم الالفباء. مرشد القراءة الخلدونية. وقد صدر في بغداد عام 1922.
– دروس الأشياء للسنة الخامسة الابتدائية (بغداد 1928 ثم 1931).
– دروس الأشياء – مبادئ العلوم للسنة السادسة الابتدائية (بغداد 1929).
– دروس الأشياء للسنة الرابعة الابتدائية (بغداد 1930).
– مساعد القراءة الخلدونية (بغداد 1934).
– دروس الأشياء – مبادئ الزراعة للسنة الابتدائية (بغداد 1939).
– الإحصاء (ملخص محاضرات ألقاها في كلية الحقوق ببغداد خلال العام الدراسي 1938 – 1939).
هذا، وقد أصدر منذ عمله في عهد الدولة العثمانية مجلة تربوية هامة باللغة التركية في ثلاث مجلدات، كانت أول مجلة تربوية تصدر باللغة التركية، هي «مجلة التدريسات الابتدائية» التي يدل عنوانها على مبلغ عنايتها بفن التدريس وطرائقه. كما أصدر مجلة «التربية» التي ظهر منها عشرة أعداد، الأربعة منها مصورة.
وقد كتب في تلك الفترة مقالات هامة، معظمها تربوية واجتماعية، في مختلف الجرائد والمجلات.
وبعد انتقاله إلى البلاد العربية، أصدر خلال عمله في العراق «مجلة التربية والتعليم» (التي ظهر منها خمسة مجلدات بين عام 1928 و1931).
(د)- ومن خلال هذا النتاج الهام الذي تناول الحصري فيه «فن التربية» وطرائقها، نستخلص الكثير من مقومات التربية الحصرية وخصائصها في هذا المجال:
– فهو يؤكد أولاً الطابع الإنساني للتربية عنده، ويدعو إلى البحث في طبيعة الإنسان العربي، مادام لكل طفل «سحنته» (frofil) النفسية، وما دامت للطالب العربي سحنته الخاصة به.
– وهو يبين – في حديثه عن فن التربية – أهمية التربية الجسمية والفكرية والخلقية والاجتماعية، ويبين وسائل هذه التربية وعلى رأسها: الأسرة – رياض الأطفال – معاهد التعليم. وفي هذه الأخيرة، نعني معاهد التعليم، يتريث عند طرائق التربية البدنية والخلقية والاجتماعية.
– وفي حديثه عن دور طرق التدريس يفصل البحث في أمور ثلاثة: قواعد التعليم العامة (معدداً لها) – طرق التدريس الأساسية (مشيراً إلى أهمية الاستقراء) – خطوات الدرس، متحدثاً حديثاً مفصلاً عما ينبغي أن يتوافر في المقدمة، وفي مادة الدرس، وفي الإلقاء، وفي الاستجواب، وفي وسائل الإيضاح، وفي استعمال الكتب، وفي تلخيص الدرس، وفي الواجبات الكتابية المنزلية.
(ج)- وإن ننس لا ننس عناية الحصري بالاختبارات العقلية (الروائز كما نسميها Tests). فقد يتبادر للذهن أن رجلاً كالحصري قد لا يخطر بباله أن يغوص في هذا الجانب التقني الدقيق الخاص بالاختبارات العقلية. ولكنه – كما قلنا ونقول – إنسان جامع لجوانب المعرفة التربوية (وسواهما)، يأبى عليه عقله العلمي إلا أن يحيط بسائر جوانب التربية، نظريها وعمليها.
وهكذا وقف وقفة طويلة عند الاختبارات العقلية (وكانت آنذاك في بواكيرها) وصنفها في اختبارات فردية خاصة، وفي اختبارات جمعية عامة. واعتمد على نماذج من الاختبارات الفردية والجمعية وضعها مربون عالميون.
وعني بوجه خاص بالاختبار العقلي الجمعي الذي وضعه المربي الإنكليزي «بالارد Ballard» وطبقه على مدارس إنكلترا عام 1923. وهو اختبار يتألف من مائة سؤال. بل قام بنفسه بترجمة كتاب «بالارد» (التربية عن طريق الاختبار) إلى العربية. ووضع انطلاقاً منه نماذج مختارة من الأسئلة.
وطبقه في المدارس الابتدائية في بغداد، وأتاح للمربين العرب تطبيقه في سائر البلدان العربية.
(د)- وقبل أن نختم حديثنا عن عطاء الحصري في ميدان «فن التربية» وأساليب التعليم، لابد أن نتريث عند جانب من هذا العطاء، جدير بكل إكبار واهتمام. ونعني به ما أتى به من عمل فذ في مجال تعليم اللغة العربية. فلقد أشرنا عابرين منذ حين إلى اثنين من مؤلفاته: «مبادئ القراءة الخلدونية» و«طريقة تعلم الألفباء». ولكن هذه الإشارة العابرة لا توفيه حقه في هذا الميدان.
لقد عني الحصري بطرائق تعليم اللغة العربية، لأن تعليم القراءة والكتابة مفتاح التعلم والتعليم، ولأن إتقان اللغة العربية عنده ولا سيما الفصحى – وهي أهم مقوم من مقومات القومية العربية، وأهم عامل من عوامل الوحدة – لابد أن يحتلّ مقام الصدارة عند المربين العرب.
ومن هنا، وبعد الدراسة الفنية والعلمية لهذا الموضوع، اختار الطريقة الصوتية في تعليم الألفباء العربية ( بدلاً من الطريقة الهجائية التي كانت سائدة)، ورأى لذلك وجوب الابتداء في تعليم الألفباء بالكلمات المعلومة. وهكذا أدخل الطريقة الصوتية (التحليلية والتركيبية) في تعليم الألفباء العربية إلى المدارس في سورية والعراق، الأمر الذي أحدث ثورةً في مجال في تعليم اللغة العربية.
وفوق هذا وذاك، تحدث الحصري عن سبل وضع مصطلحات علمية عربية جديدة حديث العليم بفقه اللغة العربية وقواعدها، مستهدفاً من وراء ذلك تطوير اللغة العربية وإنماءها بحيث تغدو لغة موحَّدة وموحِّدة. وقد ألف لهذه الغاية لجاناً اختصاصية لتقرير المصطلحات العلمية في سورية منذ عام 1920، وفي العراق منذ عام 1926.
ونقول هنا عابرين إن مما يثير الدهشة والعجب والإعجاب ما كتبه الحصري «حول قواعد اللغة العربية» و«حول الاصطلاحات العلمية» وحول ما سماه «ملاحظات لغوية»(16)
وقد لا يتوقع المرء من رجل تعلم العربية في مرحلة غير مبكرة من حياته، أن يكتب كتابات فقهية لغوية دقيقة في الاشتقاق والتعريب والنحت، وأن يرجع في ذلك إلى كتب فقه اللغة القديمة (مثل كتاب «الصاحبي» وكتاب «الثعالبي» وسواهما)، وأن يتبع ذلك بالحديث عن النحت في الكتب الحديثة (مثل كتب جرجي زيدان ومحمود شكري الألوسي وعبد القادر المغربي ومصطفى صادق الرافعي)، وأن يفرد بحثاً لأساليب النحت، وأن يربط ذلك كله بمسألة الاصطلاحات العلمية.
ومنها نجد عنده طائفة من الترجمات الموفقة لبعض المصطلحات العلمية الأجنبية، لا ندري إن كانت مجامع اللغة العربية في البلدان العربية قد أفادت منها.
ولا يقف عند هذا الحد، بل يقدم دراسة نقدية لبعض الاصطلاحات العربية الشائعة، مبيناً تصورها عن أداء المعنى الذي تشتمل عليه الاصطلاحات الأجنبية.
وأعجب العجب ما نقرؤه في كتابه الذي أشرنا إليه، تحت عنوان: «قطوف لغوية في تونس»، على أثر رحلة إلى تونس قام بها عام 1950، حيث ينقد المصطلحات التونسية الشائعة ويعددها.
(ثانياً) – العمل الميداني للأستاذ ساطع الحصري:
قلنا منذ بداية القسم الثاني من بحثنا، وهو القسم الذي أفردناه للحديث عن مسيرة ساطع الحصري التربوية، أننا سوف نتحدث عن جانبين في هذه المسيرة: الأول هو أنظاره وأفكاره ومبادئه التربوية العامة – التي يمكن أن نصفها بأنها نظرية على الرغم من أن لها مضمونها العملي – والثاني هو ما قام به من عمل ميداني مباشر في ميدان التربية، ولاسيما عن طريق الإصلاحات الكبرى التي تعهدها في العراق وسورية، وفي مصر إلى حد ما، وفي بعض البلدان العربية الأخرى وفي جامعة الدول العربية. وهذا الجانب الميداني العلمي هو الذي سوف نتحدث عنه في هذا الجزء من دراستنا.
ونخف إلى تأكيد ما قلناه في الجزء الأول من بحثنا، وهو أن الجانب النظري والجانب الميداني العملي في عطاء الحصري التربوي، متشابكان بل متضامنان، يرفد كل منهما الآخر، ويغتذي فيهما النظر بالعمل والأفكار والمبادئ بالتجربة الميدانية، ويرتد فيهما في الوقت نفسه حصاد الفكر النظري والمبادئ التربوية المستمدة من التجربة العالمية، ارتداداً معكوساً – بضرب من التغذية الراجعة – على العمل الميداني وعلى الإصلاحات التربوية الفعلية. الأمر الذي يجعل مسيرة ساطع الحصري التربوية مسيرة متلاحمة الجوانب، يؤلف كلاً منها متناسقاً مؤتلفاً. وهذا أيضاً جانب آخر من جوانب الأصالة في التربية عند ساطع الحصري. وفي هذا رد على بعض الأحكام المتعجلة التي قد يؤدي إليها التقري السريع والناقص لأفكاره التربوية، كالاعتقاد بأن مربينا الكبير لم يعد أن نقل الأفكار التربوية العالمية التي كانت شائعة في عصره. في حين أن مربينا الكبير قد استطاع – بفضل مصفاته العقلية المنطقية الرائعة، وبفضل نظريته القومية الثاقبة التي كانت تضئ له الطريق، وبفضل هضمه وتمثله للتجربة العربية والعالمية، وبفضل ممارسته للعمل الميداني بوجه خاص – أن يولد تربية نظرية عملية ذات طابع فريد، أهم ما فيها تكامل عناصرها، حتى لكأنها البنيان المرصوص يشد بعضه يعضاً.
وسنعود إلى هذا كله في خاتمة بحثنا، عند حديثنا عن أصالة التربية الحصرية. أما الآن فسوف نمضي في عرض جوانب عطائه التربوي الميداني، وسنرى أنه يجاوز كماً وكيفاً عطاءه النظري، على الرغم من تكامل العطاءين في خاتمة المطاف.
ويشمل هذا العطاء محطات رئيسية كبرى سوف نتحدث عن كل منها. ونوجزها ههنا فنقول:
إنها تضم – بالإضافة إلى عمله الميداني في الحقبة العثمانية – ما قام به في سورية الفيصلية (من 1919 – 1920) – وما قام به بعد ذلك من دراسة ونقد للنظم التربوية المصرية، ومن بيان لسبل الإصلاح المقترحة (من كانون الأول/ ديسمبر 1920 – آب/ أغسطس 1941) – والإصلاحات الكبرى التي قام بها خلال نيف وعشرين سنة قضاها في العراق (من 1921 – 1941) – والإصلاح التربوي الهام الذي وضع أسسه في الجمهورية العربية السورية أيام عمل مشاوراً فنياً فيها (من 1944 – 1947) – وعمله التربوي والإداري في الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية (من 1948 – 1957) وما رافق ذلك من إصدار حوليات الثقافة العربية (بين عام 1949 – وعام 1963)، ومن تأسيس متحف للثقافة العربية (عام 1949) ومن إحداثه لمعهد الدراسات العربية العليا (عام 1953).
ومن العسير أن نتحدث حديثاً وافياً عن هذه الساحات المختلفة للعمل التربوي الميداني الذي قام به لوحده ساطع الحصري خلال سنوات معدودات، والتي تعجز الهمم الكثيرة والكبيرة عن القيام بطرف منه. ولا عجب، فقد كان دأبه على العمل نادر المثل، يشد من أزره إيمانه برسالته القومية والتربوية. ويروي عنه من عرفوه عن كثب، أيام عمله مشاوراً فنياً في سورية، أنه كان يعمل في اليوم الواحد قرابة عشرين ساعة(17).
ومن هنا فإن حديثنا عن هذا العمل الميداني الجبار سوف يكون بالضرورة حديثاً مخلاً، أقرب ما يكون إلى لغة البرقيات. فالحديث الوافي عن ذلك يستغرق مجلدات برأسها(18).
لنمض إذن – على الرغم من ذلك كله – في عرضنا المقتضب للمراحل المختلفة – التي أشرنا إليها – التي مر بها العمل الميداني لساطع الحصري.
1- ساطع الحصري في الدولة العثمانية (1900- 1919):
(1)- فيما يتصل بالحقبة العثمانية: أبلى الحصري خلالها بلاء حسناً، منذ أن بدأ حياته في وظائف الحكومة قبل انقلاب المشروطية، أي قبل انقلاب الدستور عام 1900، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى ومغادرته إلى سورية عام 1919،. ونكتفي بأن نشير إلى عملتن ميدانيين هامين (سيكون لهما ما بعدهما) قام بهما خلال تلك الحقبة:
أولهما حين تولى مديرية دار المعلمين عام 1909 وأسسها على أسس جديدة وألفها من ثلاثة أقسام، الأمر الذي أحدث، كما يقول هو نفسه «انقلاباً جذرياً في اتجاهات التعليم في جميع الممالك العثمانية، وطورها من أساسها»(19).
وثانيهما الإصلاح الجذري الذي قام به لـ «دار الشفقة» التي كانت تابعة لجمعية التدريس الإسلامية، والذي قاده إلى تأسيس «المدرسة الحديثة» التي كانت تضم ثلاثة أقسام: «عش الطفل»، أي روضة الأطفال – والمدرسة الابتدائية الجديدة – و «دار المربيات» لتخريج مربيات ومعلمات يتولين تربية الأطفال في الأعشاش.
(2)- ساطع الحصري في سورية خلال الحقبة الفيصلية (1919 – 1920):
أما في الحقبة الفيصلية في سورية، فقد تولى منصب مفتش المعارف العام (من 16/ 4/ 1919 إلى 30/ 4/ 1919) ثم منصب مدير المعارف العام (من 1/ 5/ 1919 إلى 9/ 3/ 1920) حتى إعلان استقلال سورية، ثم منصب وزير المعارف (من 10/ 3/ 1920 إلى 27/ 7/ 1920) أي منذ إعلان الاستقلال حتى استيلاء الفرنسيين على البلاد. وقد أصدر خلال تلك الفترة – باسم مديرية المعارف – مجلة أسماها «التربية والتعليم» (1919 – 1920) نشر فيها عدة مقالات واستهدف من ورائها تدريب المعلمين بوجه خاص. وكانت اللغة العربية هي المشكلة الرئيسية التي واجهت الحكومة الفيصلية في أول عهدها، إذ كانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية في الدولة وفي التعليم. لذلك كان لابد من تعريب الدوائر الحكومية والمدارس. وقد تم ذلك بسرعة مذهلة، إذ تم إنشاء الشعبة الأولى للترجمة والتأليف في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1918، ثم ضمت إليها أمور المعارف وأصبحت «ديواناً للمعارف» تولى أمره ساطع الحصري، مستعيناً بأساتذة اللغة العربية وأدبائها من أجل مراجعة الكتب العربية القديمة ونشرات الحكومة المصرية، بغية اختبار أفضل المصطلحات وتقرير أحسن الأساليب. واستحدثت الحكومة، بفضل توجيهات الحصري، دروساً خاصة بالموظفين تستهدف تعليم الإنشاء العربي. وقد عهد إلى هذا الديوان من جهة ثانية أمر العناية بأساليب التربية الحديثة، والنظر في بعض قوانين المعارف وترجمتها، وتصحيح الكتب المدرسية المعدة للطبع وإحداث مدارس جديدة وتفتيشها وتنظيم ميزانيتها وتعيين معلميها(20).
ومن أجل ذلك بدأ الحصري – كعادته – بدراسة لنظم التعليم في سورية. وسافر إلى القاهرة لدراسة نظم التربية والتعليم هناك. وبعد الدراسة والتقصي، وجه عنايته إلى تعليم القراءة العربية بالطريقة الصوتية (كما سبق أن ذكرنا) مستفيداً من تجربته في تركيا في هذا المجال.
وعني منذ تلك الفترة عناية كبرى بالمعلم وإعداده، بوصفه عصب العملية التعليمية وأداتها الأساسية، فنظم دورة تدريبية خلال صيف 1919، دعى لها مفتشي المدارس الابتدائية ومديريها ومعلميها وطلاب دور المعلمين، وألقيت خلال الدورة محاضرات في طرق التدريس، وقدمت بعض الدروس النموذجية. وأتبع كله بوضع خطة لتوسيع التعليم، وزيادة عدد المدارس والمعلمين، وإعداد المعلمين. والتفت فوق هذا كله إلى التعليم العالي فأعاد إحياء المعهد الطبي (في أيلول/ سبتمبر 1919) في بناء مستشفى الوطني بدمشق، وافتتح معهد الحقوق في تشرين الثاني/ نوفمبر 1919، على أن يجري التدريس فيهما باللغة العربية.
(3)- ساطع الحصري في العراق (1921 – 1941):
لاشك أن العمل الميداني الكبير والفريد الذي قام به ساطع الحصري هو عمله في العراق. فبعد الاحتلال الفرنسي لسوريا، وبعد فترة قصيرة قضاها في مصر (من كانون الأول/ ديسمبر 1930 – آب/ أغسطس 1931) قام خلالها بدراسة النظم التربوية المصرية ونقدها، توجه الحصري إلى بغداد في شهر آب/ أغسطس 1921، تلبية لدعوة الملك فيصل له من أجل إرساء ركائز التربية العربية في العراق على أسس حديثة. وطبيعي أن تلقى هذه الدعوة هوىً في نفسه، وأن يجعل منها نقطة انطلاقة لإحياء الأمة العربية، وأن يجد في البيئة العراقية مكاناً خصباً لتطبيق أفكاره وخططه التربوية التي كانت تعتمل في فكره منذ أمد طويل.
وقد شغل خلال تلك الفترة مناصب تربوية عديدة هامة، لا مجال لتعدادها هنا(21).
أبرزها عمله مديراً عاماً للمعارف، وأستاذاً للتربية في دار المعلمين العالية، ومراقباً للتعليم العام، ورئيساً لكلية الحقوق، ومديراً للآثار القديمة، ومستشاراً للملك في شؤون المعارف.
ولقد كانت فترة عمله في العراق عامرة بالإصلاحات التربوية الهامة التي حققها، وعامرة كذلك بالصراعات ولاسيما تلك التي قامت بينه وبين الخبراء الإنكليز العاملين في وزارة المعارف ووزارة الداخلية ووزارة الخارجية. من أمثال «فارل» و«نجاربيت» والآنسة «جرترودبل» و«كورنواليس» و«المستر غلين» وسواهم(22).
والحديث عن إصلاحاته التربوية في العراق حيث ذو شجون، ولكنه يلتهم صفحات طوالاً. لذلك سوف نمر مروراً عابراً بأهم الصوى والمعالم في تلك الإصلاحات، مكتفين برؤوس أقلام خاطفة:
3-1- بدأ الحصري – جرياً على تقاليده العلمية – بمسح شمل وتقويم كامل لمجال التربية في العراق عام 1921 (بعد دراسة الواقع العام لذلك القطر والتعرف على مواطن الضعف فيه).
3-2- وبدأ بعد ذلك – على الرغم من العراقيل التي وضعتها السلطات البريطانية – في وضع خطة لإصلاح التعليم، شملت مراحل العليم المختلفة(23):
(أ)- ففي التعليم الابتدائي عني بتطوير نوعية هذا التعليم (فضلاً عن العناية بتوسعه الكمي)، ووضع لهذه الغاية منهجاً جديداً (استهدف بوجه خاص القضاء على ثنائية التعليم الابتدائي التي أحدثتها السلطات البريطانية والتزمت بها). ورفد هذا المنهج الجديد بكتب مدرسية ملائمة، وبتوفير وسائل الإيضاح التربوية. كما وضع خطة لإعداد المعلمين وتدريبهم في أثناء الخدمة، وبالتالي لتطوير دور المعلمين والمعلمات.
كما عني – في إطار منهجه الجديد هذا – بتوجيه المعلمين وإرشادهم وبالارتقاء بأساليب التوجيه (التفتيش).
ومن أهم ما تضمنته خطته الجديدة في ميدان التعليم الابتدائي إدخال المدارس الأهلية والطائفية في الخط القومي العام للتربية. وقد خاض من أجل ذلك – كما رأينا – معارك ضارية مع السلطات البريطانية، كان له النصر فيها في النهاية (بحكم حنكته وإيمانه وقوة حجته وبراعته في الحوار) وذلك حين تمّ له إصدار «نظام المدارس الأهلية والأجنبية» الجديد.
ومن الأمور الشائكة التي نجح في علاجها في هذا المجال مشكلة مدارس الطائفة الإسرائيلية، ومشكلة المدارس الإيرانية، ومشكلة المدارس الكردية.
(ب)- وفي التعليم الثانوي أعاد الحصري تنظيم التعليم الثانوي العام والتعليم المهني. ففي الأول قام بتوسيع التعليم الثانوي العام في المدن الكبرى بوجه خاص، ودعا إلى إنشاء مدرسة ثانوية داخلية تستطيع أن تجمع الطلاب من مختلف الألوية. كما قام بتطوير المناهج في هذا النوع من التعليم، ووجّه عناية خاصة إلى العلوم الطبيعية (وأثار استغرابه تجاهل تقرير «مونرو» التام لهذه المادة عند وضعه منهجه). وفي الثاني – نعني التعليم المهني – تصدى لمشكلة عزوف الطلاب عن التعليم الصناعي، ولجأ في سبيل حلها إلى إحداث قسم داخلي في مدارس الصناعة يقيم فيه بعض الطلاب مجاناً.
كما عارض فكرة إلغاء «مدرسة الهندسة» معارضة شديدة. وتصدى للتعليم الزراعي وحاول إقناع وزارة الزراعة بتأسيس كلية للزراعة، دون أن يمضي مع القائلين بأن من الممكن إحداث نهضة زراعية عن طريق تعليم الزراعة في المدارس القروية. فهو يعتقد أن أهم ما يمكن أن تقوم به الدولة من أجل تطوير الزراعة تأسيس حقول تجريبية زراعية نموذجية، ومدارس زراعية من مستويات مختلفة وأنواع متعددة (مع الاستمرار في تطوير التعليم الزراعي في المدارس الابتدائية كوسيلة تربوية فقط).
(ج) وفي مجال الامتحانات أدخل الحصري إصلاحات جذرية، تتفق مع التطور العالمي في هذا المجال. ورأى أن ما يدعى باسم «الامتحانات الموضوعية Objective tests» يفيد في تقدير المعلومات القطعية والمكتسبات الواقعية، ولكنه لا يغني عن الامتحانات العادية. والطريقة المثلى عنده هي مزج الأساليب المختلفة تبعاً لمقتضى الحال.
(د)- وفي التعليم العالي أسس الحصري «دار المعلمين العالية» عام 1923، وقام بالتدريس فيها، قبل أن تقرر وزارة المعارف إلغاءها. وقد اعتبر الحصري هذا الإلغاء من أعظم الأخطاء التي ارتكبتها الوزارة. وفي عام 1923 قررت الحكومة العراقية تأسيس جامعة تسمى باسم «جامعة آل البيت» وخصصت لها أراضي شاسعة من ممتلكات الأوقاف. وشيدت وزارة الأوقاف مبنى إحدى كلياتها، وهي «الكلية الدينية». وكان القصد من تأسيس هذه الكلية التقريب بين المنتسبين إلى المذهبين السني والجعفري. وقد أراد بعض المسؤولين أن يلحق بتلك الجامعة على الفور «دار المعلمين العالية»، ومدرسة الهندسة، ومدرسة الحقوق التي كانت قائمة فعلاً في ذلك التاريخ. فاعترض الحصري بشدة على إلحاق دار المعلمين العالية بجامعة آل البيت.
وأما مدرسة الحقوق فقد جرى تأسيسها في العام الدراسي 1919 – 1920 وكانت تابعة لوزارة العدل. وفي عام 1926 ربطت بوزارة المعارف. وقد درس الحصري فيها مادة الإحصاء، وتولى رئاستها سنوات أربعاً، وحاول إعادة تنظيم فروعها، وقام بإصلاحها جذرياً عندما تولى وظيفة «مدير الآثار القديمة ومراقب التربية والتدريس العام» (من 16/ 9/ 1935 إلى 11/ 6/ 1941).
ولقد كانت فكرة تأسيس كلية الطب تراود الحصري منذ مطلع وصوله إلى بغداد في النصف الثاني من عام 1921. غير أنه وجد، بعد دراسته لأوضاع التعليم الثانوي، أن من الخطأ تأسيس مدرسة للطب على الفور.
وفي عام 1927 أنشئت «كلية الطب» على الأسس المتينة التي وضعها الحصري.
3-3- وبالإضافة إلى هذه الإصلاحات التي تناولت مراحل التعليم الثلاث، قام الحصري بالإضافة إليها أو من خلالها بإصلاحات أخرى وأعمال ميدانية عديدة.
من أهمها وعلى رأسها خطته التربوية الخمسية التي قدمها في 15 كانون الثاني عام 1936. ومن جدائدها الأبحاث التربوية والنفسية التي قام بها، والتي قادته – فيما قادته – إلى وضع اختبارات عقلية (روائز) وتطبيقها كما سبق أن ذكرنا، ومن أبرزها تطبيق مقياس «كلاباريد Claparéde» في الحساب على (972) طالباً في مدينة بغداد، وتطبيق مقياس «مونرو» واختبار تمييز السخافات، واختبار «دوكرولي Decroly» لترتيب الصور. كما أنه طبع – أثناء قيامه بالتدريس في «دار المعلمين العالية» – كمية من الكراسات اللازمة لبعض الاختبارات الأساسية. ومن منجزاته كذلك، أثناء عمله في «دار المعلمين العالية»، تأليف كتاب عن «أصول التدريس» يعتبر في ذلك الحين فريداً في مجال المؤلفات التربوية باللغة العربية.
3-4- على أن علينا أن لا ننسى إصلاحات الحصري الإدارية والتنظيمية، ونقده فيها للبيروقراطية السائدة، ودعوته إلى منح مديري المعارف صلاحيات واسعة، وعنايته الخاصة بالأبنية المدرسية.
3-5- وأخيراً وليس آخراً، لابد أن نذكر سعيه الموصول آنذاك «وفيما بعد» لتوثيق الروابط الثقافية بين البلدان العربية، واهتمامه باللغة العربية وبتوحيد مصطلحاتها العلمية والفنية (كما سبق أن رأينا)، وتشجيع تبادل المدرسين والطلاب، وإحياء التراث الثقافي العربي. وظل هذا الهم القومي همه الدائم الأول. وفي هذا المجال لابد أن نذكر كيف سارع الحصري إلى القيام بالدراسة اللازمة من أجل وضع قاموس عربي عام 1931، حين طرحت هذه الفكرة، وكيف وضع خطة عمل لتحقيق هذا المشروع. ولم تكن غايته من ذلك وضع مجرد ألفاظ عربية تقابل المصطلحات العلمية والفنية الأجنبية، بل كان هدفه أيضاً وخاصة توحيد الألفاظ واستخدامها من قبل سائر البلدان العربية(24).
وبعد هيهات أن نكون قد استفدنا ف هذه العجالة الأعمال التربوية الضخمة التي قام بها الحصري أثناء عمله في العراق. بل لعلنا لم نقدم إلا عرضا خاطفاً منقوصاً ومشوّهاً لعطائه التربوي الميداني الرائع في ذلك القطر. وعزائنا في ذلك أن في وسع من يريد التزيد من هذا العطاء، أن يرجع بوجه خاص إلى مذكراته في العراق. وتقع هذه المذكرات في جزأين: الأول (من 1921 – 1927) نشر في بيروت عام 1967 في (627) صفحة.
(4)- ساطع الحصري في سورية (1944 – 1947):
بعد حصول سورية على استقلالها – مبدئياً – استدعت حكومتها، برئاسة سعد الله الجابري آنذاك، المربي الكبير ساطع الحصري للعمل مشاوراً فنياً لوزارة المعارف، من أجل إصلاح التربية والتعليم في ذلك البلد، وأسندت إليه وظيفة مشاور فني في وزارة المعارف، ليقوم بدراسة أحوال المعاهد العلمية والتعليمية في الجمهورية السورية، ودرس جميع الشؤون المتعلقة بالتربية والتعليم والآثار والثقافة العامة في البلاد،وتقديم ما يراه لازماً من اقتراحات بهذا الصدد، واقتراح ما يجب لتنظيم العلاقات الثقافية ما بين سورية والبلاد العربية الأخرى. وقد قدم خلال السنوات الثلاثة التي قضاها في سورية محض تجاربه التربوية وخلاصة أنظاره ومواقفه. واستطاع خلال ذلك الوقت القصير أن يضع خطة كاملة لإصلاح التعليم بمراحله المختلفة، ما تزال عناصرها الأساسية واتجاهاتها الكبرى باقية حتى اليوم.
ومن العسير ههنا أيضاً أن نلخص عطاءه خلال هذه الفترة دون أن نخل به أو نغمطه حقه. ولكن لابد مما ليس منه بد، في حدود هذا البحث. وههنا أيضاً في وسع من أراد الزيادة في هذا المجال الرجوع إلى بعض المظانّ الأساسية التي سوف نشير إليها عابرين، ولاسيما تقاريره التي بلغت (16) تقريراً، وقانون المعارف العام الذي لخص معظم مقترحاته، بالإضافة إلى تلك الرسالة الجامعية التي أشرنا إليها أكثر من مرة، نعني رسالة السيدة مسرة الأمير عن «ساطع الحصري والتربية» التي قدمتها لنيل شهادة الماجستير من كلية التربية بجامعة دمشق، عام 1977.
وما علينا الآن إلا أن نشّد الرحال إلى ساحة العمل الميداني والإصلاحات التربوية التي اضطلع بها مربينا الكبير في سورية، مقتصدين في ذلك اقتصاد المضطر:
4- 1- بدأ الحصري الإعداد لإصلاحاته – شأنه دوماً – عن طريق دراسة نظم التعليم، وخرج من هذه الدراسة بستة عشر تقريراً، أصدرها بين شهري آذار/ مارس وتموز/ يوليو من عام 1944، وطبعت كلها في مجلد واحد. وقد ألحق بتقاريره هذه اقتراحات عملية هامة.
وكان التقرير الأول(25) حول «ماكينة المعارف» وبيروقراطية المعاملات الإدارية، نبه فيه إلى بطء المعاملات الجارية، وكثرة الأمور المتراكمة نتيجة لعدم توزيع الأعمال والصلاحيات بين الموظفين توزيعاً معقولاً، ونتيجة لسوء التنظيم في الإدارة. وقد قدم لهذه الغاية مشروع مرسوم تنظيمي حول تعيين الموظفين.
وتناول التقرير الثاني موضوع «ملاك موظفي التعليم» مبيناً نقائص المرسوم التشريعي الذي ينظمه، والإجحاف الذي أصاب الموظفين بسببه، وذلك بسبب اتخاذه كلاً من مصدقات الإجازة الجامعية الأربع على حده أساساً للتصنيف، بدلاً من اتخاذ الإجازة الجامعية جملة أساساً له.
وتناول التقرير الثالث تشكيلات وزارة المعارف، وقدم مقترحات من أجل إعادة تنظيم هذه الوزارة، مقسماً إياها إلى ثلاثة أقسام: الهيئات العلمية والهيئات الإدارية، والهيئات التفتيشية.
وتناول التقرير الرابع تشكيلات المعاهد التعليمية وتحدث في مطلعه عن النظام التعليمي القائم وقدم إحصاءات عن رواده.
وتريث في التقرير الخامس عند التعليم الابتدائي، واقترح بوجه خاص إلغاء اللغة الأجنبية في هذه المرحلة من التعليم.
كما تحدث في التقرير السادس عن التعليم الثانوي، وفي التقرير السابع عن «المعلمين ودور المعلمين»، مبيناً الخطط اللازمة لإصلاح هذه الدور، مؤكداً على ضرورة تنشئة معلمين لبعض الفروع الاختصاصية، داعياً إلى جعل دور المعلمين داخلية. وتحدث في التقرير الثامن عن «المباني المدرسية» التي يجب أن يلاحظ في تصميمها ما تقتضيه قواعد الصحة وأهداف التعليم وأصول التربية (أي أن تكون «أبنية وظيفية Functionat» كما يقال اليوم). أما التقرير التاسع فكان حول «الآثار القديمة والمتاحف». وتعرض التقرير العاشر للتعليم المهني، داعياً إلى إصلاحه وتوسيعه وتنويعه. وخص التقرير الحادي عشر بالحديث «التفتيش» (التوجيه)، مقترحاً أن يتضمن تفتيش كل مدرسة من المدارس تنظيم ثلاثة أنواع من التقارير: تقرير عام عن المدرسة – وتقرير خاص عن المدير والإدارة – وتقارير شخصية عن كل معلم على حده. وتناول التقرير الثاني عشر موضوع «التعليم العالي والجامعة السورية» (وسوف نعود إليه فيما بعد). وتحدث التقرير الثالث عشر عن «الامتحانات العامة» ورأى في الامتحانات الأربعة التي يمر بها الطالب خلال سبع سنوات إفراطاً لا مسوغ له. وكان التقرير الرابع عشر حول «تنويع المدارس وتكييف المناهج» داعياً إلى أن تكون المدرسة الابتدائية مدرسة موحدة وفق منهاج أساسي عام ولكنه مرن يتكيف تبعاً لحاجات المدن والقرى، وتبعاً لحاجات البنين والبنات، كما أكد على ضرورة العناية بالتعليم الزراعي والتعليم النسوي. وتصدى التقرير الخامس عشر لموضوع «الأنظمة والقوانين في أمور المعارف والمدارس» وبين فيه الأسس والمبادئ التي اعتمدها حين وضع مشروع «قانون المعارف العام» الذي قدمه في التاسع من أيار/ مايو 1944 ليكون قانوناً أساسياً ينظم أعمال وزارة المعارف ومعاهدها التعليمية ويوجهها. أما التقرير السادس عشر والأخير فكان حول «توثيق الصلات الثقافية بين سورية والبلاد العربية» ذلك الموضوع الأثير إلى نفسه. وقد قدم فيه مقترحات لرفع الحواجز وضمان التقارب وتوثيق التعاون مع وزارات المعارف في البلاد العربية الأخرى لتكوين ثقافة موحدة بين الأقطار العربية جميعها.
تلك هي إذن التقارير الستة عشر التي أعدها الحصري وقدمها ما بين السادس من آذار/ مارس والتاسع من تموز/ يوليو عام 1944، وقد عرضنا هيكلها العظمي دون أن يتسع المجال ما اشتملت عليه من مضمون تربوي غني وحصيف.
4- 2- ولئلا يفوتنا تماماً ما دعت إليه هذه التقارير من إصلاحات تربوية هامة، وما تعرضت له من مشكلات التعليم في سورية، وما وصلت إليه من نتائج، حري بنا أن نقدم – بإيجاز شديد – لائحة بأهم المشكلات التي تصدى لها مربينا الكبير وبأبرز الحلول التي قدمها لها (ولا سيما من خلال قانون المعارف العام):
(أ)- تعرض الحصري للنظام التعليمي في سورية في عهد الانتداب مبيناً بينة المعاهد التعليمية حتى عام 1943، مشيراً إلى أهم أغراض السياسة التعليمية آنذاك. ولقد جعل هدفه الأساسي، من قانون المعارف العام الذي انتهى من إعداده عام 1944، تصفية آثار النفوذ الثقافي الفرنسي.
(ب)- تناولت الإصلاحات التربوية – فيما تناولت – رياض الأطفال والتعليم الابتدائي (أهدافه مناهجه وطرائقه) ووسائل تطبيق المناهج (المعلمون وإعدادهم – توجيه المعلمين وإرشادهم – أبنية المدارس ومكاتبها) وتوسيع حجم التعليم الابتدائي. كما تصدى لمشكلة التعليم الأهلي والأجنبي.
(ج)- وتصدت هذه الإصلاحات للتعليم الثانوي بنوعيه العام والمهني. وفيما يتصل بالتعليم الثانوي العام تعرضت لحال هذا التعليم في عهد الانتداب، وقامت بجملة من الإصلاحات أهمها: تقصير مدة الدارسة الثانوية – تعديل المناهج – تطوير الامتحانات – إدخال نظام الفتوة – إحداث التعليم النسوي – تقليص ساعات اللغة الأجنبية.
وفي التعليم الثانوي المهني، تعرضت لحال هذا التعليم في عهد الانتداب ووضعت جملة من الإصلاحات أهمها: وضع مناهج جديدة لمدارس الصناعة – إحداث التفتيش الثانوي الاختصاصي (المهني).
(د)- وفي التعليم العالي والجامعة السورية أعاد الحصري تأسيس مدرستي الطب والحقوق كما سبق أن ذكرنا خلال فترة وجوده في سورية خلال الحقبة الفيصلية. وفي إصلاحاته الجديدة قدم الحصري لإصلاح الجامعة السوري، وبين سبل الإصلاح، ووضع مشروعاً لإعادة تنظيم الجامعة، وأحدث المعهد العالي للمعلمين (عام 1946) وحدد غاياته داخلياً من حيث الأساس. وفي عام 1953 أطلق على المعهد العالي اسم كلية التربية. وعرفت هذه الكلية بعد ذلك إصلاحات عديدة إلى أن آلت إلى ما هي عليه اليوم. وقد أوصى الحصري بضرورة تفرغ أساتذة الجامعة وزيادة رواتبهم،وقد تحققت توصيته مؤخراً بدءاً من العام الجامعي 1975 – 1976.
(هـ)- وفي حقل الإدارة والتنظيم درس الحصري النظام الإداري في سورية (أو ماكينة الإدارة على حد تعبيره) وحدد سبل إصلاح دوائر الدولة بوجه عام، ودرس النظام الإداري في وزارة المعارف، وبين سبل إصلاحه. وقد ترجمت معظم مقترحاته إلى عمل بعد صدور قانون المعارف العام رقم 40، في 21/ 2/ 1944، الذي تضمن ثلاث جوانب أساسية: الواجبات – الأعمال – التشكيلات. وقد صدرت التشكيلات بمرسوم تنظيمي بناء على اقتراح وزارة المعارف وقرار مجلس الوزراء بتاريخ 3/ 3/ 1945، ويتألف المرسوم من (47) مادة موزعة على سبعة فصول.
4- 3- وقد لقيت بعض إصلاحات الحصري بعض الاعتراضات، وأثارت ضجة في الأوساط التعليمية. وتناولت هذه الاعتراضات بوجه خاص موضوع إلغاء اللغة الأجنبية من التعليم الابتدائي، وموضوع تقصير مدة التعليم سنة واحدة وإلغاء القسم الثاني من البكالوريا (شهادة التعليم الثانوي)، وإلغاء تدريس مادة الفلسفة (نتيجة لإلغاء القسم الثاني من البكالوريا). وليس المجال مجال مناقشة هذه الاعتراضات.
وأياً كان الأمر فقد تركت إصلاحات الحصري بصماتها على نظام التعليم في سورية (وفي البلاد العربية يعد ذلك)، وما يزال النظام التعليمي القائم حتى اليوم منطلقاً في أهدافه وبنيته وروحه من الإصلاحات التي قام بها الحصري، على الرغم مما أصابته التربية في القطر العربي السوري من تقدم متزايد خلال العقود الأخيرة.
(5)- ساطع الحصري في جامعة الدول العربية (1948 – 1957):
في 25/ 2/ 1947 استدعت وزارة المعارف المصرية ساطع الحصري لإلقاء محاضرات في معهد التربية بالقاهرة، بصفة أستاذ زائر. وتولى هناك إلقاء محاضرات في اجتماعيات التربية مدة ثلاث سنوات (حتى عام 1950). وفي الوقت نفسه عين مشاوراً فنياً للإدارة الثقافية التابعة لجامعة الدول العربية في 1/ 1/ 1948. بيد أنه استقال من منصبه للتفرغ للعمل في حوليات الثقافة العربية التي كان قد بدأ بإصدارها منذ عام 1949. وقدم خلال الثلاثة عشر عاماً التي تلت ظهور الحولية الأولى خمسة مجلدات أخرى.
إلا أنه عاد ثانية إلى ممارسة العمل الرسمي الإداري في جامعة الدول العربية عام 1953، عندما عين مديراً لمعهد الدراسات العربية العليا الذي أسسه، وأستاذاً دائماً للقومية العربية فيه. ولكنه قد استقال من إدارة المعهد عام 1956 بعد أن شهد انحرافه عن مقاصده، واستقال في العام نفسه من التدريس فيه أيضاً.
وكانت الحكومة السعودية قد دعته عام 1954 لدراسة المعارف فيها وتقديم تقرير عن إصلاحها، فقام بهذا الواجب أيضاً.
وفي وسعنا أن نلخص أهم الإنجازات التي حققها في هذه الفترة في الأمور الآتية:
5- 1- إصدار حوليات الثقافة العربية (بين عام 1949 وعام 1963). وقد سبق أن أشرنا إلى المقدمة الهامة التي صدّر بها الحولية الأولى، والتي أعاد نشرها كاملة في مقدمة كل من الحوليات الخمس التالية، والتي تكشف الأهداف القومية للحولية بوجه خاص، مبينة أن الهدف الأساسي للحولية تسليط الضوء على نظم التعليم واتجاهات الثقافة في البلاد العربية، ليتضح بجلاء أن الفروق القائمة لم تكن وليدة طبيعة البلاد الأصلية وحاجاتها الحقيقية.
5- 2- تأسيس متحف الثقافة العربية (عام 1949). وقد جرى الاحتفال بافتتاح هذا المتحف في القاهرة، بحضور جميع ممثلي الدول العربية عام 1949. وكان الهدف من إنشائه إظهار الفروق القائمة بين نظم التعليم ومناهج الدراسة في مختلف الأقطار العربية، واستثارة الهمم للسعي وراء إزالة تلك الفروق.
5- 3- إحداث معهد الدراسات العربية العليا (عام 1953). وقد حدد الحصري في نظام المعهد (المؤلف من أربع عشرة مادة) أغراض المعهد في أربع نقاط (وردت في المادة الأولى):
إعداد شباب عربي مثقف ثقافة عربية عالية – نشر الثقافة العربية عن طريق التدريس والتأليف والنشر والمحاضرات العامة – إقامة القومية العربية على أسس صحيحة – تكييف أسس الثقافة العربية بحيث تنتفع من تقدم المدنية الحديثة.
وقد حدد المبادئ الأساسية التي ينبغي أن تراعى في دراسات المعهد لتحقيق الأغراض المبينة في النظام الأساسي (وذلك في النظام الداخلي للمعهد المؤلف من مقدمة وثماني عشرة مادة). والغاية القصوى من كل ذلك تقوية الوعي القومي في العالم العربي مع إشاعة الشعور بوحدة الأمة العربية وبث الإيمان بمستقبلها.
ولما تبين للحصري أن المعهد انحرف عما أراده له، ويئس من إمكان تعاون المسؤولين في الجامعة العربية، آثر تقديم استقالته على الرضوخ للانحراف والتحريف. واعتزل بذلك كل عمل رسمي فيه، من إدارة (عام 1956) وتدريس (عام 1957). وانصرف إلى التأليف والنشر منذ ذلك الحين.
5- 4- نقد أعمال الإدارة الثقافية (عام 1961):
أنشئت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية عام 1946. وذكر الحصري أن هذه الإدارة أظهرت نشاطاً كبيراً في السنوات الأولى من تأسيسها (وقد سبق أن ذكرنا أنه عين مشاوراً فنياً لهذه الإدارة من 1/ 1/ 1948 إلى 30/ 12/ 1950).
غير أنه أضاف أن هذا النشاط أخذ يخبو سريعاً مع الزمن. يضاف إلى هذا أن هذه الإدارة، حتى في سنوات نشاطها الأولى، كانت تكثر من المشاريع دون أن تقرنها بدراسات جادة ودون أن تتبعها بأعمال تنفيذية. وفي الجملة، كان يعوز الإدارة الثقافية أمران: أولهما «روح المثابرة» وثانيهما «شيمة العمل التقني» التي تتطلب دراسة الأحوال ورسم الخطط بالطرق العملية، مع تثبيت الغايات بصورة واضحة(26).
ونظراً لكون السبب الأصلي في تخلف الإدارة الثقافية في نظر الحصري يكمن في النقص الأساسي الذي لازم تنظيماتها وحرمها من جهاز فني يضمن إنجاز الأعمال وفق خطط مدروسة، اقترح إجراء بعض الإصلاحات الأساسية في تشكيلات جهاز التعاون الثقافي، بوجه عام، والإدارة الثقافية بوجه خاص، لكي يستطيع الجهاز المذكور أن يضطلع بدور مثمر وفعال في تطوير الثقافة العربية وترقيتها(27).
وبهذا ننهي الحديث عن المحطات الأساسية في مسيرة الإصلاح التربوي الميداني الذي قام به الحصري، دون أن نزعم أننا توقفنا عندها جميعها، وأننا أحطنا بكامل مضمونها.
وإذا نحن أضفنا مسيرة الإصلاح الميداني هذه إلى ما ذكرناه من قبل عن أمهات أنظاره وأفكاره التربوية، تتوافر لدينا صورة شاملة، وإن لم تكن كاملة، عن مسيرته التربوية نظراً وعملاً، مبادئ وتطبيقات. كما أننا ندرك بيقين وبوضوح، بعد أن تحدثنا عن جانبي المسيرة، تكامل هذين الجانبين، ورفد كل منهما للآخر. الأمر الذي يشير إلى سمة أساسية بارزة من سمات الأصالة التربوية لدى هذا المربي الفذ. وهذه الأصالة هي التي سنختم بحثنا عنها في الخاتمة التالية.
-III خاتمة
أصالة التربية عند الحصري
أشرنا منذ بداية بحثنا وفي تضاعيفه وصلبه أن ثمة من يماري في أصالة التربية الحصرية، ومن أيزعم بأنه لا يعدو أن يكون قائلاً للتجربة العالمية، متأسياً خطاها، وأنه لم يأت بنظرية جديدة في ميدان التربية، أو بفلسفة تربوية ذاتية متميزة.
ولعلنا استطعنا، أن ندرك – من خلال عرضنا لأنظاره وأفكاره التربوية، ومن خلال اقتفائنا لخطوات عمله الميداني من أجل إصلاح التربية في البلاد العربية – أن شأنه مع التجربة التربوية العالمية كان شأن من يتمثلها، وينقدها ويدرك خلفياتها، ويتخير منها في النهاية ما يسعفه في تقديم العلاج الناجع للنظم التربوية العربية. وذلك عن طريق تسليط فكرة النقدي المنطقي الصارم عليها من جانب، وعن طريق دراسة حاجات المجتمع العربي وحاجات التربية العربية من جانب آخر، وتخير ما يستجيب لتلك الحاجات بالتالي.
بل إننا نذهب إلى أبعد من ذلك. فهو لم يطلّع وينقد ويتخيرّ ما يصلح للتربية العربية فحسب، بل كان غوصه هذا في شعاب الواقع التربوي العربي وفي دروبه، وتبينه لحاجات ذلك الواقع، عامل إبداع وخلق لأنظار وأفكار وممارسات جديدة. وقد تأتى له ذلك بفضل الهم الذي أرّقه دوماً، همّ توحيد الأمة العربية وتحقيق نهضتها. فهذا الهم المؤرق – حين احتك بزناد التجربة العالمية وحين تفاعل مع الملكات العقلية والعلمية التي كان يتصف بها الحصري – أطلق شرارة الإبداع عنده من خلال الواقع وبفضل معاناة مشكلات الواقع، لا الإبداع المجّاني الدعيّ.
وإذا نحن حاولنا أن نتقصى جوانب الأصالة والإبداع في التربية الحصرية، أمكننا أن نرصد الأمور الآتية:
1- الربط الوثيق بين التربية والثقافة وبين القومية:
وقد يقال إنه في هذا قد تأسّى خطوات الفيلسوف الألماني فخته Fichte ولاسيما في «رسائله إلى الأمة الألمانية». وهذا الضرب من النقد كثيراً ما يوجه إلى الفكرة القومية العربية بوجه عام، سواء عند الحصري أو سواه. وهو نقد يختار طريق المقاومة السهل، وتثوي وراء غالباً رغبة في تشويه أصالة الفكرة القومية العربية.
والحق، إن الحصري ما فتئ يقول – في شتى كتبه القومية والتربوية – أن فكرته القومية نابعة من حاجات الأمة العربية أولاً وقبل كل شئ. بل إنه قال في أكثر من موضع ودون أي لبس، أن الفكرة القومية في أوروبا نفسها وسواها تختلف باختلاف البلاد.
بل زاد على ذلك أن معظم النظريات القومية التي ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر، كانت تسعى وراء تبرير سياسة الحكومات أكثر مما تعنى باستقراء الوقائع الاجتماعية واستجلاء حقائقها(28). ويعني هذا أن نظريات القومية “تختلف باختلاف أحوال الدول والقوميات التي كانت تتنازع الحياة والبقاء في ميدان الحكم والسياسة. ولهذا السبب تعددت وتنوعت النظريات حول مفهوم القوميات، منذ مدة تزيد على قرن(29).
وهكذا يستبين أن الحصري قد أحاط علماً بعوامل نشأة القوميات المختلفة، غير أنه صاغ الفكرة القومية العربية من خلال الواقع العربي، ومن خلال طبيعة الثقافة العربية وتاريخ الأمة العربية، وانتهى إلى القول بأن قوامها متميز من سواها، وله نسيجه الخاص به، وسحنته الفريدة. وأهم ما فيه عنصران: اللغة والتاريخ (أي الثقافة المشتركة والتاريخ المشترك). ومن هنا جاء ارتباطها الوثيق بالتربية. فالتربية العربية – إذا هي أرادت أن تكون ذا طابع ذاتي، وإذا هي أرادت أن تستقي بذورها من حاجات الواقع العربي، وإذا هي عزمت أمرها على أن تغير الواقع العربي وتطوره من خلال ذاته – لابد أن تكون تربية قومية أولاً قبل كل شئ ولابد أن تكون مهمتها الأولى نقل تراث الأجداد إلى الأحفاد، والحفاظ على رابطة اللغة العربية، وتأكيد روح العمل المشترك من أجل يقظة الأمة العربية.
وبتعبير آخر تكمن أصالة الحصري في أنه لم يفصل بين القومية والتربية، حتى ولو كان هذا الفصل فصلاً بين الهدف والوسيلة. فالتربية العربية عنده ليست مجرد وسيلة للقومية، بل هي ذات قوام قومي قائم بذاته، وبحكم طبائع الأشياء، حتى تضطلع بالمهمة الأساسية للتربية لدى أمة كالأمة العربية، نعني مهمة تفتيح طاقات الإنسان العربي من أجل بناء الحضارة العربية النابعة من صبوات الوجود العربي وحاجاته الحاضرة والآتية.
وفي مقابل ذلك ليست القومية عنده غاية في ذاتها، بل هي الأداء المثلى لإيقاظ الوجود العربي وشحذ قواه وطاقاته من أجل الكيان العربي الموحد والمنيع والمبدع. وههنا تلتقي مع التربية.
أفنكون مغالين أو متقوّلين على الرائد القومي الكبير إن قلنا أن التربية عنده هي القومية وإن القومية هي التربية؟
2- الربط بين الأنظار التربوية والممارسة التربوية الميدانية:
قد لا نغلو إذا قلنا إن هذا التأليف بين القومية والتربية الذي هو أحد مظاهر الأصالة في التربية الحصرية، ولّد ضرباً آخر من الأصالة، تجلّى في اللحمة التي تقوم عنده بين النظر التربوي والعمل التربوي. فالالتحام بين القومية والتربية قاده بالضرورة – كما سبق أن رأينا – إلى أن يجعل من التربية ساحة نضاله القومي، وأن يجعل من إصلاح التربية في البلدان العربية معركة لا تقل عن أي معركة سياسية. وقد رأينا – في أكثر من موضع – كيف أبى أن يقبل أي تزييف وأي تقصير في العمل التربوي، وكيف استقال من مناصبه مرات عديدة حين حيل بينه وبين تحقيق إصلاحاته أو آرائه التربوية.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك استقالته من إدارة «معهد الدراسات العربية العالية» حين انحرف عن أغراضه القومية. ومثل ذلك يصدق على استقالته من عمله في الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، وعلى مغادرته سورية مستقيلاً من منصب المشاور الفني لوزارة المعارف، وعلى ما كان بينه وبين المسؤولين عن المعارف في العراق، وجلّهم من الإنكليز، من صراع دائم أدى إلى انتقاله من منصب إلى منصب، إلى أن حرم من جنسيته وغادر العراق.
فالتربية عنده ليست أفكاراً جميلة وأفكاراً حالمة، وليست مجرد «انبغاءات» كما يوق بعضهم اليوم (أي مجرد قول «ينبغي»)، ولا هي ضرب من التأنق العلمي المترف. إنها رسالة، وإنها عرق وجهد وكدّ، في سبيل تحقيق أهداف التربية الحقيقية القادرة على بناء أمة.
ولا عجب بعد ذلك أن نجد من يصفه بالعناد، فهو مؤمن بما يفعل، مدرك للأبعاد الإنسانية والقومية لعمله التربوي. وعناده لا يتأتّى إلا بعد أن يكون قد قلّب الرأي على وجوهه المختلفة، وبعد أن يكون قد ناقش وحاور (وما أكثر حواره وأبرعه).
لقد كان يشعر بأن على المسؤولين عن شؤون التربية في البلاد العربية أن يستغلوا كل دقيقة وثانية من أجل تطوير التربية تطويراً سليماً. وكم شكا من الوقت الضائع والجهد المهدور (ومن أبرز الشواهد على ذلك نقده لعمل الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية).
ولعله كان يردد في أعماقه قول النبي العربي (ص):
«اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»
ولقد كان في الوظائف الهامة التي شغلها مثالاً صارخاً على روح الشعور بالمسؤولية، حتى لكأنه يحاول أن يقوم بما لا يستطيع أن يقوم به أفراد مجتمعون. ولا أدل على ذلك مما أعطى في العراق، ومما أعطى في سورية خلال سنوات ثلاث، ومما أعطى في «معهد الدراسات العربية العالية» خلال فترة وجيزة جداً، ومن حولياته التي ينوء بإصدارها العصبة أولو القوة والعزم.
وبقول موجز لم تكن التربية عنده عملاً قومياً فحسب، ولم تكن القومية عنده فقط تربية تبني أمة، بل كانت التربية والقومية عنده مؤتلفين، عملاً وجهداً موصولاً ونضالاً يومياً. ومن حصاد هذا الجهد تنبع أصالته.
3- أصالة فلسفته التربوية:
هل نتساءل بعد ذلك عن فلسفة الحصري التربوية؟ أنقول مع من قال بأنه لم يكن صاحب فلسفة تربوية أو نظرية تربوية؟
إن هذا الربط الدقيق الذي حققه بين القومية والتربية هو صلب فلسفته. فإذا كانت غاية التربية – في كل عصر ومصر – تفتيح قابليات الإنسان وقواه العقلية والجسدية والجمالية والأخلاقية وسواها، إلى أقصى حدّ ممكن، على نحو يقرب الفرد والمجتمع من أقصى حد من الكمال في شتى جوانب الحياة، فإن صهر الإنسان العربي في كيانه القومي، هو – في نظر الحصري – سبيل تحقيق تلك الغاية. وبتعبير آخر – قوام فلسفة الحصري التربوية أن الإنسان العربي لا يزكو ويتفتح ويعطي ويبدع إلا من خلال ارتباطه بتربته القومية. حتى لكأنه يربط بين التربية والتربة. والأصل الاشتقاقي الواحد بينهما واضح. أو ليست هذه فلسفة تربوية عميقة؟ أو ليست هي الفلسفة التربوية التي تثبت الأيام صدقها وبعد نظرها وعمق أصالتها؟
قد يحسب بعضهم من أصحاب النظرة السطحية أن مثل هذا القول ضرب من تحصيل الحاصل. غير أنهم حين يربطونه بما استطاع الحصري أن يفعله بفضل إيمانه بهذه الفلسفة يدركون ما تشتمل عليه هذه الفلسفة من كوامن الإبداع والتقدم.
ونرجو ألا نُتهم بالإقلال من شأن النظم التربوية العربية القائمة، اليوم، إن نحن قلنا إنها عجزت حتى الآن عن بناء الحضارة العربية الحقة، لأنها لم تنطلق من مثل هذا الربط العضوي الحميم بين الأهداف التربوية والأهداف القومية على نحو ما أراد الحصري…
وبعد، إن الفلسفة التربوية الحقة ليست هي الأفكار والأنظار الباهرة، ولكنها «الأفكار – القوى idées – force» الأفكار التي تنغمس وتتغذى من تربة الواقع الاجتماعي الحضاري لدى الأمة ومن صبواته وتطلعاته، والتي تعمل فوق ذلك على تغيير ذلك الواقع بالكد والعمل. إنها الفلسفة التربوية الفعالة الدؤوب. وهذا ما فعله الحصري.
-IV ملحق
تاريخ حياة ساطع الحصري بقلمه
نثبت فيما يلي ما نشرته مجلة المعلم العربي السورية في العدد الخاص الذي أفردته لساطع الحصري بمناسبة الذكرى المئوية لولادته (عدد شباط/ فبراير – آذار/ مارس 1977) حول ترجمة الحصري بقلمه، مع تتمة لهذه الترجمة. وقد أعدها الأستاذ فريد جحا.
ملحق
ترجمة ساطع الحصري كما كتبها بقلمه
في أواخر عام 1960
إعداد: فريد جحا
تمهيد:
كتبت إدارة مدرسة ساطع الحصري الابتدائية بحلب، في عام 1960، إلى العلامة ساطع الحصري، راجية إياه تزويدها بترجمة حياته، لكي تعد ملخصاً عنها، تسجله على لوحة في المدرسة.
وقد استجاب الحصري لذلك، وأرسل للمدرسة ما طلبت إدارتها منه… وها نحن أولاء نقدم النص الكامل لهذه الترجمة كما سجلها الحصري بنفسه، ثم نتمها بالأحداث التي تمت بعد سنة كتابتها، ثم ننهيها بقائمة الكتب التي ألفها بعد التاريخ المذكور.
خلاصة ترجمة حالي:
أسرتي ووالدتي من أهالي حلب. والدي السيد محمد هلال الحصري، كن قضى شطراً من شبابه في مصر، حيث درس في الأزهر الشريف.
ويتبين من ترجمة حاله الرسمية: أنه نال الإجازة من الأزهر على يد الشيخ محسن الدمنهوري، والشيخ حسن السعدوي الحمزاوي. وبعد ذلك عين قاضياً في دير الزور، ثم في حماة (وكانت كلتا المدينتين تابعتين إلى ولاية حلب في ذلك التاريخ).
وعند تشكيل المحاكم النظامية في الدولة العثمانية عين رئيساً لمحكمة الاستئناف في ولاية اليمن، وذهب إلى صنعاء للقيام بمهام تلك الوظيفة.
وأنا ولدت هناك – في مدينة صنعاء – خلال إقامة والدي فيها، في الوظيفة المذكورة. (ويصادف تاريخ ولادتي 5 آب أغسطس سنة 1880).
إلا أن والدي لم يقم هناك مدة طويلة، لأن الموظفين – في ذلك التاريخ – ما كانوا يبقون في مدينة واحدة أكثر من سنتين، أو ثلاث على أكثر تقدير. ولذلك تحول مقر عمل والدي – في رئاسة محاكم الاستئناف – إلى أضنة، ثم أنقرة، ثم إلى طرابلس الغرب، ثم إلى اليمن مرة ثانية، ثم إلى قونية، وبعد ذلك إلى طرابلس الغرب (مرة ثانية).
وبطبيعة الحال تنقلت مع والدي بين المدن المذكورة، وبين استانبول، حسب تطلبات وظيفته وتحولاتها، ولكن عندما تعين والدي في طرابلس الغرب للمرة الثانية، كنت قد دخلت القسم الإعدادي من المدرسة “الملكية الشاهانية” سنة 1893، فبقيت في القسم الداخلي من المدرسة، إلا أني ذهبت خلال العطلة المدرسية مرتين إلى طرابلس الغرب لزيارة والدي، وإلى بني غازي للالتقاء بأخي الكبير الذي كان يتولى وظيفة المدعي العمومي فيها.
وبعد ذلك تحول والدي إلى استانبول، فبقيت هناك مع أسرتنا إلى حين إكمال دراستي في القسم العالي من المدرسية الملكية سنة 1900.
-2-
الوظائف التي توليتها، والأعمال التي قمت بها:
أولاً- في عهد الدولة العثمانية:
قبل انقلاب المشروطية، أي قبل انقلاب الدستور، بدأت حياتي في وظائف الحكومة سنة 1900، حيث عينت معلماً للعلوم الطبيعية في المدرسة الثانوية، التي كانت تعرف باسم الإعدادية، في مدينة بانينا (مركز مقاطعة أبيروس التي أصبحت الآن جزءاً من اليونان).
بقيت هناك حتى سنة 1905، وفي خلال السنوات الثلاث الأخيرة من هذه المدة عينت في «معية الولاية» مع الاحتفاظ بقسم من الدروس. (كان خريجو المدرسة الملكية الشاهانانية يعينون في «معية الولاية» ليتدربوا على أصول الإدارة في مختلف الدوائر التابعة للولاية، تمهيداً لتعيينهم قائمقام «كذا» في أحد الأقضية).
وبعد ذلك توليت قائمقامية قضاء (أراد وويشتة) التابع لولاية قوصوه. ( كان أكثرية أهالي القضاء من البلغار، وكان القضاء في المنطقة النمساوية من المراقبة الدولية التي كانت قد فرضت على ولايات ماكدونيا الثلاث).
ومن هناك نقلت، ترفيعاً، إلى قائم مقامية قضاء «فلورينا»، التابع لولاية مناستر (كان أهالي القضاء مزيجاً من أتراك وبلغار وأروام، وكان القضاء المذكور يقع داخل المنطقة الإيطالية من المراقبة الدولية التي ذكرتهما آنفاً).
بقيت في قائمية فلورينا حتى انقلاب المشروطية أي انقلاب الدستور العثماني. وقد اشتركت بحركات الانقلاب اشتراكاً فعالاً. ويوم إعلان الدستور، وفي الأيام التي تلته، عهد إلي بمهمة إلقاء الخطب في مركز الولاية «مناستر» على الجماهير من ناحية، وعلى الوفود من ناحية أخرى.
بعد شهر من إعلان المشروطية تركت فلوينا، ومناستر، وحياة الإدارة، وانتقلت إلى استانبول، حيث عدت إلى التعليم.
(إن البلاد التي عملت فيها منذ بدء حياتي الرسمية، حتى انتقالي إلى استانبول، قد توزعت عقب حركة البلقان بين اليونان وبلغارية وصربية).
بعد انقلاب المشروطية وإعلان الدستور – في استانبول – توليت التعليم في عدة معاهدة عالية، اعتباراً من أواخر سنة 1908، وقد عينت: أستاذاً للتربية، في الجامعة (وكانت تسمى دار الفنون)؛
أستاذاً لعلم الأقوام، في المدرسة الملكية الشاهانية (تحول اسمها فيما بعد إلى مدرسة العلوم الإدارية والسياسية)؛
أستاذاً للتربية والاجتماع، في مدرسة دار الخلافة العلية، وفي دار المعلمين العالية.
هذا وقد توليت مديرية دار المعلمين سنة 1909، وأسستها على أسس جديدة، وألفتها من ثلاثة أقسام: قسم لتخريج معلمين للمدارس الثانوية، قسم لتخريج معلمين لدور المعلمين التي تؤسس في الولايات، وقسم لتخريج معلمين للمدارس الابتدائية.
إن عملي في دار المعلمين كان عمل انقلاب جذري، أثر في اتجاهات التعليم في جميع الممالك العثمانية، وطورها من أساسها.
ثم توليت إصلاح «دار الشفقة» التي كانت تابعة (لجمعية التدريس الإسلامية) إصلاحاً جوهرياً. وفي الأخير أسست «المدرسة الحديثة» التي كانت تضم ثلاثة أقسام:
عش الأطفال (أي روضة الأطفال) – المدرسة الابتدائية الحديثة – و «دار المربيات» (لتخريج مربيات ومعلمات يتولين تربية الأطفال في الأعشاش والرياض). بقيت في استانبول حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
ثانياً – في البلاد العربية:
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، غادرت الدولة العثمانية وانتقلت إلى سورية. وتوليت هناك الوظائف التالية:
مفتش المعارف العام: من 16/ 4/ 1919، إلى 30/ 4/ 1919.
مدير المعارف العام: من 1/ 5/ 1919، إلى 9/ 3/ 1920 (حتى إعلان استقلال سورية).
وزير المعارف: من 10/ 3/ 1920، إلى 27/ 7/ 1920 (أي منذ إعلان استقلال حتى استيلاء الفرنسيين).
عقب استيلاء الفرنسيين، غادرت ثم ذهبت إلى العراق مع الملك فيصل، وهناك توليت الوظائف التالية:
معاون وزير المعارف: من 5/ 3/ 1922، إلى 17/ 1/ 1923.
مدير المعارف العام: من 17/ 1/ 1923، إلى 31/ 8/ 1927.
(كنت ألقي في الوقت نفسه محاضرات في التربية والاجتماع في دار المعلمين العالية).
أستاذ التربية في دار المعلمين العالية من 1/ 8/ 1927، إلى 1/ 10/ 1931.
مراقب التعليم العام: من 1/ 10/ 1931، إلى 22/ 12/ 1934.
رئيس كلية الحقوق ومدير الآثار العامة: من 11/ 10/ 1934، إلى 16/ 9/ 1935.
مدير الآثار القديمة ومراقب التربية والتدريس العام: من 16/ 9/ 1935، إلى 12/ 9/ 1936.
مدير الآثار القديمة: من 12/ 9/ 1936، إلى 11/ 12/ 1936.
في التاريخ الأخير قررت الحكومة العراقية نزع الجنسية العراقية عني وإخراجي من البلاد وانتهت بذلك خدمتي في العراق.
أقمت في بيروت بعد خروجي من العراق.
في سنة 1944 عندما أعيدت الحياة الدستورية في سورية، وأخذت الحكومة السورية تستلم السلطات من الفرنسيين، استدعتني لإصلاح معارف البلاد، وعينتني مشاوراً فنياً لوزارة المعارف، لمدة ثلاث سنوات (حتى 1947).
وفي 25/ 2/ 1947، استدعتني وزارة المعارف المصرية لإلقاء محاضرات في معهد التربية في القاهرة – بصفة أستاذ زائر – وتوليت هناك إلقاء محاضرات في اجتماعيات التربية مدة ثلاث سنوات، (حتى سنة 1950)، وفي الوقت نفسه عينت مشاوراً فنياً للإدارة الثقافية التابعة لجامعة الدول العربية، في 1/ 1/ 1948، واستمررت في العمل المذكور حتى 30/ 12/ 1950 حين استقلت.
وفي الأخير عينت مديراً لمعهد الدراسات العربية العالية واستناداً دائماً للقومية العربية فيه اعتباراً من -/ 4/ 1953.
وبعد ثلاث سنوات استقلت من المديرية (سنة 1956). وبعد سنة استقلت من الأستاذية (سنة 1957).
وفي سنة 1954 دعتني الحكومة العربية السعودية لدراسة أحوال معارفها وتقديم تقرير عن وسائل إصلاحها. فقمت بالواجب المذكور أيضاً (1).
-3-
دراساتي في المدرسة:
لم ألتحق بمدرسة ابتدائية. تعلمت القراءة والكتابة شيئاً فشيئاً من اللغة الفرنسية في الدار. قبل دخولي المدرسة الثانوية.
أتممت دراستي الثانوية والعالية في القسم الإعدادي (أربع سنوات) والقسم العالي (3 سنوات) من المدرسة المعروفة باسم «مكتب ملكية شاهانية» في استانبول، (من 1893، إلى 1900).
إلا أني لم أكتف بدروس المدرسة النظامية، بل كنت أدرس كثيراً وأطالع كثيراً، خارج الدروس النظامية المقررة في المدرسة.
أولاً: تولعت بالعلوم الرياضية ولعاً شديداً جداً، وصرت أستعير من بعض طلاب مدرسة الهندسة ومدرسة الأركان مذكراتهم المتعلقة بالرياضيات العالية، وأشتغل بحل المسائل الرياضية العويصة. ولذلك لقبني رفاقي باسم «أرشميد» وكادوا ينسون اسمي الحقيقي.
ثم تولعت بالعلوم الطبيعية. وصرت أتوسع في دروسها توسعاً كبيراً، وأشتغل بتشريح الحيوانات وتحنيطها. وواصلت التوسع والتعمق في العلوم الطبيعية، خلال دراستي للعلوم السياسية والحقوقية في القسم العالي من المدرسة الملكية، ولاسيما بعد تخرجي منها واشتغالي بتدريس العلوم الطبيعية في إعدادية يانينا، وهناك أتقنت تحنيط الحيوانات، وتيبيس النباتات وأوجدت متحفاً للتاريخ الطبيعي.
وأما دراستي لعلم النفس والتربية وعلم الاجتماع فقد بدأت بعد أن كنت قد قطعت شوطاً كبيراً في دراسة العلوم الطبيعية.
رحلاتي الدراسية:
قمت بعدة رحلات دراسية في مختلف البلاد الأوروبية بين سنة 1910 وسنة 1917.
وحرصت على درس نظم التربية والتعليم واتجاهاتها في بلاد مختلفة، بين صغيرة وكبيرة، قديمة وحديثة. لذلك ذهبت إلى إيطالية وسويسرة، وفرنسة، وإنكلترة، وبلجيكة، وهولندة، وألمانية من ناحية وإلى رومانية وبلغارية من ناحية أخرى.
في المؤتمرات والهيئات الدولية:
– اشتركت في «المؤتمر الأممي الثاني للتربية الأخلاقية» الذي انعقد في (لاهاي) سنة 1912.
– كنت من أعضاء اللجنة العامة… لمعهد جان جاك روسو، الذي أسس في جنيف في السنة المذكورة، وذلك بناء على طلب واقتراح البروفسور بوفه الشهير.
– مثلت العراق في المؤتمر الأممي للحفريات الأثرية الذي انعقد في القاهرة سنة 1947.
– انتخبت في اللجنة الأممية للتعاون الفكري، التابعة لعصبة الأمم، عضواً في لجنة المتاحف الدائمية – سنة 1938.
– اشتركت في المؤتمر الأممي لعلم الاجتماع الذي انعقد في استانبول (سنة 1932) وقدمت فيه بحثاً انتقدت فيه بعض ما ورد من كتاب “غاستون بوفول”.
مؤلفاتي
أولاً- باللغة التركية:
إن جميع مؤلفاتي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى كانت باللغة التركية:
آ- قبل الدستور:
سلسلة كتب مدرسية في العلوم الطبيعية. وقد قررت وزارة المعارف العثمانية تدريسها في جميع الولايات.
معلومات زراعية – دروس الأشياء (للمدارس الابتدائية) – علم الحيوان – علم النبات – تطبيقات زراعية (للمدارس الثانوية) – مقالات كثيرة في بعض المسائل العلمية والاختراعات الحديثة، أذكر منها:
نحو القطب – التلغراف اللاسلكي – الأشعة المجهولة – الحياة في المناجم – مناظر الغروب: في الأرض وفي الكواكب.
ب- بعد الدستور:
– الكتب: فن التربية (دروس في دار المعلمين). في مجلدين
– إتنوغرافيا (علم الأقوام) دروس في المدرسة الملكية.
– تقاريري (لايحة لرم) – مجموعة التقارير التي قدمتها إلى وزارة المعارف، بعد عودتي من رحلتي الدراسية الأولى (1910).
– للوطن (مجموعة محاضرات في الوطنية والتربية الوطنية).
– الأمل والعزم (مجموعة محاضرات).
– اليابان واليابانيون (محاضرات في نهضة اليابان وعواملها).
– المجلات:
أنوار العلوم (مجلة في العلوم والاكتشافات العلمية).
مجلة التدريسات الابتدائية (ثلاثة مجلدات) وكانت أول مجلة تربوية تصدر باللغة التركية.
مجلة التربية: (صدر منها 10 أعداد – الأربعة الأولى مصورة).
– المقالات:
مقالات كثيرة في مختلف الجرائد والمجلات. معظمها تربوية واجتماعية، بعضها سياسية، قسم كبير منها يتضمن النقد المناقشة في القضايا الإصلاحية الهامة. أهم المقالات التي استوقفت الأنظار وأحدثت دوياً كبيراً:
آثار الاستبداد وبذوره الباقية (أربع مقالات متسلسلة) – سبيل إصلاح المعارف – نظرية شجرة الطوبى – التفكير العلمي – دور كهايم ونظرياته الاجتماعية (نقد) – دفاع عن مدت باشا – قضايا التنظيمات – معرض تورينو وطرابلس الغرب – خطاب إلى طلعة بك.
هذا، ويجب أن أشير – في هذا المقام 0 إلى الأمرين التاليين:
لقد نشرت مقالات عديدة سنة 1908 و1909 في مجلة (يترحقيقت) التي كانت تصدر في (مناستر) بصورة سرية قبل الدستور، وبصورة علنية بعد الدستور، وواصلت مخابرتها والكتابة فيها بعد انتقالي إلى استانبول.
هذا، وكنت عضواً في (جمعية المطبوعات العثمانية) منذ تأسيسها. وآخر عمل توليته في استانبول، قبل انتقالي إلى سورية، كان رئاسة “مؤتمر المطبوعات”.
ثانياً- باللغة العربية:
آ- خلال وجودي في سورية (1919-1920) صدرت باسم مديرية المعارف عامة مجلة اسمها «التربية والتعليم» سنة (1919-1920) نشرت فيها عدة مقالات.
ب- خلال عملي في العراق (1921-1941) كتبت كثيراً من التعليمات والتوجيهات التربوية، وطائفة من الأنظمة والقوانين والمنشورات الرسمية. ونشرت الكتب التالية:
القراءة الخلدونية (الألفباء) – مرشد القراءة الخلدونية (طريقة تعليم الألفباء) – مساعد القراءة الخلدونية – دروس الأشياء (أربعة أجزاء) – أصول التدريس – أصول تدريس اللغة العربية – رسائل إلى بول مونرو (في نقد التقرير الذي قدمه للحكومة العراقية حول المعارف) – الإحصاء (محاضرات في مدرسة الحقوق). وأصدرت مجلة التربية والتعليم، (صدر منها خمسة مجلدات بين سنة 1928 و1931).
نشرت عدة مقالات ومحاضرات في الجرائد العراقية وفي مجلة (الرسالة) المصرية، جمعت بعض هذه المحاضرات والمقالات في كتابين طبعاً في القاهرة سنة 1944، عنوان أحدهما “آراء وأحاديث في التربية والتعليم” و”عنوان الثاني” آراء وأحاديث في الوطنية والقومية”.
ج- بعد خروجي من العراق، وقبل انتقالي إلى مصر (1941-1947) نشرت المؤلفات التالية:
– دراسات عن مقدمة ابن خلدون (نشرت منها جزأين في بيروت سنة 1944) وبعد ذلك كتبت أبحاثاُ أخرى في الموضوع نفسه، جمعتها مع أبحاث الجزأين المذكورين، ونشرتها في القاهرة سنة 1953، بعد أن درست آثاره في تونس خلال رحلتي الثانية لها.
– يوم ميسلون: (مذكراتي عن الأيام الأخيرة للدولة العربية السورية سنة 1920).
– تقارير عن حالة المعارف في سورية واقتراحات لإصلاحها:
الجزء الأول: طبع في دمشق سنة 1944.
الجزء الثاني: طبع في دمشق سنة 1945.
د- بعد انتقالي إلى مصر (منذ سنة 1947) نشرت الكتب التالية:
– صفحات من الماضي القريب (طبع في بيروت سنة 1948).
– آراء وأحاديث في العلوم والأخلاق والثقافة (القاهرة سنة 1951).
– آراء وأحاديث في التاريخ والاجتماع (القاهرة سنة 1952).
– آراء وأحاديث في القومية العربية (القاهرة سنة 1951) أعيد طبعها في بيروت مع مقدمة جديدة سنة 1957).
– العروبة بين دعتها ومعارضيها (طبعتها الأولى في بيروت 1952).
– محاضرات في نشوء الفكرة القومية (القاهرة 1951)، (أعيد طبعها في بيروت سنة 1955).
– العروبة أولاً (الطبعة الأولى في بيروت سنة 1955).
– دفاع عن العروبة (طبعة أولى في بيروت سنة 1956).
– آراء وأحاديث في اللغة والأدب ( بيروت سنة 1958).
– المحاضرات الافتتاحية – معهد الدراسات العربية العالية) سنة 1953.
– البلاد العربية والدولة العثمانية (القاهرة سنة 1957)، طبعة موسعة: (بيروت سنة 1960).
– حولية الثقافة العربية:
– السنة الأولى – حتى 1949 – 1950، القاهرة 1950.
– السنة الثانية – عن 1950 – 1951 القاهرة 1952.
– السنة الثالثة: عن 1951 – 1952، القاهرة 1952.
– السنة الرابعة: عن 1952 – 1953، القاهرة 1954.
– السنة الخامسة: حتى سنة 1957، القاهرة 1957.
(1)- تتمة حياة الحصري:
استقال الحصري من الجامعة العربية عام 1958 احتجاجاً على ما آل إليه معهد الدراسات العربية، وسكن في فندق متواضع في القاهرة يستقبل طلابه ومريديه، ويؤلف الكتب مكتفياً بدخل كتبه المتواضع، ورافضاً العروض الكثيرة التي بذلت لتقديم معونة له.
في عام 1965، أعادت له الحكومة العراقية الجنسية العراقية، فعاد إلى بغداد، حيث عاش قرب ابنه وابنته وأحفاده، منكباً على إنجاز مذكراته. وفي بغداد توفي في اليوم الرابع والعشرين من كانون الأول عام 1968.
(2) تتمة قائمة كتبه ومؤلفاته:
– حول الوحدة الثقافية العربية بيروت 1959
– ثقافتنا في جامعة الدول العربية بيروت 1961
– خريطة زمانية: البلاد العربية القاهرة 1953
– خريطة منذ ظهور الإسلام
– ما هي القومية، القاهرة 1959
– حول القومية العربية، بيروت 1961
– أحاديث في التربية والاجتماع، بيروت 1961
– أبحاث مختارة في القومية العربية، 1964
– حولية الثقافة العربية السادسة، القاهرة 1964 (عن 1957 – 1962).
– مذكراتي الجزء الأول، بيروت 1967
– مذكراتي الجزء الثاني، بيروت 1968