قراءة في كتاب “التربية عبر التاريخ”

تلعب التربية اليوم دوراً مهماً وخطيراً في حياة الشعوب حيث تعتبر الأداة الفاعلة في توجيه الإنسان وفق الفلسفة التي تتبناها تلك التربية.
ومن هذا المنطلق أحاول أن ألقي نظرة سريعة على كتاب مهم وسفر جليل ألا وهو كتاب «التربية عبر التاريخ» للدكتور عبد الله عبد الدائم. والمؤلف شخصية معروفة على صعيد الوطن العربي ويعتبر من المثقفين المتميزين بعطائه وقد أغنى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات التربوية والثقافية القيمة.
والكتاب الذي نحن بصدده كتاب ثر في مادته ويعتبر بحق من أوسع الكتب التي تناولت التربية عبر العصور بشكل موسع وتفصيلي ولا يمكن أن يستغني عنه المدرس والمشرف التربوي وأستاذ الجامعة والمؤرخ والأديب. ولا يمكنني في هذه العجالة أن ألم بجميع ما ورد فيه لأن ذلك يتطلب الكثير من الصفحات. إلا أنني سأحاول التركيز على أهم النقاط التي وردت فيه قدر الإمكان خاصة ما وصل إليه أجدادنا العرب من تقدم وازدهار في هذا المجال.
يقع الكتاب في 672 صفحة من القطع الكبير. ففي الباب الأول التربية البدائية يتطرق المؤلف إلى أهم المعالم التي تميزت بها تلك التربية حيث كان هدفها الوحيد أن يقلد الناشئ عادات مجتمعه وطراز حياته تقليداً عبودياً خاصاً. فالتدريب على الأعمال الشاقة التي كانت تسعى إليه القبيلة كأعمال الخدمة والرعي والحرب كانت تتطلب قدراً من التربية الفكرية والاجتماعية وممارسة الطقوس.
لقد كانت الصفة المميزة للتربية البدائية عدم قصر التربية على مرحلة من مراحل العمر وإنما جعلها تربية دائمة مستمرة تتم عبر المجتمع ككل لا عبر الأماكن التعليمية النظامية وحدها. أما وسائلها فكانت تنتقل عن طريق النقل الحي المتصل بالمعتقدات والعادات السائدة في المجتمع. ثم يتطرق إلى أشكال التربية البدائية فهنالك التربية الجسدية والتربية الفكرية والتربية الروحية وكل نوع من هذه الأنواع كانت لها طرقها الخاصة بها.
ثم يتطرق إلى التربية عند بني إسرائيل حيث يقول كان على الطفل أن يتربى على أن يكون مخلصاً ليهوه. وهذا يبين أن تلك التربية كانت مبنية على التعصب الديني والعرقي الأعمى وكانت جملة شعب الله المختار تتردد في معظم كتبهم ومعتقداتهم. ويستطرد المؤلف في القول:
ومازلنا نلمح لديهم حتى اليوم نظرة الحسد والبغض لكل من عداهم. وهكذا نرى اليهود في بدء العصر المسيحي يطردون كل من كان غريباً على تقاليدهم بقسوة وازدراء.
ثم يعرج على التربية الهندية والصينية واليابانية والآشورية و الفارسية والمصرية ويتكلم عن كل منها بإسهاب ومن خلال نظرة تاريخية ثاقبة..
أما الفصل الثاني فيخصصه المؤلف للتربية اليونانية إذ يقول أن أهم مميزاتها هي روح التجديد والابتكار والحرية الفردية. وغاية التربية عندهم هي الوصول إلى الحياة السعيدة. ويعرج على مدارس أثينا وأهم المواد التي كانت تدرس فيها ويذكر أهم فلاسفتهم سقراط الذي قضى حياته في التعليم وتلقين المعرفة حيث كان يلقى الناس في الطرق العامة ويحاورهم ويناقشهم من خلال التحليل والاستنباط دافعاً حياته ثمناً لذلك. ثم يتناول أفلاطون وجمهوريته التي كانت تحتوي على الكثير من الأفكار المثالية. وبعد تحليل دقيق لآرائه وفلسفته ينتقل إلى دراسة شخصيات أخرى كأرسطو الذي كانت نظرته إلى التربية أوضح وأعمق بكثير من أستاذه أفلاطون.
وفي الفصل الرابع يتناول المؤلف التربية الرومانية التي كان هدفها دمج الفرد بمجتمعه كمواطن يتمسك بالإخلاص لعادات الأجداد وتقاليدهم. وهذه التربية تشبه إلى حد كبير التربية اليونانية إلا أنها كانت دون مستواها فكان تأكيدها على شؤون الحرب والفروسية أكثر من تأكيدها على شؤون المعرفة. وقد توافد الكثير من الأساتذة اليونان إلى روما حيث أخذ التعليم يزداد اتساعاً وكانت الدولة هي التي تشرف على التعليم مباشرة وتحتكره محرمة بذلك المدارس الخاصة وكانت الأناشيد الدينية تحتل مركز الصدارة في موضوع التربية. يضاف إلى هذا دراستهم للألواح الاثني عشر المحتوية للقانون الروماني وبهذا ينتهي الباب الأول الذي يحتوي على أربعة فصول.
أما الباب الثاني فيتضمن موضوع التربية المسيحية في العصر الوسيط وأهم مميزاته أن أفكار الكنيسة كانت هي المهيمنة على كل شيء وكان كل من يخالف مبادئها يعتبر في نظرها شخصاً شريراً لابد من الاقتصاص منه. وفعلاً فقد دفع العديد من الناس والرهبان حياتهم ثمناً لمخالفتهم أوامر الكنيسة. ولكن هذا لم يستمر فقد هبت الجموع وطالبت بتحرير الكنيسة من الأوهام والخرافات التي علقت بها لإنماء الشخصية الإنسانية إنماء منزّهاً خالياً من الأمراض. ذلك لأن المسيحية قررت أن الناس متحدون في المصير متساوون أمام الله فرفعت من شأن الفقراء والمساكين وبشرت الجميع بثقافة واحدة.
وبعد أن ينتقل المؤلف إلى أداء أهم المفكرين في هذا العصر يتطرق إلى ضعف الفكر في العصر الوسيط. وأسباب هذا الضعف ويقول بأن رسائل القديس جيروم حول تربية الفتيات هي من أهم الوثائق التربوية في العصور المسيحية الأولى وقد نالت إعجاب الكثير من الكتاب المتقدمين والمتأخرين. وقد شهد العصر الوسيط نهضات ثلاثاً: الأولى على يد شارلمان ولم تدم طويلاً والثانية في القرن الثاني عشر والثالثة هي النهضة الكبرى في القرن السادس عشر التي كانت خاتمة ذلك العصر وفاتحة العصور الجديدة.
والذي يهمنا كثيراً هو إلقاء الضوء على الباب الثالث والمتضمن موضوع التربية العربية ابتداء من العصر الجاهلي وحتى أواخر الدولة العربية.
ويتوسع الباحث في هذا الموضوع فيذكر الأسواق العربية كسوق عكاظ قرب الطائف ومجنة قرب مكة وذو المجاز قرب عرفة وغيرها من الأسواق الأخرى التي كانت تشبه إلى حد بعيد معاهد التربية اليونانية. وإلى جانب المجالس والأسواق عرف العرب المجتمعات
– وهي كثيرة الأنواع والأقسام – وما قاله فيها الألوسي. منها ما كان لمحض الأنس وتنشيط النفس وذكر ما سلف لهم من الحروب والوقائع وتناشد الشعر والقريض ونحو ذلك من الكلام الذي تبتهج له الطبائع.
أما الكتاتيب فكانت منتشرة في بلاد الشام ومصر والعراق قبل الإسلام.
والقسم الثاني من هذا الباب التربية العربية بعد الإسلام فيخصص المؤلف له صفحات كثيرة لدراستها دراسة مستفيضة من جميع الأوجه وقد حددها بستة قرون وهي من أخصب الفترات التي مرت بها الأمة العربية فاستطاعت بفضل هذه التربية الجامعة أن تبني صرحاً حضارياً خالداً وزاداً ثقافياً لا يبلى على مر العصور حيث كانت البداية تعليم القرآن الكريم وتحفيظه في الكتاتيب والمساجد بالإضافة إلى العلوم التي انتشرت قبل الإسلام.
ومما يوصي به الإمام الغزالي. أن يتعلم الطفل في المكتب القرآن وأحاديث الأخبار وحكايات الأبرار وأحوالهم ثم بعض الأحكام الدينية. والشعر يجب أن يأخذ مساحة واسعة من عقول الأطفال وكذلك مبادئ الحساب وقواعد اللغة العربية. بعد ذلك يأتي المؤلف على دور القصور في تعليم أبناء الخلفاء من قبل المعلمين الذين كانوا يستصحبون لهذا الغرض. ويمر الصبيان في هذه القصور بعدة مراحل. وكان المعلم يلقب بالمؤدب وفي كثير من الأحيان يخصص له جناح في القصر وقد خطا الفاطميون خطوات واسعة في هذا المجال فأنشأوا في قصورهم مدارس خاصة يلتحق بها أولاد علية القوم وسراتهم. بعد ذلك انتشرت الصالونات الأدبية في العصرين الأموي والعباسي وكان الرشيد يعقد جلسات يجمع فيها الكثير من العلماء والفقهاء بحيث كانت تلك الجلسات خصبة جداً وتتناول علوماً شتى.