الاحتفاء بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وسط الظلام العالمي

مجلة المستقبل العربي – العدد – 241 – آذار 1999
الاحتفاء بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان
وسط الظلام العالمي
عبد الله عبد الدائم
مدخل
كنت في سبيلي إلى إعداد دراسة حول اللقاء الدولي الذي تمّ في باريس (يومي 7 و 8 كانون الأول/ ديسمبر 1998)، والذي دعت إليه منظمة اليونسكو بالاشتراك مع الحكومة الفرنسية، احتفاءً بالعيد الخمسين لولادة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر 1948). وعلى حين غرة فوجئت العالم كما فوجئ العالم كله، بأنباء ذلك الزلزال المصطنع العابث والمرعب، زلزال العدوان على العراق، مهد الحضارات العالمية، ومسقط رأس حقوق الإنسان على نحو ما صاغتها شريعة حمورابي في بابل عام 1700 قبل الميلاد، وموئل الحضارة العربية والإسلامية في أوج ازدهارها، فأظلمت في عيني دعاوى حقوق الإنسان الزائفة التي تملأ صفحات الكتب وأدراج منظمات الأمم المتحدة، وتعطلتْ لدي لغة الكتابة، وحلت محلها لغة الجوارح الجريحة الثائرة، وتمنيت أن أقوى على تمزيق سَدَنة حقوق الإنسان وأدعيائها وحماتها المزعومين بأظافري وأسناني.
إعلان عالمي لحقوق الإنسان، سبقه أمثاله، وتلته اتفاقات وعهود لا تحصى خلال خمسين عاماً، يدوس عليها جميعها إنسان حاقد ملدوغ ودولة متغطرسة تُحِلّ محلها النار والدمار، ضاحكة ملء فيها من أولئك السذّج الذين يدأبون من أجل بناء عالم جدير بالإنسان، مذكّرة إياهم أن الحق هو القوة وأن القوة وحدها هي الحق.
لقد تبارت شتى النصوص المتصلة بحقوق الإنسان (وعلى رأسها »الاتفاق العالمي الخاص بحقوق الطفل« الذي تم إقراره في نيويورك في السادس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 1990) في التأكيد على حقوق الطفل واليافع وحمايتهما من أي أذى مادي أو معنوي. وقد ورد في المادة (19) من ذلك الاتفاق التأكيد على ضرورة حماية الطفل من كل أشكال العنف، ومن التعرض لأي إساءة جسدية أو عقلية. فما عساها تقول اليوم في ما تعرّض له ما لا يقل عن عشرة ملايين طفل ويافع في العراق من ليالي الذعر والجنون الأحمق والموت، ومن الألعاب النارية حقاً التي ملأت سماء العراق وأرضها وهبطت على البلاد والعباد لتقتل وتدمّر، في أيام يستعد فيها معظم أطفال العالم لاستقبال أعطيات عيد الميلاد التي تنزل إليهم من السماء فرحةً وألعاباً وأضواءً.
ولم تغفل أي شرعة أو شريعة منذ آلاف السنين حتى اليوم حق الإنسان في الحياة واعتبرته رأس الحقوق جميعها. أولم يلخص القرآن الكريم هذا الحق المقدس في آية واحدة:
)من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً (1)، أولم يرد في المادة الثالثة من »الإعلان العالمي لحقوق الإنسان«: »إن لكل فرد الحق في الحياة وفي الحرية وفي الأمن«؟ فما بالنا إذا لم يقتصر المجرمون على قتل مئات الآلاف من الشيوخ والمرضى والعجزة، بل عاثوا قتلاً وفساداً وإبادة جماعية لشعب بأسره، عن طريق الجوع والمرض والبؤس خلال سنوات ثمانٍ؟
إن ما جرى أيام النازية من إبادة جماعية، كما يقال، كان كما نعلم، أهم ما دفع إلى وضع
»الإعلان العالمي لحقوق الإنسان«، بل إن »اتفاقاً حول الوقاية من جريمة الإبادة وحول مقاومتها« قد سبق ذلك »الإعلان العالمي« وتبنته »الجمعية العامة للأمم المتحدة« قبل يوم واحد، نعني في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر 1948. وقد حدد ذلك الاتفاق معنى الإبادة الجماعية، مبيناً أنها تعني تدمير جميع أو بعض أعضاء جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، وضرب أمثلة على ذلك نشير إلى أهمها:
أ- قتل أعضاء هذه الجماعة.
ب- الإساءة البالغة للسلامة الجسدية أو العقلية لأعضاء تلك الجماعة.
ج- إخضاع الجماعة عمداً لظروف من الحياة من شأنها أن تؤدي إلى تدميرها الجسدي الكامل أو الجزئي.
ولا حاجة إلى القول إن معاني الإبادة الجماعية كلها متوافرة في الحصار المضروب على العراق، ناهيك عن الإبادة المكشوفة الوقحة عن طريق الصواريخ والقنابل. ولا شك في أن ما جرى لليهود وللغجر أيام النازية يتضاءل أمام ما يجري في العراق على نحو متصل دائب منذ حوالي ثلاثة آلاف يوم. وإذا نحن رجعنا إلى نصوص واتفاقات أحدث حول حقوق الإنسان، وجدنا، فيما وجدنا، »الميثاق العالمي حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية« الذي تبنته هيئة الأمم المتحدة في 16 كانون الأول/ ديسمبر 1966، ووقعنا فيه – وفي كثير سواه من العهود والمواثيق الدولية – على المادة الثانية منه التي تنص على أن من حق أي شعب أن يتصرف بحرية في ثرواته وموارده الطبيعية، والتي ورد في آخرها بالحرف الواحد: »في أي حال من الأحوال، لا يجوز أن يُحْرم شعب من وسائل عيشه والإبقاء على حياته. ومثل هذا النص نجده في مواثيق دولية أخرى كثيرة، ونقع عليه بحرفتيه في المادة الثانية من القسم الأول من »الميثاق العالمي حول الحقوق المدنية والسياسية« الذي تم تبنيه أيضاً في السادس عشر من كانون الأول/ ديسمبر عام 1966، بل إن المواثيق العالمية الكثيرة في ميدان حقوق الإنسان تحرّم الدعوة إلى الحرب والدعاية لها، وتحرم الدعوة إلى الحقد القومي أو العرقي أو الديني وما تشتمل عليه من حضٍ على التمييز والتفرقة، وعلى العداء والعنف (على نحو ما ورد في »الميثاق العالمي حول الحقوق المدنية والسياسية« الذي أشرنا إليه (المادة العشرون من القسم الثالث).
على أننا قد نفتح أبواباً مفتوحة. فحقوق الإنسان، كما وردت على الورق، تكاد تكون شاملة، ولعلها أيضاً جميلة، ولا سيما إذا جمعنا شتى الإعلانات والمواثيق والاتفاقات التي صدرت عن الأمم المتحدة في هذا المجال. ولسنا ههنا في معرض نقدها وتفنيدها، فلنا عليها مآخذ كثيرة ولا سيما إذا قارنا بينها وبين ما تم في العالم من جدائد لا تحصى سواء كانت علمية أو تقانية (تكنولوجية) أو بيئية أو جينية أو إعلامية أو مالية أو غير ذلك. والمتحدثون عنها اليوم يشيرون إلى نقائصها في هذه المجالات جميعها، مطالبين بتحديثها وتجديدها وتحقيق مزيد من التكيف بينها وبين ما يجري في العصر من تغير مذهل. ولقد كنا عقدنا النية، عندما بدأنا الإعداد لهذه الدراسة، على الإشارة إلى وسائل تجديدها، بل إعادة كتابتها، كما نراها وكما يراها العديد من الباحثين، غير أن كابوس تدمير العراق، شفاءً لما في صدور الصهيونية والإمبريالية من غلّ لا يرتوي، غلٍّ على العرب والمسلمين، وإضعافاً للوجود العربي ونهباً لثرواته، وطمعاً في الاستيلاء على البقية الباقية من نفط العرب (تلك البقية التي تمثل ثاني احتياطي للنفط في العالم)، نقول إن ذلك الكابوس دفعنا إلى أن نتصدى مباشرة لصلب الموضوع وجوهره، وأن نهجر الدراسة التحليلية والنقدية.
أولاً: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إعلان معطَّل
وصلب الموضوع عندنا أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما تلاه من إعلانات (ومواثيق دولية) إعلان معطَّل، يمثل في أفضل الأحوال أمنيات طيبة ومثلاً علياً ونوراً هادياً لمن شاء أن يهتدي. وبعض التقدم الذي حققه في بعض المجالات، وفي معالجة بعض المشكلات العالمية، لم يتم في حقيقة الأمر إلا في الأحوال التي توافرت فيها إرادة سياسية تؤيدها القوة. وترجع عطالته هذه إلى السببين الرئيسيين الآتيين:
1- فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليست له – بحكم نصوصه نفسها – قوة قانونية ملزمة للدول الأعضاء، وإن تكن »المواثيق« (Pacts) التي انبثقت منه قد حاولت أن تضمن تطبيقه عن طريق دفع الحكومات والدول إلى احترام ما ورد فيها من نصوص. وهو دفعٌ لم يكتب له إلا حظ ضئيل من النجاح. وكما يقول جان – كلود مونو (J.C.Mono) في مقدمة الوثيقة الأساسية التي تمّ إعدادها لمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان: »ما الفائدة من إعلان الحقوق إذا كنا لا نملك الوسائل التي تحميها وتبقي عليها؟«.
2- ومن هنا فإن هذا »الإعلان العالمي لحقوق الإنسان« الذي أراد أن يمثل المشروع الذي يود المجتمع الدولي أن يبني العالم من خلال مبادئه، في حاجة إلى سلطة قادرة على إنفاذه. وفي إطار هيئة الأمم، ليس ثمة من يمثل هذه السلطة سوى هيئة تُلحق بمجلس الأمن الدولي. ولا حاجة إلى القول إن مجلس الأمن الدولي سلطة في يد الأقوياء، بل في يد القوي الأوحد. وإقدام الولايات المتحدة – التي تجر وراءها بريطانيا – على ضرب العراق في السابع عشر من شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي من دون استشارة مجلس الأمن، أطلق رصاصة الرحمة على ما تبقى من هيبة ومصداقية ودور لمثل هذا المجلس. وبديهي أن العالم الذي يقوده قطب واحد – حتى ولو لم يكن في مثل شراسة الولايات المتحدة وعدوانيتها وغرورها – لا يمكن أن يأبه لحقوق الإنسان إلا من خلال تسخيرها لأغراضه ومطامعه.
ثانياً: »الإعلان العالمي لحقوق الإنسان« غربي الطابع
ثم إن »الإعلان العالمي لحقوق الإنسان« – على ما فيه من مزايا في مجال الحريات الفردية – وُلد بعد الحرب العالمية الثانية، وعبّر عن وجهة نظر الدول الغربية الظافرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة. وقد كان همه الأساسي التأكيد على حرية الفرد، من دون التأكيد في الوقت نفسه على حرية المجموع كما فعل الاتحاد السوفياتي. ومما يثير الانتباه عند قراءة نصوص هذا الإعلان، أن مواده الثلاثين جميعها تبدأ بكلمة »كل شخص«، أو »كل فرد«، ولا نكاد نجد فيها سوى مواد محدودة جداً تشير إلى الحريات والحقوق الاجتماعية، ولكن من زاوية الحريات الفردية أيضاً. إن »الأنا« في هذا الإعلان يطغى على »النحن«. والحرية الفردية التي يمعن في الحديث عن أهمية صيانتها، هي فيه حرية مجردة، حرية »في ذاتها« و »لذاتها« وليست لها مقومات تحفظها، أو مضمون يجعلها »حقيقية« وملموسة. وإذا أردنا مزيداً من التوضيح، قلنا إن تلك »الحرية الفردية« التي تعنى في »الإعلان« حق كل إنسان في أن يفعل ما يشاء، لا يمكن أن يكون لها معنى إلا إذا استندت إلى مبدأين أساسيين: مبدأ المساواة، ومبدأ العدالة. وهذا ما أكد عليه »إعلان حقوق الإنسان والمواطن« في فرنسا منذ عام 1793، وملحق ذلك الإعلان عام 1936. فقد أشار الإعلان وملحقه إشارة واضحة – منذ ذلك التاريخ المبكر – إلى أهمية الديمقراطية الاجتماعية والحقوق الاجتماعية (كحق العمل، وحق التعلم، وحق إطعام المعوزين، وسواها).
ومن المفيد أن نذكر عابرين، ما دمنا نتحدث عن »إعلان حقوق الإنسان والمواطن« وعن ملحقه، ونحن في أجواء العدوان على العراق، ما ورد في المادة الثانية عشرة من الملحق بهذا الشأن »ليس هنالك أي ظرف يجعلنا نعذر شعباً معيناً يتحدّى شعباً آخر. والخلافات بين الشعوب جميعها ينبغي أن تسوّى عن طريق المصالحة أو التحكيم، أو عن طريق محكمة دولية يعتبر حكمها قاطعاً. و أي دولة لا تراعي هذا القانون تصبح خارجة على المجتمع الدولي«.
ولنعد إلى موضوع حقوق الإنسان وحقوق المجتمع، لنقول إن الحقوق الاجتماعية أكّد عليها أيضاً، »إعلان حقوق الشعب العامل والمستغَلّ« الذي أقره الاتحاد السوفياتي في الثاني عشر من شهر كانون الثاني/ يناير 1918، كما تريثت عنده بعد ذلك معظم الوثائق الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، مصححةً إلى حد ما الطابع الفردي للإعلان الأصلي. ولا غرابة، فالإعلان الأصلي لحقوق الإنسان، وضع عام 1948 يوم كان عدد الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة لا يتجاوز 56 عضواً معظمهم من الدول الغربية(2). يضاف إلى هذا أن اللجنة الخماسية التي وضعته كان أبرز أعضائها من الدول الغربية أيضاً (رئيستها أمريكية وهي أرملة الرئيس الأمريكي روزفلت، وأحد أعضائها فرنسي وهو »كاسان« (Cassin) الذي حرر مسودة المشروع)، أما الأعضاء الثلاثة غير الغربيين فيها (وهم »تشانغ« الصيني، والهندية »هانسامهتا«، و »شارل مالك« اللبناني) فهم من أصحاب النزعة الغربية الليبرالية أيضاً.
ثالثاً: »الإعلان العالمي لحقوق الإنسان«
لا يستجيب لمشكلات العصر
ويكفي – كيما ندرك نقائص »الإعلان العالمي« وعطالته في الوقت نفسه – أن ننظر إلى واقع العالم اليوم، متسائلين: »ماذا تعني حقوق الإنسان« لمليار وثلث المليار من الكائنات الإنسانية التي تقتات بأقل من دولار واحد في اليوم؟ وماذا تعني لخمسة وثلاثين ألف طفل يموتون كل يوم بسبب سوء التغذية، أو لمليار من الراشدين، معظمهم من النساء، لا يعرفون القراءة والكتابة، أو لأولئك الذين لا يتوافر لديهم الماء اللازم للشرب؟ والإحصاءات في هذا المجال كثيرة ومبذولة، تذكرنا كلها، بالإضافة إلى البؤس الذي تعانيه أربعة أخماس الإنسانية، بالهوة المتزايدة بين المجتمعات الصناعية والمجتمعات التي توصف بأنها نامية. وفوق هذا وذاك فإن عولمة الاقتصاد، كما ذاع وشاع، تقود بحكم طبيعة اللعبة إلى اضطراب كبير باسم »حرية المنافسة« التي يحركها دافع أوحد هو دافع الربح الشرس، الأمر الذي يمنح في خاتمة المطاف مزيداً من الغنى ومن الحقوق لفريق من الناس، ومزيداً من الاستبداد والبؤس لفريق آخر. وندرك مأساة حقوق الإنسان في عالم العولمة المالية »الوحشية«. إذا نحن أشرنا إلى تقرير صدر عن منظمة الأمم المتحدة في التاسع من شهر أيلول/ سبتمبر الماضي يبين أن 4 بالمئة من الثروة المتراكمة لدى أكبر أصحاب الثروات الضخمة في العالم (وعددهم 225) تكفي من أجل أن نوفّر لسكان الكرة الأرضية جميعهم الحاجات الأساسية والخدمات الاجتماعية الأولية (كالصحة والتعليم والغذاء). ومن هنا، قد لا نغلو إذا قلنا إن تراكم الثروة هذا في يد قلّة من الناس – وهو تراكم يعززه تقدم التقانة الحديثة ولا سيما التقانة الإلكترونية – ينذر بالوصول إلى مجتمع عالمي إقطاعي الطابع. وهكذا، تتداعى، أمام مخاطر تهديم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، »حقوق الإنسان« على نحو ما نصّت عليها الإعلانات والمواثيق والاتفاقات الدولية. إن من حقنا أن نقول إن الذي يقسم العالم شطرين لم يعد جدار برلين الذي كان يفصل الشرق عن الغرب، بل هو جدار من طراز آخر، يصعب تجاوزه، نعني جدار المال الذي يقسم الكرة الأرضية إلى شمال وجنوب. ولا بديل إذن بالتالي إلا وضع »إعلان جديد لحقوق الإنسان« أساسه وقوامه حق الشعوب في الامتلاك الحر لثرواتها.
رابعاً: »الإعلان العالمي لحقوق الإنسان«
يغفل الثقافات الخاصة للشعوب
وفوق هذا وذاك، وقبل هذا وذاك، فإن أي إعلان لحقوق الإنسان، إذا أراد أن يكون قابلاً للتطبيق، لا بد من أن ينطلق من الهوية الخاصة والثقافة المتميزة، لكل شعب. والطابع العالمي لحقوق الإنسان – وهو مطلب لا جدال فيه – لا يمكن أن يتحقق عن طريق إهمال الثقافات الخاصة للشعوب المختلفة، وعن طريق فرض نمط واحد ووحيد من الثقافة، هو ثقافة الأقوى.
والمسألة مسألة تواصل وحوار، لا مسألة صراع وصدام، بل إن كل ثقافة قومية حقيقية
لا بدّ من أن تكون عالمية الغايات بالضرورة. أما فرض حقوق عالمية تهمل الثقافات الخاصة، فيعني أحد أمرين: إما جعل تحقيق تلك الحقوق متعذراً لتعارضه مع الثقافات القومية والظروف القومية السائدة، وإما محاولة فرض ثقافة الأقوى، مع ما يجره هذا من تحويل معركة حقوق الإنسان إلى معركة بين الإنسان والإنسان، ولا سيما أن حقوق الإنسان ليست من عطاء شعب دون آخر. فلقد عرفتها سائر الشعوب منذ أقدم الأزمنة، ودعت إليها الديانات المختلفة والفلسفات المختلفة والشعوب المختلفة، ولم تنبثق فجأة في ذهن الإنسان الغربي المعاصر، كما يعتقد بعضهم، وليست حصاد »الحضارة اليهودية المسيحية« كما يقولون.
فلقد أشرنا منذ بداية كلمتنا إلى شريعة حمورابي البابلية التي وضعت عام 1700 قبل الميلاد. وهي أول محاولة إنسانية من أجل حماية الإنسان من طغيان السلطة. وقد استهدفت »إشاعة العدالة من أجل منع الأقوى من الإساءة إلى الأضعف«.
ومعظم الديانات الكبرى أكدت حقوق الإنسان بأوسع معاني هذه الكلمة. هذا ما نجده، على سبيل المثال لا الحصر، في الديانة الكونفوشيوسية منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وفي الديانة البوذية التي قضت على »الطبقات« الاجتماعية. وهذا ما نجده في الديانة اليهودية في »ألواح موسى الأثني عشر«، وفي الديانة المسيحية. وهذا ما نجده لدى فلاسفة اليونان والرومان وسواهم.
وللدين الإسلامي شأنه الخاص في هذا المجال. فهو حقاً دين حقوق الإنسان، وهو الذي سعى إلى تحرير الرق قبل الولايات المتحدة بألف عام، ودعا إلى المساواة بين البشر والقضاء على شتى ضروب التفرقة والتمييز، على نحو ما ورد صريحاً واضحاً في حجة الوداع، حين خاطب الرسول () الناس قائلاً: »يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى«. وقد لخص القرآن الكريم الدعوة إلى المساواة والإخاء والحوار بين الشعوب في الآية الكريمة: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم (3). وكلنا يذكر قولة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشهيرة: »متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً«.
والشواهد على رعاية الدين الإسلامي لحقوق الإنسان بأوسع معاني هذه الكلمة تستغرق سفراً برأسه. ولا يقتصر مفهوم حقوق الإنسان في الدين الإسلامي على الحقوق الفردية، بل يؤكد تأكيداً خاصاً متميزاً حقوقه الاجتماعية، مبيناً الواجبات الملقاة على الأفراد وعلى المجتمع من أجل صيانتها وحفظها. ويلخص الحديث الشريف الدعوة إلى التكافل الاجتماعي بقوله: »مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى«.
وفوق هذا وذاك وضع الإسلام مبدأ الشورى الذي يعني كما يقول فهمي هويدي »أن كل أمور الأمة الإسلامية ينبغي أن يناقشها كل ممثلي المجتمع«(4). كما وضع مبدأ »مساءلة
الحكام« وحق »قوامة الأمة على حكامها« كما يقول الفقهاء. ومحط الرحال في هذه الدعوة الإسلامية إلى احترام حقوق الإنسان أن يعمّ العدل، وأن تتحقق المساواة، بل إن تباشير حقوق الإنسان قد ظهرت في العصر الجاهلي نفسه. وأبرز تجلياتها، »حلف الفضول«(5) وهو اتفاق تمّ بين عدد من القبائل على نصرة المظلوم وصلة الأرحام. وقد شهده الرسول () في الجاهلية وذكر بعد بعثته أنه لو دُعي إلى مثله لأجاب. وقال في هذا: »وأيما حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة«. ويُستخلص من هذا القول، كما يقول الشيخ راشد الغنّوشي(6): »أنه يمكن لأي جماعة مؤمنة أن تتفق على إقامة حكم يضمن دفع الظلم وتحقيق عدد من المصالح، مثل احترام حقوق الإنسان، وتحكيم إرادة الشعب، والتداول على السلطة عبر الانتخابات، أو الاتفاق على ذلك مع آخرين من غير الجماعات الإسلامية«. وهذا هو كما نعلم أساس مبدأ المصالح المرسلة في الإسلام، وقوامه، كما بيّن الفقيه ابن تيمية وابن قيم الجوزية، أن كل ما كان فيه مصلحة الأمة فهو من الدين، ولو لم ينزل به القرآن ولم يقله الرسول.
ونخشى أن يشطح بنا القلم في هذا المجال، مجال السبق الإسلامي في ميدان حقوق الإنسان، سواء في ذلك حقوقه الفردية وحقوقه الاجتماعية. وجل ما أردناه أن نُسقط ذلك الاعتقاد الشائع لدى الكثير من الكتّاب الغربيين، نعني الاعتقاد بأن الدعوة إلى حقوق الإنسان ابتكار غربي، وأن كل ما هو شرقي يعني الظلم والتسلط.
وهيهات أن تجوز المقارنة بين »إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية« بتاريخ
4 تموز/ يوليو عام 1776 الذي هو »مثال صارخ لنفاق الحرية«، كما يصفه روجيه غارودي في كتابه أمريكا طليعة الانحطاط(7)، وبين حقوق الإنسان في الإسلام. فلقد أعقبت »إعلان الاستقلال« هذا – كما نعلم – عبوديةُ السود لمدة قرن كامل (ولّما تزلْ قائمة حتى اليوم)، وقيامُ حرب أهلية، والإبادةُ الجماعية للهنود الحمر. وما تزال حقوق الإنسان – حتى إن عنينا بها حرية الفرد فقط – بعيدة التحقيق في الولايات المتحدة نفسها، كما يبين ذلك العديد من مفكريها، فضلاً عن أنها تعني لديها على المستوى العالمي شيئاً واحداً هو »حرية السوق« المتوحشة السائبة.
خاتمة
إن كلمتنا هذه حول »الذكرى الخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان« رافقها، كما قلنا منذ البداية، التحطيم الكامل لأي مبدأ من المبادئ الإنسانية من قبل القنابل والصواريخ التي أطلقها دعاة حقوق الإنسان وحماته المزعومون على العراق. وهذا التزامن كاشفٌ ما بعده، كاشف عن زيف الحضارة الحديثة كلها، وعن إفلاسها المتزايد، بسبب افتقارها إلى القيم الخلقية بوجه خاص.
فمهما تكن الضوابط التي توضع من أجل حماية حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، فإنها تظل واهية وكاذبة إذا لم يرافقها إيمان حقيقي بها لدى القيمين على حياة العصر ولدى سائر الناس ينطلق من وجود سلّم للقيم تجمع عليه الإنسانية. أما حين تتزامن الدعوة إلى السلام مع الحرب، وحين تقوم الدعوة إلى حرية الأفراد والجماعات جنباً إلى جنب مع غلبة السلاح والمال والإعلام وسيطرتها على كل شيء، وعندما يصبح الدين الجديد »وحدانية السوق«، وحدانية قوامها المخدرات والسلاح، فإن البحث في حقوق الإنسان يغدو ضرباً من الألهية أو التخدير.
لقد صدر »الإعلان العالمي لحقوق الإنسان« بعد الحرب العالمية مباشرة، معلناً – كما يدّعون – الحرب على البربرية. ومنذ ذلك الحين حتى اليوم قام في العالم حوالي مائة وخمسين نزاعاً ذهب ضحيتها سبعون مليون قتيل وجريح. ومن الواضح اليوم أن ما هو آت أشد ظلمة، وأن حروب المستقبل ستكون مستمرة بين المركز (نعني الغرب) وبين المحيط (نعني البلاد المستعمرة سابقاً)، بعد أن كان الصراع يجري من قبل بين الغرب والشرق. وما جرى في البوسنة وفي رواندا وفي الصومال وفي كمبوديا – فضلاً عن العراق وليبيا ولبنان – أمثلة قليلة صارخة تشهد على ذلك.
إن من حق إنسان اليوم أن يتساءل: ما فائدة التقدم المادي والتقاني الضخم إذا كان على الإنسان أن يحيا في البؤس والمصائب ويخشى المستقبل؟
ومن هنا فإن الفكرة التي تقول بأن تقدم العلم يضمن مستقبلاً أفضل فكرة غدت مجرَّحة، بل أملٌ يحطّمه الزمن. فالعلم بلا ضمير لا يعدو أن يكون تقويضاً للإنسان وللحضارة الإنسانية الجديرة بهذا الاسم. ولا أدل على ذلك أيضاً مما نشهده من آثار الثورة الإعلامية التي لا يوجهها وازع خلقي، والتي يستوي في أجهزتها وبثها الإعلامي موتُ إنسان غربي واحد في جبال الألب وموتُ آلاف الناس تلو الآلاف في العراق، أو موتُ مليوني شخص في كمبوديا.
لقد قرأت في الأيام الأخيرة لوحة كبيرة في أحد أسواق باريس الكبرى كتب عليها: »يا تقنيو (تكنولوجيو) العالم اتحدوا« وكأنها البديل من الشعار الشيوعي القديم: »يا عمال العالم اتحدوا«. وعجبت لما قرأت وتساءلت ماذا يعني هذا الشعار الجديد، ومن أجل ماذا هذه الدعوة إلى اتحاد تقنيي العالم؟ وكان ذلك أيضاً أيام القصف الهمجي الأخير على العراق. ووجدت الجواب جاهزاً لدى مشاهدة القصف التقاني المزود بأحدث مبتكرات التقانة الحربية، التي »تمكن مالكها من أن يربح الحرب دون أن يحارب« (ولا فخر)، والتي اتصفت على حدّ قول توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا، بـ »الدقة« الجراحية (ويلٌ للطب والجراحة حين يُقرنان
بالموت!).
وإذا نحن أردنا مثالاً صارخاً عما يؤدي إليه عالمنا حين يبيع نفسه للشيطان في سبيل الثروة والقوة، وجدناه في تعليق ظهر منذ أيام في صحيفة لموند الفرنسية بتاريخ 13 كانون الأول/ ديسمبر 1998 وعنوانه »جائزة نوبل والمجون«. والتعليق ينطلق من خبر نشرته مجلة الأوبزرفر الأسبوعية البريطانية تؤكد فيه أن مؤسسة نوبل للسلام توظف مئات ملايين الفرنكات، عن طريق البورصة، في الصناعات الحربية! فلديها مثلاً أموال موظفة مثمرة في شركة »إيروسبيس« البريطانية التي باعت مطاردات وصواريخ »هاوكس« (Hawks) إلى أندونيسيا، وفي شركة ج.ك.ن. (G.K.N.) التي قدمت لجاكارتا تجهيزات عسكرية لمقاومة حركات الشغب، ولمؤسسة نوبل، هذه أيضاً استثمارات موظفة لدى شركات السلاح التي تتعامل مع »برمانيا«، ومع كثير من مؤسسات الموت والدمار.
وكلنا يعلم أن جائزة نوبل للسلام أنشأها مؤسسها ألفريد نوبل، مخترع الديناميت وتاجر الأسلحة، من أجل التكفير عن خطيئته، عن طريق مكافأة الذين يقدمون من أجل خدمة الإنسانية أفضل الأعمال. ويعلّق المسؤولون عن الشؤون المالية لمؤسسة نوبل هذه في الولايات المتحدة وبريطانيا قائلين بأن ليس ثمة أي توجيه أخلاقي مفروض عليهم في ممارسة عملهم وفي اختيار مجالات استثمارهم. وقد ثنّى على ذلك مدير المؤسسة مايكل سولمان (Michael Sohlman) الذي أكد أن التعليمات الموجهة إلى مراكز التوظيف التي تتعامل مع المؤسسة لا تطلب إليها إلا التوظيف في مؤسسات مالية رصينة ووافرة الأرباح ومعروفة. ويضيف مدير المؤسسة قائلاً:
»إن من الممكن أن نفعل هذا وأن نعمل في الوقت نفسه من أجل السلام« !
هذا التناقض، وهذه الازدواجية، وهذا التداخل، بين الخير والشر مظاهر وصفات من صلب طبيعة عالم اليوم. ومن هنا غدا الحصول على لقمة العيش وعلى الحاجات الأساسية – ناهيك عن الغنى والبحبوحة – مطلباً عسيراً للكثرة الكاثرة من سكان العالم، بل مطلباً مختلطاً بالدم، بل إن البؤس يولد العنف، والعنف بدوره يولد البؤس. وثمة شعوب كثيرة تجد نفسها مدفوعة إلى أن تفضّل العنف على الفقر، على ما في ذلك من مخاطر.
ومن هنا يخلص الفيلسوف الأمريكي المعروف راولز (J. Rawls) صاحب الكتاب الشهير نظرية العدالة (Theory of Justice) إلى القول بأن ما يجري في العصر يدفعنا إلى أن نتجاوز الأخذ بنظرية مثالية في ميدان حقوق الإنسان، وأن نبحث في ظروف عصرنا التي لا تمت إلى المثالية بشيء. أما نحن فنزيد على ذلك ونقول أن لا مندوحة من تبني موقف إنساني مقاتل ومناضل، في مواجهة مسيرة التطور الدارويني الجديد الذي يهدّد الضعفاء بالزوال.
ومنطلقنا في ذلك علمي وفلسفي في آن واحد. فالطبيعة الإنسانية، كما تنبئنا دراسات علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة، ثلاثية الأوجه. فهنالك »الطبيعة الغرزية« (الجسدية والبيولوجية) التي لا تختلف عن طبيعة الحيوانات كلها (والتي تدفعنا إلى الطعام والشراب وسوى ذلك). وهنالك »الطبيعة الاجتماعية« التي يستمدها الإنسان من مجتمعه ومن تراث المجتمعات الإنسانية، والتي تهذّب طبيعته الغرزية وتعلو بها وترسم لها حدوداً وضوابط. وهنالك أخيراً لا آخراً ما يمكن أن نسميه »الطبيعة الإنسانية« للإنسان، نعني ذلك التوق الشديد لديه إلى عالم القيم الروحية والإنسانية المثلى، الذي يتجاوز الطبيعة الغرزية، والذي يحكم على الطبيعة الاجتماعية من خلال عالم القيم هذا ويدفع بها بالتالي وبالمجتمع والإنسانية إلى مزيد من التقدم الجدير بالإنسان كإنسان. وقد بيّن علماء النفس والفلاسفة وسواهم أن الإسهام في عالم القيم، عالم الحقيقة والخير والأخلاق والجمال والمحبة، أمرٌ متضمن في طبيعة الكائن نفسها. فالإنسان كائن لا يكتمل ولا يبلغ منتهى تفتحه وازدهاره وسعادته إلا بالإسهام في التعالي عن حمأة الأرض والتطلع إلى إغناء القيم الإنسانية »المتعالية«، على حد تعبير الفلاسفة، التي يشرئب إليها بحكم كونه إنساناً. على أن هذا التحول في البنية النفسية للإنسان لا يتم من تلقاء ذاته، وأداته الضرورية هي المجتمع، بكل ما فيه من تراث القرون.
وقد يبدو هذا التحليل مفرطاً في المثالية. ولا نظنه كذلك. فنحن ننطلق من طبيعة الإنسان نفسه، ونتكئ على طبيعته البيولوجية وطبيعته الاجتماعية لنرقى به شطر طبيعته الإنسانية التي هي في صلب تكوينه، شأنها في ذلك شأن الوجهين الآخرين لطبيعته. ولا يعني ذلك أن هذه المهمة يسيرة، إذ لا بد لبلوغ عالم القيم من مغالبة الطبيعة البيولوجية والطبيعة الاجتماعية والاتكاء عليهما في آن واحد. غير أن المهم أن ندرك الطريق، وأن ينتزع المفكرون العالم، شيئاً بعد شيء، من بين يدي مخرّبيه، وأن تعمل الثقافات الإنسانية كلها متآزرة متفاعلة من أجل بناء وتعزيز القيم الإنسانية الحقة.
وما نجده من رفض الكثرة الكاثرة من سكان العالم لما يجري في عالم اليوم، ومن إنكارها الحادّ له، أفصح دليل على أن الإنسان، كما قلنا ونقول، تواق بطبيعته إلى الحق والخير. ونعود فنقول إن هذه الدعوة إلى الرجوع إلى القيم الإنسانية الحقة وتطويرها ينبغي أن تكون دعوة مقاتلة مناضلة. ومن حسن الحظ أن ثمة منظمات غير حكومية لا تحصى في العالم، وجمعيات ونوادي لا حصر لها، تضطلع بهذه المهمة، وعليها بالتالي أن تعبئ جهودها مجتمعة من أجل بناء عالم تسوده حقوق الإنسان الحقيقية. يضاف إلى ذلك، أن هنالك منظمات وجمعيات أخرى تترقب وتنتظر، ومن شأن التعبئة النضالية أن تدخلها إلى ساحة الجهاد. فالدعوة الإنسانية الصادقة تنتشر انتشار النار، وتمتد امتداد الضياء.
ولا حاجة إلى القول إن للنظم التربوية دوراً أساسياً في هذا الشأن، شريطة أن توجه بنيتها ومناهجها وطرائقها فلسفةٌ إنسانية مكينة. والرهان الذي تنطلق منه النظم التربوية في سعيها هذا يستند إلى حقيقة قوامها أن الطبيعة الأساسية للكائن الإنساني طبيعة بناءة وجديرة بأن نطمئن إليها ونثق بها.
إن المهمة الأساسية، كما قال ذلك توفلر في أول وأشهر كتبه صدمة المستقبل، هي أن ننزع قيادة العالم الفكرية من أيدي البيروقراطيين ورجال المال وتجار السياسة وسواهم وأن نوكلها إلى أربابها من رجال الفكر ودعاة الحق.
شؤون وشجون كثيرة يثيرها الحديث عن حقوق الإنسان – ولا سيما عندما يتزامن هذا الحديث مع ذلك التدهور الخطير الجديد الذي تمّ في ميدان حقوق الإنسان وفي ميدان الدعوة الإنسانية، بعد إقدام الولايات المتحدة وبريطانيا على ضرب العراق، وعلى ضرب مجلس الأمن الدولي في آن واحد، وكأنهما بذلك تعلنان بداية النهاية للنظام العالمي الحالي الذي تضبطه نظرياً منظمة الأمم المتحدة – ولا سيما أن العدوان على العراق، حصنِ الأمة العربية، هو عدوان على الأمة العربية كلها وعلى تاريخها وقيمها وتراثها الإنساني العريق، وعدوان على الشعوب الإسلامية وعلى رسالتها الإنسانية العالمية، وعدوان على الأمم المستضعفة جميعها، بل على العالم كله الذي غدا عرضةً لشريعة الغاب، بعد أن سقط القناع وتهاوى الخداع وبدأ الوهن والضياع.
وقراءة دقيقة لتصريحات كلينتون عند بدء العدوان تشير بوضوح إلى سقوط النظام العالمي، وإلى إصرار القوة العظمى على أن تقود العالم وحدها. فهذه التصريحات قيلت كلها بلغة المفرد، بلغة »الأنا« دونما اكتراث بالآخر:
»لقد أعطيتُ فرصة أخيرة لصدام حسين. لقد بيّنتُ له بوضوح أن رفضه للتعاون سوف يقود إلى أن أقوم بأعمال وردود دونما إنذار سابق«. أجل، إن هيئة الأمم المتحدة أصبحت في نظر كلينتون »أنا«، أي هو. ولقد حرص حرصاً خاصاً على أن يظهر بمظهر السيد الوحيد للعبة، للأنا، الأنا الخطيرة، »الأنا البغيضة« على حد قول مشرع الشعر الفرنسي بوالو (Boileau). ومن هنا يكتب النائب الفرنسي الاشتراكي بول كيليس (Paul Quilés) في كلمة له في جريدة ليبراسيون(8) متسائلاً: أولم يكن أحد الأهداف غير المباشرة للقرار الأحادي الذي اتخذه كلينتون بشأن ضرب العراق جعْلَ مهمة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان صعبة، وإضعاف مصداقية مجلس الأمن؟ ولقد زادت مأساته الجنسية الخاصة في تشبثه بالأنا، بشكل شعوري أو لاشعوري, وهنا نجدنا على رغم كل شيء مضطرين إلى أن نعيد ما قاله أحد الكتّاب الفرنسيين: »لو لم يوجد صدام حسين لاخترعته مونيكا« ! على أن للأمر دون شك أبعاداً وعوامل وأسباباً أخرى كثيرة وعريقة في السياسة الأمريكية تجاه العرب.
وبعد، لا بد من أن نختم حديثنا. وختامه جملة واحدة هي: أن علينا أن نناضل من أجل حقوق الإنسانية إذا أردنا صيانة حقوق الإنسان الحقة.