مراجعة كتاب محمود أمين العالم (الفكر العربي بين الخصوصية والكونية)

مجلة المستقبل العربي، بيروت، 1996، ص238

الفكر العربي بين الخصوصية والكونية

عبد الله عبد الدائم

مدخل:
يخيل إلى كثيرين أن الفكر العربي – شأن الواقع العربي جملة – سائر نحو المزيد من التفتت والشتات، وأن اصطراع الواقع السياسي السائد في الوطن العربي لا يقل عنه – بل يغذيه ويمده بالوقود – اصطراع الإيديولوجيات الفكرية لدى المفكرين العرب، وتوالد هذا الصراع وتكاثره يوماً بعد يوم. وعندنا أن هذه النزعة المتشائمة لا تخلو من غلو مفرط. فالفكر العربي اليوم – على الرغم مما يبدو عليه من قلق وتلمس للطريق – يولّد، في ما نرى، – شيئاً بعد شئ – من خلال صراعاته وألوانه المتباينة – نظرة عقلانية مؤلِّفة تكاد تتجه إليها الكثرة الكاثرة من المفكرين والمثقفين. وإذا نحن استثنينا الأطراف المتطرفة – التي لا يخلو منها مجتمع والتي تشبه جرس «غوس» (Gauss) الذي يتحدث عنه الإحصائيون – كدنا نقع على فكر يمشي بخطوات ثابتة وجادة نحو مزيد من العقلانية والموضوعية في التنظير، ونحو مزيد من الالتحام بحاجات الواقع العربي والعالمي. والحديث عن هذا الفكر النامي، الذي امتص الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية الحديثة في آن واحد، والذي قام بتحليل عميق لتاريخ الأمة العربية وحاضرها ومستلزمات مستقبلها، فضلاً عن استيعابه النقدي لحصاد التجربة العالمية، نقول إن الحديث عن مثل هذا الفكر الذي حركته التجربة الفكرية والعلمية معاً يحتاج إلى سفر قائم برأسه، بل إلى أسفار.
وحسبنا أن نقول إن هذا الفكر العقلاني الموضوعي، الذي ترنو إليه أنظار الكثيرين من المفكرين والمثقفين، يتصف بالتأليف النقدي العميق والنزيه بين الفكر الليبرالي والفكر القومي والفكر الإسلامي والفكر الماركسي، مع بعض التباين بين أصحابه حول الوزن الذي يهبونه لكل من هذه الاتجاهات، وهو تباين مشروع، بل مطلوب، يغني كل اتجاه من هذه الاتجاهات ويبقي على قدرته على تجديد ذاته من خلال التفاعل مع سواه.
ولا يتسع المجال للحديث عن أبرز ممثلي هذا الفكر المؤلف العقلاني والواقعي لدى ممثلي مختلف التيارات الفكرية على الساحة العربية. وقد يغنينا عن ذلك ما نجده في الكتاب المهم الذي وضعه المفكر العربي الرائد محمود أمين العالم، وعنوانه «الفكر العربي بين الخصوصية والكونية»، ذلك أن هذا الكتاب – في نظرنا – يكاد يمثل القاسم المشترك بين الاتجاهات الفكرية الكبرى السائدة، بل لعله يمثل المستقبل الذي تتجه إليه مسيرة الفكر العربي إذا ما هو وعي ذاته، على نحو ما يتبدى اليوم من ملامح هذا الفكر ونتوءاته وإرهاصاته. وقد يكون كما أراد له صاحبه، وكما نتمنى معه، بداية لوضع «مشروع قومي عملي» ينأى عن الشعارات المجردة، وتشارك مختلف القوى الحية في المجتمع العربي مشاركة ديمقراطية لتحقيقه والنضال من أجله»، وقد وعى أهمية هذا المشروع حين دعا المثقفين، من خلاله، إلى إنشاء «عقد اجتماعي عربي جديد تجتمع عليه كل القوى الحية في شعوب أمتنا العربية للتصدي لما تواجهه أمتنا من أخطار وتحديات داخلية وخارجية».
والحق أن صاحب الكتاب، وهو ذو التجربة الفكرية والسياسية والنضالية العريقة والعميقة، يضع إلى حد كبير دستوراً فكرياً يحدد منطلقات الفكر العربي في سعيه نحو بناء المجتمع العربي بناء متجدداً.وجوهر تلك المنطلقات التأليف الموضوعي والعميق بين الاتجاهات الكبرى في ذلك الفكر، بحيث يتلاشى ما يبدو بينها من تعارض. فهنالك فكرة الهوية وما يرتبط بها من أصالة ومعاصرة، وهنالك التراث ودوره، وهنالك الأصولية والعلمانية، وهنالك الفكر الماركسي والتجربة الشيوعية، وهنالك الحرية ومفاهيمها المختلفة ودورها الأساسي.
ولاشك في أن هذه الاتجاهات الفكرية الأساسية قد قتلها الباحثون درساً ولم يبقوا منها بقية لمستزيد. غير أن الجديد المهم في ما أتى به محمود أمين العالم في كتابه الرائد هذا، هو أنه يوحد بينها وينظر إليها نظرة عقلانية متكاملة. وهكذا يولد في خاتمة المطاف اتجاهٌ فكريٌّ ملتحم مجدد، تلتقي فيه الهوية الثقافية والقومية بالتراث العربي الإسلامي وبتراث الحداثة والتجديد معاً، وتلتقي فيه الأصولية بالعلمانية، ويلتقي هؤلاء جميعاً بالفكر الماركسي في أصالته لا في ما آل إليه، بل يلتقي الفكر الماركسي بمفهوم الحرية التي قد يظن أنها ربيبة الرأسمالية وحدها.
أولاً : الهوية:
ففي مجال الهوية، يبين الكاتب أننا (إذا استثنينا المشروعين الاستقطابيين المتعارضين (مشروع حسن حنفي الذي يأخذ برؤية شبه حتمية قدرية للتطور التاريخي الإسلامي على الرغم من أنه من أبرز المجددين في ميدان دراسة التراث الإسلامي، ومشروع عبد الله العروي الذي يدعو إلى الحداثة الكاملة وإلى إغلاق باب التقليد نهائياً، ولو أدى ذلك إلى أن تكون ثقافتنا تابعة لثقافة غيرنا) نجد ما يمكن أن «نسميه بالمشروع العقلاني أو العلمي بتفريعاته المختلفة والمتنوعة» والذي «يمكن أن نتبينه في الفكر المستنير المتجدد… كما نتبينه في الفكر الاشتراكي العلمي…». فهذه الاتجاهات الفكرية العقلانية – كما يقول – يجمع بينها، على الرغم من تنوعها واختلافها «ما تتميز به من محاولة لتحقيق علاقة فاعلة إبداعية بين الفكر والواقع تحاول أن تخرج بها عن الثنائية والتوفيقية». ويزيد الأمر تفصيلاً في ما يتصل بالحداثة والتفاعل مع الحضارة الغربية، فيرى أننا، إذا استثنينا هذين الموقفين الاستقطابيين، وجدنا محاولات فكرية ترتفع فوق الاندماج التابع الهش وطروح السلفية الانعزالية «وترى أن هنالك بالفعل – من الناحية الموضوعية – حضارة عالمية واحدة نتيجة لمختلف المكتشفات والمنجزات العلمية والتكنولوجية فضلاً عن الأخطار والمصالح المشتركة، وإن يكن النظام الرأسمالي العالمي هو المسيطر – إلى حين – على هذه الحضارة الواحدة».
ثانياً: الفكر والسلطة:
وفي مجال العلاقة بين الفكر العربي والسلطة، يشير الكاتب إلى الاتجاهات التي سادت الفكر العربي في هذا المجال، والتي طرحت نفسها بقوة بعد هزيمة عام 1967، محاولة «الكشف عن المفاهيم المسيطرة على الفكر العربي، وهي اتجاهات ناقدة للمفاهيم السلبية التي تكمن وراء تخلف الفكر العربي، والواقع العربي بالتالي، وما أصابه من عجز وما أصيب به من كوارث، على نحو ما نجد لدى صادق جلال العظم وعبد الله العروي وزكي نجيب محمود وأدونيس وطيب تيزيني وحسين مروة والياس مرقص وياسين الحافظ وسواهم، وعلى نحو ما نجد في النقد الابيستيمولوجي المعرفي لدى عديدين على رأسهم محمد عابد الجابري بوجه خاص». وإلى جانب هذه المناهج والرؤى القومية والوضعية والعقلانية والماركسية،يشير الكاتب إلى ظهور النزعات الأصولية المختلفة، على نحو ما نجدها لدى حسن حنفي ودعوته إلى «علم الاستغراب»، ولدى حركة الأخوان المسلمين وحركة الجهاد وسواهما. ويبين العلاقة السلبية والإيجابية التي قامت بين هذه الاتجاهات والسلطة السياسية. وينتهي إلى القول: «إن الإيديولوجية الرسمية السائدة المشتركة بين أغلب البلاد العربية تتراوح داخل مركب إيديولوجي بنسب متفاوتة تجمع بين الفكر الديني السطحي، والفكر القومي المظهري، والفكر الوضعي التحديثي الإجرائي، والفكر الطائفي القبلي».

ولما كان دور الدولة في البلاد النامية والمتخلّفة دوراً لابد منه من أجل تحقيق التحديث والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فهو يرى أن الأزمة بين المثقفين والدولة المتخلفة عن أعبائها ومهماتها التحديثية أزمة هيمنة لابد قائمة. غير أن هيمنة النظام الرأسمالي على العالم وعودته إلى إزالة الحواجز الاقتصادية والثقافية والسياسية باسم العولمة، أمور تفرض في الوقت نفسه تقوية الدولة والدفاع عنها في مواجهة هذا الطغيان. غير أن مثل هذا الصون للدولة القومية يستلزم في الوقت نفسه تقوية «الفاعلية العقلانية النقدية الديمقراطية للمجتمع في مواجهة الدولة، دفاعاً عنها وتغييراً وتطويراً لها». ويستلزم ذلك بالتالي تكوين «كتلة اجتماعية تاريخية قومية في مواجهة سلطة الدولة، أي إقامة سلطة الثقافة العقلانية النقدية في مواجهة ثقافة السلطة المفروضة».
ثالثاً: الأصولية والعلمانية:
ويتصدى الكاتب لموضوع شائك، هو موضوع الأصولية والعلمانية، مشيراً منذ البداية إلى أن هذين المصطلحين – شأن كثير من المصطلحات المتداولة – أصابهما الكثير من الالتباس وعدم التحديد. ففي ما يتصل بالأصولية فإنها كثيراً ما حملت في الأذهان مدلولات مختلفة، وكثيراً ما وقع الخلط بينها وبين الرجوع إلى أصول الدين ومصادره، بينما المقصود بالأصولية، في استخدامها الراهن، «التمسك الحرفي بهذه الأصول في نصوصها والسعي إلى تطبيقها على الواقع الراهن بشكل شامل، دون مراعاة للمستحدثات والضرورات في هذا الواقع».
ولهذا قد تطلق على هذه الأصولية أحياناً «صفة الرؤية التمامية، إذ لا شيء خارجها». وما أكثر ما عانى تاريخنا العربي الإسلامي القديم ويعاني عصرنا الراهن من هذه المواقف الأصولية التمامية المتعصبة الجامدة.
ولا شك في أن الاتجاهات الإسلامية ليست كلها أصولية بهذا المعنى. فهنالك جماعات إسلامية أصولية لا تتفق مع الحركات المغالية، ولاسيما في ما يتصل بالحاكمية الإلهية والدولة الدينية، وهي تذهب إلى القول بالدول الإسلامية لا بالدولة الدينية، ولا تدعو بالتالي إلى دولة ثيوقراطية يتولى السلطة فيها رجال الدين، وتكتفي بأن تطبق الدولة الشريعة الإسلامية وأن تستلهمها، ولاسيما أن «الإسلام السني لا يعرف ولاية الفقيه ولا يقول بالسلطة الدينية». فضلاً عن أن الدعوة في القرآن الكريم إلى الحكم بما أنزل الله، تعني «الحكم والفصل بالمعنى القضائي فيما يُختلف فيه من أمور، ولا يقصد بها السلطة السياسية».

يضاف إلى هذا أن «واقع الخبرة الطويلة، سواء في التاريخ الإنساني أو في التاريخ العربي الإسلامي خاصة، يقدم درساً مأساوياً بليغاً ينبغي أن نستلهمه في ضرورة استبعاد أي شبهة قداسة وقيمة مطلقة كمرجعية أساسية للسلطة السياسية».
وبهذا المعنى، نستطيع أن نقول إن الاتجاهات الإسلامية المجدِّدة ترفض أن يكون في تعاليم الإسلام الأصيلة قول بحكم إلهي ثيوقراطي، وتلتقي بذلك مع الاتجاه العلماني، الذي يعني في حقيقته فصل الدين عن الدولة. غير أن هذا الاتجاه العلماني أصابه سوء التأويل كذلك، ورأى فيه كثير من الأصوليين الإسلاميين «دعوة إلى عزل القيم الروحية والأخلاقية والمعرفية عن حياة الناس ودنياهم وممارستهم»، أي دعوة دنيوية معادية للدين والقيم الإنسانية عامة» وليس «مجرد رؤية فكرية منهجية تدعو إلى فصل الدين عن الدولة».
وعلى الرغم من اختلاف هذه الأحكام في كتابات الأصوليين الإسلاميين المعاصرين،فإنها جميعها «تكاد توحد توحيداً مطلقاً بين العلمانية والإلحاد». وتستند هذه الأحكام إلى ترجمة لـ «كلمة العلمانية الغربية في جذرها اللاتيني التي تعني الزمانية أو الدنيوية»، بينما يعني مفهوم العلمانية، بصرف النظر عن أصله الاشتقاقي، «رؤية العالم أو الواقع والتعامل معه بشكل موضوعي، بعيداً عن الأحكام المسبقة». وبهذا المعنى لا يعني هذا المفهوم «رفض الدين او القيم أو الأخلاق أو التراث أو البعد الثقافي والروحي للإنسان، أو رفض الهوية الذاتية والقومية». ومن هنا فليس «كل علماني هو بالضرورة غير مؤمن أو غير مسلم أو ملحد، وليس كل متدين أو مسلم هو غير علماني. فلا وجود لهذه العلاقة الثنائية الاستبعادية بين العلمانية وبين الدين والقيم والأخلاق والتراث والهوية الوطنية والقومية، كما يذهب بعض الإسلاميين الأصوليين». والعلمانية في الحقيقة «ليست إلا امتداداً للعقلانية في الرؤية والمنهج والسلوك». ولهذا «فالتعامل مع الظواهر وتفسيرها في إطار تحققها الموضوعي الدنيوي في واقع حياة الإنسان وفي ضوء المصالح المجتمعية العامة، بمنهج علمي خالص، بعيداً عن الاستعانة بأسباب خارج سياقها الموضوعي، لا يتناقض مع الدين والتدين». أما الدعوة إلى أسلمة العلوم والمعارف التي يتبناها الأصوليون فهي «دعوة إلى تقويض العلم من ناحية، وتشويه الدين من ناحية أخرى».
على أن من الواجب التمييز «بين علمانية الحضارة الغربية الراهنة التي هي حضارة إنسانية عامة لعصرنا، وبين نظامهم الرأسمالي الإمبريالي الذي يسيطر على العلم والنهج العلماني ويفرغهما من مضمونهما المعرفي والإبداعي الإنساني».
وفي الجملة، «إن الخلاف ليس خلافاً بين العلمانية والدين، أو بين العلمانية والإيمان إذ أنه من الممكن أن يتعايشا وأن يتفاعلا وأن يتعاونا، وإنما الخلاف بين العلمانية من ناحية، والفهم الأصولي للدين والفكر الديني المتعصب الذي يتسم بالجمود والنصية الحرفية واللاتاريخية والإطلاقية والنزعة الاستعلائية الإقصائية، من ناحية أخرى».
رابعاً: الماركسية:
من أروع ما نجده في الكتاب حديثه عن الماركسية، وهو بدوره حديث يمكن أن تلتقي عنده معظم الاتجاهات الفكرية المختلفة السائدة على الساحة العربية، من قومية وإسلامية وليبرالية وسواها. تلك هي السمة العامة التي تميز الكتاب، كما ذكرنا منذ البداية، والتي تجعل منه وثيقة مهمة يمكن أن تكون منطلقاً لتوحيد الفكر العربي، ولبناء المشروع الحضاري العربي من خلاله، ولتكوين حركة ثقافية فعالة وفكر سياسي مؤثر يعيد صياغة الوجود العربي.
ويقدم الكاتب، بين يدي حديثه عن الماركسية، مقدمة حول «الحتمية في التاريخ»، نافياً وجود هذه الحتمية كما فهمها بعض الماركسيين، مبيناً خطأ القول بوجود علية تاريخية ميكانيكية ارتدادية تفسر بها أحداث التاريخ، أو علية غائية تتحرك أحداثها في خط مستقيم أحادي الاتجاه محدد الهدف مسبقاً، ذلك أن التاريخ، كما يراه، «محصلة لعوامل متفاعلة متشابكة متناقضة من العلل والضرورات والمصادفات المختلفة، جغرافية كانت أو اقتصادية، أو موضوعية أو ذاتية».
ومن هنا يرى أن «المادية التاريخية لا تقول بالعلة الواحدة، الاقتصادية بالتحديد، كما يزعم بعض الباحثين». فالتاريخ كم قال ويقول، محصلة جملة من العوامل المتداخلة المتشابكة والمتفاعلة والمتناقضة، تشكل إمكانيات مفتوحة متعددة.
ومن هنا يوجه النقد إلى بعض المفكرين، ولاسيما من الماركسيين، من أنصار فلسفة التاريخ، «الذين يقولون بالنسقية الكلية لحركة التاريخ»وينكر ذلك «الطابع النسقي الغائي» الذي اتخذته المادية التاريخية في كتابات بعض الماركسيين، الأمر الذي «أفقدها طابعها العلمي، وجعلها أقرب إلى الرؤية الفلسفية والإيديولوجية للتاريخ». ويزيد على ذلك قائلاً إننا لا نجد في الواقع «في كتابات ماركس وإنغلز ما يذهب إلى هذه الرؤية المتوالية الخطية لحركة التاريخ». ولكن «المدرسة السوفياتية سارت على النهج الستاليني في فهم المادية التاريخية».
وهكذا «أصبحت هذه المادية التاريخية في التطبيق» رؤية مفروضة على التاريخ، وليست رؤية مستمدة من دراسة موضوعية عينية للتاريخ. ولهذا «أفضت إلى إلغاء حركة التاريخ بدلاً من التعجيل بها، بل أصبحت النظرية عقبة في وجه التاريخ، بل استبداداً بالتاريخ وقمعاً له». والخطر كل الخطر يكمن في تحول النسق الكلي الجامد إلى أداة سياسية لابد من أن تكون متسلطة قمعية.
وهذا ما حدث عندما: «تحولت النظرية الماركسية إلى نسق مغلق مفروض بشكل علوي على المجتمع السوفيتي» فتحولت النظرية التاريخية، نتيجة لذلك، إلى نظرية غير تاريخية. وهذا يفسر تباين ما جرى لكل من النظامين الرأسمالي والشيوعي.
«فالحرية النسبية المتنامية لحركة التاريخ هي التي أسهمت في تجديد النظام الرأسمالي، بما وفرته له من إمكانيات وتنافسات واجتهادات عقلانية وعلمية وتكنولوجية، على حين أن الرؤية النمطية النسقية السلطوية العلوية المغلقة لحركة التاريخ هي التي أسهمت في انهيار النظام الاشتراكي السوفيتي». ومن هنا «لم يكن مقتل النظام السوفيتي في نظريته الماركسية، والاشتراكية العلمية، بل كان في تخليه عملياً وموضوعياً عن هذه النظرية»، على الرغم من أن لهذا التخلي أسبابه، وعلى رأسها إعطاء الأولوية لأمن النظام الشيوعي الجديد وتقوية دولته في مواجهة المحيط الرأسمالي المعادي.
لقد فقدت النظرية العلمية للاشتراكية ذاتها ووعودها، حين تخلت عن «رؤيتها ومراعاتها للتعددية والصراعية في حركة التاريخ، أو للتفاعل الديمقراطي في حركة التاريخ، لو صح التعبير، والسعي إلى السيطرة عليه سيطرة عقلانية علمية باسم الإنسان وبالإنسان ولمصلحة الإنسان». ومن هنا صح القول بأن «الاشتراكية هي بحق مرادف للديمقراطية»، بمعنى أنها نسق نظري مفتوح على الخبرات والوقائع الموضوعية المختلفة». «ولعل هذا ما دعا ماركس نفسه الذي تنسب إليه هذه النظرية الماركسية نفسها إلى أن يؤكد أنه ليس ماركسياً، مبرئاً فكره من كل نسق مغلق أو رؤية قدرية قبلية لحركة التاريخ». ذلك أن ماركس، كما ذكرنا، يرفض الرؤية القدرية للتاريخ، «ويرفض القول بتارخ يتبع غاية خاصة مستقلة عن غايات يريدها الناس. فهذه الغاية لن تتحقق إلا بمشاركة واعية وإرادية للناس».
ولكن هذا كله لا يعني نهاية الماركسية ونهاية الاشتراكية العلمية و«نهاية التاريخ»،على حد تعبير فوكوياما. «فعلى الرغم من البلبلة الفكرية التي تغذيها ترسانة البلاد الرأسمالية ضد الفكر الاشتراكي عامة، والماركسي خاصة، لم تبرز الحاجة إلى الاشتراكية والفكر الماركسي يوماً كما تبرز الحاجة إليهما هذه الأيام». و«الحكم على الاشتراكية والفكر الماركسي لا يكون بما أصاب التجربة السوفياتية الاشتراكية من انهيار، وإنما الحكم الصحيح على الاشتراكية والماركسية يكون بما تعانيه الرأسمالية العالمية اليوم من عجز عن تقديم حلول للمشكلات الأساسية للواقع الإنساني، بل وبشراستها العدوانية والاستغلالية إزاء شعوب العالم الثالث بوجه عام، فضلاً عن تفاقم أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والقيمية». وهكذا «تبرز الاشتراكية والماركسية كضرورة ما تزال تتطلع إليها هذه الأوضاع التي تزداد تردياً في حياة شعوب العالم، وخاصة شعوب البلاد المتخلفة والنامية».
غير أن ثمة حقائق جدية في هذا المجال لا بد من أن تأخذها الاشتراكية بعين الاعتبار، منها بروز حركات اجتماعية جديدة في العالم، وتطور دور الطبقة العاملة. وهذا التطور يؤدي إلى اتساع مرجعية الحركة الاشتراكية وتعدد مصادر قوتها وفاعليتها وتجاوزها للحدود الماركسية القديمة، وإن تكن امتداداً إبداعياً لها، الأمر الذي يجعل الكاتب يتساءل بحق: «ألا تعد مقولة «الاشتراكية العلمية» والاكتفاء بها أكثر ملاءمة وتعبيراً عن الأوضاع الجديدة بدلاً من الانتساب إلى اسم ماركس، دون إغفال اسمه كمصدر أساسي من مصادر الفكر الاشتراكي العلمي؟».
ويخلص الكاتب من هذا التحليل للماركسية ودورها في بناء المستقبل العربي إلى المناداة بجملة من المبادئ يرى فيه نقطة انطلاق إلى مرحلة جديدة، «تطويراً للفكر الماركسي، وتنمية للنضال الثوري وتوسيعاً وتعميقاً له». ويوجز هذه المبادئ على النحو الآتي: «التركيز على عملية التجربة الثورية – التغييرية، وتنمية الثقافة الديمقراطية والعقلانية والنقدية والإبداعية، والتخلص من كل التعميمات الإيديولوجية المجردة، والحرص على الدراسة العينية للواقع العيني، سواء في خصوصيته الوطنية المحلية أو خصوصيته القومية العربية في تجربتنا العامة، أو في خصوصيته العالمية، والسعي إلى قيام أوسع التحالفات السياسية والنضالية بين مختلف القوى الإنتاجية والإبداعية والاجتماعية على المستوى الوطني، والعربي والعالمي، بل والسعي إلى المشاركة في إنشاء أممية جديدة لا تلغي الخصوصيات الوطنية والقومية والثقافية المختلفة، بل تجعل منها قوة تخصيب وإغناء لهذه الأممية الجديدة، فضلاً عن الحرص على الطابع الديمقراطي لهذه الأممية بحيث تحترم الاختلافات والتمايزات والخبرات المتنوعة، وتزول عنها المركزية البيروقراطية لقطب من أقطابها».
خامساً: الحرية:
وأخيراً، وليس آخراً، يولي الكاتب موضوع الحرية أهمية خاصة، فهي تبدو عنده وكأنها تتويج لسائر المبادئ الأخرى، بل والعمق الإنساني المبدع الذي يغذيها جميعها. وبعد أن يتحدث عن المفاهيم المختلفة للحرية، ويضرب الأمثلة على ذلك من المذاهب العديدة ومن الاتجاهات التي ظهرت حولها لدى الفقهاء والمفكرين الإسلاميين في الماضي، يتريث بوجه خاص عند مفاهيم الحرية كما بدت في الفكر العربي منذ عصر النهضة حتى اليوم، بما في ذلك مفهوم الحرية في الفكر الماركسي العربي الحديث. وفي هذا المجال يشير إلى العمق الانثروبولوجي الإنساني للماركسية، ناقداً تقصير الكتابات الماركسية العربية عن إدراك ذلك العمق إدراكاً كافياً.
وبعد أن يعرض هذه الخريطة العامة لمفاهيم الحرية في الفكر العربي الماضي والمعاصر يوضح أن تباين مواقف المفكرين حول هذه القضية يمكن تبينه في ظواهر ثلاث:
أولها: انعدام أي تصور نظري شامل للحرية لدى عديد من المفكرين، واقتصارهم على اعتبارها «مجرد وسيلة إجرائية لغايات سياسية أو اقتصادية أواجتماعية أو ثقافية، أو على اعتبارها غاية تتحقق بتحقيق تلك الأهداف».
وثانيها: إن لدى بعض المفكرين الآخرين «بعض محددات سلفية أو تراثية أو حيوية أو بنيوية أو سيكولوجية أو معرفية ابيسيتمولوجية، تتداخل فيها الحرية كوسيلة بالحرية كغاية».
وثالثها: إن لدى بعض المفكرين الآخرين فهماً ميتافيزيقياً متعالياً لمفهوم الحرية، «يرتفع بها فوق الوسائل والغايات والملابسات الموضوعية العينية، مما يكاد يجعلها مغامرة معزولة في المجهول المطلق».
ولهذا، كما يقول، تبرز الحاجة إلى «نظرية في الحرية ذات رؤية إنسانية شاملة، وإن تكن في الوقت نفسه استجابة للحاجات العينية المباشرة للإنسان العربي والمجتمعات العربية، في إطار حقائق ووقائع عصرنا الراهن». والدعوة إلى مثل هذه النظرية «ليست دعوة إلى نظرية إيديولوجية مغلقة مطلقة نهائية، بل إلى رؤية نظرية تجمع بين الضرورات المجتمعية والقومية والإنسانية وبين فردية الفرد الإنساني، وتجمع بين مراعاة المصالح المشتركة بين الأفراد وبين مراعاة الفرد كقيمة في ذاته، وتجمع بين العام والخاص، وبين الحاجة الآنية والتفتح الإنساني الشامل، وتجمع بين مختلف القدرات الإبداعية على المستوى الفردي والمجتمعي والإنساني». ولهذا فإن الحرية في عصرنا وفي مجتمعاتنا «لن تتحقق بسيادة حرية السوق على إطلاقها،
ولا حرية الاستغلال والنهب والاحتلال واغتصاب حقوق الشعوب باسم دعاوى صهيونية أو تفوق عنصري أو استعلاء طبقي أو هيمنة دولة. ولن تتحقق في الوقت نفسه بفرض نماذج سلفية ماضوية أو نماذج جامدة بيروقراطية للسلطة وللتنمية، ولن تتحقق بسيادة فلسفة الفردية المطلقة أو فلسفة الجماعية المطلقة، أو بفلسفة براغماتية عملية خالصة خالية من استهداف المصالح والحاجات الأساسية المادية والمعنوية للإنسان الفرد والإنسان الجماعة وإشباعها».

خاتمة:
وبعد، من العسير تلخيص الأفكار الغنية التي يزدحم بها الكتاب. ولعل هذه النظرة العجلى تمكننا من إدراك قصدنا الأساسي الذي استهدفناه من تلخيص هذا الكتاب، وهو إدراك ما فيه من نظرة فكرية موحَّدة وموحِّدة لأمهات تيارات الفكر العربي. وفي ظننا أن الكثيرين من المعنيين بمسيرة الفكر العربي والكثيرين من ممثلي الاتجاهات الكبرى في هذا الفكر يرون كما نرى أن الكتاب يؤلف بين التيارات الفكرية العربية الأساسية تأليفاً موفقاً عميقاً وصادقاً،يتصف بالأمانة الفكرية والجدية، وذلك عن طريق إبراز ما في كل منها من جوانب إيجابية، وعن طريق تصحيح نقائضها بالحوار والتفاعل في ما بينها. ولعل قارئ الكتاب يدرك بعد قراءته أن مرد الصراع الظاهري الذي قد يبدو بين التيارات المختلفة يرجع إلى تمسك كل منها بنظرته الأحادية التي يعتبرها مطلقة، وإلى تقصيره في فهم الاتجاهات الأخرى وإدراك ما فيها من حقائق جديرة بأن تغني نظرته وتصحح بعض مزالقها وتخفض من غلوائها وتعاليها، بل لعله يدرك أننا إذا استثنينا دعاوى بعض القوم والغلواء، وتجاوزنا التيارات الفكرية المتطرفة المغالية – وهي قليلة تكاد ترتد إلى تيارين: تيار «التمامية» الماضوية المطلقة، وتيار «التغريب» الليبرالي المغالي – نجد في خاتمة المطاف، وبعد التحليل العقلي الموضوعي المتجرد من التمذهب، أن الفكر العربي في اتجاهاته الكبرى فكر متكامل متآخذ، يكمن صدقه في تكامله وتبادل التأثير والتأثر في ما بينه.
لقد استطاع محمود أمين العالم، بفضل ما يملكه من تجربة ثقافية وعملية ونضالية واسعة وصادقة، ومن اطلاع نادر على حصاد التجربة الثقافية العربية والعالمية، أن يرينا رؤية العين أن التيار القومي بحداثته وأصالته، والتيار الإسلامي بحرصه العضوي العميق على الهوية العربية الإسلامية وعلى حمايتها والدفاع عنها، والتيار الماركسي (أو لنقل الاشتراكي) بدعوته إلى العدالة الاجتماعية من أجل تحرير طاقات الإنسان العربي من أغلال الجهل والفقر والمرض، وبحرصه على تعبئة الإنسان العربي تعبئة نضالية من خلال ذاته وحاجات واقعه، وبمناداته بكيان عالمي إنساني غير مستغل يقيم وزناً للخصوصيات القومية والثقافية ويحترمها، نقول لقد استطاع الكاتب أن يرينا كيف تلتقي هذه التيارات جميعها وتتفاعل، ولا سيما حين يسود التفكير العقلاني العملي ويحجب ما قد تشتمل عليه تلك التيارات من منازع إيديولوجية متمذهبة، ومن إرث تاريخي ومن مواقف لا تخلو من التمركز حول الذات.
وما أحوجنا في هذه الفترة العصيبة من حياة أمتنا العربية إلى مثل هذا اللقاء بين تيارات فكرية ما يزال يسودها التقوقع حول الذات، والعجز بالتالي عن أن تكون قوة مجتمعة قادرة، لها الدور الجدير بالمثقفين الحقيقيين في هذه المرحلة القاسية من حياة أمتنا.
ونقول دفعاً لأي لبس إن اللقاء بين هذه التيارات (وهو لقاء ممكن بل قائم إلى حد بعيد كما نستخلص من الكتاب) لابد من أن يسوده الصدق والجدية والنزاهة، ومن غير المجدي أن يكون لقاء مجاملة أو مهادنة.
شكراً للكاتب والمفكر محمود أمين العالم على ما قام به من جهد فذ من أجل تحليل الفكر السائد على الساحة العربية تحليلاً علمياً وموضوعياً. وإجادة طرح المسألة، كما يقول المثل اللاتيني، نصف الحل. على أن الكاتب الكبير لم يقف عند حدود تشخيص الواقع الثقافي وعند إجادة طرح المسألة، بل استطاع، بفضل ذلك «الطرح الموضوعي» للمسألة، أن يضع أفكاراً هادية مضيئة على طريق المزيد من اللقاء بينها وفوق هذا وذاك أراد الكاتب، وهو على حق في ذلك، أن يجعل من أفكاره – التي تكاد تمثل قاسماً مشتركاً بين التيارات الفكرية المختلفة – منطلقاً لمشروع ثقافي مشترك تأتلف حوله القوى الثقافية العربية وترسم من خلاله طريق المستقبل العربي. ولاشك في أن وحدة الفكر العربي (مع حفاظه دون شك على ألوانه المتنوعة والمتكاملة التي تزيده خصباً) هي السبيل إلى وحدة العمل العربي في شتى جوانبه، وعلى رأسه العمل السياسي، من أجل انتشال الوجود العربي من الهوة التي ينحدر إليها، ومن أجل الحيلولة بين المشروعات الصهيونية وسعيها الدائب العريق والمستمر لتمزيق الوحدة الثقافية للأمة العربية، وبالتالي لتمزيق كيانها كله، ومن أجل بناء كيانه بناء ذاتياً حديثاً متفاعلاً مع العالم مشاركاً في تسديد خطاه وإنقاذه من أن ينهار على رأس الإنسانية جمعاء.
وفي الختام، إن دعوة الكاتب إلى تكافل المثقفين العرب واجتماعهم حول مشروع نهضوي عملي، جديرة بأن يوليها المثقفون في شتى أرجاء الوطن العربي الاهتمام الذي تستحقه، وأن يتابعوا هذه الدعوة ويوفروا لها النشاطات الجديرة بإغنائها وبنقلها. وقد تكون نقطة البداية ندوة خاصة لمناقشة الكتاب تضم عدداً محدوداً من أبرز ممثلي التيارات الفكرية الكبرى على الساحة العربية.
ولعل هذه الندوة تتمخض عن ولادة تيار فكري متقارب خصيب ومنيع. ولعلها تكون بداية لنشاطات أخرى تستهدف بناء المشروع العربي النهضوي، من خلال تلك النظرة الفكرية المتكاملة، بناءً موحداً وصادقاً وعملياً، وترسم سبل النضال الديمقراطي من أجل تحقيقه.