رسالة باريس

الثقافة العالمية – العدد /22/ – مايو 1985
رسالة باريس
رسالة باريس، من مراسل المجلة
الأستاذ الدكتور عبد الله عبد الدائم
حتى معركة الانتخابات في بلد ديمقراطي مثل فرنسة لا تخلو من مُلحٍ أدبية. قبل تباشير الربيع ومنذ أوائل آذار / مارس تجري على قدم وساق معركة الانتخابات الخاصة بالمقاطعات الفرنسية، ويتقاذف التهم كل من اليمين واليسار. ولكن الأدب الأصيل والذي يلذ كثيراً من الساسة، ومحبة الكلمة الحلوة التي تكاد تكون سمة لازمة لكل من يملك تلك الأداة السحرية، نعني اللغة الفرنسية، والتلاعبُ باللفظ تورية وتشبيهاً وجرساً، مظاهر من النسمات المنعشة التي تنطلق لتخفف من حميا الجدل السياسي الذي لا يرحم. وكثير من تلك الشطحات الأدبية التي تهرب رغم الضجيج، جديرة بالتأمل والتفكير:
فها هو ذا زعيم سياسي بارز يعرّف السياسة بأنها أقرب ما تكون إلى علم الأرصاد الجوية. إنها عنده علم هبوب الرياح (التيارات).
هذا الزعيم السياسي عينه يتحدث عن المستقبل، في عرف السياسي، فيرفض أن يكون ذلك المستقبل هروباً إلى الأمام نحو الماضي.
وزعيم آخر يتحدث عن العلاقة بين الشعب والحكومة فيستشهد بما قاله «ريغان Reagan» في حفل تنصيبه الأول لرئاسة الجمهورية في 20 كانون الثاني / يناير عام 1981: نحن أمة لها حكومة، لا العكس.
على أن ما هو أدهى من هذا كله وأمر أن نسمع أحد الساسة يقول: رجل السياسة ليس تماماً من البشر! أو أن نسمع آخر يقول: من حقنا أن ننتهك حرمة التاريخ شريطة أن يكون النتاج الخيار من الأبناء.
ولكن، لندع أحاديث الساسة وإن انتسب بعضها إلى الأدب والفكر، ففيها دوماً سموم تنفث. أولم يقل رئيس الوزارة الفرنسية «لوران فابيوس Laurent Fabius» بالأمس، متحدثاً عن خصومه: «نصف ما يقولونه معاد مكرور والنصف الآخر حقد وانتقام؟» لنأوِ إذن إلى محراب الأدب الحقيقي والفن الأصيل، نتفيأ ظلالهما ونلتمس ما هو خيرٌ عاقبة وأفضل قيلا.
أحداث أدبية وثقافية:
1- المجامع الخمسة:
معهد فرنسة Institut de France، يعقد كل عام تحت قبته الكبرى، اجتماعاً عاماً يضم المجامع الخمسة: مجمع العلوم، ومجمع التدوين والآداب، ومجمع الفنون الجميلة، ومجمع العلوم الخلقية والسياسية، والمجمع الفرنسي.
وقد ترأس الاجتماع السيد «جان برنار» رئيس مجمع العلوم، وألقى كلمة الافتتاح، وقد دارت حول الأبحاث التجريبية الحديثة عن الدم، وعن ذلك الفرع الجديد من الدراسات الذي ظهر منذ عام 1963 والذي يعرف باسم «علم الدم الجغرافي» وهدفه دراسة العلاقة بين البيئة الجغرافية والدم. وقد حمل في كلمته على ما وصفه «بأسطورة الدم»، أي الأسطورة القائلة بعدم تساوي الدماء وتفوق بعضها على بعض، وبيّن أن علم الدم قد حطّم هذه الأسطورة نهائياً. غير أنه بين دور الدم في دراسة الهجرات البشرية وأشار إلى اختلاف صفات الدماء لدى المجموعات البشرية باختلاف المناطق الجغرافية التي وفدوا منها.
وتحدث السيد «بول ريفارول» مندوب مجمع التدوين والآداب، ودار حديثه حول «عالمية اللغة الفرنسية». وقارن في هذه الكلمة بين ماضي اللغة الفرنسية وحاضرها – مشيراً إلى انحدار هذه اللغة في أيامنا هذه، كلاماً وكتابة.
أما المتحدث باسم مجمع الفنون الجميلة السيد «جيرمان بازان» فقد أجري مقارنة طريفة بين مؤرخين للفنون الجميلة في القرن الثامن عشر، أحدهما ينتمي إلى أسرة فرنسية نبيلة عريقة، هو الكونت دي «كايلوس» والثاني ابن لإسكافٍ بروسي، هو «جوهان جواشيم مينكلمان».
وأما ممثل مجمع العلوم الخلقية والسياسية، وهو السيد «رولان مونييه Roland Mounier» فقد حاول أن يقلل من التعارض التقليدي بين العلم والتاريخ. فمهمة الأول هي الوصول إلى الشامل المطلق، ومهمة الثاني دراسة جمع الحقائق التي لا تحدث إلا مرة واحدة.
وتحدث باسم المجمع الفرنسي عالم بيولوجي هو السيد «إيتيين وولف» هاجراً عالم الإنسان لينافح عن عالم الحيوان (وقد خلف منذ فترة قريبة «ألفريد كاستلر» في رئاسة «الرابطة الفرنسية لحقوق الحيوان» وفي لجنة «مساعدة حيوانات المسلخ»). ومما قاله في دفاعه الرائع: «الحيوانات يعوزها أمرٌ أساسي يقيم بينها وبين الإنسان فارقاً ضخماً: إنها لا تستطيع أن تطالب وتسأل، فرادى كانت أو جماعات. إنها لا تقوى على أن تعبر عن مطالبها وأن تبدي احتجاجها. إنها دوماً معزولة، متروكة وشأنها. إنها الضحية دوماً وأبداً. إنها لا تعرف أن تكون نقابات. ولهذا لابد أن يتولى ذلك كله بالنيابة عنها بعض الأناس الحصيفون». ولعل بعض الشعوب تذكر حتى اليوم بمصير تلك البهائم البكماء!.
2- ذكرى مرور قرن على ولادة «جان بولان» الكاتب والمحارب والقديس:
مائة شمعة كان يمكن أن تضاء، لولا أن صاحبها قد توفي منذ ستة عشر عاماً. غير أن مدينة «نيم Nimes» مسقط رأس الكاتب، لم تنس ابنها، وآثرت أن تحتفل بذكرى ولادته عن طريق جملة من النشاطات الثقافية، أبرزها معرضا رسم ناجحان، ومناظرة في المذياع، ومحاضرة في دار البلدية، وطابع تذكاري ومدالية تقديرية..
ولد «جان بولان» في الثاني من كانون الأول / ديسمبر 1884، وعُرف خاصة بعطائه الكبير من خلال إشرافه على المجلة الشهيرة «المجلة الفرنسية الجديدة N.R.F.» طوال سنوات مديدة، كانت المجلة فيها عنده حبه الأثير، يقرأ في مقرها ما يرده من مقالات ويلقى الأدباء والكتاب، ويعقد الندوات الأدبية، ويناقش ويحاور طويلاً، وقد يلعب مع زواره في الهواء الطلق، وكثيراً ما يدعوهم إلى تناول الطعام معه. إنه حقاً تصور مبدع لدور المدير الأدبي للمجلة. لقد أصبح المجلة وأصبحت المجلة إياه، حتى أنها كادت تحول بينه وبين أن يكتب، وكادت تشل عطاءه الشخصي. ولم يتح له أن يفرغ لشأنه وأن يكتب حقاً، إلا عندما توقفت المجلة عن الظهور خلال فترة الحرب العالمية الثانية. بل إنه اكتشف الرسم آنذاك وبدأ يجمع مجموعة من اللوحات الرائعة كان يفخر بها دوماً ويريها إلى زائريه حيث تقبع في الطابق الأرضي من منزله في شارع «أرين».
حلم «جان بولان» منذ شبابه بالرحلات البعيدة. ودرس اللغة الصينية وهو يعد شهادة الليسانس في الفلسفة. ودرس اللغة الفرنسية عام 1910 في مدغشقر، وأحب شعبها وتعلم لغته وكتب كتاباً عن شعره وأخذ يحمل في كتابه أطروحة عن الأمثال المدغشقرية. ثم سافر فجأة إلى باريس ودرّس خلال عام كامل اللغة المدغشقرية في «مدرسة اللغات الشرقية». وفي عام 1914 جُنِّد برتبة «عريف» وأرسل إلى الجبهة وأصيب بجروح خطيرة. أما السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى فقد كانت عنده، شأنها عند أبناء جيله، سنوات قلقة. وقد كتب خلالها أول قصة وعنوانها «المحارب الجاد» وطبعها على نفقته. وفي عام 1919 التقى بـ «جاك ريغيير» مدير «المجلة الفرنسية الجديدة» الذي عرض عليه أن يسهم في المجلة إسهاماً عابراً في البداية. وفي العام التالي قدم له عملاً دائماً في المجلة، استمر حتى وفاة مديرها عام 1925. وعند ذلك خلفه «بولان» في هذا المنصب، وغدا ذلك المرشد الأمين للكتاب والمكتشف الحاذق لمواهبهم والمصغي لأسرارهم وسرائرهم. وهكذا سيطر برفق وصمت على مجرى الحياة الأدبية في فرنسة بين الحربين العالميتين. وغدا موئل الكثير من الكتاب الذين اشتهروا بعد ذلك، من أمثال «كوكتو» و«فاليري» و«سواريس» و«أراغون» و«بروست» و«سيلين» و«مالرو» و«سارتر» وكثير غيرهم. وكان يجيب كل من يكتب إليه من هؤلاء وسواهم (كان يحرر حوالي اثنتي عشرة رسالة في اليوم الواحد)، يقدم النصيحة لهذا، ويسدي العون لذاك، ويتساءل دوماً وأبداً عن أسرار الكتابة ومعجزات الإبداع.
ومنذ عام 1940 اختار «بولان» معسكره سريعاً، فعقد الأمل على «ديغول» وحركته التحريرية، وأخذ يسهم في حركة المقاومة ضد الاحتلال الألماني. وقد اعتقل من أجل ذلك ثم أطلق سراحه، ولكنه تابع نشاط المقاومة الفكرية وأصدر مجلة سرية، مما أدى إلى تهديده بالاعتقال مرة أخرى. غير أنه هرب قبل ذلك.
وفي عام 1953 عادت «المجلة الفرنسية الجديدة» إلى الظهور فتابع «نشاطه الأدبي» واختير عام 1963 عضواً في المجمع الفرنسي، وقد عبر عن فرحته بهذا الاختيار لما بينه وبين اللغة والنحو من وشائج الهوى».
لقد وصفه «جوهاندو» بأنه «قديس»، قديس لا يؤمن إلا بالأدب ولا يُغويه ويغريه مثل أسرار اللغة المكتَّمة.
3- المجمع الفرنسي والجوائز الأدبية:
فترة نهاية العام الفائت وبداية العام الحالي الجديد هي فصل الجوائز من كل حدب وصوب. ومن أبرز هذه الجوائز تلك التي قدمها المجمع الفرنسي في الثامن من تشرين الثاني / نوفمبر عام 1984. لقد منح جائزة «بول موران»، التي تعطي كل عامين والتي تبلغ قيمتها ثلاثمائة ألف فرنك فرنسي، إلى السيدة «كريستين ريفوار» تقديراً لجملة نتاجها الأدبي. ولقد كانت الكاتبة قد ربحت منذ عامين جائزة موناكو الأدبية الكبرى على كتابها «الرباط الجميل» وهو آخر ما نشرته من كتب، وعاشر رواياتها.
لقد نشرت الكاتبة أول رواية لها عام 1956 وعنوانها «القُبرة في المرآة L’Alouette au Miroir» (نشرتها دار بلون Plon) ثم تابعت نشاطها الروائي، مزودة بموهبة نادرة وعنف تصحبه رقة وقدرة على الملاحظة مكنتها من تصور شخصياتها الروائية. وعندما حصلت عام 1968 على جائزة على كتابها «الصباح الصغير Petit Matin» كانت شهرتها قد ذاعت بعد أن نشرت، لدى دار «بلون» خاصة، مجموعة من الروايات شاعت لدى الجمهور واختيرت لبعض الأفلام السينمائية.
وقد عودتنا هذه السيدة الطيبة القصيرة (طولها 152 سم) على أن تعود إلى وكرها في منطقة اللاند Landes مختفية من جديد بعد كل جائزة أدبية تحصل عليها. ومع ذلك فإن مؤلفاتها شاهد بليغ على أصالة الخلق الأدبي، ومرآة نادرة يقدم فيها الأدب الفرنسي صورة العالم المعاصر.
أما الجائزة الكبرى للرواية فقد منحها المجمع الفرنسي هذا العام إلى «جاك فرانسيس رولان» تقديراً لروايته «يوم أحد لا ينسى قرب الثكنات» (وقد نشرته دار غراسيه Grasset، ويقع في 311 صفحة).
وصاحب الرواية اشترك في إطار الحزب الشيوعي في مقاومة الاحتلال الألماني، وغدا بعد الحرب صحفياً في صحافة حزبه. ثم طرد من الحزب عام 1956 على أثر مقابلة أجراها مع مجلة «إكسبرس» حول الموضوع الآتي: «لابد من الاختيار بين الاشتراكية والعنف». وهكذا تفرغ للتدريس والبحث والكتابة (هو حامل شهادة في التاريخ).
على أنه أسهم عام 1957 – 1958 في مجلة «فرانس أوبسرفاتور France Observateur» ووقع «بيان المائة والواحد والعشرين» ضد حرب فرنسة في الجزائر، وكان هذا آخر عهده بالعمل السياسي. وبعد ذلك لم يُعرف إلا من خلال كتبه ولا سيما كتابه «الذيل الكبير مات» (وقد حصل على جائزة المحكمين الأربعة عام 1963، ونشرته دار غاليمار) وكتابه «الرائد الكبير Le Grand Capitaine» (ونشرته دار غراسيه، وحصل على جائزة «دور الصحافة» عام 1967).
4- عام «فكتور هوغو»:
أطلق على هذا العام (1985) «عام فكتور هوغو» تخليداً لذكرى مرور مائة عام على وفاته. ومن هنا قامت وتقوم طائفة كبيرة من النشاطات الثقافية بهذه المناسبة الهامة. أبرزها نشر أعماله الكاملة في خمسة عشر مجلداً (دار لافون)، ونشر مجموعة من كتبه في سلسلة كتب الجيب لدى فلاماريون، إلى جانب نشر مجموعات من المقالات والدراسات عن هوغو. أما في عالم الفن فقد خُلدت هذه الذكرى بإقامة مجموعة من المعارض في باريس، وتمثيل بعض مسرحيات هوغو في باريس وسواها، وإقامة حفلات موسيقية في مدن عديدة، ونشر أفلام عن «أمجاد هوغو» وعقد ندوات في فرنسة وخارجها، أشهرها تلك الندوة الكبرى التي ستقام في جامعة السوربون في الثاني والعشرين من أيار / مايو، أي في يوم ذكرى مرور مائة عام تماماً على وفاته (22 أيار / مايو 1885).
ومن أشهر النشاطات التي تمت، إعادة طباعة كتاب «جوج بيروي» وعنوانه: «فكتور هوغو الروائي» (وقد نشرته دار «دونويل Danoël»، وقدم له «هنري غييمان»). كذلك من الكتب الهامة التي صدرت بهذه المناسبة الجزء الثاني من كتاب «أوبيرجوان Huberu Juin» وعنوانه «فكتور هوغو في عام 1844 إلى عام 1870» (وقد نشرته دار فلاماريون). وهو كما نرى يتحدث عن الكاتب بعد عام 1844. بينما يتحدث الجزء الأول عن الكاتب بين عام 1802 و1843. ويمتاز هذا الجزء الثاني بأنه يحدثنا عن المرحلة العنيفة من حياة الكاتب، مرحلة نشاطه البرلماني وما أعقبها من نفيه.
ولد الكاتب الكبير في مدينة «بوزانسون» في السادس والعشرين من شباط / فبراير 1802 وقضى طفولته في منزل «فويانتين» الذي تغنى به في أشعار له شهيرة. وقد بدأت ملامح الموهبة لديه مبكرة. وفي عام 1916 كتب في مذكراته: «إما أن أكون شاتوبريان أو لا شيء». وكتب روايته الأولى عام 1926 (بوغ – جارغال Bug Jargal) وموضوعها ثورة السود في مدينة «سان دومنيك». وبالإضافة إلى تلك الرواية نشر منذ عام 1922 مجموعات شعرية عديدة ومسرحيات متفرقة، توجتها مسرحيته الشهيرة «هرناني Hernani» (1930) التي لقيت رواجاً كبيراً على مسرح الكوميدي فرانسيز والتي رسخت مجد هوغو نهائياً.
وبين عام 1830 و1843 عرف هوغو فترة امتازت بالإنتاج الغزير، في شتى فنون الأدب: في عام 1830 نشر روايته الكبرى «نوتردام دي باري»، ثم نشر سلسلة من المجموعات الشعرية، كما كتب عدداً من المؤلفات المسرحية، على رأسها مسرحيته الكبرى «روي بلاس Ruy Blas» (1838). وفي عام 1841 دخل المجمع الفرنسي وغدا في عداد الأربعين الخالدين.
وبين عام 1843 و1851 – وبعد بعض ضروب الإخفاق التي عرفها – تابع كتابة الشعر والقصة وصدرت روايته الشهيرة «البؤساء» غير أن الحياة السياسية أخذت تشغله وتلهيه عن نشاطاته الأدبية، ولا سيما بعد أن انتخب على قائمة اليمين عام 1848، وبعد أن أصدر مجلة اسمها «الحدث L’evenement» تؤيد ترشيح لويس نابليون بونابارت لرئاسة الجمهورية. ولكنه ما لبث حتى انقلب على «نابليون الصغير» كما دعاه. فاضحاً منازعه الديكتاتورية، وقد حاول أن ينظم المقاومة للحيلولة دون الانقلاب الذي يعد له هذا من أجل استلام السلطة، ولكنه فشل وفر إلى بلجيكا، وبعد ذلك وقع لويس نابليون قراراً بإبعاده. واستمر نفيه من عام 1851 حتى عام 1870. وقال آنذاك قولته الشهيرة «أعود عندما تعود الحرية إلى فرنسة». وقد كانت سنوات النفي هذه من أخصب سنوات حياته، فيها أنتج كثير الكثير من الكتب الأدبية والمسرحيات والمجموعات الشعرية والروايات. وبعد أن عاد إلى باريس في شهر أيلول / سبتمبر 1870 – انتخب في المجلس النيابي، ولكنه أعلن استقالته من هذا المنصب. وفي الانتخابات التالية هُزم، ولكنه نجح عضواً في مجلس الشيوخ عن مدينة باريس عام 1876. وخيبت السياسة كثيراً من آماله، وعاود الكتابة، غير أن معظم ما نشره بين عام 1870 وعام 1885 مؤلفات كان قد بدأها وهو في المنفى، مكتفياً بجمع حصاد سنيه الخالية. وقد عرف خلال تلك الفترة بعض المآسي الشخصية وفي أيار / مايو من عام 1885 أصيب باحتقان رئوي، وتوفي في الثاني والعشرين منه. وأقامت الحكومة له في الأول من حزيران / مايو، حداداً وطنياً، ودفنت رفاته تحت قوس النصر ثم نقلت إلى «البانتيون».
5- معرض اللغات:
في هذا العام أيضاً، أقيم في «القصر الكبير» بباريس المعرض الثالث للغات وللتخاطب الدولي، وذلك بين الأول والخامس من شهر شباط / فبراير 1985. وقد بلغت مساحة القسم المعروض 2600 م2، وبلغ عدد المشاركين في العرض 250 عارضاً، وبلغ عدد الزائرين نيفاً و43 ألف زائر منهم 10% من الأجانب. وحق لهذا المعرض بالتالي أن يوصف أنه أكبر معرض في بابه في أوروبا كلها بل في العالم. وقد حوى المعرض جناحاً عن اللغة العربية شارك في إعداده «معهد العالم العربي» بباريس. ولقد كانت دور النشر العالمية الكبرى حاضرة فيه، ولا سيما دور النشر الفرنسية والإنجليزية، بل والألمانية والإسبانية والإيطالية والروسية والعربية كذلك.
والمعرض يقدم معلومات متنوعة لكل من يعنيه معرفة شأن من شؤون اللغات، سواء منها اللغات العالمية الكبرى أو اللغات الإقليمية أو اللهجات المحلية، أو لمن يود أن يفيد من زيارته لبعض البلدان فيتعلم في الوقت نفسه لغتها، أو لمن تعنيه معرفة الطرائق التعليمية المختلفة في تعليم اللغات، سواء منها الطرائق التقليدية (الكتب) أو الطرائق السمعية (التسجيلات) أو الطرائق السمعية البصرية، بل حتى التعلم عن طريق الهاتف.
ولا شك أن زائر المعرض يدرك الانقلاب الكبير في تعلم اللغات، بفضل تطور المعلوماتية والحاسبات الإلكترونية، وبفضل الجرائد التكنولوجية (ولا سيما الفيديو). كما أنه يدرك كيف يؤدي ازدهار هذه التقنيات الجديدة إلى دعم مكانة اللغات العالمية المسيطرة. ذلك أن الرهان الثقافي والتجاري والاقتصادي الذي يولده تطور تقنيات تعلم اللغات رهان خطير. وحسبنا أن نذكر أن 41% من سكان المعمورة يتكلمون الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وأن مجموع البلدان التي تتكلم العربية واللغات التي تسمى باللغات «النادرة» يمثل دخلها القومي 28.6% من مجموع الدخل القومي في العالم. ويبين «مركز المعلومات والأبحاث من أجل تعليم اللغات الحية واستخدامها CIREEL» (وهو المركز الذي قام بتنظيم المعرض) أن فرنسة ضاعفت ثماني مرات تعاملها التجاري مع البلدان التي تتحدث ما يسمى باللغات «النادرة»، كما ضاعفت تسع مرات تعاملها مع البلدان التي تتكلم العربية.
وهكذا ندرك الأبعاد الثقافية والسياسية والاقتصادية الهامة لمثل هذا المعرض ولتعلم اللغات بوجه عام، ونعي ما يمكن أن تضطلع به الدول العربية من جهد إذا هي أرادت أن تنشر لغتها لا في البلدان الآسيوية والأفريقية وحدها بل وفي البلدان المتقدمة.
وقد افتتح المعرض وزير التربية الفرنسي «جان بيير شوفينمان Jean-Pierre Chevenement» في نفس اليوم الذي قام فيه بتدشين «مركز اللغات الحية الأجنبية» وهو مركز يهدف بوجه خاص إلى البحث في توزيع تعليم اللغات توزيعاً أفضل. وتعد وزارة التربية في الوقت نفسه نصوصاً جديدة تحدد الأهداف والبرامج الجديدة في تعليم اللغات الحية في المدارس الثانوية، وسيتم تطبيقها بدءاً من السنة الدراسية القادمة.
6- حاسب إلكتروني في كل مدرسة:
العناية بإدخال الحاسبات الإلكترونية في التعليم تشغل معظم الدول اليوم، المتقدم فيها والنامي. وفي فرنسة، وهي ما تزال متأخرة في هذا المضمار عن سواها، سوف يتم تجهيز النظام التربوي بمائة وعشرين ألف حاسب إلكتروني، وسوف يتم تزويد المعاهد التعليمية جميعها بالحاسبات الإلكترونية كبيرها وصغيرها، منذ العام الدراسي 1985. وهذا ما أعلنه رئيس الوزارة الفرنسية «لوران فابيوس» على الملأ بمناسبة افتتاح «مشغل للمعلومات». ومما قاله بهذه المناسبة «ينبغي أن يكون الجيل القادم أكثر الأجيال التي عرفها التاريخ اضطلاعاً ومعرفة». والمعرفة اليوم تعني أولاً وقبل كل شيء التقنية المعلوماتية. إذن لابد أن ينضاف مائة وعشرون ألف حاسب إلكتروني مصغّر إلى الحاسبات الموجودة اليوم في معاهد التعليم، وعِدّتُها أربعون ألف حاسب. وأضاف قائلاً: «إن جميع الذين سيتخرجون في العام المقبل من المدارس الثانوية العامة أو المهنية أو من مرحلة جامعية أولى لابد أن يكونوا قد تدربوا على الحاسب الإلكتروني مدة ثلاثين ساعة على أقل تقدير».
على أن هذه الأدوات الإلكترونية لن يحتكرها الطلاب وحدهم، بل ستفتح ورشات معلوماتية لجميع المواطنين وفي المعامل والمؤسسات الاقتصادية الراغبة في ذلك.
ومن المقدر أن تبلغ كلفة هذا المشروع الضخم حوالي ملياري فرنك، فضلاً عن ثمن المعدات والتجهيزات. ولا شك أن في الاضطلاع على تفصيلات هذا المشروع الفرنسي ما يفيد العديد من الدول، وعلى رأسها الدول العربية التي بدأت تدخل في هذا المضمار، ولكن على استحياء. ولا أدل على ذلك من الندوة الإقليمية التي عقدت مؤخراً في دمشق (بين الرابع والسابع من مارس 1985) حول «استخدام الحاسبات الإلكترونية في التربية» وقد حضرها 14 خبيراً من سورية والسودان ولبنان والكويت، وحضرتها ثلاث منظمات إقليمية عربية، بالإضافة إلى خمس خبراء من منظمة اليونسكو.
7- إصلاح المدرسة الابتدائية: عود على بدء:
أثار المشروع الذي قدمه وزير التربية الفرنسي في شهر شباط / فبراير 1985 حول إصلاح مناهج المدرسة الابتدائية جدلاً كبيراً في أوساط المربين ولدى عامة الناس، على أنه في الجملة تم تقبله قبولاً حسناً. ويهدف المشروع إلى تزويد البلاد بمدرسة ابتدائية رفيعة المستوى، ما دامت المرحلة الابتدائية منطلق التعليم كله ومتكأه. ومن مزاياه أنه لا يطرح المسألة في إطار الجدل الأزلي بين أنصار التربية الجديدة وبين الذين يصبون إلى أجواء التربية التقليدية القديمة. فالذي يعنيه معالجة الواقع وشفاء العلل القائمة وإعداد مواطن متوازن عن طريق تربية متوازنة. وإصلاح مناهج التعليم الابتدائي. هذا هو في نظر الوزير ضرورة لازبة «لن تكون بدونها مساواة حقه ولن يكون إعداد مهني مكين ولا دراسات عامة متعمقة». وقوام هذا الإصلاح أن تضم المناهج منذ العام القادم سبع مواد، خمسٌ منها قديمة ومادتان جديدتان، هما التربية المدنية من جانب والعلوم والتكنولوجيا من جانب آخر (أو قل تكامل التكوين الخلقي والتكوين العلمي التكنولوجي). أما المواد القديمة فهي اللغة الفرنسية، والرياضيات، والتاريخ، والجغرافيا، والتربية الفنية، والتربية البدنية والرياضية.
ويحدد المشروع المستوى الذي ينبغي أن يبلغه الطالب في كل مادة من هذه المواد السبع، ويبين فوق هذا بل قبل هذا أن هذه المواد لن تكون بينها فواصل قاطعة ولابد أن تتداخل وتتكامل في إطار إعداد كلي شامل. ويظل الهدف الأول، في هذا المشروع، إيقاظ الطفل وقيام المدرسة «بالجمع الوثيق بين تقديم المعلومات والمعارف الأساسية تقديماً مباشراً وبين تشجيع الطالب على البحث بنفسه بحثاً فعالاً ومنظماً عن معارف جديدة». ويؤكد وزير التربية على ضرورة «التعليم الجيد للقراءة خلال المرحلة الأولى من التعليم الابتدائي» وذلك للتغلب على مشكلة الرسوب التي اتسع حجمها في السنوات الأخيرة. وفي الجملة يمثل المشروع ضرباً من العود إلى مفاهيم قديمة في التعليم، من مثل التريث عند أهمية التربية المدنية وعند أهمية القراءة والكتابة وعند أهمية تقديم المعلومات وحفظها، دون أن يخالف بذلك روح التربية الحديثة. بل فيه جمعٌ وثيق بين ما يستقيم من أمر التربية التقليدية وبين مطالب العصر، ولا سيما من خلال تأكيده على مادة العلوم والتكنولوجيا.
8- اليونسكو وتراث اليمن الثقافي:
وجه السيد مختار أحمد أمبو، المدير العام لمنظمة اليونسكو، نداء إلى العالم من أجل الحفاظ على التراث الأثري الثقافي لمدينة صنعاء، وذلك في التاسع عشر من شهر كانون الأول / ديسمبر 1984 من مدينة صنعاء نفسها. وكلنا يعلم الطابع المعماري الفريد لهذه المدينة، التي أنشأها، فيما يروى، شام بن نوح، والتي كانت قاعدة عسكرية لمملكة سبأ في القرن الثاني قبل الميلاد، كما كانت حصناً للحميريين بعد الميلاد مباشرة (كلمة صنعاء تعني المكان الحصين) إلى أن جاء الإسلام وجعل منها مركزاً تجارياً هاماً وطريقاً رئيسياً للقوافل، فضلاً عما قدمه لها ثقافة وحضارة. وتمتاز أبنيتها بجمال نادر، ولا سيما واجهات أبنيتها التي تعلوها نقوش يعلوها بياض الكلس والتي تزينها نوافذ ذات أقواس منقوشة نقشاً دقيقاً مرهفاً.
وقد تزايد سكان العاصمة تزايداً كبيراً في العقدين الأخيرين وبلغ عددهم اليوم حوالي ثلاثمائة ألف نسمة بعد أن كانوا عام 1962 قرابة خمس وخمسين ألف نسمة. وقد أدى تحديث شروط الحياة إلى زعزعة التوازن القديم، بحيث غدت المدينة القديمة مهددة، تلك المدينة التي هي من المدن العربية القليلة التي ما تزال تكون مجموعة متسقة (شأنها في ذلك شأن فاس في المغرب). ولم يقم حتى الآن جهد كاف من أجل إنقاذها وإصلاحها وتكييفها مع مطالب العصر الحديث دون أن تفقد طابعها الأصيل.
ومنظمة اليونسكو التي أسهمت من قبل في إنقاذ كثير من الآثار العالمية الهامة، من مثل معابد أبي سنبل في مصر، ومعابد «بوروبودور Borobudur» في أندونيسيا وآثار البندقية وفاس، تعني اليوم بمواقع أثرية قد لا تكون معروفة على نطاق واسع ولكن لها روعتها وأهميتها التاريخية. وهذا ما تقوم به الآن في صنعاء في شمالي اليمن وفي شيبام في حضرموت جنوبي اليمن.
ومما جاء في نداء المدير العام بهذه المناسبة «أدعو الدول الأعضاء في اليونسكو وسائر الشعوب وحكوماتها وجماعاتها القومية والمؤسسات العامة والخاصة والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية والمؤسسات المالية، إلى الإسهام في الجهد الضخم الذي تقوم به جمهورية اليمن العربية، وذلك عن طريق التبرعات الطوعية بالنقود أو المعدات أو الخدمات».
وقد عهدت حكومة اليمن بخطة الإنقاذ إلى لجنة عليا مكونة من شخصيات اختصاصية، مثل الدكتور حسين المري وزير التربية والقاضي إسماعيل الأكوع رئيس قسم الآثار والمكتبات، ويوسف عبد الله، الاختصاصي في الآثار، وترأس اللجنة رئيس الوزارة نفسه عبد العزيز عبد الغني، تعبيراً عن اهتمام الحكومة بهذه الحملة.
وتقدر تكاليف خطة العمل التي تأمل اليونسكو إنجازها خلال خمس سنوات، بنيف وثلاثمائة مليون دولار. وتهدف الخطة إلى إنقاذ المدينة القديمة (الجامع، والحمام والمدارس والأسواق والبيوت والقصور، الخ) كما تأمل دمج هذه المدينة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية الحديثة السائدة، خلال السنة الأولى، إذا تم أولاً إصلاح الأبنية العشرة المهددة أكثر من سواها.
أحداث فنية:
1- الأيام الموسيقية العربية:
كانت أياماً ناجحة تلك التي دعت إليها منظمات عربية متعددة تحت شعار «الأيام الموسيقية العربية»، التي جرت أحداثها على مسرح «نانتير Nanterre» من ضواحي باريس. لقد التقى في تلك الأيام عشرات الفنانين والمطربين والعازفين والموسيقيين من معظم أقطار المشرق العربي، بالإضافة إلى المقرئين والمنشدين. وقد ضم جمهور المتفرجين حشداً كبيراً من الفرنسيين فضلاً عن العرب. واستمع القوم هناك، في كثير من الحنين والخشوع، إلى المغنين الشهيرين أمثال صباح فخري ووديع الصافي، وإلى الفرق الفولكلورية (التقاليد النوبية، تقاليد «الأقصر»، تقاليد القاهرة، تقاليد صيادي المحار من قطر). ومما نال إعجاب المشاهدين على اختلاف انتمائهم ما تلاه المقرئ الشهير عبد الباسط عبد الصمد، وما قدمه مؤذنو حلب. وقد كانت الأيام الموسيقية هذا العام مخصصة للمشرق العربي، بينما كانت في العام الماضي مخصصة للمغرب العربي (وحضرها إذ ذاك حوالي مائتي مطرب وموسيقي من بلدان المغرب).
فرقة تقاليد الأقصر
2- ذكرى مرور ثلاثمائة عام على ولادة الموسيقي العالمي «باخ»:
بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على ولادة أحد شيوخ الموسيقى العالمية الكبار، جان سيبا ستيان باخ Bach، أقيمت حفلات موسيقية عديدة في باريس وسواها وكُتبت مقالات وأُلفت كتب حول الموسيقار الشهير الذي ولد وعاش في منعطف قرن ممزق، وسط دولة ألمانية ممزقة، تعصف بها تيارات الإصلاح اللوثري القديم من جهة وتيارات عصر النور من جهة ثانية. وقد شق باخ طريقه وسط الآلام والأزمات، وبزغ من قلب مسقط «تورينجه Thuringe» ليقبض منها على ناصية الموسيقى في أوروبا كلها وينقلها إلى العالم الألماني اللوثري الذي كان عالمه الوحيد. لقد بدأ عازفاً لوثرياً على الأرغن، وأخذ يتفتح حيناً في صحبة أمير مهووس كاد يجني على موهبته. غير أنه عزم في الخامسة والثلاثين من عمره على أن يعود إلى أحضان إرثه الثقافي وأن يدرس في مدرسة قديمة بمدينة «ليبزغ» حتى إذا داهمته الشيخوخة خانه أهله وأصدقاؤه وأصيب بالعمى. ومن وسط الظلام أخذ يحيك خيوطاً موسيقية مرهفة هي خير ما أنتجه: إنها الموسيقى التي تمثل باخ الحقيقي، باخ الذي لا يعدو أن يحيا إلى الأبد، من وراء الجراح، المصالحة بين الكون وبين ذاته. لقد قيل الكثير عن صمم بتهوفن، غير أن ما يمكن أن يقال عن عمى «باخ» أعمق وأبقى.
ومن الكتب الهامة التي ظهرت بمناسبة هذه الذكرى كتاب «رولان دوكاندي Roland de Cande» وعنوانه «جان سيباستيان باخ» (وقد نشرته دار سوي Seiul).
في معرض الانطباعيين في القصر الكبير بباريس لوحة للفنان «كلود مونيه»
3- «الانطباعيون» في القصر الكبير:
في معرض «القصر الكبير» بباريس التقى جميع أصحاب المدرسة الانطباعية في الرسم، بدءاً بسيزان و«مونيه Monet»، ومروراً ببودان Boudin وبيسارو Pissarro، ويمتد المعرض من شهر شباط / فبراير إلى أواخر شهر نيسان / أبريل 1985.
ولم يتم تنظيم المعرض على أساس زمني، أو استناداً إلى ما بين اللوحات من وشائج، بل تم تنسيقها وفقاً للموضوعات التي عالجها الانطباعيون. كما جرى توسيع إطار الانطباعيين بحيث شمل جميع أولئك الذين عرضوا لوحاتهم في «صالونات الانطباعيين» بين عام 1874 وعام 1886. وهكذا نجد بين كبار الانطباعيين الشهيرين رسامين أقل منهم شهرة، من مثل «كايبوت Caillebotte» أو رسامين مروا بالانطباعية ولكنهم طوروها ومدوا آفاقها، من مثل «سيزان Cezanne» و«سورا Seurat» و«سينياك Signace» و«كروس».
وقد سبق لهذا المعرض المدهش أن قدم في «لوس أنجلوس» أثناء الألعاب الأولمبية، وتجتمع في معرض باريس للمرة الأولى لوحات ومجموعات خاصة استعيرت من المتاحف البريطانية والكندية والأميركية، وقد أرسل معهد الفنون في شيكاغو أربع عشر لوحة من عيون اللوحات، منها لوحة «رونوار Renoir» الشهيرة «موجة». أفلا تقيم أجمل لوحات هذا الفنان في الولايات المتحدة؟ ومن المفاجآت السعيدة في هذا المعرض تلك اللوحات الثلاث التي تمثل صيغاً مختلفة متتابعة لرسم «البحر في الأيستاك La Mer à L’Estaque» تلك القرية ذات السقوف الحمراء التي يشبهها «سيزان» بورق اللعب.
والحديث يطول لو أردنا أن نتريث عند لوحات هذا المعرض الفريد الذي نلقى فيه لوحات تعرض للمرة الأولى وللمرة الأخيرة في غالب الأمر.
4- كتاب ضخم عن الرسام الكبير «ماتيس Matisse»:
في أواخر عام 1984 صدر كتاب رائع ضخم عن الفنان «ماتيس Matisse» وضعه «بيير شنيدر Pierre Schneider» يزينه تسعمائة وثلاثون رسماً.
وماتيس يصدق عليه إلى حد كبير المثل العربي الشهير: «زامر الحي لا يطرب» فعلى الرغم من أن شهرة الرسام قد تجاوزت الآفاق، فإنه لم يعرف شعبية حقيقية في فرنسة، ولم تنجح في ذلك صيحات «أراغون» الطائشة التي أرادت أن تجعل منه الرسام الفرنسي الأول وأن تضعه في مقام كمقام «فيكتور هوغو» في عالم الأدب. ويمتاز كتاب «شنيدر» الذي يظهر بعد ثلاثين سنة من وفاة الفنان، بأنه يجتنب الصيغ الحائلة، ويلجأ إلى تحليل عميق موثق. ولا يحدثنا الكتاب الرائع عن نتاج «ماتيس» فحسب، بل يحدثنا أيضاً عن فكره حديث المنقب المحقق. ولا عجب في هذا كله فالكتاب وليد جهد موصول استمر خمسة عشر عاماً.
«الحديث» لوحة على القماش للفنان ماتيس 1917
5- الموسيقار «موزار» على شاشة السينما:
أهو إحياء لموزار أم قتلٌ له، ما نشهده خلال ساعات على شاشة السينما، من خلال الفيلم الذي أخرجه «ميلوس فورمان Milos Forman» واستخلصه من مسرحية «بيتر شيفر Peter Shaffer» المسماة «أمديوس Amadeus» ففي هذا الفيلم نودع «موزار» العبقري لنشهد موزار في حياته العادية ومباذله، عبقرياً لا يطاق وثائراً ذا نزوات، فيه نرى كل ما في العبقرية من تناقضات وصغائر ودناءات وصبوات في آن معاً، ولديه تلتقي على أروع وجه السينما مع المسرح والموسيقى. إنه فيلم رائع رغم كل ما يخيب آمال المشاهد ويناقض تصوراته المبيتة عن الموسيقار الكبير «موزار». فالموسيقار فيه ملاك وشيطان معاً، دنيء ورفيع في آن واحد، يجسد الجمال المطلق ويرزح تحت عبء مصيره. وهكذا لا يرجع النجاح الكبير الذي لقيه هذا الفيلم إلى ما فيه من موسيقى وما يصاحبه من مقطوعات موزار الشهيرة. ومخرج الفيلم لم تسحره موسيقى موزار كما لم تسحره عبقريته. وكل ما في الأمر أنه كان في أمسية من أمسيات تشرين الثاني / نوفمبر / 1979 في المسرح القومي بلندن يشاهد المسرحية الأولى لـ «بيتر شيفر» مسرحية «أماديوس Amadeus». وما إن أسدل الستار على المسرحية حتى هرع إلى المؤلف معجباً مهنئاً. فبفضله اكتشف أن موزار «ذلك الملاك الصغير» كان ذا طبع معذَّب ومرعب وأن حياته كانت انحباساً دائماً للأنفاس وأن موته كان سراً ولغزاً. وبفضله أدرك بالتالي أن «موزار» يصلح أن يكون شخصية سينمائية رائعة. وقد قبل «شيفر» منذ الوهلة الأولى هذه الفكرة، فكرة تطوير المسرحية إلى فيلم، ولكن ضمن شروط اشترطها. وبعد عام ونيف وصل «شيفر» و«فورمان» إلى نص رائع، فيه حركة سينمائية مدهشة. وقد حاول الفيلم أن يضخم الجانب الأسطوري من المسرحية. وهكذا فما نشهده فيه لا يكاد يمثل الحقيقة، وإن كان يلامس حقيقة «موزار» إلى حد بعيد.
6- أندريه جيد Andre Gide على المسرح:
منذ عامين ونصف عرضت في «كان Caen» قطعة مسرحية مستقاة من كتاب «أندريه جيد» «بالود Paludes». وقد أعيد عرض هذه المسرحية منذ أواخر عام 1984 على «المسرح 71» في ضاحية «مالاكوف Malakoff» الواقعة في جنوبي باريس. وقد قام بوضع المسرحية انطلاقاً من كتاب «جيد» «شارل ترجمان Charles Tordjman» و«رنيه لويون René Loyon».
وقد استقبلت أوساط النقاد هذا الحدث بكثير من الترحاب، إذ رأت فيه بوجه خاص تجديداً لذكرى كاتب كبير كاد الجيل الجديد ينساه أو يجهله. وذلك أن الجيل من الشابات والشبان الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة، من طلاب وفنانين وممثلين أو سواهم، ذلك الجيل الذي يقرأ الكثير ويطلع على ما هب ودب من النتاج الأدبي والفكري، جيلٌ لا يعرف «أندريه جيد» ولا يدرك أن كثيراً من مؤلفاته يمكن أن تقدم له من الآراء ومن الأفكار الجريئة الحرة أكثر من كل ما يجد في ما يقرأ من كتب تنتسب إلى جدائد العصر. والحق إن «جيد» الذي توفي عام 1951 يملك من شباب الفكر ونضارته وجرأته واستقلاله ما يعتبر رائداً سباقاً لكثير من الاتجاهات والتيارات الاجتماعية والفردية الجريئة التي غزت حياتنا اليوم.
إن عشرات الآلاف من الشابات والشبان الذين يقرأون «كافكا» (ولا نجادلهم في ذلك)
أو «فرويد» أو «توماس برنار Thomas Bernhardt» أو «بيتر هاندكه Peter Handke» أو سواهم لا يعون كم يخسرون حين لا يطلعون على بعض كتب «جيد» التي تقدم لهم معرفة بأمور معاصرة هامة، من مثل كتابه «رحلة إلى الكونغو» أو كتابه «العود من تشاد»، أو كتابه «ذكريات محكمة الاستئناف» أو كتابه «عود من الاتحاد السوفياتي»، وفيها كلها يجدون أصداء لمشكلات معاصرة، هذا إذا لم نذكر ما يجدونه من جرأة وحرية في كتابه الشهير (ولعله أشهر كتبه) «المزيفون»، ذلك الكتاب الذي كان أحد كتابين لعبا الدور الأول في توجيه الأجيال الجديدة وتحريرها، ونعني بالثاني كتاب سارتر «القرف».
ولكن لنعد إلى المسرحية وإلى كتاب «بالود Paludes». لقد ظهر هذا الكتاب عام 1895، ولا يعد من أمهات كتب «جيد»، غير أنه لقي رواجاً كبيراً ما بين الحربين العالميتين، لما فيه من تسلية وهزء وضحك رفيع المستوى. ويصف «جيد» لنا في هذا الكتاب بعض الأيام التي يمر بها كاتب يعوزه الإلهام، غير أنه يهوى أن ينشر، فيحاول عن غير قناعة منه أن يكتب كتاباً. ويحدث هذا المؤلف الفاشل أصدقاءه حديث خرافة، كما يفعل ذلك مع امرأة شابة اسمها «أنجيل Angèle». ومن خلال ذلك كله نستمتع بما في هذا الكتاب، الذي كتب سهواً رهواً ودون ما تكلف أو صنعة، من نكتة ومجون وقسوة ومرح.
وإخراج المسرحية موفق – استطاع أن ينقل بدقة وأناقة أجواء العصر من زينة وملابس وحلي وسواها. والممثلون رائعون. ولا يفسد حسن أدائهم إلا الممثل «رينيه لويون الذي يمثل الدور الرئيسي» دور الكاتب (أي أندريه جيد نفسه في الواقع) والذي يقرأ نصوص الكتاب. ذلك أن هذا الممثل يبدو على المسرح متأزماً عصبياً نزقاً، صارخ الصوت في غير اطمئنان.
7- متحف اللوفر الكبير بين أنصاره ومعارضيه:
عودتنا باريس على الاحتجاج على كل بناء جديد من شأنه أن يغير الطابع المتفرد الذي تمتاز به المدينة. كان ذلك منذ أيام بناء برج «إيفل» حتى بناء مبنى اليونسكو ثم بناء منطقة، «الديفانس Defense» وأبراج السين وبرج مونبارناس الشاهق وسواها.
معركة تجديد متحف اللوفر
والجدل اليوم حاد حول المشروع الهام الجريء الذي عزمت عليه الدولة، مشروع تجديد اللوفر وتوسيع نطاقه، وتحديث مداخله، وتحسين مظهره. وينصب الجدل خاصة على «الهرم الزجاجي» الذي سيقام وسط ساحة اللوفر والذي سيكون مدخله الرئيسي، منه يفد الزائرون إلى قاعات جديدة تقام تحت الأرض، فيها ما فيها من مظاهر الاستقبال والمطاعم والمقاهي والمخازن وسوى ذلك. وتتولى المعارضة السياسية بوجه خاص الحملة ضد مشروع التجديد. وقد تكونت رابطة باسم رابطة تجديد اللوفر تتولى معارضة المشروع. كما صدر كتاب بعنوان «الوهم الكبير في مشروع اللوفر الكبير».
على أن المشروع يأخذ طريقه إلى التنفيذ. ويتولى الإشراف عليه مهندس معماري ياباني شهير. وهو مشروع ينبع من حاجة فعلية، فالمتحف ضاق بزائريه، وكثير من ثرواته مهملة في زوايا الغرف ومكدسة في الأقبية، ولابد من تجديده تجديداً يلبي حاجات العصر دون أن يفقده طابعه الأصيل.
8- برج في حديقة «سان كلو Saint Cloud»:
وثمة جدال آخر يثور حول مشروع معماري آخر وهو مشروع إنشاء مبنى علوه 245 متراً وقطره 12 متراً، وضع تصميمه الرسام «جان ديبوفيه Jean Dubuffet» بالاتفاق مع وزير الثقافة الفرنسي «جاك لانج Jack Lang». وسيكون هذا المبنى صرحاً يبنى في آخر حديقة «سان كلو» التي تقع في ضاحية «سان كلو» القريبة من باريس، ومنه يطل الناظر على باريس الغربية كلها.
ومن أهداف هذا المشروع – عدا قيمته المعمارية والفنية – تشجيع الفنانين الفرنسيين عن طريق تكليفهم بمهمات معينة. وهذا جانب من السياسة الثقافية التي تنتهجها الحكومة، ولا سيما وزير الثقافة ورئيس الجمهورية. وثمة ما يقرب من مائة مشروع هي موضع دراسة وبحث، سوف تمول من الدولة ومن السلطات المحلية والمؤسسات الخاصة، ويبلغ ما ينفق عليها حوالي مائة وعشرون مليون فرنك عام 1985.
والفنان «ديبوفيه» الذي يبلغ من العمر ثلاثاً وثمانين عاماً، لم يصاحبه الحظ حتى اليوم، على الأقل في فرنسة. لقد ظهرت موهبته متأخرة (حوالي الأربعين من العمر)، وجرّب ميادين فنية عديدة (الرسم والنحت والعمارة والسجاد وسواها) ولم ينتسب إلى أي مدرسة فنية. وقد قام ببعض الأعمال المعمارية في الولايات المتحدة خاصة، إذ أقام في نيويورك «مجموعة الأشجار الأربع» التي يبلغ ارتفاعها 12 متراً، كما بنى صرحاً في «هيوستون» ارتفاعه عشرة أمتار يعرف باسم «صرح الأشباح»، وأشاد في شيكاغو تمثالاً يعرف باسم «البهيمة المنتصبة» (وطوله عشرة أمتار)، وأنشأ في هولاندا حديقة من الميناء مساحتها 600 متر مربع. أما في فرنسة فلم يسبق له أن أشاد عملاً فنياً سوى «بستان فالبولا La Closerie de Falbola» الذي بناه في مدينة «بيرنيي Perigny».
أحداث علمية:
ندوة هامة حول «علم النسل والإنجاب والقانون»
التطورات السريعة والمذهلة في ميدان علم النسل، وما تطرحه من مشكلات إنسانية وخلقية، تشغل بال الساسة والمفكرين ورجال القانون وكثير سواهم في الآونة الأخيرة. ومن أبرز مظاهر هذا الاهتمام تلك الندوة التي عقدت في باريس يومي الثامن عشر والتاسع عشر من كانون الثاني / يناير 1985، وموضوعها: «علم النسل والإنجاب والقانون». وقد حضر الندوة وزراء العدل والبحث العلمي والصحة.
وقبل ذلك (في السادسة من كانون الأول / ديسمبر 1984) عقدت «اللجنة الوطنية للأخلاق» التي يرأسها الأستاذ «جان برنار Jean Bernard» والتي شكلتها الحكومة منذ حوالي عامين، اجتماعاً هاماً لبحث بعض المشكلات التي يطرحها علم النسل بوجه خاص. وحضر الاجتماع رئيس الجمهورية نفسه ومعه أربعة من الوزراء. كما توافد على الاجتماع جمهور كبير من المهتمين. وعلى رأس الموضوعات التي طرحت تلك المشكلة التي غدت راهنة وحادة، مشكلة «الأرحام المستأجرة». فبعد تطور الأبحاث الخاصة بتجميد الأجنة وحفظها، غدا من الممكن أن يحفظ ماء الرجل وأن ينقل بعد ذلك إلى رحم أم مستأجرة بسبب عقم زوجة الرجل، تحمله وتأتي به بشراً سوياً إلى والديه لقاء مبلغ من المال. هذا بالإضافة إلى المشكلات الناجمة عن حال أخرى غدت شائعة، نعني التلقيح ضمن أنبوب الاختبار ووضع الجنين الملقح في رحم الأم. وفي فرنسة اليوم 110 أطفال ولدوا عن طريق هذا التلقيح الصنعي، وفي العالم كله 1500 طفل ولدوا على هذه الشاكلة.
وفي الندوة المشار إليها، صفق الجمهور طويلاً عندما دافع الدكتور «جان كوهين Jean Cohen» عن استئجار الأرحام وعن الأمهات المؤمنات، وعندما أعلن الأستاذ «جيرار كورنو Gerard Cornu» باسم رجال القانون أن «ثمة حقاً هو حق الحصول على طفل، وهو حق أساسي وطبيعي». غير أن متحدثين آخرين، بينهم الأستاذ «جان دوسيه Jean Dausset» عبروا عن قلقهم أمام الطاقة الهائلة التي يملكها علماء البيولوجيا اليوم والتي يمكن أن تثير مشكلات فلسفية وإنسانية عميقة.
وقد أشار رئيس الجمهورية في كلمته الافتتاحية إلى مخاطر هذه الثورة البيولوجية، وذكر أن «المشكلات التي تطرحها هذه الثورة ينبغي ألا تترك لتقدير الباحثين وحدهم ولاختياراتهم الحرة، كما ينبغي ألا تخضع لضغوط الجماعات التي تحركها دوافع تجارية مالية».
والحق إن المشكلات التي يطرحها علم النسل وعلم البيولوجيا ليست سوى جزء من المشكلات التي يطرحها التقدم العلمي والتكنولوجي بوجه عام، وذلك التقدم الذي هو قدر الإنسانية لا محالة، ومن هنا فمن اللازب أن يوجَّه ويقاد قيادة إنسانية، من أجل مصلحة الإنسان وسعادته ورقيه لا من أجل دماره وترديه، وإرواء منازعه الغريزية الدنيا. ومن هنا تأتي أهمية مثل هذه المداولات وهذه الحلقات وهذه اللجان التي تحاول أن تمسك بزمام التقدم العلمي التكنولوجي قبل فوات الأوان، مجربة أن يكون لها في صنع المستقبل الجدير بالإنسان شأن ونصيب. ومن هنا تأتي أهمية العبارة التالية التي وردت في خطاب «فرانسوا ميتران» عند افتتاح الندوة: «عندما نسيطر على النسل والإنجاب ونسيطر على الوراثة، يتغير قانون الحياة شيئاً بعد شيء. إن الإنسانية تجد نفسها اليوم أمام عصر عليها فيه أن تختار بنفسها قواعد حياتها».
ويفسر هذا قوله أيضاً أمام تلك الندوة: «إن تاريخ حقوق الإنسان هو تاريخ مفهوم الشخص الإنساني نفسه، وكرامته، وعدم جواز انتهاك حرمته. ونتساءل اليوم ما هي المبادئ التي يمكن أن نستند إليها بعد أن انقلبت حدود الحياة وبعد أن طرحت مسألة حق الإنسان في أن يولد».
كتب هامة جديدة:
1- أندريه مالرو، محادثات وتدقيقات(1):
يكاد أدب المقابلة والمحادثة، مقابلة النقاد للكتاب، يغدو الطابع الغالب على الأدب أيامنا هذه. ولكن أين تلك المقابلات الرخوة الفاترة التي نقرؤها في كثير من الصحف والمجلات اليوم، من تلك التي نقرؤها في هذا الكتاب الذي سجل فيه كاتبه «روجيه ستيفان» جلساته ومحادثاته الثرة الحارة مع مالرو. ذلك أن الكتاب من المعجبين بمالرو وممن تابعوا حياته ومؤلفاته خطوة خطوة. لقد كان شاباً يوم قابل مالرو وحدثه، وقد تقدم به العمر بعض الشيء اليوم دون أن يفقده شبابه الفكري ودون أن يفقده أهواءه الثلاثة: هوى الإعجاب بالكتاب الجديرين بالإعجاب، وهوى الاستماع إلى عظام الناس لمعرفة أسرارهم، وهوى الصدق مع الذات والآخرين وعدم بذل المديح لهم إلا في موضعه. وهذا ما يفعله في كتابه هذا إذ يحدثنا عن جلساته مع مالرو وأحاديثه معه وينقل إلينا انطباعاته وهو شاب في ميعة الصبا يستمع إلى «مالرو» الكبير يقص عليه الأقاصيص، وهو في رواية الأقاصيص وتفتيق الحكايات وتنميق الكلم سيد لا يجارى. إنه يروي لنا فيما يروي قصة مقابلة «مالرو» لماوتسي تونغ في الصيف، ويحدثنا فيما يحدث عن لقائه مع كبار الرجال. إنه يعرض علينا صورة مرحلة كاملة من عمر «مالرو» سبقت وفاته، قضاها الكاتب بقربه وكان له فيها معه جلسات تليها جلسات.
ويكمل هذا الكتاب الجميل كتاب آخر وضعته «مادلين شابزال Madeleine Chapsal» وعنوانه «أعطني الموسيقى» ونشرته دار غراسيه، وفيه تروي بشكل خاص آخر مقابلة كانت لها مع «مالرو» قبل وفاته بقليل.
2- وراء الممثلة كاتبة موهوبة:
لا يختلف اثنان حول موهبة «سيمون سينيوريه Simone Signoret» السينمائية، فلعلها أبرع الممثلات الفرنسيات على الإطلاق. غير أن ما كان خفياً عندها هو قدرتها على الكتابة وعلى كتابة الرواية بوجه خاص. لقد فاجأت الكثيرين بكتابها «وداعاً يا فولوديا»(1) وفيه تروي أحداث ما قبل الحرب العالمية الثانية ثم أحداث فترة الاحتلال الألماني وتتحدث عن الشيوعية وعن الأمل الخائب وعن الحب وعن الحياة.
لقد قال عنها أحدهم: لو كانت حيواناً لكانت قطة فارسية. ولو كانت نبتة لكانت سحلبية خضراء ولو كانت لوناً لكانت الأحمر الملتهب الراقص وفي قلبه نقطة زرقاء. ولكنها سينيوريه وكفى.
لقد تقدم بها العمر، وكثيراً ما يجدها المرء مستلقية على أريكة عليها غطاء من الموهير الأبيض، تشتغل بالإبرة، وتلعب بيدها الصناع. ومع ذلك، لا يخدعنك مظهرها هذا، مظهر سيدة البيت المسترخية. إنها سرعان ما تقفز من جلستها هذه وتطل عليك بفمها الهازئ وبعينها الخضراء، وتذكرك بأدوارها السينمائية الرائعة التي قامت بها خلال أكثر من أربعين عاماً.
والحديث عن شخصيتها ونتاجها يطول ويستغرق الأسفار. ولنمض إلى روايتها. لقد كتبت قبلها كتابين الأول عام 1976 والثاني عام 1979، ممهدة بذلك لقبولها في عداد الكتاب. أما كتابها الجديد فقد طبعت منه دار فايار مائة وعشرين ألف نسخة (وهذا رقم نادر). ولنذكر أن كتابها الأول (وهو مذكرات عن حياتها) قد بيع منه مليونا نسخة. وفي كتابها الجديد هذا تعرض لنا قرابة عشرين شخصاً يمضون معها من العشرينات حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وتحدثنا عن حياتها معهم، وعن موت صديقهم «فولوديا».
والكتاب في جملته في أسلوبه وأدائه، فيه حياة دائبة وحركة وعناء، لولا ما نجده فيه، كما ألفنا لدى الكثير من الكتاب الأجانب، إشارات مقصودة وأحداثاً محرَّفة تتصل بما يذكر عن معاناة اليهود أيام الاحتلال الألماني.
3- «سولر Sollers» في كتابه الجديد «صورة اللاعب»(1):
بعد كتابه «نساء» وهو كتاب ذاع صيته ولقي اهتماماً نادراً من القراء والنقاد رغم ما فيه من حرية في اللفظ والمضمون تقترب من المجون الساخر، يطلع علينا «سولر Sollers» بكتاب جديد هو «صورة اللاعب». وفيه يظل أميناً على أسلوبه الفريد الذي عرفناه في كتابه «نساء»: كثرة النقط، كثرة إشارات التعجب، تقطع الأسلوب والروح الساخرة الحرة. وفيه أيضاً يطلق لنفسه عنان اللفظ الحر والكلمات النابية، حتى إننا نجد فيها نيفاً وخمسين صفحة تتحدث عن الأعضاء والحركات بأسمائها الشائعة دون أي تعفف.
والكتاب يحدثنا عن جانب من حياة «سولر» وعن أصوله التي ترجع إلى منطقه «الأكتين Aquitaine»، وعن شبابه وبحثه عن الإلهام دون جدوى، وعن حياته الأكاديمية اللاهثة. وهو في هذا كله يهزأ من نفسه ويمارس ضرباً من تعرية الذات قلما نجدها عند الكتاب. وما عساه يفعل إذا كانت الطبيعة، كما يذكر، قد خلقته كائناً سوياً لا عوج فيه، وحرمته من أي علة جسدية أو نفسية يمكن أن تنفذ منها العبقرية. ومن هنا يبحث جاهداً عن هذه العلة فيجدها فيما يحسب عند طبيبة سويسرية اسمها «صوفيا» تزوره كل أسبوع في باريس وتقدم لزيارتها برسالة تكتب له فيها بدقة ما تعتزم أن تناقشه معه.
والحق إن كتاب «سولر» هذا، شأن سائر الكتب، يدفعنا لا محالة إلى طرح أسئلة أساسية تتصل بالأدب ومعناه: هل يجوز للرواية أن تكون مجرد عمل فكري أم أنها لابد أن تكون عملاً فنياً أيضاً؟ وهل تولد الموهبة من التحام المعرفة مع الذكاء، أم أنها لا تولد قط إلا من خلال الممارسة والمعاناة؟ والإجابة على هذه الأسئلة هي التي تتيح لنا أن نصنف «سولر» في عداد كبار الكتاب في عصره، أو لا.
4- الإنسان الجامعي والطبقات الاجتماعية:
عودنا عالم الاجتماع الفرنسي «بروديو Bourdieu» على تحليل نظام التعليم في فرنسة تحليلاً يبين طابعه الطبقي، ويثبت أن مهتمه ما تزال «إعادة توليد النظام الاجتماعي الذي أوجده». هذا ما كتبه منذ عام 1964 عندما طلع علينا بكتبه الشهيرة التي لقيت رواجاً وضجيجاً، وعلى رأسها «التوالد La Reproduction» و«الوارثون Les Héritiers» (وكلاهما بالاشتراك مع «باسرون Passeron». واليوم يعاود بورديو الكرة. ولكنه يمضي هذه المرة نحو تحليل التعليم الجامعي بوجه خاص(1). وفيه لا يكتفي بتحليل المنشأ الاجتماعي لرابطة أساتذة الجامعات مبيناً الإرث والثروة في وصولهم إلى مناصبهم، بل يجاوز ذلك ليبين كيف أن العوامل الطبقية الاجتماعية تلعب دورها في اختيار نوع الدراسة التي يختارها الطالب. وفي هذا يحاول أن ينقض الزعم الذي يحسب أن الإنتاج الأكاديمي وليد الموهبة. فعنده أن اختيار موضوعات الدراسة والاتجاهات التي تأخذها البحوث والقيمة الشخصية للأستاذ أمورٌ ترتبط كلها بالمكانة التي يشغلها الشخص في إطار البنية الجامعية وبما وراءها من منشأ اجتماعي وماضٍ مدرسي وجامعي.
ويرى «بورديو» أن العالم الجامعي – وما فيه من صراعات السلطة – يتحلق حول أمور تتصل في النهاية بالمنشأ الاجتماعي للعاملين فيه. فالأطباء ورجال القانون مثلاً هم أقرب الناس إلى السلطة الاقتصادية والاجتماعية لكونهم من منشأ اجتماعي رفيع. أما رجال العلم، الذين ينتسبون غالباً إلى الطبقة الوسطى، فيستمدون سلطتهم الأساسية ومكانتهم من جهودهم ونشاطاتهم في ميادين البحث. ويتريث عند الذين يدرسون الآداب. ويرى أنهم في منزلة بين المنزلتين وأن علاقاتهم برجال السلطة محدودة، ومن هنا يستمدون سلطاتهم ودورهم من القيود العملية التي يفرضونها على أنفسهم – وعلى رأسها تحصيل شهادة دكتوراه الدولة – ومن نتاجهم الأدبي الذي ينشرونه.
وقد يختلف الكثير من الكتّاب حول أطروحته هذه، وحول الفكرة الرائدة في كتابه هذا وفي كتبه السابقة، ولكن مؤلفاته تظل نموذجاً لجهد علمي صبور مؤيد بالإحصاءات الدقيقة، فضلاً عن تأكيدها على أهمية المنشأ الاجتماعي للطلاب، وهو تأكيد يجمع عليه الأدب التربوي الحديث وتشهد بصحته الدراسات العلمية الإحصائية التي أجريت في العديد من البلدان المتقدمة والنامية، ومن بينهم البلدان العربية.
5- المنطق والحرية:
هل يستطيع المنطق أن يساعد الفلسفة على التقدم؟ أجل. إذا عنينا بالمنطق نظرية العمليات الصورية للتفكير والمحاكاة. وهذا ما أجاب به معظم الفلاسفة، منذ أيام أرسطو حتى أيام «برتراند راسل» ومن عاصره وجاء بعده من الفلاسفة الأنجلوسكسونيين. أما الفكر الفرنسي الحديث فهو في معظمه (إذا استثنائياً قلة نادرة) لا يقبل هذا الرأي، ومن بين تلك الحالات النادرة التي ترتضيه الفيلسوف «جول غيلمان Jules Willemin» الذي يبين في كتابه الأخير(2) كيف يستطيع المنطق، عندما يفهم فهماً صحيحاً، أن يسهم في توضيح المشكلات الأساسية في ميدان فلسفة الأخلاق.
والكاتب وجه فريد في ميدان الفكر اليوم. لقد دخل الكوليج دي فرانس في أول الشباب (عمره اليوم اثننتان وأربعون سنة) خلفا لمرلو بونتي Perleau Ponty، وهو يشغل منذ نيف وعشرين عاماً كرسي فلسفة المعرفة. وقد نشر خلال هذه الفترة عدداً من الكتب الهامة لم تلق صدى مع ذلك لدى خاصة الخاصة، يدور معظمها حول المنطق. وبعد صمت طويل يطلع علينا اليوم بمؤلف ضخم عنوانه «الضرورة والجواز»، خصص معظمه للقيام بتحليل دقيق لذلك الخُلف المنطقي الشهير لدى اليونان والرومان، نعني «مأزق دبودور L’Aoprie de Diodor» نعفي القارئ من الدخول في شعابه الشائكة.
6- «بيت كانت»(1):
«برنار إيدلمان Bernard Edelman» محام لامع يناهز الأربعين، قدم من قبل كتاباً قيماً عن القانون كما يراه المصور ورجل الشعب. ويمتلك الكاتب عطفنا منذ البداية عندما يبرر محبته لـ «كانت Kant» على النحو الآتي: «لقد أحببت كانت لا بسبب عظمة فكره الصارم، بل بسبب اليأس الذي يراوده، يأسه من أن يحبه أحد».
وصاحب الكتاب، بعد أن خاض فترة في غمرة الماركسية الستالينية، عاد إلى الاهتمام بالأدب والأدباء بدءاً من هوميروس وأوفيد حتى شكسبير وبودلير، وحتى الكتاب المعاصرين. وهو يؤثر أن يظل محامياً خوفاً من أن يبعده عالم التأمل الفلسفي عن الحياة اليومية الملموسة. وفي ميدان المحاماة، يعد من المختصين في ميدان حقوق التأليف الأدبي والفني ومن المدافعين عن حقوق الإنسان عامة. وفي كتابه الجديد هذا ألفى ما كان يهواه في طفولته: الكتابة والفلسفة.
7- هيدغر Heiddegger أيضاً:
قامت دار غاليمار بنشر ترجمة للمحاضرات التي ألقاها الفيلسوف الألماني الشهير «هيدغر»، والتي يمكن أن تعد إلى حد كبير امتداداً لمؤلفه الرئيسي «الوجود والزمن».
والحق إن الهام في هذه المحاضرات هو تاريخها: صيف عام 1927. إذ يعني ذلك أنها ألقيت في نفس السنة التي تم فيها نشر كتابه «الوجود والزمن». ولهذا كان من الهام أن نرى كيف يبتعد الفيلسوف في تلك المحاضرات بعض الشيء عما في كتابه من أفكار، دون أن يتنكر لها.
على أن أهمية الكتاب لا تقتصر على هذا، فنحن نجد فيه أول صياغة صريحة لفكرة «الفارق الوجودي» التي سوف تشغل مكاناً متزايداً في فلسفة هيدغر. وأخيراً نجد في هذه المحاضرات تعميقاً لفكرة «القصدية» كما نجد فيه عناصر لتحليل الزمن بوصفه الأفق اللازم لفهم الوجود.
ونحن نعلم أن كتاب «الوجود والزمن» لم يكتمل. ومن هنا كانت هذه المحاضرات في نظر هيدغر الذي يقول ذلك صراحة، بمثابة امتداد وإكمال لذلك الكتاب المخروم.