المسألة الثقافية بين الأصالة والمعاصرة

المستقبل العربي – العدد /71/ – كانون الثاني 1985

المسألة الثقافية بين الأصالة والمعاصرة

د. عبد الله عبد الدائم
رئيس قسم مشروعات التربية في البلاد
العربية، منظمة اليونسكو – باريس
أولاً: مدخل
1- هل يستطيع المرء أن يكون مثقفاً في بلد متخلف؟ سؤال خطير، قد لا يصدق كله على المثقف في الوطن العربي الذي شدأ حظاً من التقدم، ولكن بعضه بل جله يظل صحيحاً.
ذلك أن توليد صيغة ذاتية أصيلة وحديثة للثقافة العربية، لابد أن يسير جنباً إلى جنب مع توليد هذه الصيغ الذاتية في شتى مجالات الحياة: في أنماط الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وفي التربية وفي الإعلام وفي العلوم وسوى ذلك كثير.
والثقافة لا تعدو أن تكون نظاماً فرعياً من نظام كلي شامل، لا يستقيم أمرها بدونه، وتتأثر به وتؤثر فيه، وتقوم بينهما علاقات تبادل دائرية، وصلات أخذ وعطاء.
صحيح أن من المرجو أن يكون للثقافة دور الريادة والقيادة، ولكن من الصحيح كذلك أن لهذا الدور حدوده وقيوده التي تفرضها المقومات الأخرى لنظام المجتمع الشامل، وقد يكون من باب الخيال أو من باب الأمنيات الطيبة أن نحمّل الثقافة أكثر مما تحتمل وأن نلقي عليها العبء دون أترابها.
2- وتزداد أهمية هذا التواصل بين تطور الثقافة وتطور المجتمع، عندما يكون الحديث منصباً على تأصيل الثقافة لا على تطويرها فحسب. فالمثقف المبدع الأصيل يمتاح عناصر إبداعه من امتصاصه لحياة مجتمعه والتحامه بها. ومهما تكن موهبته الشخصية، ومهما تكن قدرته على تجاوز ما في مجتمعه محللاً ناقداً مصطفياً، تظل القفزة التي يقوى على تحقيقها في هذا المجال محدودة، مقيّدة إلى حد بعيد بما قدمه له مجتمعه من زاد ومادة. وعندما يكون الزاد الذي يقدمه المجتمع لعطاء المبدع زاداً مجلوباً أو هجيناً أو ملوثاً يظل من العسير على من يمتاحه ويصهره ويطهيه أن يخلقه خلقاً جديداً أو أن ينسلخ من جلدته ويتحرر من إساره.
على أننا لا نعني بهذا أن نقول بقيام «دور فاسد» لا يمكن كسره بين الإبداع الثقافي وبين مقومات حياة المجتمع. فالترابط بين مقوّمات مجتمع ما، بوصفه نظاماً كلياً شاملاً، وبين كل واحد من مقوماته، لا يعني أن من العسير أن نحقق تقدماً في أي مقوّم دون أن نحقق التقدم أولاً في المنظومة كلها، بل يعني أن يسير العمل من أجل تطوير المقومات جميعها جنباً إلى جنب وعلى نحو متآخذ متعانق.
3- ومن هنا فإن الجهود التي ينبغي أن تبذل في سبيل تأصيل الثقافة العربية لا يمكن أن تعطي كامل مداها إلا إذا صحبتها جهود موازية من أجل تأصيل شتى جوانب الحياة العربية. ومن هنا أيضاً وجبت معالجة مسألة الأصالة والمعاصرة معالجة شاملة كاملة، على نحو ما نجد في خطة هذه الندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية.
تعريفات أولية:
وقبل أن نمضي إلى صلب الموضوع متحدثين عن مستلزمات تأصيل الثقافة العربية، لابد لنا، دفعاً لأي لبس، من تحديد المقصود بالثقافة في بحثنا هذا.
4- لن نأخذ في هذا البحث بتعريف الثقافة التي جرينا عليه، تأسياً بعلماء الانثروبولوجيا المحدثين خاصة، نعني ذلك التعريف العريض الواسع الذي يرى فيها «أنماط السلوك الخاصة بمجتمع من المجتمعات سواء كانت مادية أو معنوية» والذي يضم تحت عنوان الثقافة كل ما اتصل بسلوك جماعة من الجماعات في مأكلها وشربها وملبسها وتربيتها لأطفالها وتقاليدها في أفراحها وأتراحها وآداب اللباس والتحية عندها.. إلى جانب ما أبدعته من فكر وأدب وفن وما يسود فيها من أعراف وعادات وقيم ومعتقدات ونظم، وسوى ذلك.. ويحملنا على عدم الأخذ بهذا التعريف الواسع الخطة المقترحة لهذه الندوة، حيث تتم في أبحاث أخرى معالجة جوانب عديدة من الثقافة بالمعنى الواسع هذا، وحيث أريد للبحث الخاص بالمسألة الثقافية أن يأخذ بالمعنى الضيق – والمألوف عادة – لكلمة ثقافة، نعني كل ما يتصل بالإبداع الثقافي الرفيع من فكر وأدب وفن.
وهكذا ينصب حديثنا في بحثنا هذا على الإبداع الثقافي وعلى جوانبه الثلاثة: الإبداع الفكري، والإبداع الأدبي، والإبداع الفني. وكل واحد من هذه الجوانب الثلاثة الرئيسة يشتمل طبعاً على جوانب فرعية.

هدف البحث:
5- من الطبيعي أن نرجو للثقافة العربية أن تكون ذاتية أصيلة، وألا تكون دخيلة مجلوبة. فالاستقلال الثقافي رأس كل استقلال. والحفاظ على الهوية الثقافية الذاتية ليس مطلباً قومياً فحسب، بل هو مطلب تنموي يتصل بتوفير الشروط السليمة اللازمة للتنمية عامة، بما في ذلك التنمية الاقتصادية ذاتها. والثقافة الأجنبية الدخيلة تغزونا من كل صوب، كما تغزونا سائر أنماط حياة الغرب عامة. وعلى الرغم مما قامت به الثقافة العربية من جهود خلال القرن الحالي خاصة، من أجل التعريف بالتراث الثقافي العربي ونشر آثاره، تظل الغلبة للتيار الدخيل، بسبب قوته الذاتية أولاً وبسبب ضعف مناعة البنية العربية ثانياً. ولا غرابة في ذلك، فالتيار الثقافي الأمريكي يغزو الثقافات المتقدمة والعريقة في أوروبا نفسها، ويكاد يفرض عليها نوعاً من الإمبريالية الثقافية. وتكاد الثقافة في العالم تتجه إلى نمط واحد ووحيد، وهو نمط الثقافة الغربية عامة والأمريكية خاصة، ويكاد تنميط الثقافة وتسطيحها يصبحان قدراً مفروضاً. ويُيسر هذه المهمة دون شك انتشار ثقافة المجتمع الاستهلاكي ومغرياته، وانتشار وسائل الإعلام وأساليب البث الجماعية.
6- ورغم هذا القدر المرير الذي شكا منه المجتمعون في مؤتمر المكسيك الثقافي بين السادس والعشرين من تموز/يوليو والسادس من آب/أغسطس 1982، والذي أشار إليه خاصة وزير الثقافة الفرنسي في كلمته هناك، يسود امتعاض من هذا الواقع بل رفض له لدى الشعوب النامية خاصة، بل لدى الكثير من أبناء الشعوب المتقدمة نفسها.
7- وعندما يكون الأمر أمر الإبداع الثقافي الفكري والأدبي والفني، بوجه خاص، يصبح رفض النقل والتقليد أشد وأمضى. فالإبداع يعني بالتعريف رفض المحاكاة وتنكّب المألوف الشائع والأخذ بالمولّد الجديد. والمثقف المبدع، أياً كان نسبه وفي أي عصر ومصر، لا يرتضي لنفسه ولا يرتضي المجتمع له أن يكون مقلداً لا مجدداً، وأن يبني إبداعه عن طريق الارتفاع على أكتاف الآخرين، بدلاً من أن يبنيه بسواعده الأصيلة الفذة.
8- وفي الوطن العربي، ينضاف إلى هذا الموقف العام الذي يقفه المبدع دوماً من التقليد والتجديد عوامل أخرى هامة، تجعل المسألة تتجاوز مسألة الإبداع المجرد.
ذلك أن المبدع ههنا يجد نفسه أمام مجتمع هجين في بنيته، رغم عمق مشاعره التي تربطه بتراثه. ووراء هذه البنية الهجينة يمتد تراث عريق من الفكر والأدب والفن، لم يصل كله إلى نفوس الجماهير، وتطغى عليه اليوم غيوم كثيفة من الثقافة المجلوبة، تختلط به حيناً، وتنفيه وتحطمه حيناً آخر، وقلما تكوّن وإيّاه مركباً جديداً متسق الملامح. وبدهي أن يكون موقف المبدع الأصيل، أمام مثل هذا الواقع المشوه، أن يسعى إلى توليد نمط من الإبداع مرتبط بجذور ثقافة مجتمعه واتجاهاتها الأصيلة دون أن يكون في الوقت نفسه مجرد تقليد لأنماط ثقافية مضت وانقضت، ودون أن يكون بعيداً عن روح العصر ومشكلاته وهمومه.
9- وبتعبير آخر إن مهمة مبدع الثقافة، شأن مهمة سائر العاملين من أجل تقدم الحياة العربية، أن يقدم نتاجاً لا يشكو الانقطاع، الانقطاع مع الماضي، وأن يحقق الوصل اللازم بين ذلك الماضي ومستلزمات الحاضر والمستقبل. ويتخذ هذا المطلب أهمية خاصة، إذا نحن ذكرنا أن الحضارة العربية جملة شكت بوجه خاص من ذلك الانقطاع الذي أصيبت به بعد انهيار الدولة العربية الإسلامية، ولا سيما بعد سقوط بغداد عام 1258، والذي سببته عصور التخلف التي مرت بها. ومن هنا لم تكن مسألة تأكيد الهوية الثقافية العربية مسألة بحث عن معالم هوية لم تكن قائمة، على نحو ما هو عليه الأمر لدى كثير من الشعوب النامية، بل هي مسألة استعادة لهوية طمست وانقطعت بها السبل، وذلك من أجل امتصاصها من جديد وتطويرها وتجديدها وتجاوزها. ومن أجدر من المثقف المبدع من القيام بمثل هذه المهمة؟
10- غير أن للمسألة وجهاً هاماً آخر، وهو أن المرجو والمنشود من أجل بناء الثقافة العربية الذاتية، ليس مجرد استعادة صورة الماضي والارتباط بحبله بعد أن انقطع، بل هو فوق هذا وقبل هذا أن ندمج هذا الماضي بالواقع العربي القائم وبالتجربة العالمية المعاصرة وبرؤى المستقبل ووعوده ومرتجياته. وبتعبير آخر الثقافة العربية الذاتية المرجوة، كما نفهمها، ليست مجرد اكتشاف، اكتشاف لثقافة طمستها عصور التخلف، بل هي أولاً وقبل كل شيء بناء، بناء ذو أربعة أعمدة: التراث، والواقع العربي، والواقع العالمي، والمستقبل العربي والعالمي. إنها ثقافة جديدة وليست تكراراً لثقافة مضت. فالثقافة الغابرة لا تحيا ولا تغدو مؤثرة فعّالة إلا إذا تم تجاوزها وإغناؤها بحصاد الثقافات الأخرى والتجارب الجديدة. وبتعبير آخر لابدّ أن نضيف الزمن إلى التراث، لابد أن يكون التراث «متزمناً» بزمان، على حد قول الفلاسفة.
11- والمثقف العربي المبدع لابدّ أن يعبر في إبداعه عن هذه الصيغة المنشودة، عن هذا المعنى السليم للأصالة، فيمتاح عطاءه من الثقافة العربية الماضية مجدداً لها، محققاً للائتلاف بينها وبين واقع الحياة العربية وواقع العصر، متجاوزاً لذلك كله عن طريق ومضة إبداعه المتفردة ولحن عطائه الخاص.
المشكل:
غير أن هذا كله مما يسهل قوله ويصعب تحقيقه، ودون الوصول إلى مثل هذه الصورة المثلى للإبداع الثقافي أهوال وأهوال وجهد ونصب.
12- فالنتاج الثقافي بأشكاله المختلفة وليد تفاعل المبدع مع المجتمع. والمبدع حامل بحكم تجربته الشخصية مع المجتمع لزاد ثقافي معيّن ونظرة ثقافية إلى الأمور محددة. إنه لا يكون مبدعاً إلا إذا كان «من هو» أولاً، أي إلا إذا حقق ذاته من خلال عطائه الثقافي. ومن هنا يأتي الطابع الفذ المتفرد للعمل الثقافي الخلاق: فهو نسيج وحده، وهو تأليف مبتكر بين تجربة المبدع وحياة المجتمع من حوله. ومن هنا بالتالي يصعب الحديث عن قواعد وشروط نمليها على المثقف المبدع ونقوّم نتاجه من خلالها. والتزام المثقف المبدع بحياة مجتمعه وأهدافه، لا يمكن أن يكون التزاماً خصيباً ممرعاً إلا إذا صدر عن تمثل ذاتي متفرد لتلك الحياة والأهداف. ومن هنا، لا يمكن أ، نجد في نتاج المثقف المبدع من التزام بمجتمعه أكثر مما يتيحه هذا المجتمع نفسه من ظروف وشروط تُيسّر ذلك الالتزام وتجعله ينطلق من نفس المبدع سهواً رهواً عفو الخاطر.
13- وههنا تكمن المشكلة وههنا يكمن الحل في الوقت نفسه. المشكلة هي أن المجتمع لا يستطيع ولا يجوز له أن يفرض على المثقف شروط إبداعه وأهداف نتاجه. هذا من جانب، ومن جانب آخر لا يستطيع المثقف الحق أن يكون مبدعاً إلا إذا عبّر في عطائه عن صبوات مجتمعه وعن أعماق وجود هذا المجتمع وإلا إذا استطاع أن ينفذ إلى قوامه الأصيل وهويته الحقة. ومن هنا يأتي الحل: ليس على المجتمع أن «يَقسِر ويُكره، ولكن عليه أن يدعم ويؤيد» على حد تعبير «أندريه مالرو». وبتعبير آخر، لا يملك أي مجتمع القدرة على أن يولّد الثقافة الرفيعة المثلى، الثقافة الأصيلة، غير أن في مكنته أن يخلق الشروط اللازمة والمناخ الملائم لتفتح مثل هذه الثقافة وازدهارها.
14- وهكذا ندرك أن صلب موضوعنا في النهاية هو البحث عن السياسة الثقافية العربية الكفيلة بخلق هذا المناخ الملائم للإبداع الثقافي الرفيع الأصيل. وهذا المطلب يفرض علينا أن نستعرض بإيجاز بعض الجهود التي قامت في الوطن العربي في هذا السبيل، وأن نرى بعد ذلك ما هي الجهود المضافة الجديدة التي تلزم العناية بها. وهدفنا من وراء ذلك كله أن نرى ما هي الشروط التي ينبغي أن تتوافر وما هي الجهود التي ينبغي أن تتم في كل ميدان من ميادين الإبداع الفكري والأدبي والفني، إذا نحن أردنا أن نخلق في كيان المجتمع العربي مناخاً ملائماً لتوليد ثقافة عربية أصيلة، عريقة وحديثة. ومثل هذا الأمر يفرض علينا أن نستعرض، بلغة خاطفة أشبه بلغة البرقيات، كل ميدان من ميادين الثقافة في الوطن العربي، وأن نطلّ عليه من هذا المنظار.
ثانياً: الإبداع الفكري
كثيراً ما يغفل الباحثون في الثقافة الإبداع الفكري، وقلما يفردون له شأناً قائماً بذاته، إذ يوحدون بينه غالباً وبين الإبداع الأدبي عامة. ونؤثر أن تكون للإبداع الفكري منزلة في الثقافة وأنواعها كمنزلة الفنون الثقافية الأخرى، بل هي عندنا منزلة تعلو عليها.
15- وبدهي أننا نعني بالإبداع الفكري كل ما اتصل بميدان الفلسفة وما حولها، وبدهي كذلك أننا لا ندخل في إطار الإبداع الفكري سائر العلوم والدراسات الإنسانية، كعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا وسواها.
16- ولا حاجة إلى البرهان على أن الإبداع الفكري بهذا المعنى من أهم عناصر الإبداع الثقافي، وأن النسب بينه وبين الإبداع الأدبي والفني نسب عريق ووثيق. وحسبنا أن نذكر أن بعض المفكرين يرون في الميتافيزيقي شاعراً أخطأ موهبته، وأن نذكر في مقابل ذلك أن الإبداع الأدبي من شعر ونثر وقصة مغمور بالفكر الفلسفي، وأن «فلسفة الأدب» و«تأديب الفلسفة» أمل رواد الكثيرين منذ القديم حتى اليوم.
17- ولعل هذا الشأن الخاص الذي نريده للإبداع الفكري، يؤيده ما نجد في تراثنا العربي الإسلامي خاصة من تداخل وتواصل بين الإبداع الفكري وسائر جوانب الإبداع الثقافي، ولا سيما الإبداع الأدبي. أو ننسى ابن المقفع ونثره الحافل بالفلسفة حتى في قصص كليلة ودمنة؟ أو ننسى الجاحظ وكتاباته الموسوعية؟ أو ننسى المعري وشعره الفلسفي الفذ و«رسالة الغفران» ومقاصدها العميقة، وأبا العتاهية وزهده الميتافيزيقي؟ أم ننسى أبا حيان التوحيدي و«مقابساته» و«أمتاعه» ومحاوراته الفكرية والفلسفية؟ وهلاّ نذكر في مقابل ذلك تعانق الأدب والفلسفة في كثير من النتاج الفلسفي، كنتاج ابن طفيل الذي صاغ من فلسفته «قصة»، وكنتاج أصحاب الحكمة الإشراقية، وكبعض نتاج الغزالي والفارابي وابن سينا وابن رشد وسواهم من كبار الفلاسفة، وكنتاج علماء الكلام من معتزلة وأشعرية وسواهم؟ وأين نُصنِّف «المتصوفة»؟ أنجعلهم في عداد الأدباء والشعراء أم نجعلهم في عداد الفلاسفة، أم نفرد لهم شأناً خاصاً فنضعهم في منزلة بين المنزلتين؟ لا حاجة إلى تكرار الأمثلة فهي كثيرة تندّ عن الحصر، تشهد كلها على مكانة الإبداع الفكري في الإبداع الأدبي، وتشير بالتالي إلى أن هذا الإبداع جدير بأن نفرد له باباً خاصاً من أبواب الثقافة.
18- ولا شك أن الإبداع الفكري عامة والفلسفي خاصة يرتبط بأعمق ما في ذات الأمة من منازع ويعبّر أعمق تعبير عن السمات الذاتية التي تتصف بها ثقافتها، إذ هو الذي يحدد في نهاية الأمر نظرتها الخاصة إلى الكون وإلى الأشياء، وهو الذي يحمل عصارة تجربتها وحقيقة صبواتها وتطلعاتها. إنه الإسقاط المجسّد، إن صح التعبير، لشخصية الأمة وهويتها.
19- ورغم هذه الحقيقة البدهية، نعجب إذ نرى أن هذا الإبداع في الوطن العربي أقل شأناً من سائر أنماط الإبداع الثقافي، بل هو أكثرها اغتراباً وعجمة وأدناها إلى النقل والتقليد. حتى ليحسب المرء أن الفكر والفلسفة شأن غربي، وأن المفكرين العرب فيهما متّبعون ناقلون. والمدارس العربية في الفكر والفلسفة، إن صح أن هنالك مدارس بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، ينتمي كل منها إلى واحد من المذاهب الفكرية والفلسفية العالمية الكبرى، ويدّعي وصلاً به وتأسّياً بمنازعه، ونكاد لا نجد مذهباً فكرياً فلسفياً يصح أن نقول عنه إنه أصيل المحتوى والمبنى، عربي الوجه واللسان. ومن عجب، أن خير ما كتب حتى عن مفكري العرب القدماء وفلاسفتهم هو في معظم الأحوال ما خطّه كتاب أجانب، وأن الموسوعة الإسلامية الوحيدة موسوعة أجنبية وإن أسهم فيها بعض المفكرين العرب.
20- ومن هنا كان من حقنا أن نتساءل عن أسباب هذه الظاهرة الغريبة. وإذا نحن رجعنا أدراجنا إلى الماضي ملتمسين بعض التفسير لها، وجدنا أن التراث الفكري الفلسفي الذي عرفته الحضارة العربية الإسلامية، رغم اعتماده الكبير على النقل وعلى شرح فلسفة اليونان وسواها، عرف كيف يشق طريقه إلى إبداع أنظار جديدة ومواقف فكرية محدثة. ولا شك أن وجه الإبداع في الفكر العربي الإسلامي يتجلى خاصة في الدراسات المتصلة باللاهوت، إن صح أن نستخدم هذا اللفظ، والمتصلة بالدين الإسلامي بوجه عام على نحو ما نجد لدى علماء الكلام والمتصوفة خاصة. على أن أمر الإبداع لا يقتصر على هؤلاء، ففلاسفة الإسلام، حتى حين نقلوا وشرحوا ما عند سواهم، زادوا وأتوا بالكثير من الجديد، وهم حتى فيما نقلوه كان لهم فضل تمثّل ما نقلوا وهضمه ودمجه بالفكر العربي الإسلامي، بحيث استطاعوا في كثير من الأحيان أن يخرجوا بمركّب جديد. ولا يتسع المجال لضرب الأمثلة على ذلك. على أن من أبرزها ما أضافه فلاسفة العرب إلى المنطق الارسططالي، بل ما لجأوا إليه من دمج بين المنطق اليوناني والنحو العربي حتى لكأن «المنطق نحو يوناني» وكأن «النحو منطق عربي»، وما جرّبوا من جمع بين الحكيمين أرسطو وأفلاطون، وما وجهوه من عناية خاصة لأفلوطين و«تاسوعاته» وللأفلاطونية المحدثة، وما حاولوا من توفيق بين الحكمة والشريعة، وما ردوا به على الفلاسفة في ميدان الآلهيات وما بينوه من «تهافتهم»، وما شقوا من نهج جديد في حكمة الإشراق. حسبنا أن نذكر، من قبيل المثال لا الحصر، العطاء المتفرد لأمثال الغزالي وابن سينا وابن طفيل، والسهروردي، وابن حزم، وابن باجة، وابن رشد، فضلاً عن عطاء المتصوفة وعلماء الكلام، وعن عطاء النحويين واللغويين من أمثال الرمّاني وابن جنيّ وابن سيدة والزبيدي والكسائي وابن السكّيت وسواهم.
21- المسألة إذن مرة أخرى مسألة الانقطاع، انقطاع عطاء التراث العربي الإسلامي في ميدان الفكر والفلسفة بعد دخوله في العصور المظلمة، وانقطاع الصلة بين هذا التراث في أوج ازدهاره وبين ورثته المحدثين اليوم. ولا نزعم أن الجهود لم تبذل منذ الربع الأول من القرن الحالي خاصة، من أجل التعريف بهذا التراث الفكري الفلسفي ومن أجل دراسته، بل حتى من أجل نقده في ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر. فما كتب عن التراث الفكري الفلسفي لدى العرب تغصّ به خزائن الكتب، والمسألة كلها في نظرنا هي الآتية: ما يزال الفصام قائماً بين دراسة التراث الفكري الفلسفي العربي وبين دراسة الفلسفة العالمية الحديثة، وكل ميدان من هذين الميدانين ما يزال يعمل في معزل عن الآخر، والمعنيّ بأحدهما قلما يكون معنياً بالثاني والعكس صحيح. وكأننا هنا، في ميدان الفكر والفلسفة، شأننا في ميدان الاقتصاد، أمام قطاعين أحدهما تقليدي والآخر حديث. وهذا الطلاق بين الجانبين، وهذا العجز عن تحقيق اللحمة اللازمة بينهما، قد يكونان من بين أسباب ضعف الإبداع في ميدان الفكر والفلسفة في مجتمعنا العربي المعاصر.
22- على أن هنالك أسباباً أخرى دون شك تصعب الإحاطة بها. ولعل من أهمها غياب الفلسفة الاجتماعية السياسية الشاملة التي يجدر بالمجتمع العربي أن يأخذ بها، أو تشتتها وضياعها. ولا شك أن توليد مثل هذه الفلسفة الاجتماعية الشاملة، الجديرة بماضي الأمة العربية ومستقبلها، هو الذي يوفر المناخ الملائم لولادة سائر ضروب الإبداع في شتى ميادين الحياة العربية، ومن بينها ميدان الفكر والفلسفة. وما تزال هذه المهمة الكبرى تتحدى المنظّرين والمخططين لمستقبل الأمة العربية. قد يقال أننا ههنا نصادر على المطلوب الأول كما يقول المناطقة، أي أننا ننسى أن توليد مثل هذه الفلسفة الاجتماعية هو من عمل الفلاسفة كذلك. وهذا قول صحيح، غير أن من الصحيح أيضاً أنه لا يمكن أن يكون من عمل الفلاسفة والمفكرين وحدهم، بل لابد أن تسهم فيه سائر القوى الفاعلة في المجتمع، ولابد أن يرتضيه الساسة فوق ذلك بل قبل ذلك. وما دمنا نتحدث عن ضعف الجهود المبذولة في سبيل وضع فلسفة اجتماعية عربية شاملة، لزام علينا أن نعترف بأن الجهود التي تمت في أحد مجالات هذه الفلسفة، نعني في مجال «الفلسفة القومية»، جهود جديرة بالتقدير. ولئن غلب على بعضها الطابع السياسي المحض فإن معظمها تطرق لفكرة القومية العربية في أسسها الفكرية ومنطلقاتها الواقعية الحية، ووضع لها فلسفة متكاملة إلى حد بعيد. وقد انضافت إلى هذه الجهود الفكرية في العقدين الأخيرين جهود علمية تستهدف دراسة الواقع العربي في شتى جوانبه وتحليله وبيان تكامله. ومع ذلك فما يزال هذا الميدان في حاجة إلى المزيد من العطاء، لا سيما بعد أن عصفت رياح الشك بفكرة القومية العربية بعد أن تردّت أوضاع الوطن العربي في العقدين الأخيرين.
23- يضاف إلى هذه الأسباب التي يمكن أن نرد إليها هذا القصور في الفكر الفلسفي العربي الذاتي أننا نكاد لا نجد في البلاد العربية أي عمل مشترك منظم من أجل النهوض بالفكر والفلسفة، رغم أننا نجد مثل هذا العمل المشترك في شتى الميادين، وكأن الفلسفة منسية. وإذا استثنينا بعض المؤتمرات التي تعقد بمناسبة ذكرى وفاة أو ولادة بعض الفلاسفة والمفكرين القدامى، نكاد لا نجد من الحلقات الفكرية إلا ما ندر. بل نحن لا نعثر على اتحاد عربي يضم المفكرين والفلاسفة، رغم أننا نجد مثل هذه الاتحادات قائمة في بعض ميادين الثقافة الأخرى. ولا شك أن مثل هذا العمل العربي المشترك في هذا الميدان هو القمين بأن يطرح على بساط البحث مثل هذه المسألة الكبرى، مسألة تهيئة الظروف الملائمة لولادة فكر عربي أصيل محدث وفلسفة جديدة عربية السمات.
24- وقد يكون بين هذه الظروف الاهتمام بتدريس الفلسفة في التعليم الثانوي، وفي مختلف فروع الدراسات الإنسانية في التعليم العالي. لقد أتى على التعليم في معظم البلدان العربية حين من الدهر حسبت فيه أن تدريس الفلسفة في المرحلة الثانوية أمر تجاوزه العصر، وغاب فيه عن أذهان الكثيرين أن الفكر الفلسفي – الذي يلبس في كل عصر وحقبة من الزمن حلة جديدة ويتخذ أهدافاً ملائمة – هو العدة الأساسية التي لابد منها لتكوين الفكر النقدي المحلّل ولتعميق النظرة إلى الكون وإلى المجتمع، بل لممارسة الحياة الفردية والاجتماعية كلها ممارسة واعية مدركة. ولعله الشرط الأساسي للشعور بالذات، الذات الفردية والذات القومية، وبالتالي لوعي الهوية العربية الذاتية وبنائها بناء جديداً. وغني عن البيان أن هذا الفكر الفلسفي الذي تلزم العناية به في الدراسة الثانوية والعالية، لابدّ أن يجمع جمعاً عضوياً متلاحماً بين دراسة التراث العربي في الفكر والفلسفة وبين دراسة تيارات الفكر الفلسفي المعاصر.
25- وقد يغيب عن بالنا ما لتطوير العناية باللغة العربية من شأن في تهيئة الشروط الملائمة لولادة فكر فلسفي عربي أصيل. فاللغة حامل الفكر، بل هي حاملة الفلسفة الخاصة للأمة التي تتكلم بها، وناقلة نظرتها إلى العالم. واللغة العربية بوجه خاص تلك اللغة الحارة التي تنطق بما في الكون من جلال وجمال، والتي تكونت من خلال حياة الأمة العربية عبر العصور وتجاربها الحياتية والفكرية، تشدأ العين بما تشتمل عليه ألفاظها من معان فلسفية ومن منازع ونظرات تحدد نظرة العربي إلى العالم. وقد كتب من كتب عن الفلسفة التي تحملها اللغة العربية في ألفاظها وأساليب اشتقاقها ونموها وأسس البلاغة فيها(1)، وما يزال هذا الموضوع الهام يحتمل مزيد المزيد من الدراسة العلمية المسْتأنية. وتتخذ هذه الدراسة شأناً خاصاً في عصر استبانت فيه أهمية دراسة «الألسنيات» واتخذت فيه النظرية «البنيوية Structuralisme» شأناً خاصاً. ومن حقنا أن نسائل في مجال الفلسفة المحدد نفسه: إلى أي مدى تمت دراسة الألفاظ الفلسفية التي استخدمها الفلاسفة العرب القدامى دراسة لغوية وفلسفية؟ على أن من حقنا أن نتساءل وراء هذا كله: هل نستطيع أن نبدع فكراً عربياً أصيلاً وفلسفة عربية أصيلة إذا نحن لم نتقن أداة إبداعها، نعني اللغة، وإذا نحن ظللنا فيما ننقل عن الفلسفة الأجنبية عاجزين عن أن نصوغ ما نصوغ بلغة عربية صافية معبّرة خالية من آثار العجمة؟ وهل نطمح إلى أن نبدع إذا كنا لا نجيد حتى ما ننقل ونترجم؟ بل هل نرجو إبداعاً وخلقاً ونحن في معظم الأحيان نؤلف حين نترجم ونترجم حين نؤلف؟
26- ولا حاجة إلى القول أن هذا الفكر الفلسفي المبدع الأصيل، شأن كل عطاء خلاّق، لا ينمو ويترعرع إلا في جو من الحرية الفكرية ما يزال المجتمع العربي مقصراً عن بلوغه إن لم يعمل أحياناً على وأده ونحره.
27- ولئن كان من العسير تحديد معالم الفلسفة العربية الأصيلة كما نرجوها، فمن البدهي أن نقرر، بياناً لأهم سماتها، إنها فلسفة تسقى من معين القيم العربية بعد تطويرها وتحديثها. وهذه القيم التي نجد جذوراً لها في الجاهلية، والتي أكدها الإسلام وأنماها، والتي طورها المجتمع العربي في الماضي والحاضر من خلال ممارسته لها، نجدها مبثوثة في ضروب النتاج الأدبي المختلفة، من شعر وأمثال وحكم وأقوال مأثورة، وفي التراث الديني في أصوله الكبرى، وفي التاريخ العربي ودروسه وما فيه من مواقف، وفي حياة الأفراد والجماعات والأبطال وسيرهم، وفي شتى أوجه الحياة العربية عبر تطورها. ولعل أبرز هذه القيم: المسؤولية الفردية والجماعية، والتضامن والتكافل الاجتماعي، والحرية، والشورى، والعدالة، والمساواة وتقديس العلم، وتقديس العمل، بالإضافة إلى بعض الخصال التي أولاها المجتمع العربي منذ الجاهلية شأناً خاصاً، كالكرم، والإباء والشمم، والحلم، والشرف(2).. وما دام البحث في القيم هو أهم موضوعات الفلسفة وأهدافها، فإن دراسة هذه القيم العربية الأصيلة، في ضوء تطور الزمن، من أهم ما ينبغي أن تعنى به الفلسفة العربية المنشودة. ومن هنا فإن وضع «نظرية في القيم»،
لا سيما في عصرنا الذي يبحث تائهاً عن مثل هذه النظرية، قد يكون على رأس ما تقدمه مثل هذه الفلسفة. إن الإنسانية كلها تبحث جاهدة منهكة عن قيم إنسانية تستطيع أن تصمد في وجه قيم مجتمع الاستهلاك والدعة، قيم النجع والفعالية والكسب. والتغير المخيف الذي يخضع له المجتمع العالمي لابد له من قيادة إنسانية، تحكمها وتوجهها القيم الجديرة بالإنسان، لا تلك التي تجعل من الإنسان ذئباً على أخيه الإنسان، وتحيل المجتمع العالمي مجتمعات محتربة متنازعة بعد أن ضاقت فسحة العيش للجميع. لابد، على حد تعبير، توفلر (Toffler) من قيادة إنسانية للتغير بدلاً من مجرد القيادة التكنوقراطية أو الاقتصادية. والأمة العربية التي كان لها عطاء مشهود في هذا الميدان، عليها أن تدلي بدلوها بين الدلاء، وأن تقدم للإنسانية نظرتها إلى عالم القيم، إلى مستقبل إنسانية الإنسان. ولا حاجة إلى القول بأنه لا يكفي في هذا أن تسقي من معين قيم الماضي، على جلالها، بل لابد أن تعيد النظر في هذه القيم بحيث تستطيع أن تصمد في عصر التغير العلمي التكنولوجي السريع.
28- على أننا لا نزعم أننا استنفدنا في هذا العرض الخاطف بعض شجون الإبداع الفكري الفلسفي وشؤونه، وكل ما في الأمر أننا آثرنا أن نقدم بعض اللمسات العابرة لموضوع فسيح خطير بدلاً من أن نهمله في بحثنا هذا إهمالاً كاملاً. وعندنا أن هذا الميدان المنسي غالباً ينبغي أن يكون رأس الاهتمامات التي يعنى بها العاملون على رسم سبل الثقافة العربية المرجوة. إنه حقاً الدماغ المسيّر لسائر ميادين الثقافة، وبدونه لن تكون الثقافة في أي مجال ثقافة حقة، بل لن تكون أي خطة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية خطة واعية لأغراضها، مطمئنة إلى أهدافها ومسيرتها. غير أن العناية به، وتلك هي المشكلة، لن تتوافر إلا إذا توافرت، كما سبق أن ذكرنا، نظرية عربية شاملة ترسم أهداف الحياة العربية المرجوة وتحدد سبل الوصول إليها.
ثالثاً: الإبداع الأدبي:
29- لعل حظّ الأدب العربي المعاصر من الإبداع أكبر من حظ الفكر والفلسفة. لا ندري ألأنه أهون مركباً، أم لأن العرب أهل فصاحة وبلاغة بالطبع، أم لأن الأدب بطبيعته أكثر قدرة على الإفصاح عما هو أصيل لدى أمة من الأمم، أم لهذه الأسباب جميعها ومعها سواها؟ والحق أن مسيرة الأدب العربي منذ بدايتها عرفت المدّ والجزر، والكر والفر، غير أنها ظلت مع ذلك في الجملة مسيرة مطمئنة تتقدم وتتطور بخطى وئيدة حيناً، مغذّة حيناً آخر.
نظرة تاريخية:
30- فالعصر الجاهلي عرف ازدهاراً فريداً للشعر خاصة، وخلّف شعراؤه للأجيال القادمة كلها الأنموذج الذي ظلّ الشعر العربي وفياً له، نعني أنموذج «القصيدة»، كما خلّف الأنواع الشعرية التي ظلت سائدة دون ما تغيّر كبير فترة طويلة من الزمن، نعني الغزل والمديح والوصف والهجاء والفخر والرثاء والحكمة والقصة والخمريات. هذا إلى جانب الحكم والأمثال في ميدان النثر.
31- ثم جاء الشعر في صدر الإسلام وفي العصر الأموي، فأكمل ما سبقه وبرز فيه الشعر الديني والشعر العاطفي الغنائي والنسيب بوجه خاص. كما تطور النثر تطوراً مرموقاً، على يد ابن المقفع خاصة في كتابه الشهير كليلة ودمنة الذي اقتبسه من الأدب الهندي.
32- أما العصر العباسي فهو كما نعلم عصر ازدهار الأدب العربي وعصر ازدهار الثقافة العربية عامة، وفيه بلغ كل منهما شأواً لم يعرفه من قبل، وأدى تمازج الثقافات فيه إلى توليد صيغ أدبية وثقافية جديدة. وقد ظهرت في الأدب ظاهرتان جديدتان: أولاهما أن الأدب لم يعد يغلب عليه الشعر وحده، بل غدا أدب فن وفكر. وثانيتهما أنه لم يعد نتاج الكتّاب العرب وحدهم بل غدا وسيلة التعبير المشتركة للشعراء والكتّاب والمفكرين في جميع أصقاع الدولة. ومن العسير أن نتحدث ولو بإيجاز شديد عن أهم معالم الأدب في هذه الفترة، وليس هذا قصدنا ههنا. وحسبنا أن نذكر أن هذا العصر عرف أيضاً ظهور علماء اللغة وظهور المترجمين. وهكذا، وبفضل هذه النهضة الثقافية العارمة في شتى الميادين، وبعامل تمازج الثقافات والشعوب، لبس الأدب العربي في هذه الحقبة ثوباً قشيباً جديداً وظهر فيه تيار مجدد بدأ يشتد عوده يوماً بعد يوم، وسط ذلك الصراع الأزلي، صراع القدامى والمحدثين. ويكفي لبيان أهمية هذا التيار المجدد أن نذكر أبا نواس في ميدان الشعر وما جدد في مبنى القصيدة ومعناها:
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفاً ما ضر لو كان جلس؟

اترك الربع وسلمى جانباً
واصطبح كرخّية مثل القبس

وأن نذكر الجاحظ في ميدان النثر، وما قدمه من فكر موسوعي وما اصطنعه من أسلوب جديد في الكتابة.
33- وبعد تمزق الدولة العربية وانقسام الخلافة الإسلامية خلال القرنين التاليين للعصر العباسي، عرف العالم العربي الإسلامي انطلاقاً في العلوم وفي كثير من ميادين المعرفة، وقامت في الدويلات التي انفصلت عن حكم بغداد حركة ثقافية واسعة، رغم الاضطراب السياسي والمؤامرات المستمرة. وفي تلك الحقبة ظهر للمرة الأولى في ميدان الأدب أدب الرحلات، كما نجد عند المسعودي ولا سيما مروج الذهب، وابن حوقل الذي خلّف وثائق واسعة عن العالم الإسلامي كله بعد أن زار أفريقيا الشمالية والأندلس ومصر وأرمينيا وأذربيجان، والمقدسي الجغرافي والعبقري بل أشهر جغرافيي العرب. وفي تلك الفترة أيضاً ظهر شاعران من أكبر شعراء العربية، نعني المتنبي وأبا العلاء المعري، وكلاهما جدّد في الأدب العربي ما جدّد، وأضاف إليه ما أضاف. وإن ننسَ لا ننسَ ذلك الأثر النثري الرائع الذي خلفه المعري، فضلاً عن شعره الفلسفي الفذّ، نعني رسالة الغفران. وفي تلك الفترة ظهر في المغرب العربي الكاتب التونسي «ابن رشيق» صاحب العمدة، والحصري، والجغرافي الشهير الإدريسي، وظهر في الأندلس العديد من الشعراء والأدباء الذين ألبسوا الأدب العربي حلة جديدة مبتكرة، نذكر من بينهم ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، وابن هاني، وابن زيدون، وابن عبدون، ونذكر من بينهم أيضاً في ميدان الرحلات ابن جبير وفي مجال علوم اللغة والنحو الزبيدي وابن جنيّ وابن سيدة.
34- ثم أعقب هذه الفترات الذهبية في تاريخ الثقافة العربية عصور مظلمة، بدءاً من القرن الثالث عشر الميلادي، دخل فيه الوطن العربي في سبات عميق وأفل نجمه وتداعت لديه قدرات الخلق والإبداع تدريجياً، وتبلدت قواه وتحجر دماغه. وإذا استثنينا بعض العقول النادرة التي ظهرت في هذه الحقبة، من مثل العالم ابن نفيس مكتشف الدورة الدموية واللغوي التونسي الكبير ابن منظور والمفكر الديني الشامي شيخ الإسلام ابن تيمية والمؤرخ الفذّ ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، وجدنا الإبداع في الجملة يغرب نجمه ويفسح المجال لنتاج مكرور معاد، يسوقه جماعون للثقافة لا خيال عندهم، وشارحون ومفسّرون ضيقو الأفق، وفقهاء متزمتون محدودو النظرة، وجماعون ومتفيقهون خلوا من الموهبة يجترون ما خلّفه القدامى..
35- وبعد هذه الغفوة والغفلة، جاءت تباشير العصر الحديث وبواكير النهضة الحديثة، وقدمت معها مشكلات التحديث، وصراعات القديم والجديد. وقد كانت نقطة الانطلاق الأساسية في هذا التطور، بعد ليل عثماني طويل، اصطدام الثقافة العربية بالثقافة الأوروبية منذ أيام حملة نابليون على مصر وفي أوائل القرن التاسع عشر، حتى الاحتلال الاستعماري الغربي لمعظم البلدان العربية بعد الحرب العالمية الأولى. فبوساطة تلك الحملة وما رافقها من بعثات ثقافية، عرف العرب للمرة الأولى علوم الغرب وتقنياته، وبدأ الوطن العربي يتحرك ويمور محاولاً تحديد موقفه وتبين هويته أمام هذا الغازي الدخيل. وهكذا عرفت مصر خاصة وعرف سواها من البلدان العربية انبثاق أفكار جديدة، تحاول فيما تحاول أن تضع الإسلام في موضعه من العصر، كما نجد لدى «رفاعة الطهطاوي» في مصر (توفي عام 1890 م)، ولدى خير الدين التونسي (توفي عام 1890 م)، وعند جمال الدين الأفغاني الذي أقام بمصر (توفي عام
1897 م)، ثم عند تلميذه محمد عبده ومدرسته.
الأدب العربي المعاصر:
36- ومن ذلك الحين سار التطور قدماً، وفتحت معركة القديم والجديد على مصراعيها، وأخذ اتصال الوطن العربي بالغرب يتزايد ويشتد، ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى، وظهرت النزعات الأدبية المتضاربة، وتنازعت الأدب تيارات التجديد المتباينة وما تزال تتنازعه حتى اليوم.
ونستطيع أن نصنف أمهات التيارات التي تنازعت الحركة الأدبية المعاصرة في تيارات كبيرة أربعة:
أولها التيار الغربي الذي يرى أن تفتح الأبواب للثقافة الغربية على مصراعيها، وأن تكون ضالة الأدب في النهاية أن يتأسى الأدب الأجنبي. وقد عبّر عن هذا التيار إلى حد ما طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر.
وثانيها التيار الإقليمي المحلي الذي يرى أن لكل بلد عربي ثقافته الخاصة وأدبه الخاص، وقد عبر عن هذه النزعة عدد من الكتاب في مصر ولبنان بوجه خاص.
وثالثها التيار المحافظ الذي يدعو إلى الحفاظ على طبيعة الأدب العربي وصفاته التقليدية، والذي يرفض التجديد المنقول. وممثلوه كثرة من حملة الثقافة العربية القديمة الذين لم يشدأوا حظاً من الثقافة الأجنبية.
ورابعها التيار العربي الذي يدعو إلى أدب عربي أصيل وشامل، يتلون بلون كل قطر وبلد، ولكنه يظل في خطوطه العريضة أدباً يخاطب جمهرة الشعب العربي، ويسقي من منبعين متكاملين مندمجين: منبع الثقافة العربية قديمها وحديثها ومنبع الثقافة الأجنبية.
نظرة نقدية:
37- بعد هذه الجولة الخاطفة في ربوع التجربة العربية، نستطيع أن نمضي إلى صلب الموضوع، فنسائل ما هي الصورة التي بلغها الأدب العربي اليوم، بعد هذا الحلّ والترحال، وبعد هذا الإقدام والأحجام، وما هي مقوماتها وما هي مشكلاتها وما هو المرتجى من أجل تطويرها؟
لا شك أن الأدب العربي قد بلغ مرحلة كبيرة من النضج، وحقق بوجه خاص الغلبة للتيار العربي الذي تحدثنا عنه على التيارات الأخرى، واستطاع شيئاً بعد شيء أن يغدو في الجملة أقرب إلى الجمع بين الأصالة والحداثة.
فبعد أن سادت فترة من الفترات نزعة الانبهار بالثقافة الأجنبية وتقليدها، وبعد أن كان أدب الرواية خاصة يستقي عطاءه من الأدب الأجنبي (حتى عند مثل المنفلوطي وأحمد حسن الزيات)، أخذ التوازن مجراه وبدأ الأدب عامة وأدب الرواية والقصة يغدو أكثر التصاقاً بالمجتمع المحلي والمجتمع العربي وأكثر اهتماماً بمشكلات الإنسان العربي وأقدر على التعبير عن همومه وشجونه وشؤونه. ولا أدل على ذلك من أن كبار الكتاب في بداية النهضة الأدبية العربية نزعوا غالباً هذا المنزع (على نحو ما نجد لدى طه حسين والمازني وتوفيق الكيم ويحيى حقي بوجه خاص)، وإن الكتاب المحدثين أعطوا هذه النزعة أبعاداً جديدة وأغنوها بمزيد من الاهتمام بالبيئات الشعبية والألوان المحلية (على نحو ما نجد لدى نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي وطيب صالح وبشير خريّف وفؤاد تكرلي وعبد السلام العجيلي وحنا مينة وغادة السمان وسواهم كثير).
38- كذلك تم جهد كبير في ميدان التفاعل الثقافي والتفاعل الأدبي بين البلدان العربية من أجل تأكيد وحدة الثقافة في الوطن العربي، وجعلها المدخل الأفضل من أجل السير نحو سائر أشكال الوحدة:
نجد ذلك في ميثاق الجامعة العربية، ونجد ذلك في أعمال الإدارة الثقافية التابعة للجامعة ثم في أعمال المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بعد إنشائها عام 1970. وفي دستور هذه المنظمة إشارات واضحة إلى أهداف الثقافة العربية ووسائلها وإلى المهمات الموكلة للمنظمة بشأنها.
وبعد إنشاء المنظمة قامت نشاطات عديدة من أجل تأكيد التفاعل بين البلدان العربية في مجال الثقافة، لا مجال لتعدادها، من أبرزها مؤتمر عمان عام 1967 الذي وضع أسس السياسة الثقافية في الوطن العربي، ونجد في الإعلان الذي صدر عن ذلك المؤتمر إشارات هامة إلى أهمية الثقافة في بناء الشخصية القومية، وإلى أهمية التكامل العربي في مجال التخطيط الثقافي، وإلى ضرورة التكامل بين قطاعات الثقافة المختلفة، وإلى أهمية البعد العالمي الإنساني في الثقافة العربية.
ولا حاجة لنا إلى الإشارة إلى كثير الكثير من المؤتمرات واللقاءات والحلقات التي عقدت في الوطن العربي، من أجل تدارس مختلف جوانب تطوير الأدب العربي الحديث وتطوير التعاون بين البلدان العربية في سبيل ذلك.
39- ورغم هذا كله، ورغم ما نلحظ من تقدم خطى الإبداع الأدبي العربي نحو الأصالة، ورغم ما قام ويقوم من لقاءات ومؤتمرات من أجل توضيح الرؤية العربية المشتركة في هذا المجال، ما تزال أمام الأدب العربي الحديث أشواط وأشواط لابد له أن يقطعها تأكيداً لأصالته وحداثته معاً. والحق أن بلوغ الشأو اللازم في هذا المجال هو دوماً أمامنا وليس أبداً وراءنا. إنه كالأفق يبتعد عنا كلما دنونا منه. ومطلب بناء أدب عربي أصيل القوام عالمي الشأن والقيمة، ليس بالمطلب السهل، ولا هو بالمهمة التي يمكن أن تنتهي يوماً ما.
وإذا نحن قرنّا الأدب العربي المعاصر بما جرى في كثير من البلدان النامية نفسها، أدركنا تقصير الأدب العربي في هذا المضمار. وحسبنا أن نذكر تطور الأدب في أمريكا اللاتينية ولا سيما منذ الخمسينات ونجاحه الكبير في أن يصبح أدباً أصيل التعبير عن هموم بلاده وقادراً في الوقت نفسه على أن يخاطب العقل الأجنبي وأن يضاهي هذا الأدب حتى في صياغته الفنية.
وليس انتقاصاً للأدب العربي أن نذكر أن الآثار الأدبية الجديرة بأن تترجم إلى اللغات الأجنبية قلة نادرة في وطن ينوف على المائة والثمانين مليوناً، وأن ما ترجم حتى الآن لم يلق رواجاً حقاً إلا قليل القليل منه، ولا يرقى دوماً إلى مصاف الإبداع المنشود.
40- ومعنى ذلك أن النتاج الأدبي العربي – ولا سيما الرواية والقصة – لم يبلغ بعد حداً من الأصالة يجعله قادراً على أن يدلي بدلوه بين الدلاء وعلى أن يدخل حلبة السباق العالمي. أجل، نقول أنه لم يبلغ حداً كافياً من الأصالة، لأن الأصالة في نظرنا هي التي ترفع مستوى العطاء الأدبي وتجعله قادراً على اختراق ميدان الأدب العالمي.
وفي رأينا أن بعض كتابنا يظنون أن الأصالة تكمن في تصوير عادات المجتمع العربي، محلياً كان أو شاملاً، أو نقدها وتجريحها. ومن هنا نجد عدداً كبيراً من الروايات والأقاصيص التي تدور حول هذا الموضوع وتجترّه مراراً وتكراراً. وليست الأصالة كذلك. إننا لا نعثر عليها فقط في معرض الآفات والأمراض الاجتماعية، بل نعثر عليها في كل ما يعبّر عن روح الشعب وعن منازعه الفكرية والنفسية وعن صبواته وتطلعاته، وفي كل ما يعبّر عن توقه إلى مجتمع جديد ورؤية جديدة وعالم جديد. إننا نعثر عليها كذلك في كل ما يعبّر عن هموم إنسانية مشتركة وعن سعي إلى بناء مجتمع عالمي إنساني. إن الأصالة تكمن، بتعبير آخر، في كل ما يفصح عن قوة دافعة متحركة محرّكة تصبو إلى بناء مجتمع قومي أفضل ومجتمع إنساني أكمل.
ولا أدل على ذلك من أن كثيراً من الباحثين يرون أن نجاح الأدب في بلدان أمريكا اللاتينية يرجع بالدرجة الأولى إلى نجاح كتابها في تأكيد الهوية الذاتية الخاصة وفي الحديث عن الملامح والسمات المميزة لهموم الشعوب هناك وفي الإرهاص بتطلعاته وصبواته. ويصدق هذا خاصة على أمثال «أوكتافيو باز Octavio Paz»، وعلى «ميكل انجل آستورياس Migel Angel Asterias» وعلى «غابرييل ماركيس Gabriel Marqués» وعلى «آليجو كاربانتييه Alejo Carpentier» وعلى «جوزه ليزماليما Jose Lezma Lima» و«إيزابيل آلندي Isabel Allende» وسواهم. وما يصح على أدب أمريكا اللاتينية يصح على أفريقيا (لنذكر مثلاً سنغور Senghor) وعلى آسيا (لنذكر «إقبال» في الهند، ولنذكر في اليابان كتّاباً أمثال «كاواباتا Kawabata» و«ميشيما Mishima»). والأمثلة كثيرة في مختلف مناطق العالم تشهد على عمق الصلة بين الأدب الأصيل القادر على أن يسمو عالمياً وبين ارتباط الأديب ارتباطاً حميماً بالمسيرة التاريخية لأمته وبطموحاتها وأحلامها ورؤاها المستقبلية.
41- والأصالة بعد ذلك وفوق ذلك إتقان فني وروعة في البناء والأداء. وما أقل النتاج الأدبي العربي الذي يصمد أمام مثل هذا المحك. وههنا يأتي الوجه الثاني للمسألة: فضعف الأصالة في نظرنا لا يرجع فقط إلى ضعف امتصاص الوجود القومي العربي، بل يرجع من جانب آخر إلى ضعف الإحاطة بالآداب العالمية وبأساليبها المحدثة. وكما أن أدبنا في حاجة إلى مزيد من الغوص في تربة قومه، فهو في حاجة إلى مزيد من الاستلقاء في أحضان التجربة العالمية والإفادة من دروسها، في ميدان تجديد الأدب وتنوع أساليبه وفنونه.
ومن عجب أننا إذ ننقل بعض الصيغ الأدبية الأجنبية، ننقل غالباً أبعدها عن روح أدبنا وطبيعته، على نحو ما نفعل في الشعر الحديث. وليس ههنا مجال الحديث عن مشكلة الشعر الحديث، غير أن لزاماً علينا أن نذكر أن هذه الصياغة الشعرية لا تتخذ شأنها وقيمتها إلا إذا كانت تعبيراً طبيعياً عن لحن نفسي لا يمكن التعبير عنه إلا بوساطتها. وقيمتها ليست في شكلها، بل في مدى قدرة هذا الشكل على أن يضع على الورق الحركة النفسية الشعورية أو اللاشعورية التي تمور في دنيا الشاعر.
شروط الإبداع الأدبي المنشود:
42- ولا مجال لأن نمضي بعيداً في تحليل التجربة الحديثة في الأدب. وأهم من هذا أن نجيب على التساؤل الأساسي: ماذا نصنع أمام هذا الواقع الذي لا يلبي مطالب الأصالة كما نريدها ونرجوها؟
وههنا نعود أولاً إلى ما قلناه في مدخل هذا البحث، وهو أن الثقافة نظام فرعي من نظام كلي، وأن التطور المرجو فيه لا يستطيع أن يجاوزه إلا بمقدار محدود، هو ما تسمح به بنية المجتمع ومرحلة تطوره.
على أننا إذا تركنا هذه الذريعة العامة، وأردنا بعض التخصيص حق لنا أن نقول أن الأديب العربي الأصيل كما نرجوه، لابد أن تتوافر له ثلاثة عناصر متكاملة من الثقافة: المعرفة الدقيقة والوثيقة بالتراث الأدبي العربي خاصة وبالثقافة العربية عامة، والمعرفة الكافية بالأدب الأجنبي وفنونه وأساليبه، والانغماس الكامل في مجتمعه، مجتمعه المحلي الضيق ومجتمعه العربي الشامل.
ومن هنا فإن تكوين أدباء المستقبل يبدأ في نظرنا منذ نعومة الأظفار وميعة الصبا، في المدرسة الابتدائية والثانوية وفي المرحلة الجامعية، كما أنه يتمّ عن طريق مؤسسات الثقافة المختلفة التي تنشئها الدولة، وعن طريق النشاطات الثقافية المختلفة التي تسوقها، وعن طريق التفاعل الخلاّق بين الأدباء في مختلف البلدان العربية من خلال المؤتمرات والندوات وسائر أساليب اللقاء والتبادل الثقافي. هذا فضلاً عمّا تيسّره الدول من رعاية للمثقفين وحماية لهم وإفساح الفرص أمامهم للتعرف على حصاد التجارب العالمية في ميدانهم.
43- ولا حاجة إلى القول هنا أيضاً أن مناخ الحرية شرط لازم لبزوغ الأدب الأصيل، كما أنه شرط لازم لكل تقدم في أي مجال. وأسوأ ما يمكن أن يعصف بطاقات الخلق لدى الأدباء أن تسخَّر هذه الطاقات لخدمة أغراض أولي الأمر والنهي مهما يكن شأوهم ومهما تكن حصافتهم. ومن جوانب الحرية الهامة في الإبداع الأدبي الحرية الاجتماعية عامة، نعني حرية الأديب في أن يعالج مشكلات قد لا يقبلها المجتمع.
44- على أن علينا ألا ننسى، ونحن نتحدث عن عوامل توفير الأصالة المرجوة للأدب العربي، دور وسائل الإعلام السلبي والإيجابي معاً. فلقد حدث، شئنا أم أبينا، في السنوات الأخيرة ضرب من السيحان بين الثقافة وبين وسائل الإعلام، بحيث خالط أحدهما الآخر. وفي هذا جانب إيجابي، إذ يجعل من الثقافة التي كانت ملكاً للخاصة إلى حد بعيد ثقافة جماهيرية مبذولة لسائر طبقات الشعب. غير أن مسؤولية المثقف ومسؤولية المشرفين على الإعلام تغدوان بسبب هذا أفدح وأخطر. وقد خصصت المنظمة العربية لهذا الموضوع مؤتمراً هاماً عقد عام 1973 في مدينة بغداد، موضوعه «الثقافة الجماهيرية والثقافة في الوطن العربي»، وتبنى توصياتْ هذا المؤتمر مؤتمر وزراء الثقافة العرب الذي انعقد في عمّان عام 1976، وقد كان محور هذه التوصيات إنشاء مركز عربي للثقافة الجماهيرية. كذلك عالج هذا الموضوع مؤتمر وزراء الإعلام العرب الذي انعقد في القاهرة عام 1973. وقد خصصت المنظمة أيضاً حلقة حول التلفزيون وأثره الاجتماعي والثقافي والأخلاقي (طرابلس، عام 1972)، وحلقة أخرى حول «التكامل بين البنى الثقافية والبنى التربوية» (طرابلس، عام 1976).
ولا شك أن الانتقال من المطبوع إلى المرئي، من «مجرّة غوتانبرغ» إلى مجرة الإلكترون كما يقال، يغير تغييراً جذرياً معطيات المسألة الأدبية والثقافية. فوسائل الإعلام المسموعة والمرئية، تفتح وجود الإنسان كله على العالم وتفتح العالم كله أمام وجود الإنسان. إنها تخاطب وجود الإنسان كله، جسده وحواسه جميعها، وتثير دهشته أمام الكون، وتحرر حياته الانفعالية والعاطفية، وقد تجعل من هذا التحرير سبيلاً لإنسانية جديدة مستجيبة لمطالب الإنسان وحاجاته العضوية والنفسية. وإنها تمزج التجربة العالمية كلها وتضعها في وقت واحد أمام مسمع الإنسان أو بصره. وهي بهذا المعنى أداة إيجابية، شريطة أن يحسن استخدامها ويحسن مضمونها. وإذا نظرنا إليها من إطار الهوية القومية ومن زاوية توليد الثقافة الذاتية الأصيلة، وجدنا أنها سيف ذو حدين، فإما أن تؤدي إلى الاستلاب والاغتراب حين يطغى عليها النتاج الأجنبي (كما هي عليه الحال اليوم في معظم البلدان) وإما أن تصبح أداة بناء ثقافي أصيل، حين يمسك بزمامها أبناؤها ويغذّيها المثقفون المبدعون بعطائهم الأصيل.
45- وما دمنا نتحدث عن الجماهير والثقافة الجماهيرية، علينا ألا ننسى أهمية العناية بشتى أنواع الأدب الشعبي، ولا سيما الأمثال الشعبية والحكايات المتناقلة والحكم الشائعة والشعر الشعبي (الزجل). ولا حاجة إلى القول أن هذا الأدب الشعبي أعمق معين يمكن أن يسقي منه الأدب المبدع إذا ما رام ارتباطاً جذرياً بحياة شعبه وأمته. ومما يثير إعجابنا ما نجده في بعض الروايات العربية الحديثة من استشهاد ذائع بالأمثال الشعبية. ولا شك أن أمام المسؤولين عن الثقافة جهوداً كبيرة ينبغي أن يبذلوها في سبيل جمع هذا الأدب الشعبي وتوثيقه وحمايته من الانقراض.
ولعل من أهم جوانب الأدب الشعبي أدب الغناء. واختيار نصوص الأغاني أمر هام في بناء الشخصية الثقافية العربية. وهذا الجانب ما يزال مهملاً أو متروكاً عفو الخاطر. ومن الظواهر المشجعة أن نجد الأغنية في السنوات الأخيرة تلجأ إلى أمهات القصائد العربية القديمة. وللموشحات خاصة دور محمود دون شك في هذا المجال، وهو دور جدير بأن يُنمى. على أن مزيداً من الجهد لابد أن يبذل في هذا الميدان، فالأغنية التي تذيع من أقصى البلاد العربية إلى أدناها والتي تلوكها الألسن وترددها الحناجر كل يوم، تلعب دوراً هاماً غير منظور في بناء الشخصية الثقافية العربية، ومن الهام أن يكون هذا الدور إيجابياً فعالاً.
46- ولابد أن نقول كلمة عن جانب منسيّ غالباً هو جانب المخطوطات، رغم أن كلمة تراث ثقافي كانت تنصرف في الأصل لهذا الجانب. فلا شك أن استكمال نشر هذا التراث عامل من العوامل الهامة التي تيسّر اطلاع أدبائنا وكتابنا على المطويّ المجهول من الآثار الأدبية الغنية، الأمر الذي يهيء مناخاً أفضل لتوفير شروط الإبداع الأدبي المرتبطة بالأصول والجذور.
ولا شك أن جهوداً عديدة قامت في هذا السبيل في البلدان العربية مستقلة أو مجتمعة. ومما يلفت النظر أن الجامعة العربية قررت منذ إنشائها عام 1946 إنشاء معهد للمخطوطات العربية. غير أن هذا المعهد لم ينشر منذ إنشائه حتى اليوم من المخطوطات إلا ما يعدّ على رؤوس الأصابع، وقد شهد نشاطه بعض الخمود بدءاً من عام 1960. على أن المعهد أدى خدمات جليلة أخرى، وهو مرجع هام فيما يتعلق بثبت المخطوطات، كما أنه يصدر منذ عام 1971 مجلة إعلامية عن التراث الثقافي العربي، يضاف إلى هذا أنه كوّن مكتبة من «الميكروفيلم» تضم أكثر من عشرين ألف عنوان، وقام لهذه الغاية بإرسال البعوث إلى العديد من المكتبات في شتى البلدان. وقد ارتبط المعهد منذ عام 1970 بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وعقدت المنظمة لقاء حول موضوع المخطوطات هذا خصصته لحماية التراث العربي ونشره وتحسين شروط الوصول إليه، وخرج اللقاء بتوصيات هامة استأنفها مؤتمر وزراء الثقافة فيما بعد.
وتضاف إلى جهد المعهد وجهود المنظمة بهذا الشأن جهود كل بلد عربي على حدة وهي كثيرة ومتعددة الوجوه. ومع ذلك فما تمّ حتى الآن أقل بكثير مما يتوجب إنجازه. ومن هنا لابد من التذكير بضرورة استكمال هذا الجهد في الميدان الذي يكوّن رفد إثراء للأدباء وسواهم، والذي يكوّن عموداً بارزاً من أعمدة الأصالة الثقافية.
47- وثمة مجال خصب لتنمية روح الإبداع ولتوسيع مجال الإنتاج الأدبي في وقد واحد، هو أدب الأطفال. ولا نغلو إذا قلنا أن العناية بهذا الأدب رأس العناية بأي إبداع. أوليس هذا الأدب هو الوسيلة المثلى لخلق القدرة على الإبداع Creativity منذ نعومة الأظفار كما يبيّن علماء النفس؟ أوليس هذا الأدب، بما يمدّ الطفل من خيار مجنّح خلاّق، ومن ترحال في عالم المجهول، ومن امتطاء للغريب النادر، هو المادة الخام التي ينسج منها الإبداع خيوطه؟ بل أوليس هذا الأدب هو الذي يخلق «الذكاء المُباعد» على حد تعبير علماء النفس، الذكاء الذي يفتح نوافذ جديدة ويفتق دروباً مبتكرة، لا «الذكاء المُقارب» الذي يصب جهده على معالجة المشكلات؟ وبذلك فهو لا يكوّن لحمة الأدب المبدع فحسب، بل يكوّن المادة السحرية للخلق والابتكار في الصناعة والعلم والتكنولوجيا نفسها. ومن هنا جاءت تلك العناية المتزايدة بأدب الأطفال في البلدان الأجنبية، وهي عناية تزداد يوماً بعد يوم بعد انتشار الرسوم المتحركة dessins animés والأفلام المتحركة (أفلام كرتون). وقد ظهر جانب من العناية في البلدان العربية. غير أن الجهود في هذا الميدان ما تزال تسير على استحياء، وكثيرها لا تتوافر له الصفات الأدبية والتربوية اللازمة.
وما دام همنا ربط الحاضر بالماضي وتأصيل الثقافة، لنذكر الأراجيز التي كانت الأمهات العربيات تهدهد بها أطفالها، ولنذكّر بما فيها من إكبار لروح البطولة والشهامة والارتباط بالأمة، ولننبّه إلى أهمية جمعها وتوثيقها وهي المنثورة في بطون الكتب المختلفة.
48- وهكذا ندرك في خاتمة المطاف أنه بالرغم من أن الأدب إبداع ذاتي يصعب تقعيده وتقنينه، فإن ثمة شروطاً عديدة يمكن توفيرها من أجل توجيهه الوجهة الصحيحة، وثمة وسائل يمكن اصطناعها من أجل ربطه ربطاً أوثق بمطالب الأصالة الثقافية الذاتية. ومن هنا لابد أن نقر بأن للسياسات التربوية إذن شأنها في توجيه الأدب وجهته الصحيحة، مهما يكن هذا الأدب وليد فردانية الأديب وخصوصيته وموهبته المتميزة. ففي مجال نشر التراث القومي، وفي مجال تجويد وسائل الإعلام، وفي مجال الأدب الشعبي وأدب الغناء، وفي مجال أدب الأطفال، وفي مجال التفاعل الأدبي الخلاّق بين الأدباء في شتى الأقطار العربية، وفي غير تلك من المجالات، يظل لواضعي السياسة الثقافية ومخططيها ومنفذيها دور كبير يستطيعون بوساطته أن يوقدوا شعلة الإبداع الأصيل لدى الأدباء والكتّاب، بفضل توفير الشروط اللازمة لذلك والمناخ الملائم لهذا الغرض. ولئن غاب اليوم رعاة الأدب والثقافة في العصور الغابرة، من ملوك وأمراء وسواهم، فإن ديمقراطية الثقافة لا تعني أن يظل مكانهم فارغاً، بل تعني أن تحل محلهم الدول والحكومات والجماعات، وأن تضطلع هذه القوى جميعها بمهام رعاية الثقافة وحمايتها، بما في ذلك الأدب، رغم تفرده وعصيانه على التوجيه المباشر كما قلنا ونقول.
وهل من حرية الأدب والفكر أن نترك مصير الأدباء والكتّاب بين أيدي أصحاب دور النشر التجارية وحدها؟ أفلا يحتاج الأدب الرفيع إلى احتضان وحماية وسط منافسة الأدب الرخيص الذي تقذف به دور النشر هذه؟ أفلا يحق لنا أن نقول أن دور النشر التجارية هذه، وهي التي ما تزال قائدة رائدة، كثيراً ما «تهمّش» الإبداع الأدبي الرفيع (أي تجعله هامشياً) وتزرى في معظم الأحيان بالخلق والإبداع؟ وهل نرجو أدباً مبدعاً أصيلاً، حين تدغدغ دور النشر بنتاجها الرخيص المشاعر المتخلفة للأكثرية التي ما تزال جاهلة، وحين تعوّد أنصاف المثقفين على قراءة الكتب الهزيلة التي تداعب الآماق قبل النعاس، مبعدة إياهم بذلك عن ارتياد الآثار الأدبية التي يجهد معها قارئها وتُجهده حين يرنو إلى رحيق ذي قوام؟

رابعاً: الإبداع الفني:
49- ثالثة الأثافي: الإبداع الفني، أخطرها وأصعبها منالاً وأكثرها تأبياً على الجمع بين الأصالة والتجديد.
ومن العسير أن نتريث عند كل أوجه الإبداع الفني فهي كثير: الآثار والمتاحف، والفن المعماري، والموسيقى والمسرح، والفنون التشكيلية، والغناء، والرقص، بل والسينما. ولهذا نكتفي بنظرة شاملة إليها مع بعض التخصيص حيث يلزم ذلك.
واقع الفنون في البلدان العربية:
50- وواضح أن هدفنا في هذا البحث من الحديث عن الإبداع الفني أن نقوّمه من أجل رسم ما ينبغي أن يكون عليه إن أردناه أصيلاً حديثاً.
وفي هذا الشأن نستطيع أن نقول أن الفن العربي الحديث، في أبرز أشكاله، نعني العمارة والفنون التشكيلية والموسيقى، ما يزال إلى حد كبير فناً مقلّداً، بل فناً يشكو الغربة والاستلاب. صحيح أن بوادر الفن الأصيل أخذت تظهر في الميدان، كما نجد في فن المعمار في عدد من البلدان العربية اليوم (ولا سيما تونس)، وكما نجد في الموسيقى المستقاة من الموشحات خاصة أو في بعض أشكال الموسيقى التي أحيت مدرسة السيد درويش، أو في بعض أنواع الرسم والنحت المستقاة من البيئة العربية في موضوعاتها والمقلدة للغرب غالباً في مبناها. غير أن الكثرة الكاثرة من هذا النتاج ما يزال أعجمي الملامح غريب القسمات.
51- وقد يرجع ذلك إلى أن التراث العربي القديم فقير بالنتاج الفني في ميدان الفنون التشكيلية وحتى في ميدان الموسيقى، وإن يكن غنياً في ميدان العمارة. على أن المسألة ههنا تظل أيضاً تلك التي وجدناها في الحديث عن الأدب، نعني عدم توافر الشروط اللازمة التي تيسّر للفنان تحقيق الدمج العضوي الكامل بين مقومات بيئته وسمات تراثه وحياة شعبيه من جانب، وبين التجربة العالمية الحديثة في أصولها ومنطلقاتها من جانب آخر.
شروط تطوير الفن العربي وتأصيله:
52- وههنا أيضاً لابد من البدء بالبداية، نعني بمرحلة الطفولة وبرياض الأطفال والمدرسة الابتدائية وما يليها، من أجل تعهد روح الإبداع الفني الأصيل. كذلك لابد أن تضطلع مراكز الثقافة ومؤسساتها ومعاهدها بدورها في هذا المجال. ومما يبشر بالخير أن كثيراً من البلدان العربية أنشأت مراكز للفنون التشكيلية أو للموسيقى يأوي إليها الأطفال ويتمرسون فيها. على أن دور المدرسة خاصة، منذ مرحلة رياض الأطفال، يظل هو الأصل والجوهر في هذا المجال. فالطفل في تلك المرحلة عجينة طرية، وهو كائن متوفز الأحاسيس، ملتهب العواطف والخيال، تواق إلى كل إبداع. ومهمة المدرسة أن تتعهد هذه القوى العارمة الناشئة بشتى الوسائل، لا عن طريق دروس الرسم والموسيقى وحدها، فللإبداع الفني مجاله في جو المدرسة بأسره، بناء ونظاماً وطراز حياة. ولعلنا لا نسرف إذا قلنا أن دور المدرسة حتى اليوم دور عكسي في هذا الشأن: إن دورها غالباً أن تطفئ ومضات الإبداع وإشراقات المواهب، وأن تحوّل الأطفال تدريجياً من أذكياء موهوبين إلى راشدين بلهاء متبلدين.
53- ولعل أشدّ ما ينبغي أن تحرص عليه المدرسة وأن تحرص عليه سائر مؤسسات الثقافة في تعهدها لإبداع الأطفال والشبان، أن تولي أهمية خاصة لدراسة البيئة المحلية، بل لاستخدام المواد المحلية في مثل الرسم والفنون التشكيلية، بل حتى الموسيقى (ما دامت هناك موسيقى شعبية شائعة متوارثة). إن تعويد الأطفال والشبان على التعرف على بيئتهم وتبين مواطن جمالها، وعلى استخدام الحجر والمدر والطين والشجر وسواها في العمل الفني، خطوة هامة في طريق تكوين روح الإبداع الفني الأصيل. وإذا كانت شرارة الإبداع والخلق تنطلق من الدهشة والتساؤل، فما أجدر المعنيين بإثارة دهشة الطفل والشاب وإثارة فضوله وتساؤلاته أمام مرأى البيئة من حوله، مطبوعة كانت أو مصنوعة. ولا حاجة إلى القول أن من عوامل ربط الجيل الجديد ببيئته الثقافية الأصيلة فضلاً عن تحريك روح الإبداع عنده، تعريفه بالتراث الأثري والمعماري لأمته بشتى الوسائل الممكنة.
54- على أن من العوامل الهامة في تفتيق روح الخلق والإبداع الأصيل لدى الناشئة والكبار، إطلاعهم على حصاد التجربة العالمية في الفنون المختلفة، وبوجه خاص على حصاد تجارب الدول النامية في هذا المجال. إذ كثيراً ما نغفل تجارب بعض الدول الإفريقية والآسيوية والأمريكية التي لها بلاء فذ في ميدان الفنون التشكيلية وفي الفن المعماري وفي الموسيقى. ولا ننسى أن الفنون الغربية الحديثة تقبس كثيراً من مواد نتاجها من الفنون الشائعة في هذه البلدان. أوليس جانب كبير من الموسيقى الحديثة إفريقي الجذور؟ وهل عرف العالم حتى اليوم أمة صناعاً كالصين في تأنقها ووشيها المنمنم؟ والفن في بلدان أمريكا اللاتينية ماذا نعرف عنه، وهو عالم من الإبداع المتفرد، تزداد به عناية الغربيين يوماً بعد يوم؟
55- ومن هنا تأتي أهمية النشاطات العربية المشتركة في هذا المجال. والحق، أن جهوداً كثيرة قامت في البلدان العربية من أجل التفاعل والتواصل في ميدان الفنون. ومنذ عام 1971 كوّن أصحاب الفنون التشكيلية العرب، أثناء اجتماعهم بدمشق، اتحاداً عربياً للفنون التشكيلية. وبعد ذلك التاريخ عقدت بينهم مؤتمرات ولقاءات عديدة، في بغداد عام 1972، وفي الحمامات عام 1972 وعام 1974، ومرة ثانية في دمشق عام 1974. ومن الأمور التي عني بها لقاء الحمامات عام 1972 الحوار بين علم الجمال العربي وبين تيارات علم الجمال المعاصرة. أما مؤتمر عام 1974 في الحوار بين علم الجمال العربي وبين تيارات علم الجمال المعاصرة. أما مؤتمر عام 1974 في الحمامات فقد وضع ما يشبه البيان حول الفنون التشكيلية في الوطن العربي. وفيه أكّد واضعوه أهمية مفهوم الأصالة، ودور الفنون التشكيلية في المجتمع المعاصر، والصلة بين الدولة والفنون التشكيلية.
بالإضافة إلى هذه الجهود المشتركة تقوم عناية متزايدة في كل بلد عربي على حدة بالفنون التشكيلية، وتخصها بعض البلدان العربية بالمال والوسائل الكريمة، على نحو ما نجد خاصة في العراق وسورية والأردن ومصر والجزائر والمغرب وتونس وسواها.
وفي ميدان الموسيقى أنشئت الأكاديمية العربية للموسيقى التي ترتبط بجامعة الدول العربية، وفي ميدان المسرح نظمت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، عام 1973، حلقة حول «المسرح في البلاد العربية»، خرجت بتوصية من أجل تكوين اتحاد عربي لكتاب المسرح، وقد وضع دستور هذا الاتحاد في مؤتمر بدمشق عام 1976، وفيه أيضاً تقرر تكوين مكتب دائم للمسرح العربي مرتبط بالمنظمة العربية وضع دستوره فيما بعد. وفي ميدان السينما، عقد لقاء عربي حول «السينما في الوطن العربي» في مدينة طرابلس عام 1975، كان امتداداً للقاءات سابقة تمت في بيروت (عام 1962 وعام 1963) وفي الإسكندرية.
وعلى الرغم من هذه الجهود المتكاثرة، يظل المجال واسعاً لتعاون عربي أوثق ولتفاعل بين الفنانين العرب أنجع وأجدى. وما يمكن أن يقوم به العمل العربي المشترك في سبيل توفير المناخ الملائم لولادة فنون عربية أصيلة حديثة، مسألة ذات شجون كثيرة لا يتسع لها هذا المقام. ومن أهم الجهود التي يجدر أن تبذل في هذا المجال تلك المتصلة بالموسيقى الشعبية، حصراً وتسجيلاً وتطويراً. ولنذكر بهذا الصدد ما قامت به كثير من بلدان أوروبا، ولا سيما بلدان أوروبا الشرقية – من جهود لدراسة الموسيقى الشعبية عامة وموسيقى الفلاحين خاصة(3).
56- على أن هنالك وجهاً للمسألة قلما ينتبه إليه من يتحدث عن تأصيل الفن العربي وتحديثه. ونعني بذلك الدورَ الجديد الذي بدأ يأخذه العمل الفني في بلدان العالم وفي بلداننا أيضاً نتيجة لتغير بنية الحياة في مجتمع العلم والصناعة والتكنولوجيا. فالفنان ولا سيما الفنان التشكيلي في كثير من بلدان العالم بدأ ينتقل دوره من دور الفنان المنعزل المنبوذ أحياناً إلى دور العامل على تغيير البيئة البصرية، إن صح التعبير، في حياتنا الحديثة. وهكذا أخذنا نجد فنانين رسامين يغدون «ملوِّنين» يقررون أي لون رمادي مثلاً ينبغي أن يغطي الجدران الضخمة لمركز لتوليد الطاقة الكهربائية، أو نحاتين يرسمون مقاعد عامة وأكشاطاً للطرقات وقناديل أو طرازاً من الأثاث جديداً، أو منسّقين للمناظر يخططون الساحات الخالية في مدينة ما ويدخلون إليها نفحة من الطبيعة، سواء كانت معدنية أو نباتية، الخ.. وفي السويد نجد الفنانين يزينون الجدران البيضاء للمستشفيات أو جدران المدارس الخضراء بل حتى جدران السجون السوداء. وفي المخازن الكبرى اليابانية نجد نماذج مستنسخة من آثار فنية معاصرة جنباً إلى جنب مع ما استنسخ من الآثار الفنية القديمة الأصيلة، ونجد ملايين المستهلكين يقبلون على شرائها. وفي ستوكهولم توكل مهمة تزيين مواقف المترو إلى النحاتين أنفسهم. وهكذا يغدو الفن بعداً أساسياً من أبعاد الحياة ويغدو الفنان إلى حد بعيد «عاملاً ثقافياً» يحتل مكانه إلى جانب سائر المعنيين بتنظيم الأماكن والأبنية. إنه يصبح، كالمهندس المعماري أو المهندس عامة، واحداً من أولئك الذين يصنعون إطار الحياة اليومية.
هذا الواقع الجديد يطرح دون شك على الفن في الوطن العربي مشكلات جديدة، ويرينا رؤية العين المعنى العميق للتوفيق بين الأصالة والحداثة في ميدان الفن، بل وفي سواه. فهو
لا يعني مجرد التقليد أو التجديد، بل يعني ما هو أوسع وأعمق: تغيير دور النتاج الفني نتيجة للتغير الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي في عصرنا، ومنح الفن مهمات جديدة، دون أن يؤدي ذلك إلى فقدان ارتباطه بجذور ثقافة الأمة وإرثها الفني. وحسبنا أن نفكر في هذا المجال بالوعود الكثيرة التي يحملها استخدام الخط العربي، بأشكاله المختلفة، في تزيين الأبنية أو تزويق بعض وسائل النقل العامة أو تحلية الأنصاب والتماثيل والساحات. حسبنا أن نلقي نظرة على النتائج الجمالية الرائعة التي أدى إليها استخدام الأساليب المعمارية وأساليب الرسم والنقش المأخوذة من التراث في الكثير من الفنادق التي تنتشر على شطآن تونس أو في كثير من الأبنية والمؤسسات الرسمية والعامة المبثوثة في العديد من البلدان العربية. على أن هذه الأمثلة ليست سوى نماذج محدودة وقرزمات أولية لما يمكن أن يحمله الزواج بين أساليب الفن العربي التقليدي وبين مستلزمات الحياة الحديثة، ولا سيما الحياة الصناعية والتكنولوجية. ولعل غَلَبَة طراز الحياة الذي تسيطر عليه الآلة وتسيطر عليه الصناعة حافز جديد يدعونا إلى أن نعوض عن آلية الحياة وجمود الحديد والحجر بالتطرية الفنية والطلاوة الجمالية، ولا سيما تلك التي تعيد لنا صوراً من الماضي الفني العريق وتردنا إلى نشوة الجمال المطبوع الذي يشمخ أمام غلبة الحسن المجلوب.
57- ومن الجوانب التي لم تلق بعد ما تستحقه من عناية كافية، رغم دورها في تأصيل الفن العربي، الفنون الشعبية الفولكلورية وما يتحلق حولها. والحق أن مسألة الفولكلور لا تقتصر على التراث الشفوي (الذي توافرت له بعض العناية وعقدت من أجله بعض المؤتمرات واللقاءات، ولا سيما لقاء القاهرة عام 1971)، بل تتجاوز ذلك إلى جوانب عديدة أبرزها الموسيقى الشعبية والرقص الشعبي والأزياء الشعبية. ولا شك أننا ههنا أمام ثروة ضخمة متنوعة المظاهر، مبثوثة في بقاع الوطن العربي المختلفة، وكثير منها معرض للإمحاء. والعناية بهذه الثروة عامل هام من عوامل تأصيل الفن العربي. ولا نتجنى على الواقع فنزعم بأن مثل هذه العناية مفقودة، فقد قامت وزارات الثقافة في البلدان العربية بجهود طيبة في هذا الميدان. غير أن الجهد الذي يتوجب بذله في هذا المضمار ما يزال كبيراً. ولا أدل على ذلك من أن تلك الأنماط الرائعة من الرقص الشعبي العفوي الذي كنا نلقاه في مختلف أرياف البلدان العربية ومدنها، نفتقده اليوم ولا نجد تسجيلاً له و«تنويطاً» كما يقال. وإذا استثنينا القليل من البلدان العربية، نجد الجهود المبذولة في ميدان الأزياء الشعبية مقصّرة جداً عن مداها. وقد أثار دهشة مئات المشاهدين من مختلف بلدان العالم وإعجابهم، ذلك العرض الرائع للأزياء عبر التاريخ العراقي الذي قدمته بعثة العراق الدائمة لدى اليونسكو في قاعة اليونسكو الكبرى منذ نيف وثلاث سنوات.
وهذه العناية اللازمة بالفولكلور الشعبي بمختلف أشكاله، لها شأن آخر ودور آخر: إنها تبيّن الألوان الخاصة التي يرتديها الفن العربي تبعاً للبلدان العربية المختلفة بل تبعاً للمناطق المختلفة في البلد العربي الواحد. وبهذا يستقر مفهوم هام من مفاهيم الثقافة العربية، نعني كون هذه الثقافة واحدة في تنوع، لها سماتها المشتركة بين البلدان العربية جميعها ولها سماتها الخاصة بكل قطر أو بكل منطقة في قطر. وهذا شأن الثقافة دوماً، بل هو أمر ينبع من تعريفها نفسه. فما دامت الثقافة ما نجده من سمات خاصة بمجتمع معيّن، فمن الطبيعي القول أن هنالك مراتب ثلاثاً كبرى من الثقافات: هنالك الثقافة العالمية المشتركة بين بني الإنسان جميعهم، وهنالك الثقافة القومية الخاصة بكل أمة، وهنالك الثقافات المحلية الخاصة بالمجتمعات المختلفة داخل الأمة الواحدة. ولا شك أن أبرز هذه المراتب وأعمقها وأغناها هي الثقافة القومية الخاصة بكل أمة. على أن هذه الثقافة القومية تغتني بالثقافة العالمية وتغنيها وتشترك معها في بعض المجالات الإنسانية الكبرى، كما أنها تغتني بالألوان المختلفة للثقافات المحلية داخل الأمة الواحدة. والصلة بين الثقافة القومية والثقافات المحلية صلة تكامل وإثراء متبادل. ووحدة ثقافة الأمة لا تنفي تنوعها بل تفترضه، سوى أنها تنفي تعدد الثقافات وتصارعها ضمن إطار الثقافة الواحدة. فنحن إذن أمام وحدة في كثرة، أو أمام كثرة في وحدة ولسنا أمام وحدة متكسرة تتمزق طرائق قدداً.
ولسنا ههنا في معرض الحديث عن الثقافة العربية والثقافات المحلية، وما هو إلا استطراد عابر أملاه علينا الحديث عن الفولكلور. وقد عالجت هذا الموضوع مؤتمرات ولقاءات عديدة، بل كشف بعضها عن وجود عناصر مشتركة بين أنواع الفولكلور في البلاد العربية، كما حدث في لقاء القاهرة الذي أشرنا إليه. وقد صدرت عن هذا اللقاء توصيات منهجية هامة حول أساليب توثيق الفولكلور وحول إنشاء مجلس عربي لحماية الفولكلور وحول المهمات التي يحتل إنفاذها مقام الصدارة في هذا المجال (من مثل إعداد معجم عربي للفولكلور وتنظيم لقاء خاص بدراسة أثر الحداثة والمعاصرة في الفنون والآداب الفولكلورية، الخ).
58- وقد سبق أن أشرنا، عند حديثنا عن الإبداع الأدبي، إلى أهمية وسائل الإعلام. وغني عن البيان أن دور هذه الوسائل يشمل سائر أنواع الثقافة، ويمتد بوجه خاص إلى ميدان الإبداع الفني. وههنا تلعب هذه الوسائل دوراً مزدوجاً أيضاً: فقد تكون أداة اغتراب واستلاب، وقد تكون عاملاً مثرياً، إذ تفتح أبواب الإبداع الفني العالمي أمام الإبداع الفني العربي إلى جانب ما تقدمه من زاد تراثي أصيل. ولا حاجة إلى التذكير بالدور المتفرد الذي تلعبه هذه «المدرسة الموازية» التي كاد أثرها يمحو أثر المدرسة الأصلية، غير أن ما لابد من قوله أنه على الرغم من بزوغ هذا الحدث الكبير في حياة الناس، نعني وسائل الإعلام السمعية والبصرية وسائر أدوات البث الجماعي، ما نزال نعمل في ميدان الثقافة، وحتى في ميدان التربية، كأن شيئاً لم يكن، وما نزال نحسب أن في وسعنا أن نخطط للثقافة أو للتربية في معزل عن التخطيط لوسائل الإعلام الجماعية التي تطغى ويتعاظم أثرها يوماً بعد يوم.
59- ونود ألاّ ننسى ههنا التراث الأثري، فدوره في ربط الإبداع الفني بالتراث وبالأصالة دور واضح لا يحتاج إلى بيان. ولعل هذا التراث قد لقي في العقود الأخيرة من العناية الشيء الكثير، بعد أن أغفل أمره وبعد أن كان نهباً للطارقين من كل جنس. وليس قصدنا أن نتحدث عمّا ينبغي القيام به من جهود جديدة في هذا الميدان الضخم الفسيح. غير أن من اللازب في نظرنا أن نذكّر بالحقيقة التالية، دفعاً لأي لبس وتأكيداً لقيمة هذا التراث الأثري وتحديداً لمعناه ومداه: وهي أن الآثار التي يتم العثور عليها في الأرض العربية لها جميعها حق الانتساب إلى التراث العربي أياً كان مصدرها (يونانية أو رومانية أو فرعونية أو آشورية أو غير ذلك) وأنها جميعها تشهد على إسهام العبقرية العربية في الحضارة العالمية. ولا حاجة إلى القول أن الآثار اليونانية أو الرومانية مثلاً (ومثلها سواها) تتسم في البلاد العربية بسمات محلية خاصة إذ أسهمت في خلقها أيادي سكان هذه البلدان الأصليين وعقولهم (ومن الأمثلة على ذلك خاصة آثار تدمر والبتراء وبعلبك وقرطاجة). ولا شك أن هذه الآثار تشمل آثار الحضارات السابقة على اليونان والرومان منذ عصور ما قبل التاريخ (كحضارات الفراعنة والآشوريين والكلدانيين والسومريين) كما تشمل آثار الحضارات التي جاءت بعد الحضارة العربية (كحضارات الفرس والترك والإسبان والإيطاليين والفرنسيين). وبدهي أن اهتماماً خاصاً لابد أن يولى للآثار الخاصة بالحضارة العربية بعد أن أهملتها عصور التخلف ثم العهود الاستعمارية.
ومن تكرار القول أن نذكر أن العناية بالآثار تشمل إحصاءها وتوثيقها أولاً كما تشمل التنقيب عنها ثانياً وحمايتها ثالثاً. وفي هذه المجالات جميعها قامت جهود وطنية وجهود عربية مشتركة وجهود دولية في العقود الأخيرة. كذلك عقدت مؤتمرات ولقاءات عربية عديدة بهذا الشأن، نظمتها في معظم الأحيان المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، أشهرها المؤتمرات الستة الخاصة بالآثار التي عقدت بدءاً من عام 1947 بدمشق وانتهاء بعام 1971 في طرابلس. وفي المؤتمر السادس بوجه خاص تمّ تقديم وثيقة عمل خاصة باستخدام التقنيات العلمية المتقدمة في التنقيب عن الآثار وحمايتها، وقد قدمها د. زكي اسكندر، وكان عنوانها العلم الحديث وتطبيقاته على علم الآثار. وقد أكد وزراء الثقافة العرب في مؤتمر عمّان عام 1976 عزمهم على اتخاذ موقف موحد من البعثات الأثرية الأجنبية. ولعل هذا القرار الأخير يبين لنا نقص الجهود المبذولة في هذا الميدان وأهمية تدعيمها وتوكيدها. وهل نرتضي لأنفسنا أن تكتشف تراثنا نفسه أيد أجنبية وعقول غربية قد يقع لها أن تستغل أبحاثها لأغراض سياسية (كما حدث مؤخراً فيما يتعلق بالكشف عن آثار «أبلا» في سورية).

نظرة أخيرة:
60- وبعد، من العسير في حدود هذا البحث أن نوفّي موضوع الإبداع الفني حقه، وأن نتريث ولو بمقدار عند جميع ميادينه، وأن نتبيّن فعله للوصول إلى فن عربي أصله ثابت في تربة التراث، وفرعه مورق مشرئب إلى السماء بفضل اغتنائه بحصاد التجربة العالمية. ولقد أشرنا إشارات عابرة إلى بعض ما ينبغي أن نضطلع به من جهد من أجل السير قدماً نحو هذا الهدف الكبير: البدء بمرحلة الطفولة والشباب، واستخدام مواد البيئة المحلية، والاطلاع على حصاد التجربة العالمية لا في العالم المتقدم وحده بل في البلدان النامية خاصة، وتعميق التفاعل والنشاطات المشتركة بين البلدان العربية، وإعادة النظر في دور الفنان في ضوء التغيرات الجذرية التي تحدث في مجتمع العلم والتكنولوجيا، والعناية بالفنون الفولكلورية، والاهتمام بالتراث الأثري، والعناية بدور وسائل الإعلام الجماعية..
61- ويهمنا أن نذكر في خاتمة هذا الحديث عن الإبداع الفني أن السعي لتأصيل الفن العربي وتحديثه، والعمل على جعله بالتالي جزءاً حياً من حياة المجتمع ومن حياة كل فرد فيه، وإحياء التراث عن طريقه وإحيائه بفضل التراث، مهمات من شأنها أن تحقق هدفاً قومياً رفيعاً، لمثله ينبغي أن تجنَّد القوى وتُحشَد الطاقات: نعني جعل العطاء الحضاري للأمة العربية واقعاً حياً يتخذ سبيله في مجرى الحياة اليومية للناس وينبّث في شتى منعطفات نشاطهم ويلقونه أمامهم حيث حلّوا: على شاشات التلفزيون وعلى أمواج المذياع وفي المتاحف والمعارض والمسارح وقاعات الرسم، وفي الشارع والساحات العامة والأبنية ووسائل المواصلات بل وأثاث المنزل وآنية الطعام وكل وجه من وجوه حياتهم العادية. وعند ذلك لابد أن يسري تيار المشاعر القومية، من خلال هذا الواقع الحي، سهواً رهواً وأن يجد سبيله سرباً إلى نفوس الناس. ولابد أن يزداد شعورهم العميق بانتمائهم إلى حضارة مشتركة وأمة واحدة، من خلال هذا التجسيد الحي لعطاء الحضارة والأمة. ولئن كانت تجربة واحدة من تجارب الطبيعة تعدل ألف دليل عقلي، كما قال «بيكون»، فإن المعاناة الفعلية الحية لمبدعات الحضارة العربية ونتاجها – من خلال الصورة الجديدة التي يقدمها العمل الفني المعاصر في البلاد العربية – تفوق في شأنها عشرات الأدلة العقلية ومئات الأبحاث والدراسات عن مقومات القومية العربية وأسس وحدة الأمة العربية.
وليس من باب الاستطراد أن نذكر أن الحركة القومية العربية السليمة لا تكتفي بالتغني بالحضارة الماضية، ولا تدّعي التفوق على سواها بسبب ذلك، بل تتخذ شعاراً لها أن تثبت عن طريق العطاء الجديد الأصيل أصالة حضارتها وسمو سعيها الماضي. والثقافة العربية القومية الذاتية التي نرجوها، كما قلنا ونقول، بناء جديد، فيه الماضي والحاضر والمستقبل، وليس اكتشافاً أو مجرد اطمئنان حريري كسول إلى ما فعل الأجداد اطمئناناً مقلداً يغنينا عن أن نصنع ما هو أفضل. وأي ميدان أقدر من الثقافة عامة والفن خاصة بتحقيق هذا المعنى الحي للنظرية القومية العربية؟ وأي عطاء أقدر من الفن بأشكاله المختلفة على أن ينسلّ في أوصال الوجود العربي ويندس في مفاصله حاملاً معه أريجاً من نشوة الماضي، متحداً بربوع الحاضر وأزاهير المستقبل المرجو؟ أي عمل قومي أسمى من أن نحيل البيئة العربية، في شتى صورها ومغانيها، حضارة تتطور وعطاء يشهد ويصدِّق؟
خامساً: خاتمة:
62- رأينا فيما سبق ما ينبغي أن يكون عليه الفكر والأدب والفن، من أجل توليد إبداع ثقافي أصيل محدث، ورأينا بعض ما يمكن أن يقوم من أشكال الجهد المختلفة في سبيل بلوغ هذه الغاية.
وقد كان رائدنا في هذا كله الانطلاق من موضوعة أساسية: وهي أن الإبداع الثقافي
– على كونه إبداعاً جموحاً بطبيعته يعبّر أولاً وقبل كل شيء عن منازع المثقف الذي يبدعه وينقل براكين الانفعال والفكر التي تغلي في أعماقه – يظلّ مع ذلك ربيب المجتمع، يرفعه أو يخفضه، يفقره أو يغنيه. وهو وليد المجتمع بمعنيين: أولهما أن المبدع نفسه من صنع المجتمع وصياغته، وتجاوزه للمجتمع لا يمكن أن يتجاوز الحدود التي يتيحها المجتمع نفسه. وثانيهما أن المجتمع هو الذي يوفر الشروط الملائمة والمناخ المؤاتي للإبداع الفني، ومن هنا لابد من رعاية وتعهّد للفن والفنان من قبل المجتمع، ولابد من جهود يبذلها المجتمع، بمؤسساته المختلفة، من أجل تيسير شروط النتاج الثقافي السليم والمرجو.
63- ومن هنا كان لزاماً أن نذكر أن على رأس الجهود التي ينبغي أن يبذلها المجتمع، توفيراً لمناخ الإبداع الثقافي المنشود، الاهتمام بالأمور التالية:
الأول هو وضع سياسة ثقافية شاملة. ونقول مرة أخرى أن وضع هذه السياسة لا يهدف إلى أن نفرض على الإبداع الثقافي ما نريد، بل يعني أن نيسّر انطلاقته عن طريق خطة يتم الاتفاق عليها مع المبدعين أنفسهم ورجالات الثقافة. ولا حاجة إلى القول أن السياسة الثقافية المرجوة ينبغي أن تكون سياسة قومية مشتركة أولاً وسياسة قطرية تنبع منها ثانياً وتزداد التحاماً بها يوماً بعد يوم.
وأهم ما ينبغي أن تتنبه إليه هذه السياسة الثقافية التنسيق بينها وبين السياسة الإعلامية من جانب والسياسة التربوية من جانب آخر.
والأمر الثاني الذي يتوجب على المجتمع الاهتمام به العناية بإعداد العاملين في مجالات الثقافة المختلفة بحيث تتوافر العناصر البشرية القديرة اللازمة لإنفاذ السياسة الثقافية المرسومة. ولقد مضى الوقت الذي كان يتم فيه اختيار منشطي الثقافة ومحركي نشاطاتها عن طريق الاصطفاء من بين من امتلكوا بجهدهم الخاص حظاً يقل أو يكثر من الثقافة، وأصبحنا اليوم أمام «صناعة ثقافية» بالمعنى الدقيق للكلمة، يتطلب الإعداد لها التمرس بكثير من الأساليب العلمية والتقنية اللازمة لقيادة تلك الصناعة وتوجيهها. وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر مدى الحاجة إلى استخدام التقنيات الجديدة، من وسائل سمعية بصرية ومسارح متنقلة ومكاتب متحركة وغير ذلك، في تنشيط العمل الثقافي، لندرك أهمية الإعداد المتقن لمثل هذا العمل المتخصص، هذا إذا أغفلنا ما تستلزمه رعاية الفنون خاصة من دراية علمية وتقنية دقيقة.
والأمر الثالث الذي ينبغي على المجتمع أن يعنى به توفير أو تطوير بعض التشريعات القانونية اللازمة للنشاط الثقافي: وعلى رأسها التشريعات المتعلقة بحرية المثقف، وبتشجيع النتاج الثقافي، وبتمويل الثقافة، وبإنشاء الصناعات الثقافية، وبحقوق التأليف والعمل الثقافي، وبحماية الآثار وبتكوين الاتحادات والنقابات الخاصة بالثقافة بأنواعها المختلفة.. ولنقل عابرين أن من الظواهر الطيبة أننا نجد في الوطن العربي اليوم بعض الاتحادات الخاصة بالثقافة، كاتحاد الكتاب العرب، والاتحاد العربي للفنون التشكيلية، غير أن جوانب هامة أخرى من الثقافة، كالموسيقى والسينما والمسرح والفلسفة وسواها ما تزال تفتقد مثل هذه الاتحادات.
64- على أن هذا الجهد الذي يتوجب بذله من قبل مؤسسات المجتمع المعنية، ومن قبل المبدعين الثقافيين أنفسهم، لا يؤتي أكله كاملة، ولا ينطلق شعاعه متأججاً، إلا إذا غذاه إيمان برسالة، شأن أي جهد في أي مجال. والرسالة ههنا هي رسالة مخاطبة الأمة العربية للعالم بلغة الحضارة.
إن النظرة المشوهة التي يحملها العالم الغربي عن الوطن العربي، والتي لها أسبابها التاريخية والسياسية، لا يقضي عليها مثلُ عملٍ ثقافي حضاري أصيل. وما تستطيع أن تفعله الثقافة في هذا الميدان أقوى وأبقى وأعمق من أي صنيع في ميدان آخر.
والمواقف السياسية التي يقفها الغرب من قضايانا الكبرى، ولا سيما قضية فلسطين، رغم أن لها منطقها في لعبة الأمم والدول، لا يغيرها إلا أن تبرز الأمة العربية أمام العالم أمة حضارة وعطاء إنساني. أوليس جانب من التأييد الذي تلقاه إسرائيل راجعاً إلى الارتباط الحضاري بينها وبين الغرب؟ أوليس إهمال الحق العربي، في بعض جوانبه، نتيجة لانتصار الغرب للتقدم على التخلف في زعمه، وللحضارة على الهمجية فيما يحسب؟
65- وتقوم اليوم جهود عديدة من أجل تغيير صورة الحضارة العربية في أذهان الغربيين، وتعقد لذلك المؤتمرات والحلقات وتنشر الكتب والمجلات. بل هنالك مؤسسات أُنشئت لهذه الغاية، من مثل جمعية «الإسلام والغرب» ومركزها جنيف، ومن مثل معهد العالم العربي بباريس الذي أُنشئ بالتعاون بين الحكومات العربية والحكومة الفرنسية، والذي يهدف إلى تعريف الجمهور الفرنسي بالثقافة العربية. ولا شك أن قيام مثل هذا المعهد حدث هام بل تاريخي إن عرفنا الإفادة منه. ومع ذلك، نتساءل من خلال معاناتنا بعض ما يقوم به هذا المعهد من نشاطات ومن خلال ما يعتزم القيام به، إلى أي حد نملك الموائد الثقافية القادرة حقاً على أن تجذب الجمهور الفرنسي والجمهور الغربي عامة؟ ولا نعني بذلك فقط أن نتاجنا الثقافي الأصيل الحديث ما يزال مقصراً عن الشأو محدوداً، بل نعني كذلك أننا لم نتقن بعد أساليب اكتشاف هذا النتاج ونشره ونقل أقنيته إلى الغرب.
66- على أننا حين نشير إلى هذه الرسالة، رسالة مخاطبة الغرب مخاطبة حضارية، فإنما نضمّن هذه الرسالة في الوقت نفسه، بل قبل ذلك، رسالة مخاطبة العرب أنفسهم مثل هذه المخاطبة الحضارية، كما سبق أن بيّنا، وذلك بأن نجعل من الإبداع الثقافي الأصيل المتجدد الموقد الذي تصطلي عنده مشاعر الوحدة القومية وعواطف الانتماء الحضاري الرفيع. وههنا قد لا نجاوز القصد إن قلنا أن عقدة التفوق الحضاري التي أصابت العرب طويلاً من خلال حديثهم عن الماضي، كادت تنقلب، بفعل عملية سيكولوجية طبيعية، عقدة نقص أمام الأجنبي، بعد أن عجز مجرد التغني بالماضي والإشادة بمنجزاته عن أن يحقق أي تقدم، وعن أن يروي أي منزع واقعي.
وسبيل معالجة هذا التردي النفسي، هذا الشعور بالعجز الذي كاد ينقلب أحياناً إلى شعور بالانسحاق، هو أن نقوى على تقديم النتاج الجديد الأصيل في كل ميدان، ولا سيما في ميدان الثقافة. إنه يكون عند ذلك الشاهد الحي والمتكأ المكين لمشاعر العزة والاعتزاز. وما أتعس مشاعر العزة إن لم تجد أمامها إلاّ خَواءً باطلاً! وما أفعلها وأقدرها على التحدي والإقدام والاقتحام إن أيّدها عطاء عزيز كريم.
«أن نكون من نحن»، أن نبني ثقافتنا المرجوّة من تليدنا وطريفنا وما نرتجي، أن نعيد الثقة إلى أنفسنا وأن نخاطب شعبنا والعالم بلغة الحضارة، تلك هي الرسالة الكبرى الملقاة على عاتق المبدعين الثقافيين وعلى عاتق المسؤولين عن رعاية الثقافة والتخطيط لها في الوطن العربي. ولقد بدأنا الخطى وئيدة في هذا السبيل، فهل لنا أن نغذّ الخطى، ناظرين مستبشرين إلى النجم الساطع اللامع في الأفق، نجم الحضارة العربية الأصيلة والحديثة والعالمية؟