التراث العربي بين الإتباع والإبداع (حول رسالة أدونيس: الثابت والمتحول)

مجلة الآداب، آب 1973
حول رسالة «أدونيس»
التراث العربي بين الإتباع والإبداع
بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم
رسالة الشاعر والمفكر المبدع »أدونيس« التي نال بها شهادة الدكتوراه منذ نيف وشهر، أثارت وما تزال تثير موجات من النقد قليلها جاد وأكثرها عابر.
ومن حق هذه الرسالة الفذة حول »الثابت والمتحول عند العرب« أن تحرك العقول والأقلام وأن تثير جواً من التفكير الخصيب وأن يحاك حولها وشيء من التساؤلات والتأملات.
ذلك أن الرسالة تطرح للمرة الأولى – من خلال تحليل شامل متكامل – مسائل أساسية تمس مستقبل الفكر العربي انطلاقاً من بنيته المورثة:
1- فهي تنطلق أولاً من همٍّ طالما راود المفكرين العرب، وقد أخذ يقض مضجعهم خاصة في السنوات الأخيرة. ونعني به ذلك التساؤل الحائر عما نشهده اليوم من عقم في الحياة العربية في شتى مجالاتها، وعن أسباب ذلك العقم وأصوله.
ويتخذ هذا التساؤل طابعاً حاداً في السنوات الأخيرة، وبعد الخامس من حزيران بوجه خاص، بعد أن انتفض الجسم العربي أمام هذه النكبة يبحث عن أدوائه ويحلل أسباب عجزه وانسحاقه تجاه التحديات الحضارية التي تواجهه محمولة على أكف الصهيونية وما وراءها.
وطبيعي أن يأتي التحليل في مثل هذه الفترة القلقة القاسية جريئاً حيناً ويائساً أحياناً، وطبيعي أن تدفعه الحرقة إلى تعرية الوجود العربي وجذوره في غير ما تهيب أو وجل. ولا بد لمثل هذه التعرية بالتالي أن تحل كل محرم وأن تهتك كل حجاب وأن تمضي بعيداً في التنقيب والبحث عن أصول الأزمة، لتقول ما يقال وما لا يقال، ولتتلمس الأسباب في دروب لم تطرق وفي شعاب لم تنتجع.
ولا بد لطارق مثل هذه الشعاب الجديدة أن يضل أحياناً، وأن يحسب السراب ماء أحياناً أخرى، وأن يرى الداء حيث لا داء، وأن يقوده البحث عن كبش الفداء إلى غير مظانِّه الحقيقية.
وأبرز ما في جهد الاستكشاف هذا أنه مقود في كثير من الأحيان إلى رفض كل شيء بسبب رفضه للواقع الذي أدى إلى الكارثة، وإلى أن يتنكر للعقل العربي أصلاً وجوهراً ما دام قد أنكر مصيره ومآله، وأن يتهمه بالعقم البديء والعجز العريق ما دام يتهم نتاجه الراهن وتجسده الحاضر.
ولعل هذا الجهد الاستكشافي ينهج في النهاية نهج الشك الديكارتي الذي ينطلق من الشك في كل شيء ليصل إلى اليقين، والذي يجرب أن يتحرر من كل فكرة مسبقة ومن كل حقيقة شائعة مألوفة، ليرى الحقائق بكراً جديدة، ويبني على أنقاض ما أنكر، بداهة أصفى وإدراكاً أطهر وأنقى. وكثيراً ما يقوده هذا النهج كما قاد صاحبه من قبل إلى أفكار مبيتة يحسبها بديئة، وإلى دروب عتيقة نفضها الأدلة يحسبها بكراً لم تمس.
2- والرسالة بعد ذلك تنطلق من مركب سهل صعب، يغري بالركوب رغم ما فيه من مزالق ومخاطر. ونعني بذلك المركب السهل الممتنع، مركب التراث العربي. فالمنزلق الطبيعي الذي ينجر إليه السائل عن حاضر الأمة العربية ومستقبلها، عندما يعتريه القلق واليأس، هو العود إلى التراث العربي يحمله ما يطيق وما لا يطيق، ويجد في نقده وتجريحه طمأنينة حريرية وتفسيراً لكل مغلق من أمر الحاضر وفتحاً لكل موصد من أبواب المستقبل.
أو ليس المنزلق الطبيعي أن يرى الباحث في الحاضر امتداداً للماضي، وأن يرى في آفاته وعلله آفات ذلك الماضي؟
أو ليس »الماضي«، لفظاً ومعنى، شيئاً يوحي بأن تنصب عليه التهم وأن ترمقه النظرة المستقبلية شزراً؟ أفلا ينقلب ولا سيما حين يتجمد – كما هو الشأن في الماضي العربي بعد تجمده في عصور الانحطاط – عبئاً على الحاضر والمستقبل وعبئاً على التقدم والحداثة؟
وهكذا يخيل لمن يركب هذا المركب المغري بالركوب، أن رفض الماضي يعني بالتعريف والضرورة التطلع إلى المستقبل، وأن النظرة المستقبلية بالتعريف أيضاً تنطلق من نفي الماضي وإنكاره. وقد ينسى في مسيرته هذه أن الماضي يمكن أن يفهم فهماً »مستقبلياً« كما يمكن أن يفهم فهماً »ماضوياً«، وأن المستقبل قد يبنى فوق السراب إذا لم يدرك الاتصال الوثيق الحي بين الماضي والحاضر والمستقبل، وأن بناء هذا المستقبل لا بد أن يتعثر إذا سيطر عليه شبح الخوف من الماضي والهروب منه، بدلاً من وعيه ودمجه وإعادة صياغته.
3- والحق أن رسالة »أدونيس« لا تذهب هذا المذهب الأخير المتطرف. فهي لا تتنكر للماضي بل تريد أن تجلوه. وهي لا ترفضه كله، بل تميز بين »العناصر التراثية التي يمكن أن تشكل قوة دفع أو إضاءة في بناء الحاضر واستشراف المستقبل« وبين العناصر التي تشكل قوة ردع أو إعاقة. ومن هنا كان حرصها على رصد ما ينتسب إلى كل من الإبداع والجمود، إلى كل من المتحول والثابت.
ولكنها تعود فتؤكد أن الطابع الأساسي الذي هيمن على التراث وساد، والذي كانت له الغلبة والانتصار، هو طابع الثبات والجمود والتقليد، وأن طابع التحول والتجديد والإبداع لم يكن سوى محاولات جانبية يائسة تراجعت أمام ذلك الخط العام المسيطر، وهو خط تدعمه طبيعة الفكر العربي من جهة وطبيعة النظام السياسي والديني الذي ساد التاريخ العربي من جهة ثانية.
وهكذا ترتد الرسالة، رغم التمييز والتفريق الظاهري، إلى ضرب من النظرة الواحدية التي ترى في النهاية أن الماضي الذي ران على الحياة العربية معاد للتحول والتجديد، معوق للإبداع والابتكار، بل تكاد تقول أن هذا الطابع المقلد المحافظ شيء من طبيعة العقل العربي وجبلته وما كان لهذا العقل العربي أن يفرز سواه.
4- وقد لا نتجنى ونسرف إذا قلنا أن الرسالة تنطلق في تقريرها لهذه الحقيقة الأخيرة من موضوعة تؤمن بها، ظاهرة حيناً ومضمرة أحياناً، وهي أن ما يمثل الثبات والمحافظة والتقليد في التراث العربي هو الذي ينتسب في النهاية إلى العرب وإلى السنن الأساسية التي استنوها في حياتهم الفكرية والدينية والسياسية. أما ما يمثل التحول والتجديد فهو بضاعة غير العرب أو من تأثر من هؤلاء العرب بأفكار الآخرين ودياناتهم ونظمهم السياسية والاجتماعية.
وهكذا تلجأ الرسالة إلى قسمة ثنائية قاطعة تهب لها الكثير من الحدة والجرأة والجمال، وإن كانت تفقدها الكثير من الدقة والموضوعية.
ومن هنا تقع الرسالة فيما يدعوه المناطقة »بالمصادرة على المطلوب الأول Pétition de principe « فتنتقل انتقالاً سريعاً من محاولة جلاء التراث وفهمه فهماً جديداً خلاقاً، إلى الوقوع في تقسيمات سهلة مريحة، وإلى العود نحو أفكار مبيتة مفروضة، وإلى السقوط بالتالي في إسار تفسيرات تغلق باب البحث الحق في الماضي، وتبطل إمكانية فهمه فهماً متحرراً من الماضي، متجهاً نحو المستقبل.
وفي ظننا أن الرسالة حين تلفّ التراث العربي في نظرة واحدة مسيطرة، تجعلها الأصل والجوهر وتجعل ما عداها ملحقاً وعارضاً، تنقاد إلى هذا الموقف الحدّي من تقرّيها لما آل إليه الوجود العربي في عصور الانحطاط التي ما تزال تجرّ أذيالها إلى اليوم، وترتد بعد ذلك إلى شتى عصور التاريخ العربي، من خلال نظرة تراجعيةRétrospectif ، فتضفي على التاريخ كله الصفات التي لحقته في عهود انحداره وتفسر الماضي العريق في ضوء ما تلاه من خمود، وتعلل ما مضى بما صار وحصل وكأنها تأخذ بمنطق بسيط مبسط للأمور Simpliste يحكم على الأمور بخواتيمها، ويحكم على البدايات بنهاياتها، ويفسر ما كان، استناداً إلى ما هو كائن.
أجل إن مشكلة الفكر العربي في حاضره هي أولاً وقبل كل شيء مشكلة العقم والجمود، وأن آفته الكبرى عجزه عن التحرر من بقايا عهود الانحطاط التي عرفها الوجود العربي منذ أن سقطت بغداد على يد »هولاكو « عام 1258 ومنذ أن غزته أخلاط المغول والتتر والأتراك وحكمته العقلية العثمانية المجدبة.
ولكن السؤال الكبير: هل تمتد جذور هذا الفكر العربي القاحل الذي ساد خاصة منذ نيف وسبعة قرون، إلى أعماق التاريخ العربي في الجاهلية وبعد الإسلام، وهل هذا الجمود سمة أصيلة في الفكر العربي ظلت تلاحقه منذ القدم ولم تستطع قوى التجديد أن تغالبها، لأصالتها وعمقها؟
هل نجد بذور القديم وأصوله في صلب ما أعطاه الفكر العربي من دين وأدب وفكر وحياة؟ هل نستطيع أن نذهب إلى حد القول بأن الفكر العربي في بنيته الأصلية لا يعرف مكاناً للخلق والإبداع، وأن طابعه التقليد والاتباع؟ تلك هي المسألة.
والإجابة عليها عسيرة تستلزم أسفاراً برأسها. وحسبنا بعض الصوى نضعها على الطريق، انطلاقاً من رسالة أدونيس القيمة الموحية.
(أولاً): التكامل والتآخذ بين منحى الثبات ومنحى التحول في الحضارة العربية الإسلامية:
يرى »أدونيس « أن الحياة العربية الإسلامية عرفت منحيين أساسيين في النظر والعمل، منحى التحول ومنحى الثبات، وأن العلاقة بينهما لم تكن علاقة جدلية، علاقة تأثر وتأثير متبادلين، علاقة أخذ وعطاء، بل كانت علاقة تعارض وتضاد، علاقة بين طرفين ينفي كل منهما الآخر.
الخط الأول، خط الثبات، هو الذي ساد الحياة العربية وكانت له الغلبة (وهو الذي يعبر عن طبيعة العقل العربي).
ويتجلى هذا المنحى الأول في ميدان الدين بتغليب النقل على العقل، والرجوع إلى النص وإنكار التأويل، والتمسك بحرفية الكتاب والسنَّة.
ويتجلى في ميدان السياسة بالقول بسلطة الخليفة الدينية، وبضرورة طاعة الخليفة (وبجعل الخلافة في قريش) فضلاً عما اتسم به من تسلط وعنف.
ويتجلى في ميدان الأدب في ذمّ البيان لذاته وذمّ الشعر لذاته وجعل الأدب علماً يقصد للتوجيه، وتغليب »أخلاقية «الأدب على »فنيته «. كما يتجلى في العود إلى القديم والقديم الجاهلي خاصة واعتباره نموذج الأدب الأمثل، وفي إنكار التجديد في الأدب بالتالي والخروج على »العمود «، والتنكر للمجاز تنكر الفكر الديني للتأويل، والأخذ بالتالي بالوضوح المستقى من التقليد الحرفي للقدامى، فِعلةَ الفكر الديني عندما أخذ بظاهر النص وأبطل التعمق والتأويل.
ويمثل هذا الاتجاه الأول الخط الأساسي الذي ساد الحياة العربية الإسلامية وانتصر على ما عداه.
أما الخط الثاني، خط التحول، فهو نقيض هذا الخط الأول، أنكره دون أن يؤثر في مجراه، وأصابه بسبب هذا الإنكار كثير من العنت والعسف، وانهزم بالتالي تحت وطأة الاضطهاد الفكري والديني والسياسي.
ويتجلى خط التحول هذا في ميدان الدين في تغليب العقل على النقل وفي تجاوز النص إلى المعنى وفي تغليب الباطن على الظاهر، كما نرى في حركات الاعتزال والباطنية والصوفية وسواها.
ويتجلى في ميدان السياسة في إنكار كون الخلافة لقريش أو للعرب، وفي القول بالمساواة بين العرب وسواهم، وفي إنكار وجوب طاعة الحاكم، وفي التأكيد على ضرورة محاربة الظلم والطغيان، والعمل على إقامة نظام اقتصادي اجتماعي عادل.
ويتجلى في ميدان الأدب في الخروج على العمود الجاهلي في الشعر وفي تقديم »فنية« الأدب وصياغته الفنية على أهدافه الاجتماعية، وفي الرجوع جملة إلى الحياة واعتبارها مصدر الأدب، بدلاً من الرجوع إلى القيم الاجتماعية والخلقية السائدة.
ونحن نقر مع »أدونيس « بوجود هذين التيارين إلى حد بعيد، ونرى أنه أجاد في تحليله لخصائص كل منهما، وقدّم بذلك إسهاماً قيماً في دراسة التراث العربي، ديناً وأدباً وسياسة.
غير أننا نختلف معه حين جعل منهما خطين متوازيين لا يلتقيان، وحين أنكر العلاقة الجدلية بينهما. فالتياران عندنا رافقاً الحضارة العربية الإسلامية، كما رافقا أي حضارة، وتفاعلا وتبادلا العطاء، وأدى تفاعلهما إلى مزيد من الغنى في الحياة العربية، واستطاعا أن يبنيا على مرّ الزمن حضارة متطورة تتجه نحو التجديد دون أن تكسر إطارها، وتأخذ بالنمو نحو مزيد من الإبداع والابتكار ونحو فضل من الحرية العلمية والفكرية، دون أن يبدو ذلك مناقضاً للأصول خارجاً على جوهر الفكر الديني.
لقد كان طبيعياً في مجتمع إسلامي أن تنطلق حركة الإبداع والتجديد من إطار القيم الدينية التي جاء بها الإسلام، وألا تدعي نقضها حتى حين تجدد في معانيها ومضامينها وأبعادها تجديداً جذرياً. وإن نعجب، فعجبنا من تلك القدرة الإبداعية التي استطاعت أن توائم بين مبادئ الإسلام العامة وبين مستلزمات الحياة السياسية والفكرية الجديدة التي نشأت بالضرورة بعد انتشار المسلمين وسط حضارات الفرس والرومان واليونان والهند وسواها. وأن نحن رصدنا الحركة العامة للتطور الذي أصابته الحضارة العربية حتى آخر عصور ازدهارها في القرن الرابع والخامس للهجرة، وجدنا أن تلك الحركة كانت تسير قدماً نحو مزيد من التحرر والانفتاح والتجديد. وكل ما في الأمر أن طبيعة الأشياء كانت تفرض عليها أن تربط بين الفهم الجديد والأصل القديم. ولعلها في النهاية قد جنحت إلى تغليب الجديد على حساب القديم، في جرأة وصراحة، واستطاعت بذلك أن تكون محرك التيار المجدد في الغرب، وأن تنقل إليه بذرة الحرية الفكرية والعلمية، قبل انطفائها بسبب انهيار الدولة العربية الإسلامية على يد الشعوب الأخرى التي غزتها.
والحق أن تيار التجديد والثورة على القديم رافق الحياة العربية منذ بداية الإسلام، بل كان في صلب الدعوة الإسلامية، ولم يكن شيئاً زائداً أو مضافاً على الحضارة العربية الإسلامية.
صحيح أن هذا التيار أصيب بين الفينة والفينة بنكسات، غير أنه ظل مع ذلك حياً، يفصح عن جذوره العميقة لدى العرب. ولم يكن هذا التيار في الواقع في حاجة إلى إنكار الأصول كيما يتقدم ويتطور، بل استطاع أن يحقق هذا التطور من خلال الأصول نفسها، وعن طريق مزيد من التعمق في فهمها، بل عن طريق العودة إلى روحها الأصيلة في كثير من الأحيان.
ظواهر التجديد في الحضارة العربية الإسلامية:
ومن العسير أن نقدم الأدلة الكاملة على هذه الحقيقة، وحسبنا منها بعضها:
1- حملت الدعوة الإسلامية منذ نشأتها بذور التجديد والثورة. ولا نعني بذلك مجرد الثورة على بعض عادات الجاهلية وتقاليدها، بل نعني خاصة ما هو أعمق من ذلك: لقد ارتبطت الدعوة الإسلامية ارتباطاً عضوياً بالثورة الاجتماعية، فكانت في حقيقتها وتكوينها وبالأناس الذين جاهدوا في سبيلها، ثورة على »الطبقة الأولغارشية« التي كانت تحكم مكة، وانتصاراً لطبقة المستضعفين والمساكين(1). ولئن اضطرت الدعوة بعد ذلك إلى بعض التنازلات، كما حدث خاصة منذ خلافة عثمان، فإن هذا لا يدحض كونها في الأصل والجوهر، ثورة العبيد والمستضعفين على أثرياء مكة، وأن الذين ناصروها في البداية كانوا هؤلاء »المستضعفين في الأرض «، وأن الذين نصبوا لها العداء (ثم هادنوها بعد ذلك عن رغبة أو رهبة أو إيمان « كانوا أثرياء مكة، كأبي سفيان ابن حرب أغنى رجل فيها، وكأبي لهب عم الرسول الذي »ما أغنى عنه ماله وما كسب « وكأمية بن خلف »الذي جمع مالاً وعدّده، يحسب أن ماله أخلده «، وسائر أغنياء أمية وبني هاشم وسواهم.
ولعل دراسة متعمقة للتاريخ الإسلامي في أيام الخلفاء الراشدين تستطيع أن تكشف بوضوح عن هذا الصراع الذي ثار بين أغنياء مكة وبين الدعوة الإسلامية التي هددت مصالحهم، ولعلها تكشف الأسباب الاقتصادية الطبقية الثاوية وراء الصراع على السلطة بعد وفاة النبي الكريم، بل حتى عن دور هذه الأسباب الاقتصادية الطبقية في مقتل عمر بن الخطاب نفسه الذي دفعه تمسكه بروح الإسلام إلى وضع تشريعات جديدة تمس مصالح الأغنياء، والى الاتجاه إلى أن يأخذ من الأغنياء »فضول أموالهم ليردها على الفقراء «. ولعلها كذلك تكشف عن الأسباب الحقيقية وراء مقتل علي بن أبي طالب، الذي كان أبرز من يمثل روح الثورة الاجتماعية في الإسلام ويقودها.
2- صاحبت الحرية الفكرية ونزعة الجدل العقلي الحياة الإسلامية منذ بدايتها، وكان للعقل صوته منذ أوائل الدعوة الإسلامية، واستمر صوت العقل يعلو ويشتد، ولم يكن الأخذ به بدعة مجلوبة أو موقفاً مرذولاً محسوراً.
ويحدثنا الشهرستاني في هذا المجال عن بذور الجدل العقلي منذ أيام الرسول ثم في أيام الخلفاء الراشدين. ففي حياة النبي يذكر فيما يذكر حديث »ذي الخويصرة التميمي « الذي قال للنبي: أعدل يا محمد فإنك لم تعدل.
ويذكر لنا حديث أبي هريرة عن تنازع المسلمين في حضرة النبي في أمور القدر وعن غضب النبي لذلك. ويذكر لنا جدال طائفة من المسلمين في صفات الله حتى منعهم القرآن ونزلت الآية الكريمة »ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء، وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال «. ويحدثنا كذلك عن الذين أنكروا على النبي موقفه في غزوة » أحد «، وهم الذين نزلت بهم الآية الكريمة: »لو كان لنا من الأمر من شيء ما قتلنا ههنا «. ويحدثنا الشهرستاني أيضاً عن تنازع المسلمين عندما اشتد المرض بالنبي وعن اختلافهم حول تجهيز جيش » أسامة بن زيد «.
وفي عهد الشيخين ، أبي بكر وعمر، يذكر لنا الشهرستاني اختلاف المسلمين في أمر »فدك»، وفي أمر تاركي الزكاة، وفي قضية جمع القرآن، الخ …
وهذه الحوادث إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن النزعة إلى تحكيم العقل رافقت الدعوة الإسلامية منذ البداية، وإنها لم تكن وليدة تيار غريب تكون فيما بعد ولم يداخل صميم الحياة العربية الإسلامية.
ولا حاجة بنا إلى أن نذكر الآيات القرآنية التي تدعو إلى التبصر والنظر العقلي والتي أثبت الكثير منها ابن رشد في كتابه »فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال «.
ولا حاجة بنا كذلك إلى أن نعدّد الأحاديث الشريفة الكثيرة التي أشادت بدور العقل. وحسبنا منها ذلك الحديث الذي أورده الغزالي نفسه مع طائفة من الأحاديث التي تمجد العقل:
»أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر. ثم قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت أكرم عليّ منك، بك آخذ وبك أعطي وبك أثيب وبك أعاقب «.
حسبنا كذلك الحديث القائل: يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدّد لهذه الأمة أمر دينها (وقد كان هذا الحديث سبباً في اكتساب الأمام الشافعي لقب المجدد).
وحسبنا أيضاً ما يروى عن سعيد بن المسيب عن عليّ أنه سأل الرسول قائلاً: »الأمر ينزل بنا بعدك، لم ينزل فيه قرآن، ولم يسمع منك فيه شيء. فقال: اجمعوا له العالم من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوا فيه برأي واحد «.
أما إذا بحثنا عن تيار الجدل العقلي في أيام الدولة الأموية والعباسية، فأننا نرى أكثر من دليل يشهد على أن السلطة الرسمية، سلطة الخلافة نفسها، لم تكن سلطة اتّباع ومحافظة، بل كانت سلطة منفتحة على التجديد والبحث الفكري الحر. والأمثلة عديدة، حسبنا أن نذكر منها ما شهده البلاط الأموي في عهد معاوية من مناظرات حول الإسلام والنصرانية، شارك فيها يوحنا الدمشقي نفسه الذي ألَّف محاورة تدور بين نصراني ومسلم وتتناول ألوهية المسيح ومسألة القدر. حسبنا أن نذكر عابرين أن اثنين من خلفاء بني أمية عطفاً على مذهب القدرية (مذهب حرية الاختيار) هما يزيد بن الوليد ومروان بن محمد.
ولا حاجة إلى أن نذكر المأمون الذي جعل الاعتزال دين الدولة الرسمي، وسواه من الخلفاء العباسيين الذين شجعوا على نشر تراث الأمم الأخرى.
وإذا عدنا بعد ذلك كله إلى آراء فقهاء المسلمين أنفسهم، وجدنا أنهم، رغم حرصهم الشديد على أصول التراث الإسلامي، وضعوا بين مصادر التشريع، بالإضافة إلى الكتاب والسنَّة، الإجماع والقياس والاجتهاد، وأضاف بعضهم الاستحسان والمصالح المرسلة. وكلنا يعلم أن الإمام أبا حنيفة توسع في الرأي والقياس وأخذ وأتباعه بالاستحسان، وأن الإمام مالك، على تشدده، قال بالمصالح المرسلة. بل إن الأشعرية أنفسهم، وهم الذين تولوا الرد على المعتزلة كما نعلم، قالوا بضرورة التأويل لكثير من النصوص التي تظهر مصادقتها للعقل. حتى ابن تيمية السلفي – وهو الذي عارض مناهج العقليين في العقيدة – ذم الغلاة من الحرفيين الذين يهملون جانب العقل ويقفون عند حرفية النص (كما نقرأ في »الرسائل الكبرى «) وكثيراً ما كان يستخدم هو نفسه الأقيسة العقلية، وأهمها عنده قياس الأولى.
وحجة الإسلام الغزالي – على تزمته وعلى قوله بتهافت الفلاسفة – يقول بوحدة العقل والشرع ويرى أن الشرع عقل من الخارج وأن العقل شرع من الداخل. ومما يقوله في »معارج القدس «: »وهكذا فإن الرجل الذي يقبل على القرآن دون أن يستخدم عقله في فهمه شبيه بمن يغمض عينيه حتى لا يرى هذا الضياء «. ويلخص الأمام محمد عبده في العصور الحديثة موقف فقهاء المسلمين حول العقل والنقل بقوله:
»اتفق علماء المسلمين – إلا قليلا ممن لا ينظر إليه – على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دلّ عليه العقل «.
تلك كلها، وكثير غيرها، أدلة تشهد على أن تيار العقل والجدل العقلي، وتيار الاجتهاد والتجديد، لم يكن شيئا غريبا عن الحياة الإسلامية، ولم يكن خطاً آخر سار موازياً لتلك الحياة ولم يعرف الالتقاء بها والتفاعل معها.
ليست الخلافة سلطة دينية إلهية:
3- ثم إن أدلة التراث لا تقر »أدونيس « على ما ذهب إليه حين رأى أن التيار الذي ساد في السياسة كذلك تيار محافظ تقليدي بل تسلطي، يقول بالسلطة الدينية الإلهية للخليفة ويأخذ بالتالي بالمنزع »التيوقراطي « ويرى وجوب الطاعة المطلقة للخليفة ويحصر الخلافة في قريش.
صحيح أن النزاع كان شديداً على أمر الإمامة وأن الآراء حولها كانت متنازعة. غير أن التيار الغالب لم يكن ذلك التيار الممعن في تأليه سلطة الخلافة. بل هنالك إجماع على اعتبار الأصل في الخلافة هو الشورى والإجماع. ومعظم الفقهاء قالوا بعدم وجوب الطاعة للخليفة إلا إذا اتبع الدين وأحسن العمل. وأبو بكر الخليفة الأول استهل خلافته بخطبته الشهيرة التي جاء فيها: »أطيعوني ما أطعت الله فيكم «.
وعمر بن الخطاب من بعده كرر هذا المعنى في أكثر من موضع وقال قولته الشهيرة »إذا رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوّموه «.
وأكثر الذين كتبوا في الخلافة والإمامة أنكروا قدسية الخليفة وأنكروا الطاعة العمياء له. هذا ما رآه الجاحظ في كتابه »التاج « وفي رسالته »استحقاق الإمامة «.
وهذا ما رآه ابن تيمية نفسه في » السياسة الشرعية «حين اعتبر أن الشريعة أعلى مصدر للسلطة وأن الطاعة لا يجب أن تتم إلا إذا انسجمت مع أوامر الشريعة.
ويلخص الإمام محمد عبده(1) موقف الإسلام من الخلافة في »الإسلام والنصرانية « فيقول:
»الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم ولا هو مهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة. وهو على هذا لا يخصه الدين بمزية في فهم الكتاب والعلم بالأحكام
ولا يرتفع به إلى منزلة خاصة. بل هو وسائر طلاب العلم سواء. إنه مطاع ما دام على المحجة ونهج الكتاب والسنَّة. والمسلمون له بالمرصاد، فإذا استقام على النهج أقاموه عليه، وإذا أعوجّ قوّموه بالنصيحة والأعذار إليه. وليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر. وهي سلطة خولّها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خوّلها لأعلاهم يتناول بها أدناهم «.
وكلنا يعلم أن أبا بكر قال بعد بيعة السقيفة: لست خليفة الله ولكنني خليفة رسول الله، وأن عمرا لقب خليفة رسول الله.
ثم إن المسلمين أنكروا أن تنقلب الخلافة »ملكاً عضوضاً « وأنكروا ما فعله معاوية حين جعل الخلافة ملكية كسروية.
والإمام مالك نفسه ضربه حاكم المدينة جعفر بن سليمان بالسياط حتى انخلعت كتفاه لأنه أفتى بفساد بيعة الخلفاء بالقسر والإكراه.
فهل في وسعنا بعد ذلك أن نقول أن المنحى الذي قال بسلطة الخليفة الدينية وبوجوب طاعة الخليفة، هو المنحى الأصيل الذي ساد في الحياة السياسية في الإسلام، وأنه الأصل في النهج الإسلامي وما سواه غريب غير مقبول؟
الثبات والتحول في الأدب:
4- وإذا انتقلنا إلى ميدان الأدب – وهو ميدان يطول البحث فيه ولا يتسع المجال للحديث عن شجونه – وجدنا أيضاً أن من العسير القول إن هذا الميدان عرف منحيين متباعدين متعارضين لا لقاء بينهما: منحى ذمّ البيان والشعر وأكد على أخلاقية الأدب من دون »فنيته»، وكان شعاره العود إلى القديم والتأسي بعمود الشعر الجاهلي، وإنكار الجديد بما فيه من توليد المعاني وأخذ بالمجاز. ومنحى آخر أخذ بالموقف المعاكس فخرج على عمود الشعر وعني في الأدب بالصياغة الفنية قبل عنايته بالأهداف الاجتماعية وجعل الحياة مصدر إبداعه.
من العسير ههنا أيضاً أن نقر هذه القسمة الثنائية الحادة، وأن نقول بأن التيار الأصلي الغالب هو التيار الأول، تيار إنكار الشعر وتسخير الأدب للأغراض الاجتماعية والعود إلى القديم فكراً وأسلوباً، وأن التيار الثاني ظل غريباً في دياره وبدا للمجتمع العربي وكأنه خروج على السنن الأدبية والتقاليد الشعرية. فالتياران تفاعلا وتبادلا التأثر والتأثير منذ أوائل العصور الإسلامية بل منذ أيام الجاهلية نفسها. ويطول بنا الحديث إن أردنا أن نقدم الشواهد والأدلة على هذا التفاعل بين التيارين. وحسبنا هنا أيضا بعض الأدلة والومضات الخاطفة:
أ- قصة إنكار الإسلام للشعر وذمه للشعراء لها كما نعلم أسباب مبدئية وأخرى عملية. أما الأسباب المبدئية فهي أن الدعوة الإسلامية أكدت دون شك قيماً جديدة في الحياة، وأرادت أن تقضي على كثير من عادات الجاهلية، في الحياة الأدبية وسواها، وأرادت خاصة أن تضع إعجاز القرآن الأدبي في منزلة فوق الشعر وفوق بلاغة البلغاء. فنزلت الآيات القرآنية تنفي عن القرآن أن يكون شعراً أو حديث من به جنَّة، أو أن يكون تجربة من تجارب البلغاء. وكلنا يعلم أن هذا الطابع المتميز للأسلوب القرآني كان من عوامل انصياع العرب له واطمئنانهم إليه. أفلا نذكر الروايات التي تحدثنا عن اطمئنان عمر بن الخطاب للقرآن عندما أنصت إلى تلاوته؟ أفلا نذكر قول من قال عندما سمع القرآن:
»أن لهذا الكلام لحلاوة وأن عليه لطلاوة وأن أسفله لمغدق وأن أعلاه لمثمر، والله ما هذا من كلام البشر «؟
وهكذا أرادت الدعوة أن تؤكد أن القرآن غير شعر العرب وأدبهم وبلاغتهم، ولهذا التأكيد دوره الأساسي في خضوع العرب للدين الجديد.
أما الأسباب العملية التي قادت حملة الإسلام الأولى على الشعر أو على بعض الشعر، فترجع إلى هجاء مشركي مكة للنبي واشتداد شعرائها في مهاجمته وخصامه. ولهذا استنجد الإسلام ببعض الشعر على بعضه الآخر، واطمأن لمنافحة حسان بن ثابت أو سواه لمشركي مكة وطلب إليه أن يهجو هؤلاء المشركين »ومعه روح القدس «.
وبعد زوال هذه الأسباب المبدئية والعملية الأولى، لا نجد في واقع الشعر العربي ما يشهد على التزمت وما يدل على الاستمرار في موقف العداء لغير الشعر الديني الأخلاقي الملتزم.
ولو كان الأمر كذلك، لما شهدنا تلك الثروة الكبرى من الشعر في العصور المختلفة للدولة العربية الإسلامية. أفلا نقرأ في كتب الأدب والنقد في مختلف العصور ما يشير إشارة واضحة إلى أن المسلمين فهموا موقف الإسلام من الشعر فهماً أوسع ووضعوه في موضعه الصحيح؟ أفلا نجد عند ابن رشيق مثلا في عمدته بابا برأسه للرد على من يكره الشعر؟ أن ابن رشيق هذا – وهو يعبر عن التيار السائد – هو الذي يذكر قول الرسول: »لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين «. وهو الذي يحدثنا أن سعيد ابن المسيب قيل له: أن قوماً بالعراق يكرهون الشعر، فقال: نسكوا نسكاً أعجمياً. وهو الذي يحدثنا عن موقف ابن سيرين حين سئل في المسجد عن رواية الشعر في رمضان، فردّ بأن روى بيتاً من الشعر البذيء، ثم قام فأمّ الناس. وهو الذي يروي مثل ذلك عن ابن عباس حين سئل: هل الشعر من رفث القول، فأنشد بيتاً ما جنا من الشعر.
ب- أما ضمور الشعر بعد ظهور الإسلام وفي مرحلة الفتوح الأولى خاصة، فأمر طبيعي لانشغال المسلمين بأغراض الدين الجديد وبأعباء الفتوحات. وفي هذا يقول ابن سلام في الطبقات:
»جاء الإسلام فتشاغلت العرب عن الشعر، تشاغلوا عنه بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته «.
ومع ذلك ظهر منذ البداية أدب جديد تأثر بالجو الإسلامي تجلَّى في شعر الفتوح (من بطولة ومواجد ورجز) وفي نمو الأدب النثري خاصة.
ح- أما في العصر الأموي فقد عاد الشعر سيرته الأولى، ولم تبق آثار تذكر لتورع المسلمين من الشعر ونبذهم للشعراء. وانفتحت الحضارة الإسلامية لفنون الشعر والأدب المختلفة.
أما إن يكون هذا الشعر الذي عاد قوياً غنياً شعراً مقلداً للشعر الجاهلي، متمسكاً بعموده، بعيداً عن التأثر بالبيئات الجديدة التي عرفها المسلمون بعد الفتوح، فهذا قول لا نجد ما يؤيده. وحسبنا أن نرد الباحث في هذا المجال إلى كتاب شوقي ضيف »التطور والتجديد في الشعر الأموي « وفيه يقدم الأدلة الناصعة على أن العصر الأموي لم يكن عصر ركود في الشعر ولم يكن الشعراء فيه يحاكون الجاهليين محاكاة تامة. وهل نحن في حاجة إلى أن نذكر عمر ابن أبي ربيعة وتجديده، والوليد بن يزيد مبتدع الخمرية قبل أبي نواس، ونقائض جرير والفرزدق والأخطل ونمو فن المناظرات الأدبية على نحو يباين مفهوم الهجاء في الجاهلية، وشعر الكميت الذي خطا بالمناظرة والجدل خطوة أخرى، وشعر ذي الرمة وتأثره المبدع بالطبيعة؟ هل نحن في حاجة إلى أن نذكر ما استحدثه شعراء الحجاز من شعر غنائي ومن نظرية في الغناء جديدة (قوامها العمل المشترك بين الشعراء وبين المغنين والمغنيات)؟
أما أن نقصر الشعر الجديد المجدد في هذه الفترة على الشعراء الذين ارتبطوا بخط سياسي أو ديني مناوئ للسلطة، كشعراء الخوارج والشيعة، فقول فيه الكثير من السرف أيضاً. بل إن شعراء الخوارج والشيعة وسواهم – خلافاً لما يذهب إليه الكثيرون ولما يذهب إليه صاحب الرسالة – لم يستطيعوا أن يمثلوا تماماً الشعر الثوري المنادي بالمساواة بين المسلمين عربيهم وأعجميهم، المتحرر من روابط العصبية القبلية. ويكفي أن نرد القارئ في هذا المجال إلى كتاب الدكتور إحسان النص عن »العصبية القبلية في الشعر الأموي«. أنه يبين بوضوح أن شعراء الخوارج والشيعة لم يتمكنوا دوماً أن يسموا بعقيدتهم فوق روابط العصبية القبلية. بل إن منهم من عرف بشدة العصبية وعنف الشعور القبلي. فالطرمَّاح بن حكيم الطائي – وكان خارجياً من الصفرية – كان في الوقت نفسه عصبياً غالياً في عصبيته لقحطان. وكثير من شعراء الشيعة، كما يقول الدكتور إحسان النص، »اتسعت صدورهم لعقيدة التشيع كما اتسعت لنحلة العصبية، والتقت النزعتان في نفوسهم دون أن يحسوا في التقائهما أي لون من التناقض«. فهذا «كثير»، رغم ما عرف به شعره من التشيع لبني هاشم، لم يتخلّ عن عصبيته لقومه اليمانية، والكميت الأسدي أشد شعراء الشيعة غلوا في تشيعه كان في الوقت نفسه أشدهم غلوا في عصبيته وانتصاره لقومه النزارية.
د- وفي العصر العباسي – من باب أولى – لم تكن الحدود فاصلة بين تيار التجديد وتيار التقليد في الأدب، ولم يكن التيار الغالب التيار المتأسي بالشعر الجاهلي، بالأصول الشعرية الأولى، ولم يكن التجديد وقفاً على الموالي وغير العرب. وكان هنالك في الواقع أدب ينمو ويلبس لبوساً جديداً يوماً بعد يوم ويتأثر بالبيئات الحضارية والثقافية المختلفة ويفيد من تمازج الثقافات. ولم يخل هذا التطور بطبيعة الحال من بعض الصراع وبعض الجدل في طبيعة الشعر ووظيفته. ولكننا لم نكن أبدا أمام تيارين متباعدين، الغلبة فيهما للتيار المحافظ. وهل نحن في حاجة إلى الأمثلة على ذلك، وهي عديدة؟ حسبنا أن نذكر مثالاً واحداً يعبِّر عن هذا الصراع بين القديم والجديد ويشهد على أنه كان صراع أخذ وعطاء. ونعني به ما ثار حول شعر أبي تمام (وهو في حد ذاته مزيج من الجديد والقديم)، من نقد أسهم فيه كبار نقاد الأدب آنذاك. ونقاد أبي تمام هؤلاء خير من يشهد على أن الأمر لم يكن قسمة حدية بل كان مخاضاً متفاعلاً متصلاً، فيه ولادة لمقاييس أدبية جديدة وفيه كذلك حرص على بعض المقاييس التقليدية. فالمبرد يقف من شعر أبي تمام موقفاً وسطاً، وابن قتيبة يؤيد الحداثة، والصولي يقدم صورة عن الصراع ويعلل ويميز نفسه، والآمدي يوازن بين أبي تمام والبحتري مشيراً إلى مواقف النقاد منهما، ويجنح بعض الشيء للبحتري. الخ …
وهكذا نرى بعد التحليل أن الانقسام الحدي بين تيار الثبات وتيار التحول لم يكن قائماً، سواء في ميدان العقيدة أو السياسة أو الأدب، وأن الأمر في النهاية أمر تأثر وتأثير متبادلين، بين مسعى التغير والتجديد ومسعى الاستمساك بالأصول. وتلك هي سنة التطور في كل عصر ومصر: إنه دوماً وأبداً مدّ وجزر بين المحافظة والتطور، بين التقاليد الموروثة وبين محاولات تطويعها للظروف الجديدة.
بل لا نسرف إذا قلنا أن تيار التجديد كان يمضي صعداً في الحياة العربية الإسلامية وأنه كان يشق طريقه – متكئاً على القديم ولو في الظاهر – في كثير من الجرأة والاندفاع. ولولا ما انقطع من مد الحضارة العربية الإسلامية. بسبب تهديم الغزوات الدخيلة لكيانها السياسي، لرأينا تلك الحضارة تتفتح عطاءً وإبداعاً في شتى المجالات. كما ترهص بذلك تلك البراعم الحرة الفتية التي تكونت في عصور الازدهار التي سبقت خمودها وانطفاءها. وعلى أية حال، لقد انتقلت تلك البراعم إلى حياة الغرب، وتفتحت هنالك وأينعت، وكونت روافد أساسية للحضارة الحديثة.
(ثانياً) الثبات والتحول بين الدين والأدب:
ويخطو »أدونيس« في رسالته المبدعة والغنية خطوة أخرى. فلا يقف عند حدود القول بوجود هذين التيارين المتعارضين، تيار الثبات وتيار التحول، في ميدان الدين والسياسة والأدب، بل يرى – وههنا مظهر من مظاهر الجدة والأصالة في رسالته – إن تيار الثبات في هذه الميادين الثلاثة كل مترابط، يغذي كل جانب منه الجوانب الأخرى، ويصدر في النهاية عن موقف عقلي واحد. كما يرى أن تيار التحول في هذه الميادين الثلاثة أيضاً تيار متآخذ متعاون، ينبع من أصول واحدة ومن بواعث متشابهة.
وبوجه أخص، يرى أن تيار الثبات في الأدب ارتبط بتيار الثبات في الدين واغتذى به، وأن تيار التحول في الأدب ارتبط بتيار التحول في الدين وسقى منه. فالأدب التقليدي الثابت انعكاس عنده للفكر الديني التقليدي. والأحكام الأدبية المطلقة المشتقة من القديم الأدبي والتي أطلقها أنصار الثبات تطابق الصفات الدينية التي تطلق على القديم والمحدث. والاحتجاج بالأوائل في ميدان اللغة والأدب انعكاس للاحتجاج بالأوائل في ميدان الدين. واللغة العربية كالله لا يحيط بها الإنسان. والشعر الحديث مفتقر بوجوده إلى الشعر القديم كما أن الحادث مفتقرٌ بوجوده إلى القديم. والشعر القديم غني بذاته عن المحدث كما أن القديم الإلهي غني بذاته عن الموقف المحدث. والموقف التقليدي من الشعر امتداد للموقف الفقهي أو تنويع عليه. والنقد التقليدي يقف من نص القصيدة كما يقف الفقيه من النص الشرعي. وكما أن شكل القرآن في التعبير كامل فإن شكل التعبير في التراث الشعري الجاهلي على الأخص هو كذلك كامل. والوحي بداية وهو إذن أصل لما بعده، والشعر في الجاهلية وصدر الإسلام هو كذلك بداية ويجب أن يكون إذن أصلاً لما بعده. والتراث الشعري العربي هو كتراث الوحي قديم، وكمال الشاعر وراءه لا أمامه.
تلك كلها، وكثير غيرها، أحكام نجدها في رسالة »أدونيس« تؤكد عنده هذه الصلة العضوية بين الثابت في الأدب والثابت في الدين، ثم بين التحول في الأدب والتحول في الدين. وتعتبر الموقف الأدبي في النهاية انعكاساً للموقف الديني. وصورة أخرى له.
ورغم براعة تلك الصفحات التي يوضح فيها »أدونيس« فكرته المغرية هذه، ورغم الجهد الفذ الذي يبذله للتدليل عليها، لا نرى في تاريخ الأدب العربي ما يسمح بهذه المقارنة الجميلة التي عقدها بين أصول الموقف الديني وأصول الموقف الأدبي. لا سيما أننا أوضحنا – فيما نعتقد – أن ميدان الدين لم يعرف خطا قال بالعود إلى حرفية النص، وأن ميدان الأدب لم يعرف كذلك خطا قال بتقليد الجاهليين.
صحيح أن بعض الأصوات ظهرت هنا وهناك محاولة أن تبقي على أصول الدين في القرآن والسنة وأن تغلو في الاستناد إليهما، ولكنها في الواقع لا تعبر عن تيار سائد بمقدار ما تعبر عن رد فعل أمام التيارات المعاكسة التي أرادت أن تنطلق في دروب بعيدة كل البعد عن القرآن والسنة. وصحيح أن بعض النقاد أرادوا أن يعيدوا للغة العربية نقاءها وأن يلجأوا إلى الشعر الجاهلي وإلى القرآن، للحكم على سلامة لغة الشاعر، ولكن هذه المواقف لا تعدو أن تكون أيضاً ردود فعل على ما أصاب اللغة العربية من ترد بعد أن اتسع نطاقها وتكلم بها غير أهلها وداخلها بعض آثار العجمة. ولم يكن هذا كله موقفاً عقلياً يفصح عن ذهنية تقليدية تمجد ما هو أول وتعتبره الأصل والجوهر، وترذل ما عداه.
وحسبنا ههنا إشارات قليلة نضعها بين يدي هذه الحقيقة:
1- لا نستطيع أن نقول أن القديم الأدبي – والقديم الجاهلي خاصة – اكتسب عند المسلمين صفة دينية شبه مقدسة، كما اكتسبت تعاليم أرسطو صفة مقدسة لدى الكنيسة في العصور الوسطى. فالإسلام أراد منذ البداية أن يكون نقيض القيم الجاهلية التي أشاعها الشعر الجاهلي. ولا نرى كيف يمكن التوفيق بين ما يراه »أدونيس« من عداء الإسلام للشعر وبين ما يراه من تقديس الشعر الجاهلي فيما بعد. وكلنا يعلم أن الإسلام في البداية نقد الأسلوب الجاهلي، وأنكر ما فيه من معاظلة في الكلام وبعد عن الصدق.
أما العود إلى الجاهلية الذي نقع عليه في العصور المتأخرة لدى بعض النقاد والأدباء فأسبابه واقعية وسياسية وليست دينية أو عقلية. وعلى رأس هذه الأسباب الحفاظ على سلامة اللغة بعد أن دخل إليها الأعاجم. ومن الأسباب كذلك الرد على الشعوبية التي أخذت تنتقص من شأن العرب وتراثهم وترى أنهم لم يعرفوا قبل الإسلام أدباً يذكر أو ثقافة يعتد بها، وأنهم كانوا قوماً بداة يرعون الغنم ويأكلون »الضباب«. ومن هنا انبرى للرد عليهم طائفة من الكتاب (على رأسهم الجاحظ وابن قتيبة)، وعادوا لهذا الغرض إلى الأدب الجاهلي يحيونه ويظهرون شأنه. يضاف إلى هذا كله إن المسلمين لجأوا منذ البداية إلى الاستعانة بالأدب الجاهلي لتفسير بعض الألفاظ التي وردت في القرآن (كاعتمادهم في تفسير الآية الكريمة: »أو يأخذهم على تخوّف« على البيت الشهير: تخوف الركب منها تامكاً
قرداً …). ولم تكن هذه الاستعانة تحمل أكثر من معناها الطبيعي، معنى الاعتماد على لغة العرب في تفسير القرآن.
2- أما اعتبار القرآن الكريم نفسه معياراً للبلاغة، فلم يأت في الواقع إلا في عهود متأخرة، بعد القرن الرابع للهجرة خاصة، على يد أمثال الرماني في »إعجاز القرآن« (توفي عام 384هـ) والقاضي الباقلاني في »إعجاز القرآن« أيضاً (توفي عام 403هـ) وعبد القاهر الجرجاني في »أسرار البلاغة« و »دلائل الإعجاز« (توفي عام 471هـ) والزمخشري في »تفسير الكشاف« (ولد عام 467هـ)، ثم بعد ذلك، في القرن السابع، على يد فخر الدين الرازي والسكاكي وابن الأثير وسواهم.
وهذا العود إلى القرآن، كأصل من أصول البلاغة، كان في الواقع نتيجة وليس سبباً: كان نتيجة لظهور أساليب جديدة في الشعر العربي والأدب العربي، فيها الكثير من الصور المجازية والمحسنات البديعية التي لم يعرفها الأدب العربي إلا لماماً في عصوره الأولى. ومن هنا جاء علم البلاغة يدعم هذا الاتجاه الجديد برده إلى أصوله في القرآن. وهذا الشأن كان شأن العرب في أكثر من مجال: فكل علم جديد حاولوا أن يروا له أصولاً في القرآن، لا سيما إذا كان خارجاً على المفاهيم الدينية السائدة. هذا ما فعلوه بالقياس إلى التصوّف وبالقياس إلى الفلسفة وعلم الكلام وبالقياس إلى تأويل الأحلام وسواها من العلوم.
يضاف إلى هذا أن علماء البلاغة كانوا يريدون أن يضعوا أصولاً لهذا العلم، بعد أن اتسعت فنون الأدب وتشعبت، وبعد أن توالد التجديد والاجتهاد في الأدب، وكان من الطبيعي أن يروا في القرآن، باعتباره أكمل وثيقة عن اللغة العربية وباعتباره كتاب العربية الأكبر، أصلاً هاماً من الأصول التي يستشهدون بها في هذا العلم الجديد الذي أخذوا يضعون له القواعد والأسس.
فهل في هذا كله ما يفصح عن عقلية فقهية تستمسك بالأصول وتقدس ما هو أول، وتحرص على تقديم كل ما هو قديم؟ وهل هذه اللقاءات الطبيعية بين الفقه والبلاغة من جانب وبين الشعر الجاهلي كأصل من أصول اللغة والقرآن بوصفه كتاب العربية الأكبر من جانب آخر، انعكاس لموقف عقلي حريص على القديم رافض للجديد؟ وهل في وسعنا أن نتصور أن يتم النمو اللغوي والتطور الأدبي في أي أمة في معزل عن إطار يرجع إليه وسند يقيه من الضياع؟ ومتى كان الإبداع أكثر من صياغة معطيات الواقع صياغة جديدة. ومتى كان الخلق والابتكار انطلاقاً من لاشيء؟
وهكذا نجد أن ربط منحى الثبات والتحول في الأدب بمنحى الثبات والتحول في الدين
لا يخلو من تكلف. فخط التطور الأدبي عند العرب لم يكن انعكاساً لخط التطور الديني. وكلاهما لم يكونا تعبيراً عن خطين متوازيين من الثبات والتحول، بل كانا صورة لتطور نام نحو الجديد، يشده القديم حيناً، ويعتمد عليه اعتماداً طبيعياً حيناً آخر، وينأى عنه ويبتعد حيناً ثالثاً. غير أن حصاد ذلك كله تفاعل وتآخذ يغني التجربة ويسير بها نحو مزيد من الحرية والانفتاح.
(ثالثاً) هل الحضارة العربية حضارة تقليد لا تجديد؟
ويستخرج »أدونيس« من تحليله كله حكماً عاماً يطلقه على الحضارة العربية الإسلامية، فيرى أن هذه الحضارة في جوهرها حضارة تقليد لا تجديد، وإن الدين فيها اتباع لا إبداع، وأن الأدب تقليد لا خلق. أما تيار التجديد فيكاد يكون غريباً عنها، ولدَّته عوامل وعناصر مباينة لها أو خارجة عليها، وظل يتيماً ولم يكتب له النصر.
ومثل هذا الحكم العام يحتاج تفنيده إلى أسفار طويلة. وحسبنا هنا بعض الملاحظات العابرة:
1- لا بد أن ننطلق من تقرير حقيقة أولى، وهي أن من الطبيعي أن يتم التجديد – في أي مجتمع ديني – ضمن إطار معين وفي حدود معينة. أما أن نعني بالتجديد في مثل هذا المجتمع الخروج على الإطار الديني بأسره، فهو ضرب من الخلف المنطقي ومن تحميل الأشياء غير طباعها. ومن هنا فبحثنا في الجديد والقديم في الحضارة العربية الإسلامية، لا بد أن ينصب على ما استطاعت أن تضيفه هذه الحضارة، من خلال منطلقاتها، للفكر العالمي والتراث العالمي.
2- موطن القوة في هذه الحضارة العربية الإسلامية إنها استطاعت – من خلال منطلقاتها هذه – أن تستوعب ثقافات جديدة وعلوماً جديدة وأن تضمها إلى بنيتها الأصلية وأن تتحرك في هذا المجال في كثير من الحرية والإبداع:
أ- فلقد استطاعت – وهي الحضارة المنطلقة من وعاء الإسلام – أن تستوعب الفلسفة اليونانية (سواء منها فلسفة أرسطو البعيدة عن مفاهيمها الدينية، أو فلسفة أفلاطون والأفلاطونية المحدثة) وأن تمتصّ المعتقدات الفارسية والهندية والغنوصية والمسيحية وسواها. بل استطاعت أن تستوعب التصوف نفسه (وأصوله غير الإسلامية واضحة) وحكمة الإشراق (عند السهروردي وأتباعه) وأن تتسع حتى لأفكار »الراوندي« الملحد وسواه.
ب- انتهت هذه الحضارة – في اتجاهاتها الغالبة – إلى تغليب العقل على النقل في إطار التوفيق بين الحكمة والشريعة، وجزمت كما جزم ابن رشد في »فصل المقال« أن كل نص ديني يتعارض مع العقل »لا بد أن يكون له ظاهر يحتمل التأويل«. وأفسحت من خلال ذلك مجالاً واسعاً للنظر العقلي والجدل الفلسفي والفكري، واستطاعت أن تخلق من هذا المنحى فلسفة أصيلة خاصة بها، نجدها واضحة عند المتكلمين والمعتزلة.
ج- ولّدت هذه الحضارة المنزع التجريبي الذي نقلته إلى الغرب وكان الشرارة التي أطلقت الحضارة الحديثة كلها. وهذا الاتجاه التجريبي في دراسة الكون هو جوهر »المعجزة العربية« على حد قول فانتيجو Ventéjoux في كتابه الذي يحمل هذا الاسم، وهو الذي أخرج الفكر العالمي، كما يقول »راندال« في كتابه »تكوين العقل الحديث« من إطار البحث في المجردات ومن إطار دوران العقل حول ذاته في الفلسفة اليونانية إلى إطار الملاحظة والمشاهدة والتجربة ونقري مظاهر الكون والتجريب عليها. وهذا الموقف الفكري هو الذي تلقفته الحضارة الغربية على يد »روجر بيكون« ثم »فرنسيس بيكون« ومن بعده، وهو الذي حمل وولَّد الحضارة الحديثة القائمة على التجريب العلمي والتأثير في الكون والأشياء.
وقد انطلقت الحضارة العربية خطوات حثيثة في هذا المجال التجريبي العلمي منذ أيام »بيت الحكمة« في بغداد بل قبله، وكان مقدراً لها أن تكون خالقة الحضارة العلمية، لولا ما أصابها من ترد على يد أخلاط المغول والتتر والأتراك التي هدمت الكيان السياسي العربي وهدمت معه الحضارة العربية ووعودها الكبيرة.
والحديث عن دور الحضارة العربية في الحضارة العالمية له غير هذا المجال، وقد كتبت فيه الأسفار الطويلة(1).
د- لم يكن الفكر العربي فكراً نزاعاً إلى المغيبات الغامضة والأسرار البعيدة، بل كان فكراً أميل إلى الوضوح والرؤية الموضوعية. وقد تجلى هذا في الإسلام خاصة، فاتصف أكثر ما أتصف بالوضوح الفكري والاتساق المنطقي والروح الواقعية العملية، والنزعة إلى معالجة شؤون الحياة معالجة منظمة عقلانية، وتغليب أمور المعاملات على شؤون العبادات، والربط بينهما ربطاً عميقاً.
وقد يبدو هذا المنزع للوهلة الأولى نقطة ضعف في الفكر العربي، حرمته بعض الرؤى البعيدة والتأملات المعقدة والغوص في أسرار الكون. غير أن لكل حضارة سمتها المميزة، والحضارات كالطباع، لكل منها شخصية مميزة تختلف في الطبيعة لا في الدرجة عن سواها. والمقارنة بين الحضارات كالمقارنة بين الطباع تضل وتخطئ إذا هي حاولت أن تقيس كلا منها بمقياس سواها، وتصيب وتستقيم حين تظهر المزايا المميزة لكل منها والمتفردة بها عن سواها. والحضارة العربية الإسلامية كما قلنا حضارة النظرة الموضوعية إلى الكون والأشياء، حضارة التجريب والمشاهدة والبحث العلمي. وعطاؤها في هذا الميدان هو أجزل ما قدمته للحضارة الإنسانية. ولا نغلو إذا قلنا بأنها غلبت البحث الموضوعي في كل شيء، في الدين والفلسفة والسياسة وحتى الأدب، وأنها بدت بسبب ذلك وكأنها تحمل من جفاف المنطق العقلي الشيء الكثير، ومن شكليته أحياناً بعض الضيق، ولا سيما حين خمدت جذوة الاندفاعة الأولى عندها. غير أن ما أعوزها في مجال التفجير الانفعالي والصبوة الذاتية، أكسبها نظرة دقيقة صارمة إلى شؤون الكون والحياة، واتجاهاً خصيباً نحو تفجير قوانين الطبيعة وتقريها والتأثير فيها، وموقفاً عملياً فعالاً في صياغة نظم الحياة الاجتماعية والسياسية. على أن الإسهاب في هذه المسألة يستلزم بحثاً برأسه، لذا نتوقف الآن عند حدود هذا التعميم المجتزأ.
هـ- ضم القرآن الكريم في صلبه، ومن بعده الحديث، جوانب متعددة تشمل معظم شؤون الحياة، ولم يقتصر على شؤون الحياة الدينية. ومن هنا كان التطور في الحياة العربية الإسلامية مشدوداً دوماً إلى القرآن والحديث، ولم يكن التطور في شؤون السياسة أو العلم أو الأدب أو الاجتماع خطأ يستطيع أن ينطلق مستقلاً دون ما رجوع دائم إلى الأصلين الدينيين. وقد يبدو هذا أيضاً عاملاً من عوامل الحد من انطلاقة البحث الحر المجدد في هذه الميادين. ولكننا رأينا أن المسلمين استطاعوا أن يؤفقوا بين العود إلى الأصول وبين مطالب الحياة المتجددة عن طريق الأخذ بالإجماع والقياس والاجتهاد وسواها، وعن طريق النظر العقلي الذي لم يروا فيه شيئاً مناقضاً للدين بل استقوه من الدين نفسه، وعن طريق التأويل الفكري في النهاية وتغليب العقل على النقل في الجوهر. يضاف إلى هذا أنهم لم يعدوا أن التمسوا في كثير من الأحيان ظاهراً من التأييد لأفكارهم الجديدة وعلومهم الجديدة في الأصول الدينية، ثم تجاوزوا بعد ذلك هذا الظاهر وخطوا خطوات جريئة وبعيدة، على نحو ما فعل فلاسفة الكلام والمعتزلة والمتصوفة والفلاسفة بل حتى واضعو بعض العلوم الجديدة.
وفوق هذا وذاك كان لهذا العود الدائم إلى الأصول – مع إغنائها وتفتيح معاني جديدة فيها – فضل بناء حضارة متماسكة، ذات طابع متميز، تلفها في النهاية نظرة موحدة، وتدعم التجديد فيها بنية راسخة.
وإذا قسنا موقف الحضارة العربية الإسلامية من هذه الناحية بموقف العصور الوسطى في الغرب، وجدنا بوناً شاسعاً، ووجدنا أن العصور الوسطى الغربية غلت على العكس في تقييد حرية البحث الفكري والعلمي، رغم أن أصول الدين المسيحي لا تتضمن مواقف معارضة للتطور العلمي، وليس فيها ما يرسم طريقاً محددة للبحث العلمي والفكري. وقد فعلت ذلك كما نعلم بسبب ربط تعاليم الكنيسة في تلك الحقبة بتعاليم أرسطو وعلمه.
و- والحق أن مثل هذه الحضارة العربية الإسلامية القائمة على أصول دينية أحاطت بالكثير من شؤون الحياة، تحمل في أعماقها إمكانيات الضيق والانكماش كما تحمل إمكانيات الخصب والإبداع. والذي يحدد الموقف الأول أو الثاني هم الديَّانون وما يملكونه من قدرة على تفتيح معاني الدين أو من عجز عن ذلك. وهذا ما حدث في الواقع:
فقد انطلق المسعى العربي الإسلامي عطاءً وإبداعاً وتجديداً أيام وثبته وفي حميا اندفاعته الحضارية، واستطاع أن يفهم الأصول الدينية فهماً حياً متجدداً. وعندما خمدت جذوة الحضارة العربية وأصابها ما أصابها من هجمات الأقوام الأخرى وتهدم كيانها السياسي الأصيل، ودخل إليها من شوه فكرها وعقيدتها وطابعها العربي، رأينا الأصول الدينية تشوه بدورها وتتخذ سبيلاً لدعم حياة التخلف والنضوب.
وهذه الصورة المتحجرة للتراث الديني هي التي يحاول بعض الباحثين إضفاءها على التراث كله منذ بدايته، وكأنها أصيلة بديئة، أو كان الصيرورة إليها قدر حتمي. وبهذا يقعون في مزالق تفسير الظواهر بنهاياتها، أياً كانت الأسباب التي قادت إلى هرمها. وبذلك يمدون مداً خاطئاً هالة التأخر الحادث والتخلف الواقع إلى كل شيء وراءه.
خاتمة:
وبعد، إنها لمحات خاطفة وصوى قليلة في درب طويل هيهات أن ندعي الكشف عن مساربه كلها. رسالة «أدونيس» القيمة تطرح كما رأينا مسألة جوهرية في حياتنا، لها أصداؤها الهامة في حاضرنا ومستقبلنا. إنها مسألة البحث عن مخرج من العقم الذي ينتاب حياتنا الحاضرة. ولا شك أن الوصول إلى الإبداع ينبغي أن يكون الضالة الأولى التي تبحث عنها جهودنا الثقافية والتربوية. ليست قبلها مسألة، ولا بعدها شأن.
ولكن السؤال الكبير: هل تنطلق قوى الإبداع عندنا سهلة هينة، عن طريق ركوب هذا المركب السهل، بل هذا المركب «الماضوي»، حين نرد كل شيء إلى عقم التراث؟ هل الذي يرزح فوق كاهل الإبداع عندنا ويقيده، هو الماضي الذي نحاول أن نحمله كل آفاتنا، أم أن عقمنا الحاضر – ووراءه عوامل عديدة – هو الذي يدفعنا إلى أن ننظر إلى التراث نظرة عقيمة؟ تراثنا استطاع أن يكون متجدداً، عندما كانت قوى الخلق حية يقظة، ويستطيع أن يتجدد اليوم عندما تستيقظ هذه القوى من جديد. ليس التراث هو العقبة في طريق التجديد، بل غياب التجديد هو العقبة في طريق فهم التراث فهماً حياً متجدداً. تراثنا عندما حملته عصور الظلام وضمته العقول المجدبة الفقيرة، جف نسغه وضوى. وعندما حملته من قبل عصور النهضة والنور اغتنى وتفتح.
مسألة العقم في حياتنا إذن ينبغي أن نعالجها أولاً، وقوى الخلق والإبداع ينبغي أن نطلقها، وعند ذلك تنضو هذه القوى ما علق بالتراث من زيف وضيق وجدب.
وإطلاق قوى الخلق والإبداع عندنا في القرن العشرين وتباشير القرن الحادي والعشرين لها من وسائل العلم الحديث ألف سبيل وسبيل. وهل نحمّل التراث مثلاً مسؤولية قتل قوى الإبداع هذه عن طريق التربية التقليدية السائدة العاجزة عن تفجير قابليات الأطفال بل العاملة على إطفائها؟ وهل نحمله عجزنا العلمي والتربوي عن ربط التربية بحاجات المجتمع وحاجات تنميته؟ أو ليس لتكوين الذكاء المتفوق والفكر المبدع الخلاق وسائله الخاصة في أساليب التربية الجديدة؟ والثورة التربوية المنشودة التي نستطيع بوساطتها أولاً أن نجدد حياتنا ومجتمعنا، ما الذي يقف دونها؟
لا، ليس تراثنا عبئاً علينا بمقدار ما نحن عبء على ذلك التراث. وعندما نعزم أن نبني مجتمعاً عصرياً حديثاً، وندخل القرن العشرين ونستشرف القرن الحادي والعشرين، سوف نجد في التراث سنداً وعوناً وسوف يضاء التراث بخلقنا الجديد ويضيء. أو ليست الحضارة العلمية التكنولوجية التي علينا أن نسعى لها، تراثنا الأصيل وبضاعتنا ردت إلينا؟
وهل حال استمساك اليابان بتراثها دون دخولها عصر الصناعة وعصر الثورة العلمية والتكنولوجية، أم كان على عكس ذلك من أهم العوامل التي ساعدت على تلك الوثبة الجبارة التي حققتها؟
نقول هذا كله ونحن ندرك أن «أدونيس» حين حمَّل التراث ما حمل لم يكن يعني به التراث كله، بل كان يعني – في أعماق رأيه – تلك الصورة المتداعية المتخلفة التي لبسها أحياناً والتي صار إليها خاصة في عصور الانحطاط والتي ما تزال تجر أذيالها حتى اليوم. ونحن معه في ذلك. ولكننا نرى أن انحطاط التراث نتيجة للعقم لا سبب، وإن دخول باب الإبداع – بوسائل العصر الحديث – يعيد التراث مبدعاً خلاقاً. فلنبدع إذن جديدنا يسعدْنا تليدنا.