دور الشباب في بناء المجتمع العربي

مجلة «المعرفة» التي تصدرها وزارة الثقافة بدمشق – العدد /122/ – نيسان/أبريل 1972
دور الشباب في بناء المجتمع العربي
د. عبد الله عبد الدائم
في قلب البحران العالمي الذي نشهد، وفي لجة الضياع العريض الذي يتخبط فيه الشبيبة في العالم، يحق للمرء أن يطرح سؤالا حاداً:
أفيكون جيل الشباب هو الأمل والمرتجى، أم يكون الإعصار الذي يعصف في بنية الحضارة وبنية المجتمعات!
هل جيل الشباب هو جيل الحضارة، أم هو جيل انهيار الحضارة وأفولها؟
ونخف إلى الإجابة منذ البداية، قد يكون الأولى أو الثانية، ولكنه الثانية على الأرجح، إن لم يقم جهدٌ جاد لاجتناب المصير الأسوأ.
من هنا ننطلق في حديثنا
الشباب في العالم وبالتالي في بلادنا معروض للضياع، إن لم تحمل مشكلاته محمل الجد، وإن لم يسهم في علاجها وحلها جيل الشباب وجيل الكهول على حد سواء.
وهو قادر على العكس أن يضع صبوته وحيويته ومثاليته وتعشقه للمثل العليا في مواضعها من بناء المجتمع العربي، والمجتمع الإنساني، حين تفهم مشكلاته وتدرك متاعبه وتعبأ طاقاته تعبئة سليمة.
قد تبدو هذه الحقيقة قولاً مكروراً وبدهية معادة، وما الأمر كذلك عندنا إذا نحن فهمناها في إطار واقع الشباب في عصرنا.
فلنمض أولاً إلى تحليل ذلك الواقع وفهمه:
الصفات النفسية لجيل الشباب:
عمر الشباب في الأصل والجوهر عمر الأفكار والرؤى الجديدة، بل عمر البطولة والنبوة. واليافع في هذه السن، يمتاز كما نعلم بهمومه الروحية والفكرية، بتعشقه للمثل الأعلى وتعلقه بالمطلق، حتى ليصح قول الشاعر فاليري “Valery”: إن الإنسان الذي يجرب أبداً إن يتشبه بالآلهة، هو أقل من إنسان.
وعن طريق قيم الشباب وتطلعهم للمطلق، يكون تجدد المجتمعات وتحركها. والمجتمع المتوثب هو المجتمع الذي يعرف ذلك الجيل من الشباب المتطلع دوماً وأبداً إلى القيم الإنسانية، وحيوية أي مجتمع تقاس بمقدار ما يملك شبابه من مثل هذا التطلع والتوتر. أو لم يقل الشاعر فينيي Vigny بحق: أن الحياة الكبيرة هي فكرة سن الشباب وقد تحققت في سن الرشد. أو لم يصف بعضهم كبار الرجال وعباقرة الإنسانية بأنهم “مراهقون إلى الأبد”.
وههنا يفجأنا السؤال الصارم القاسي: هل تجد نزعات هذا العمر وصبواته مستقرها دوماً، وهل هي حتماً تلك الأداة الفعالة لبناء المجتمع الحضاري المتجدد؟
هل يحق لنا أن نؤمن بها إيماناً سحرياً، وأن نرى فيها قوى ومنازع لابد أن تتفتح لصالح المجتمع، مهما تكن الظروف المتحلقة حولها ومهما تكن الأشواك التي تفرش مسيرتها؟ هل نطمئن إلى تلك الأحلام الرومانسية الجميلة، فنؤمن إن البراعم لابد أن تتفتح، وإن الأزهار مثمرة لا محالة وإن الأشواك والأعاصير لن تكون إلا موقدات لوثبتها، باعثات للمزيد من نضجها واكتمالها؟
لن يسمح لنا التفكير العلمي بأن نذهب مثل هذه المذاهب الحريرية المطمئنة. ولن نقبل في عصر العلم والتخطيط والسيطرة المرسومة على مجرى الأحداث، أن نترك وشأنه ذلك الاحتياطي الهائل من الطاقات الشابة، وإن نظن إن معجزة الشباب آتية، ولو لم نعمل لها.
لم تعد في عصرنا معجزات. ولن نستطيع في أي مجال أن نستخرج من الأشياء إلا ما نضعه فيها. وأهم سمات هذا العصر تلك المحاولة للسيطرة على مجرى الأحداث، عن طريق الدراسة والتنظيم والتنبؤ والتخطيط. ومواطن القوة فيه ذلك السعي لامتلاك المستقبل وصياغته وقيادته، بحيث يغدو ملك أيدينا ورهن مشيئتنا، وبحيث يكون لنا في ابتكاره وصنعه شأن ونصيب. ولقد أتانا جميعاً نبأ تلك الدراسات التي تعرف اليوم باسم الدراسات المستقبلية أو التحسبية (Prospective) والتي تهدف إلى السيطرة على المستقبل في شتى مجالاته، بحيث يكون الإنسان صانعه وخالقه.
وإذا كنا، في عصر العلم والتنبؤ والدراسات المستقبلية، في حاجة إلى أن نرسم صورة مجتمعنا في كل ما يتصل بالاقتصاد والنمو والتقدم العلمي والتقني، فنحن أحوج في أعماق الأمر إلى أن نرسم صورة هذا المجتمع فيما يتصل بحياته الاجتماعية والفكرية والإنسانية. وإذا كانت الطاقات الزراعية والصناعية وسائر الطاقات المادية، من مشاغلنا وهمومنا وما نجهد لتنميته والتخطيط له، فالطاقات البشرية والقدرات الإنسانية لابد أن تحتل مكان الصدارة في مساعينا التخطيطية وجهودنا المستقبلية. فلن نربح شيئاً إذا نحن خسرنا الإنسان، ولن ننقذ قطميرا أن نحن لم ننقذ ثروتنا الفكرية والروحية. وإن لم نتعهد بالرعاية طاقة كل طاقة، وثروة كل ثروة، نعني الدوافع النفسية والفكرية. ونحن أولاً وأخراً نطمح إلى أن نبني حضارة إنسانية، حضارة جديرة بالإنسان وسعادته، ولن يكون همنا أن نبني زراعة أو صناعة أو سواهما من متاع الإنسان، هذا إن صح أن في مقدورنا أصلاً أن نبني أي شيء بدون بناء الإنسان.
وبناء الإنسان في مجتمعنا وعصرنا مهدد. وتلكم هي المسألة. وعلى رأس مشكلات الإنسان، تأتي مشكلات بناء الشباب لأنهم الطليعة والمحرك والمجدد والأمل.
وبناء الشباب، مرة أخرى، في مجتمعاتنا وعصرنا، محفوف بالمخاطر، والطريق إليه يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. ومعنى هذا إن الجذوة والموقدة في بناء مجتمعاتنا وحضارتنا في محنة وأزمة، وإن مستقبلنا كله في أزمة، مادام الوقود لاهثاً مهدداً بالانطفاء.
فما هي حقيقة أزمة الشباب في مجتمعنا وعصرنا.
أزمة الشباب في عصرنا:
قد نحتاج إلى الأسفار إذا نحن أردنا أن نتحدث عن أزمة الشباب. وهيهات أن يتسع مثل هذا المقام لتفتيح بعض جوانبها. ومثل هذا المطلب يحتاج في الواقع إلى تحليل اجتماعي نفسي متكامل، بل يحتاج إلى دراسات اجتماعية عميقة وإلى دراسات أخرى تنتسب خاصة إلى التحليل النفسي. وفي رأينا إن الحديث عن أزمة الشباب في مجتمعنا وعصرنا لن يكون وافياً بالغرض إلا إذا اصطنعنا لذلك منهجاً من الدراسة الاجتماعية النفسية المتكاملة الصبورة.
وحسبنا هنا، وفي حدود هذا الحديث، أن نشير إلى بعض ما تكشف عنه مثل هذه الدراسة الاجتماعية النفسية لأزمة الجيل الشاب.
كلنا يقرأ ويسمع عن ثورة الشباب في العالم. ولن نعود إلى أحاديث عديدة مكرورة عنها، وإلى دراسات تترى حارت في تحليلها وتفنيدها. غير إن الذي لابد أن نقره هو أن تلك الثورة، سواء كانت ظاهرة أو خفية، نتيجة طبيعية وغير مباشرة للثورة الصناعية والتقنية التي اجتاحت عصرنا، والتي تتسع أبعادها لتكون الطابع الغالب والقائد فيه.
والحديث عن الثورة الصناعية والتقنية حديث يطول أيضاً. غير أن الذي يعنينا منها ههنا ما أحدثته من تغيير جذري في المواقف النفسية للشباب. لقد ولدت هذه الثورة قيماً جديدة، هي قيم الفعالية والنجع والسيطرة التقنية على العالم. ولقد فرضت قواعد ومقاييس ومعايير، تضاءلت وتراجعت أمامها القواعد والمقاييس والمعايير التقليدية السائدة في المجتمعات. وهكذا بدت للشبيبة وكأنها البديل للسلطة التي قامت عليها حياة المجتمعات حتى اليوم، نعني سلطة المجتمع وقيمه وتقاليده وأفكاره. أو إنها بدت الدليل لسلطة الأب، بكل ما تمثله هذه السلطة من قيم المجتمع.
وهكذا أدت هذه الثورة الصناعية والتقنية إلى إذابة المؤسسات الاجتماعية الثقافية القائمة وإلى إضعافها وتمزيقها، وهي كما نعلم مؤسسات لها دورها في الحفاظ على استمرار نمو المجتمعات، وفي امتصاص مشاعر العدوان التي يحملها الإنسان، بحكم طبيعته النفسية الأصلية، ضد المجتمع وضد الحضارة.
ولا نغلو إذا قلنا إن تلك الحضارة الصناعية التقنية قد أدت إلى ما يمكن إن نسبه “بالمحو التقني لثقافة المجتمعات”.
لقد فرضت تلك الحضارة، وما وراءها من سيطرة التبادل الاقتصادي، قيماً ذهنية جديدة:
من مثل الفعالية التقنية – وتجمع اليد العاملة – وتحرك السكان واختلاطهم – وضعف السلطة التقليدية بعد أن أصبح مصدر السلطة الكفاءة الفنية لا العمر أو الخبرة.
من هنا فقدت القيم القديمة والتقاليد المورثة طابع القداسة الذي كانت تتصف به، وغدت تقوَّم بمعيار نفعها المباشر وجدواها، دون أي مقياس آخر. ومن هنا حل مبدأ الفعالية والتأثير محل مبدأ السلطة. وههنا تثوى المسألة:
ذلكم أن مبدأ الفعالية والتأثير لا يملك أي قوة تنظيمية وأي قدرة على الإمساك بنظام المجتمع، في حين إن مبدأ السلطة التقليدي – على نواقصه – كان يملك مثل تلك القدرة التنظيمية، وكان على أية حال ممسكاً بزمام النظام الاجتماعي، حافظاً لاستمراره.
ويقول موجز: لقد زال – بتأثير الثورة الصناعية التقنية – نظام من القيم دون أن يحل محله نظام جديد، يقوم بمثل دوره الوظيفي.
ونستطيع أن نقول إن حدثاً هاماً تأتى من ذلك، للمرة الأولى في تاريخ الإنسان، وهو إن غاية المجتمع النهائية لم تعد حماية النظام الاجتماعي من غوائل منازع العدوان البشري – وهي منازع إنسانية أصيلة لها قوامها في تكوينه النفسي كما تشهد دراسات التحليل النفسي خاصة- بل غدت غاية المجتمع الغالبة تثبيت جملة من المبادئ والقواعد الصناعية، بصرف النظر عن نتائجها وآثارها في النظام الاجتماعي.
لقد عصفت بالإرث الثقافي والاجتماعي، نتيجة لذلك كله، رياح الموت، وزالت صورة الأب (ولنستخدم مرة أخرى لغة التحليل النفسي) من مخيلة الشباب وزال منها ما تمثله من قيم المجتمع وإرثه.
وزاد في تعقيد هذه الصورة، أن صاحب ذلك الإرث الاجتماعي الثقافي، نعني المجتمع وسلطته، لم يعمل بدوره على حماية ذلك الإرث ولم يدافع عن القيم التي أخذت الثورة الصناعية التقنية بتحطيمها، بل أسهم إلى حد كبير في الثورة على ذلك الإرث، حين لم يقدم بين يدي حمايته سوى الألفاظ.
فالقيم الإنسانية الحقة التي كان عليه أن يحميها، من مثل قيم الحرية والحق والكرامة الإنسانية وسواها، مرّغها في حمأة الواقع، وأخذ الفراق عنده يشتد بين التلفظ بهذه القيم وبين صورتها الواقعية، وبدأنا نشهد في طول العالم وعرضه إفلاس الكثير من الأيديولوجيات، حين تعاظمت الهوة بين أهدافها وتطبيقاتها.
وبتعبير آخر، أن أبا الشاب نفسه، قد استسلم هو أيضاً إلى حد كبير لتداعي القيم وانهيار المؤسسات الثقافية والاجتماعية، وشعر بعجزه عن السيطرة على العالم الجديد الوليد أمام عينيه، وفقد ثقته بنفسه، وكاد يعتزل مهمته ودوره. ومثل هذا الموقف زاد في فقدان الثقة بين الشاب والأب، أي بين الشاب وقيم المجتمع، بعد أن غدا الأب، أي المجتمع، عاجزاً عن إن يكون السند الحقيقي لمنازع الابن، أي إن يكون صورة للمثل الذي يراه للأنا الأعلى كما يقول أصحاب التحليل النفسي.
ولندع هذا التحليل النفسي جانباً، فقد يقودنا بعيداً، ولنكتف بالقول إن جيل الشباب – في إطار هذا التغيير – غدا جيلاً يرفض الإرث، لا مجرد جيل يبحث عن الإرث فلا يجده. وهذه هي السمة الأساسية لأزمة جيل الشباب اليوم. إنها تجاوزت مشكلة صراع الأجيال كما عرفها الإنسان دوماً، وكما تنطلق من معطيات التحليل النفسي ونظرته إلى عقدة أوديب، لتغدو أزمة جيل. ففي صراع الأجيال التقليدي لا يرفض الشاب إرث المجتمع، بل يرغب على العكس في أن يستأثر به لنفسه من دون أبيه وأن يتعجل الإرث. أما في أزمة جيل الشباب كما نشهدها اليوم، فالشاب يرفض الإرث أصلا، يرفض أن يقلد النموذج الذي يقدمه الأب والكبار والمجتمع، وديدنه ألا يكون مثل هؤلاء.
تلكم هي الأزمة التي خلقتها الحضارة الحديثة لدى جيل الشباب والتي ولدتها خاصة قيم الثورة الصناعية التقنية. إنها أزمة انفصال الجيل الجديد، الجيل الشاب، عن قيم مجتمعه، ورفضه لها أصلا.
وقد لا تكون في الأزمة مخاطر، لو إن المسألة لا تعدو رفض جيل الشباب لقيم تقليدية بالية يؤمن بها جيل الكهول والشيوخ، ولو أن همه وهاجسه توليد قيم إنسانية جديدة. غير إن الأزمة خطيرة إذا أدركنا إنها تحمل خاصة، روح التنكر لكل القيم والتقاليد، دون أن تُحلّ محلها قيماً جديدة أبقى. المسألة إن القيم الإنسانية الحقة، أخذت تتداعى أمام القوة التقنية والتسارع التقني المخيف، وإن الجيل الشاب يرتد، تجاه هذا الواقع الضائع، إلى البحث عن سلوك إنساني سابق على الحضارة، مستمد من نزعة الإنسان النفسية إلى الفردوس الضائع الذي يحمله في كيانه العضوي والنفسي، فردوس العودة إلى الطبيعة، إلى دفء حياته البدائية، إلى رحم الأم الطيبة، كما يقول أيضاً أصحاب التحليل النفسي. وهذا معنى ما نشاهده من حركات الشبيبة الضائعة، كالهيبية وسواها.
إن الشاب الحديث، يرفض أن يتأسى ويتشبه بأب فاشل، أي بمجتمع وقيم بدت عاجزة عن إثبات سلطانها أمام هجمة الصناعة والتقنية، وظهرت وكأنها “مخصية” (اسمحوا لي بهذا التعبير المستقى من التحليل النفسي) أمام الطارق الجديد.
وحين لا يجد في ذلك الأب ما يحتاج إليه من عون وحماية، يؤثر العودة إلى الأم، إلى الطبيعة، إلى حياة الغاب. إنه يفر من قلقه وغمه إلى سلوك تراجعي، يتجلى في طائفة من ضروب السلوك الهارب: كتعاطي الكحول والمخدرات، والاستسلام إلى ألعاب الطفولة، بما في ذلك الألعاب الجنسية الطفلة.
لقد ترك هذا الشاب وشأنه، نهبا لشكوكه وقلقه، لهذا أخذ يحلم في حلول طوبائية، في عالم من السلام والطمأنينة كفردوس عدن، في قطيع إنساني يعيش كالخراف بلا ذئب.
وفي أحوال أخرى، قد يسلك هذا الشاب مسلكا آخر، هو أيضا فرار وهرب وعجز، فيتبنى بعض المنازع الفاشية. والديكتاتورية وينساق إليها لأنها تمنحه طمأنينة زائفة، وتعيد المتكأ الذي يفتقده والسند الذي يعوزه.
تلكم هي أزمة الشباب في مجتمعنا وعصرنا، أطلنا الحديث عنها، لأننا لا نستطيع أن نمضي مطمئنين في الحديث عن دور الشاب إن لم نفهمها ونعرف جذورها الاجتماعية والنفسية العميقة. والمسألة عندنا أولاً وأخراً ليست مسألة مواعظ نقدمها، فالمواعظ لا تجدي، بمقدار ما هي تحليل علمي موضوعي لموقع الشباب في المجتمع ودورهم في بنائه، وبمقدار ما هي توفير الشروط الموضوعية لاضطلاع الشباب بهذا الدور.
والآن، في وسعنا أن نرتد آمنين إلى تحديد العلاج وتعيين دور الشباب والكهول في إطاره.
علاج الأزمة ودور التربية فيها:
بدهية أساسية نقدمها بين يدي هذه المحاولة، وهي أن المخرج من الأزمة التي عرفنا بعض معالمها، لا يكون بسعي الشبيبة وحدهم كما لا يكون بسعي جيل الكبار، جيل الكهول، وحدهم، بل لابد من سعي مشترك وحوار مشترك من أجل تجاوز الأزمة.
جيل الشباب إذا ترك لشأنه ولواقعه ومناهله وحدها، لن يحلم، كما سبق إن قلنا إلا بالحلول الطوبائية أو بالحلول الفاشية الديكتاتورية.
وجيل الكهول إذا انفرد بالعمل لن يكون همه إلا أن يحارب داء جديداً بأدوية وعقاقير تقليدية عفى عليها الزمن، أو أن ييسر، وهذا أسوأ، ولادة الفاشية والديكتاتورية والتكنوقراطية.
والحل الصحيح ينبثق من اللقاء بين الجهدين، ومن الحوار الخصيب بين العمرين.
أما السبيل إلى ذلك عندنا فهو دوماً وأبداً سبيل التربية. فهي وحدها – إن كانت تربية سليمة – قادرة على عقد مثل هذا الحوار وعلى الخروج بالموقف الصحيح.
ولا حاجة إلى القول إن المؤسسات التربوية القائمة، لا تقدم أي عون في هذا المجال، بل هي تزيد ضغثاً على إبالة، وتمعن في انتشار الداء:
فالمؤسسات التربوية في معظم الحالات مؤسسات تقليدية، تساعد على توليد هذه العزلة بين المراهق والشاب وبين المجتمع من حولها، وتلعب دوراً بارزاً في تكوين الأفكار الخيالية والطوبائية لدى الشبيبة، فضلاً عن إنها ما تزال تأخذ بمبدأ السلطة القديمة، السلطة الأبوية التقليدية المفروضة على شبيبة ينكرونها أصلاً وينكرون قيمها.
ونظرة محللة إلى واقع المراهق والشاب في مثل هذه المؤسسات التربوية التقليدية تكفي لإقناعنا بذلك:
فالطالب في المدرسة هو بالتعريف كائن مقطوع الأوصال مفصول عن الحياة، وهو يدرب في مثل هذه المدرسة التقليدية على التعامل مع الأفكار والمجردات والعمليات الهوائية أكثر مما يدرب على التعامل مع الواقع الحي المشخص. وهكذا تقود مثل هذه المدرسة في أحسن الأحوال إلى تكوين عمالقة فكريين سريعي العطب غير إنهم أقزام في فهمهم لمشكلات الإنسان الواقعية.
والطالب في المدرسة التقليدية مفصول عن ذاته، بمعنى أن ثمة هوة كبيرة قائمة بين عمره الحقيقي الذي تصحبه حاجات ورغبات جسدية واجتماعية واقتصادية عديدة، وبين عمره الاجتماعي الذي لا يسمح له بأن يروي تلك الحاجات والرغبات. وتزداد تلك الهوة مع طول عمر الدراسة وتأخر الطالب عن دخول الحياة. وهكذا يفتقد الطالب زمناً طويلاً استقلاله الاقتصادي الذي يلعب دوراً كبيراً في تأخير شعوره بذاته، ويضطر أن يحيا حياة طفل، مهما تقدم به العمر، ويفصل عن ذاته وكيانه النامي قسراً وقهراً.
والطالب في المدرسة التقليدية بعد ذلك مفصول عن ماضيه، معزول عن مجتمع الكبار إلى حد بعيد، يحيا فيما يشبه “الحاضنة الصنعية”، بعيداً عن جذوره حتى العائلية، وبالتالي عن جذوره الثقافية الاجتماعية.
هذه الأنماط الثلاثة من الانفصال، تزداد عمقاً ورسوخاً يوماً بعد يوم، وقد غدت أكثر وضوحاً في السنوات الأخيرة خاصة.
وإذا أضفنا إلى هذه الظاهرة ظاهرة التفجر الطلابي والتزايد الكبير في أعداد الطلاب، أدركنا خطرها بوضوح أكبر، وتبينا المخاطر التي تحملها مثل هذه العزلة الصنعية لآلاف من الطلاب. إنها تجعل من الأجيال الجديدة أجيالاً فاقدة الجذور، بعيدة عن معاناة المشكلات الحية الفعلية القائمة في مجتمعها، مؤهلة للاعتكاف مع أفكار طوبائية خيالية، إلى كل ما يبعدها عن مشكلات الحضارة الصناعية التقنية وإلى كل ما يقربها من حياة الطبيعة، من دفء العودة إلى الأم الطيبة وصورتها وهلوستها المستقرة في الكيان العضوي والنفسي، بحكم الإرث الإنساني القديم.
التربية المرجوة أذن كحل لأزمة جيل الشباب تربية جديدة ذات معالم متباينة.
وأول معالمها أن يتحقق فيها مطلبان:
الأول: أن يكون جوهرها التفاعل الحر الخصيب بين جيلين، جيل الشباب وجيل الكهولة، وأن تكون في بنيتها ومناهجها وطرائقها مجالاً حياً لتحقيق تربية مشتركة، تربية لجيل الشباب ولجيل الكهولة معاً عن طريق التفاعل بينهما. فالتربية القائمة على السلطة، بالمعنى التقليدي للكلمة، بمعنى انفراد جيل الكبار بتربية جيل الصغار، لا يمكن أن تقود إلا إلى دكتاتورية عميقة مرفوضة.
وتعليم الصغار أنفسهم بأنفسهم، رغم جمال هذا الشعار وقيمته، ما يزال إلى حد كبير مطلباً وهمياً يصعب تحقيقه في الواقع رغم تقدم وسائل التعلم الذاتي ونموها.
والموقف السليم أن تنزع التربية، منذ نعومة الأظفار حتى ميعة الصبا، إلى تعويد الطلاب على روح المسؤولية والمشاركة وعلى ممارسة الفكر النقدي والحوار الموضوعي، في منأى عن كلا الزجر الضاغط والتنازل المستسلم.
إن العصر قد تجاوز، كما رأينا، مرحلة السيطرة الأبوية، ولا سبيل لملء هذا الفراغ الذي يتركه غياب الأبوة، إلا سبيل التربية التي يواجهها مجتمع الأطفال والمراهقين والشبان جنباً إلى جنب مع راشدين معلمين تخلوا عن سلطان أبوتهم. ولا بد من بنى وأشكال تربوية جديدة هدفها أن تعلم الطلاب يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة أن يفكروا في حرية وينقدوا ويناقشوا ويتخذوا القرارات، بدلاً من أن تعلمهم الطاعة والخضوع. ومثل هذا المطلب يستلزم تجديداً كاملاً في بنية المدرسة وأساليبها، بدأنا نجد نماذج له في بعض الاتجاهات التربوية الحديثة التي نقع عليها فيما يعرف باسم التربية المؤسسية (Institutional education)، المنبثقة من تعاليم المربي الفرنسي (Freinet) وسواه.
وليس المجال مجال الحديث عن مثل هذه الاتجاهات الحديثة التي تقف عند التفاعل الإنساني والاجتماعي بين مجتمع المدرسة والمجتمع عامة، والتي تستند إلى دراسات محدثة هامة في ديناميات الجماعة، وتحليل نفسي واجتماعي لدور المعلم التقليدي، دور الآمر الحاكم الذي لا معقب لأمره، والتي تنتهي إلى أهمية تغيير هذا الدور بحيث يغدو حواراً وتفاعلاً وعطاء متبادلاً.
والذي يعنينا منها إنها تؤكد مبدأ التفاعل الحر والحوار الخصيب فيما بين الطلاب أنفسهم ثم بين جيل الطلاب وجيل الراشدين، وتعمل بالتالي على تحقيق ذلك المطلب الرئيسي من مطالب التغلب على أزمة جيل الشباب: نعني خلق بيئة شابة كهلة مشتركة تؤدي إلى بناء جيل قادر على أن يولد قيماً جديدة قادرة على الوقوف في وجه القوة التقنية وحدها. ذلك إن التقدم التقني، كما قلنا ونقول، لا يقود إلى التقدم الإنساني على نحو آلي، ولابد بالتالي من جهد إضافي نبذله لنجعل ذلك التقدم في خدمة الإنسان وقيمه. ولا يتم ذلك إلا ذا ولّد جيل الكهول وجيل الشباب، عن طريق سعي مشترك حر، القيم الإنسانية الجديرة بأن تضع التقنية ومبدعاتها في خدمة الإنسان.
والمطلب الثاني: الذي ينبغي أن يتوافر في التربية الجديدة المرجوّة للتغلب على أزمة جيل الشباب، هو أن تكون تربية متصلة بالحياة وبالمجتمع من حولها لكي تعرف الجيل الناشئ على واقع تلك الحياة وهموم ذلك المجتمع الفعلية ولكي تنتقل تفكيره من إطار المجردات إلى إطار المشخص. وهي بذلك تبعد ذلك الجيل عن الهرب إلى حلول طوبائية أو الالتجاء إلى عوالم وهمية، وتجعله أقدر على قبول المجتمع وفهمه من أجل تطويره وتغييره تغييراً علمياً عقلانياً. وأهم صفات مثل هذه التربية السابحة في أجواء الحياة والمجتمع، أن تكون تربية محورها العمل والإنتاج، تقوم الصلة وثيقة بينها وبين دنيا العمل والعمال، وتتحلق حول ممارسة نشاط مهني وعملي فعلي، يحسن أن يتم في مواقع العمل نفسها، أي في المصانع والمزارع والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية ذاتها. ولا حاجة إلى القول إن مثل هذه التربية التي تتخذ العمل ركيزة لها، تستجيب إلى مطالب عديدة هامة، بالإضافة إلى ما تحقق من معالجة واقعية عملية لأزمة الجيل الشاب. على أننا حين نتحدث عن مثل هذه التربية اللازمة لتكوين المواقف النفسية وتوليد القيم القادرة على الوقوف في وجه أزمة جيل الشباب، فلا نعني بذلك التربية النظامية وحدها التي تتم عبر مراحل الدراسية المألوفة، بل نعني أيضاً وخاصة جميع أشكال التربية خارج إطار المدرسة، ونعني بوجه عام ما يصح أن نسميه باسم التربية المستمرة أو الدائمة.
ولا ننسى في هذا الإطار التربية التي تتم عن طريق المدرسة الموازية التي أخذت تمثل دوراً متزايد الشأن، نعني بها ما تقدمه وسائل الأعلام المختلفة من تثقيف وتوجيه لهما في عصر البث الجماعي والتقنيات الإعلامية أكبر أثر وأعمقه.
أزمة الشباب ومجتمعنا العربي:
وبعد، لننظر بعد هذه الجولة الشاملة في واقع مجتمعنا العربي، من خلال هذا التحليل لأزمة الشباب. لا شك إن معالم هذه الأزمة في بلداننا تشبه إلى حد ما معالم تلك الأزمة العالمية التي تحدثنا عنها، سوى إنها تزداد عمقاً وخطراً، إذا ذكرنا إنها تقوم في مجتمع ما يزال متخلفاً، وما يزال بعيداً عن البنى العلمية والتقنية والصناعية التي نشهدها في العالم المتقدم. ومعنى هذا إن مجتمعنا قد يحمل الغرم دون أن يصيب الغنم، وقد يفقد الحسنيين معاً: فلا هو أصاب التقدم التقني والصناعي الذي يدفع ضريبته وفديته، ولا هو حفظ قيمه وتراثه وسلطان مؤسساته التقليدية. إن الآثار السيئة للتقدم التقني والصناعي أخذت تغزوه، بحكم انفتاح العالم بعضه على بعض، وبحكم وحدة التجربة العالمية عامة وتجربة الشباب خاصة، قبل أن يلج في أعماق ذلك التقدم ويجني ثمراته.
ومن الخطأ أن نتوهم أن مشكلات سيطرة التقنية ما تزال بعيدة عنه لأنه ما يزال بعيداً عن هذه التقنية. والحق إن مشكلات عصر التقنية تغزوه بيسر أكبر وتعرضه لمخاطر أوسع. وليس حتماً عليه أن يعيد على حسابه فضائل التقدم التقني ومساوئه على حد سواء. ولعله في وضع ممتاز يمكنه من أن يفيد من التجربة العالمية بهذا الشأن بحيث ينطلق في طريق التقدم العلمي والتقني دون أن يحطم عالم القيم الإنسانية التي لابد منها لجعل ذلك التقدم في خدمة حضارته وحضارة الإنسان.
يضاف إلى هذا إن رياح قيم التسلط التقني بدأت تغزوه كما سبق إن ذكرنا، قبل أن يمارس التجربة، وأخذت تنتقل إليه وهو في مهدها، عن طريق انتقال مكتسبات تلك التجربة التقنية العالمية وعن طريق انتشار آثارها في عالم مفتوح الأبواب سريع العدوى، وبوساطة الوسائل الإعلامية البارعة التي خلقها التقدم التقني، وغزا بها العقول والأفكار واستباحها في كل مصر.
من خلال هذا الموقف تستبين لنا أهداف تربية الشباب في مثل مجتمعنا العربي. إنها، بوجيز العبارة تنطلق من منطلقين لا يكون بدونها تقدم في أي مجتمع من المجتمعات، أولها توفير المهاد العلمي التقني اللازم لتطور المجتمع، والثاني – وهو مكمل له وشرط لازب لوجوده – توليد القيم الاجتماعية الإنسانية التي تقوى على جعل ذلك التطور في خدمة المجتمع وفي خدمة الإنسان فيه. أما توفير المهاد العلمي والتقني في عصر الثورة العلمية والتقنية فمطلب بدهي لا يحتاج إلى دليل.
غير أن الهام عندنا أن يتم جنباً إلى جنب في إطار الشرط الثاني، نعني توليد القيم الاجتماعية الإنسانية التي تمنح للتقدم العلمي والتقني معناه، بل التي تجعله ممكناً في الأصل.
وليس جديداً أن نقول بإعداد الشباب لعصر الثورة العلمية والتقنية، غير أن الجديد فيما نرى أن نؤكد الترابط والتكامل بين هذا الهدف وبين الهدف الآخر وأن نؤكد الصلة الدائرية التي تقوم بينهما. فالتقدم العلمي والتقني لا يمكن أن يأخذ كامل مداه وأبعاده إن لم تعبأ له طاقات الشباب وسواهم في إطار هدف أشمل، تشد من أجله العزائم وتركب الصعاب، نعني هدف بناء حضارة عربية حاملة لقيم إنسانية جديدة. والتقدم العلمي والتقني. أن صح جدلاً أن يترعرع وحده،
لا يبنى حضارة ولا يخلق أمة. وقد رأينا أنه، من دون القيم والأهداف التي توجهه، معروض لأن يقلب ظهر المجن ويؤدي إلى تردي الحضارة وأفولها، أو على أقل تقدير، إلى انتهاك القيم الإنسانية وتحطمها، حين تُستخدم ضد الإنسان بدلاً من أن تُستخدم لأجله.
أن الذي يخلق الأمم والحضارات الأصيلة هو القيم التي يؤمن بها أبناؤها فتتفتح عطاء خصب الجوانب، في العلم والصناعة والاقتصاد والثقافة وسواها….. وشواهد التاريخ العديدة أمثلة صارخة على ما نقول: إنها كلها تبين لنا أن الأمم التي استطاعت أن تنهض نهوضاً سريعاً وتخلق حضارة جديدة، هي التي عرفت أن تجمع بين شرارتي التقدم هاتين: المهاد العلمي التقني من جهة والقيم الفكرية القومية والإنسانية من جهة ثانية. هذا ما جرى في الاتحاد السوفياتي بعد ثورة أكتوبر، وهذا ما حدث في الصين الشعبية، وهذا ما جرى في كوبا، وهذا ما وقع في اليابان منذ القرن التاسع عشر، منذ بداية عصر ميجي (Meiji) عام 1868.
وقد تتضح لنا أهمية الجمع بين قطبي الرحى هذين إن نحن تريثنا بعض الشيء عند نهضة اليابان منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر:
الوثبة الجبارة التي استطاعت اليابان أن تحققها في تلك الآونة ما تزال تُعجز المؤرخين والاقتصاديين، وما تزال موضع تحليل كثير من الباحثين.
وأكثر هؤلاء يشيرون إلى الدور الذي لعبه في تلك الوثبة تعميم التعليم الإلزامي منذ طور مبكر (منذ عام 1836) والعناية بالتعليم عامة وبالتعليم المهني والفني خاصة، والجهود الاستثنائية التي تمت في مجال تصنيع البلاد، عن طريق البعوث الكثيرة التي أرسلت إلى البلاد الأجنبية، والخبراء الأجانب العديدين الذين استقدمتهم اليابان للعمل في الصناعة وسواها. غير أن الباحثين المحققين لا يقنعهم هذا التأويل وحده ولا يقفون عند هذا الدور الذي لعبه نشر التعليم المهني والتقني والاتصال بالنهضة العلمية الصناعية الأوربية، بل يبينون أن الأصل والجوهر في هذا كله أن التربية اليابانية في ذلك الحين لم تعن فقط بإشاعة التعليم وبالتأكيد على التعليم المهني والتقني، بل عينت فوق هذا وقبل هذا بغرس جملة من الأهداف الخلقية والقومية في نفوس الشبيبة، أدت إلى تحريك الإرادة المشتركة عندهم وعبأت قواهم الروحية والفكرية حتى مداها. ولا أدل على ذلك من أن الأمر الملكي الخاص بالتربية والذي صدر عام 1880 وقف بوجه خاص عند الدور الخلقي والقومي للتربية، وأكد شأنها في تكوين المواطن المؤمن بأمته وأهدافها، العامل في سبيل انبعاثها.
ولا أدل على ذلك أيضاً من أن تجربة التصنيع التي انطلقت منذ ذلك الحين، قيض لها حظ كبير من النجاح لسبب أساسي هو أنها تمت في إطار الوحدة القومية، وفي إطار المشاركة بين أرباب العمل والعمال. وهكذا استطاعت اليابان أن تخلق نظاماً اقتصادياً فريداً في نوعه، هو نسيج وحده بين النظم الاقتصادية، لم يقم على صراع بين الطبقات بمقدار ما قام على الوحدة القومية والتعاون المشترك.
مثل هذه القيم التي ولدتها التربية في اليابان وولدها عصر “ميجي” الشهير هي التي التقت مع الجهد الذي بذل من أجل إدخال الصناعة والتقنية، وهي التي أخصيت ذلك الجهد. ومن لقاء الجهدين وتفاعلهما ولدت شرارة التقدم في اليابان، تلك الشرارة التي اشتعلت واشتعلت فجعلت من اليابان دولة في الطليعة بين الدول، ورشحتها لأن تكون في نهاية هذا القرن بين الدول القليلة التي ستبلغ المرحلة التي يسمونها مرحلة “ما بعد الصناعة”.
وما يصدق على اليابان يصدق على جارتها الصين، حيث التقت الإيديولوجية الجديدة مع التراث القومي ومع شعارات الوحدة القومية لينبثق من ذلك كله مجتمع جديد يأخذ بأسباب العلم والصناعة والتقنية. ويصدق ذلك بطبيعة الحال على مثل الاتحاد السوفياتي كما يصدق على العديد من الدول قديمها وحديثها. إن الجامع بينها كلها أنها ربطت بين أهداف التقدم العلمي والصناعي والتقني وبين الأهداف القومية والخلقية والإنسانية. إنها أدركت أن التقدم العلمي والتقني ليس عملاً علمياً بارداً، بل هو وليد قيم يؤمن بها المجتمع ما تلبث حتى تتفاعل معه وتغذيه كما يغذيها، ومن لقائها الخصيب تنبثق دينامية التقدم وحركته الذاتية المستمرة.
ومجتمعنا العربي مدعو إلى تحقيق هذا التفاعل والتكامل بين التقدم العلمي التقني وبين تكوين الأهداف المشتركة والإيمان بها. ولا حاجة إلى القول إن الذي يبعث الحياة ويعبئ القوى والطاقات في المجتمع هو أولاً وأخراً الإيمان بأهداف مشتركة يعمل من أجلها الجميع. ومثل هذا الإيمان بالأهداف القومية المشتركة هو الذي يجعل التقدم في شتى جنبات الحياة ممكناً وهو الذي يمنحه معناه. فالتقدم الاقتصادي أو الصناعي أو الزراعي أو سواه، كما قلنا ونقول، ليس غاية في ذاته، ولا يتخذ معناه ولا يتفتح كاملاً مبدعاً معطاء إلا من خلال تفاعله مع الأهداف المشتركة التي يؤمن بها المجتمع ويجهد لتحقيقها.
من هنا كانت المهمة الأساسية في تلك التربية التي تحدثنا عنها منذ حين، التربية المشتركة بين الشباب والكهول، توليد مثل هذه الأهداف المشتركة وربط التقدم العلمي والتقني بقيم قومية وإنسانية يؤمن بها الجميع نتيجة ذلك الحوار المتبادل، ويدأبون لتحقيقها. وعندما تتولد تلك الأهداف، من قلب تلك التربية المشتركة القائمة على التفاعل والنقاش الحر، يتجاوز جيل الشباب أزمته، ويتخلى جيل الكهول عن تخليه، وتعمل الأجيال في حركة متناغمة متسقة.
وما لنا نشرق ونغرب باحثين عن الأدلة على عمق الصلة بن التقدم العلمي والتقني وبين توليد القيم والأهداف المشتركة. ألسنا نجد في حضارتنا العربية الإسلامية خير مثال ودليل؟ أو ننسى أن الحضارة العربية الإسلامية كانت أولاً وقبل كل شيء وليدة قيم روحية وإنسانية آمن بها العرب وأذاعوها بين الشعوب الأخرى، وإن هذه القيم والأهداف الجديدة هي التي احتضنت في قلبها التجربة الثقافية العلمية التي ازدهرت وتفتحت في العصر العباسي خاصة؟ وهل ننسى إن القيم الروحية التي أشاعها الإسلام هي التي حملت وأتأمت فأنتجت المنازع العلمية التجريبية التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية. هل ننسى أن حضارة الروح هي التي ولدت وخلقت حضارة المادة، وأن المنازع الفكرية والإنسانية في المجتمع العربي الإسلامي هي التي تزاوجت مع المنازع العلمية التجريبية؟ أو ليست المعجزة العربية كما يقول “فانتيجو Ventéjou ” وسواه هي تلك المعجزة التي أطلقت شرارة البحث العلمي التجريبي في العالم كله، تلك الشرارة التي تلقفها الغرب منذ أيام “بيكون” وسواه فكانت منطلق الاتجاه التجريبي الحديث ومنطلق الحضارة العلمية الصناعية الحديثة.
واليوم، عندما يقبل العرب على ثروات التقدم العلمي والتقني، فإنما هم في الواقع يستردون بضاعتهم. غير أنهم لن يستردوها حقاً إذا لم يوحدوا بين الجهد الذي يبذلونه من أجل نشر العلم الحديث والتقنية الحديثة وبين الجهد الذي عليهم أن يبذلوه من أجل توليد الإطار الأشمل والأكمل، إطار القيم والأهداف القومية المشتركة التي تحتضن في بوتقتها كل جهد آخر، وتمنح له معناه وتفتق كامل قواه وإمكاناته.
المسألة كما قلنا ونقول مسألة صلة دائرية، مسألة تأثر وتأثير متبادلين، مسألة تفاعل وتكامل، بين قطبي التقدم، قطب التقدم العلمي والتقني وقطب الإيمان بقيم وأهداف مشتركة. هذا التفاعل والتكامل هو المهمة التي ينبغي أن تضطلع بها التربية، إذا هي أرادت أن تعد الشباب لدورهم في بناء المجتمع العربي الجديد.
أما وسائل هذا التفاعل والتكامل فبحث يطول وحسبنا أن نقول مرة أخرى إن أهم شروط هذا المطلب أن يولد من حوار مشترك بين جيل الشباب وجيل الكهول، وإن هدفه في النهاية أن يمكن الشباب من أن يلعبوا دورهم المنتج في بناء مجتمعهم، وأن يخرجهم من أزمة الانسحاق أمام مشكلات العصر وقيم القوة التقنية، وإن يوجه حيويتهم وتعلقهم بالمثل العليا شطر القيم الجديدة القادرة على أن تجابه الهدم والتخريب اللذين تشيعهما القوة التقنية وحدها.
وأما القيم والأهداف القومية المشتركة الجديدة، التي ينبغي أن تكون ضالة تربية الشباب، فالبحث فيها أيضاً يلتهم الصفحات والساعات. غير أن الذي يعنينا أن نقوله بصددها إنها تحمل قيمتها وشأنها من شيء وحيد، هو أن تولد في نفوس الشباب والكهول نتيجة حوار وتفاعل حر. إن قيما كقيم الوحدة والحرية والاشتراكية، قيم معبرة دون شك عن طبيعة الواقع العربي متجاوبة مع حاجاته. غير إن إلهام أن تكون قيما حية في النفوس، فعالة فيها محركة لقواها الذاتية. ولا يتم ذلك إلا إذا فتح معانيها ومضامينها ووسائلها حوار مشترك وتفاعل خصب.
إن الشباب خاصة، لا يصبحون قوة محركة لهذه الأهداف مجددة لها، إلا إذا شعروا إنهم خالقوها ومولدوها، وإلا إذا غدت لديهم قيماً ذاتية داخلية، يشعرون بأنهم أسيادها لا عبيدها، ويمتلكونها نتيجة لمعاناة وتجربة فيها كل معاني الحرية والسيادة.
وهدف التربية أولاً وأخراً أن تجعل المرء سيد أفكاره ومولد ما يؤمن به، وليس هدفها أن تقدم له قوالب جاهزة وأفكارا معلبة وقيما محفوظة.
وإذا كانت قيمة الأهداف تقاس بمقدار ما تخلقه لدى المؤمنين بها من قدرة على تجاوز المجتمع والارتقاء فوق تجربته من أجل تحديد تلك التجربة، فسبيل ذلك دون شك هو أن يعيش المؤمنون أهدافهم وينضجوها ويحملوها حملهم لقيم إنسانية آمنوا بأنها وحدها جديرة بأن تمنح لحياتهم معنى ولفرديتهم قيمة.
خاتمة:
خطة كاملة وبرنامج عقلاني علمي شامل، ذلكم إذن ما يحتاج إليه مجتمعنا العربي إذا هو أراد أن يكون للشباب دورهم في بنائه وتطويره. دور الشباب في بناء المجتمع العربي لن يأتي سهوا رهوا، ولن يكون فيضاً عفوياً كالفيض الأفلاطوني، ولن يهبط كالمعجزة. من خلال تحليل أزمة الشباب وتحديد عوامل تجاوزها، نستطيع أن نجعله الدور المرجو، ونحيله طاقة جبارة. ترْكه وشأنه، يعني التفريط بأكبر احتياطي من طاقات الأمة، وتعريضه لأن يكون أداة هدم وتخريب. ودراسته العلمية وتنظيمه العقلاني هما القادران على تعبئة جديرة بالمرحلة القاسية التي يمر بها مجتمعنا، قادرة على مواجهة التحديات الصهيونية وما وراءها، قمينة بأن تولد الفجر العربي المنشود.