أهمية التخطيط التربوي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية

المقدمة:
أخواتي وأخواني إنها لسعادة لي حقاً أن ألتقي بهذه الصفوة المختارة من قادة التربية في العراق وأشكر وزارة التربية والتعليم على هذه الفرصة التي وفرتها لي وأشكر مديرية التدريب فيها على هذا الجهد الذي بذلته في سبيل نجاح هذه الدورة الثمينة.
قد يبدو أن الموضوع الذي نريد أن نتحدث عنه هذا المساء موضوعاً معاداً ومكروراً ولعل أكثر الدول العربية وأكثر الدول في العالم قد جاوزت في أيامنا هذه مرحلة الحديث عن علاقة التنمية التربوية بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية أو علاقة التخطيط التربوي بالتخطيط الاقتصادي والاجتماعي وانتقلت إلى مرحلة لعلها أكثر تحديداً وهي التساؤل عن الوسائل والأساليب المشخصة والعملية التي تجعلنا في نهاية الأمر نحقق هذا التكامل والترابط بين جانبي التنمية الأساسيين نعني التنمية التربوية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية ولكنها ذكرى وقد نتخذها مناسبة للحديث في الوقت نفسه عن الوسائل الكفيلة لتحقيق هذا الربط بين قطبي التنمية الكبيرين قطب التربية من جهة وقطب الاقتصاد والتنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى. وفي حديثنا عن التنمية التربوية، وعن التخطيط التربوي وصلته بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لابد – مما ليس منه بد – لابد من بعض التعريفات التي قد تنير الدرب وتجعلنا نسير ببحثنا على هدى وبصيرة. وإذا تساءلنا بيننا وبين أنفسنا ما هو هذا التخطيط الذي ذاع عنه الحديث وشاع في هذه السنوات الأخيرة وماذا يعني التخطيط أخيراً أياً كان ميدانه اقتصادياً، أو تربوياً، أو اجتماعياً إذا تساءلنا فيما بيننا هذا السؤال وطرحنا على أنفسنا هذا السؤال نستطيع باديء ذي بداءة أن نجد جواباً أقول سلفاً أنه شكلي وصوري أنه الهيكل الفارغ من المحتوى، الهيكل الفارغ من اللحم والدم، ولكنه على أي حال يساعدنا على أن نخطو خطوة في طريقنا نحو فهم معنى التخطيط هذا التعريف الشكلي الصوري الهيكلي ألخصه في هذه العبارة التالية:
التخطيط:
“مجموعة من الوسائل نتخذها لنفاذ هدفاً معيناً”، وهذا التخطيط كما أقول صوري ولكنه مفيد، لأنه يبين أولاً أننا في التخطيط أمام عنصر أول لابد منه نعني وجود هدف نسعى إلى بلوغه أياً كان الهدف وأياً كان ميدان هذا الهدف ففي سفرنا من بلدة إلى بلدة لابد أن نضع لأنفسنا هدفاً وهو هدف الوصول إلى البلدة التي نقصدها وفي كتابتنا لكتاب لابد أن نضع لأنفسنا هدفاً معيناً وهو إنجاز موضوعات معينة وفي الذهاب من بيتنا إلى مقر عملنا لابد أن نضع لأنفسنا هدفاً هذا إذا اقتصرنا على هذه الميادين البسيطة ولم ننتقل إلى الميادين المتصلة بالاقتصاد والحياة الاجتماعية والحياة الثقافية وسائر جنبات الحياة، فهناك هدف لابد من بلوغه. فالتخطيط إذاً يعني أن نرسم أهدافاً معينة أن نضع أمامنا أهدافاً معينة نبتغي الوصول إليها، أن ندرك سلفاً وبشكل مسبق ما هو محط رحالنا إلى أين نسير في أي ميدان قصدنا وما هو المصير. إذن يفترض أن نعرف سلفاً نقاط الوصول وأن نعرف سلفاً إلى أين ستحط بنا الرحال هذا مفهوم أول لابد منه في التخطيط. والعنصر الثاني نكتشفه في هذا التعريف هو وجود وسائل نتوصل بها لبلوغ ذلك الهدف فليس كافياً في التخطيط طبعاً أن نرسم لأنفسنا أهدافاً نريد الوصول إليها ولا يكفي أن نرسم أهدافاً عريضة وأهدافاً أحياناً مغالية وأن نبني قصوراً في أسبانيا كما يقولون ليس المهم أن نرسم أهدافاً أياً كانت قدرتنا على تحقيق تلك الأهداف بل أهم من هذا أن نبين أن هذه الأهداف ممكنة وأن نبين أن وسائلنا لبلوغ تلك الأهداف قائمة وموجودة ومحددة فالتخطيط إذن لا يكتمل إلا بهذا العنصر الثاني وهو أن نتبين الوسائل وأن نتبين أساليب التنفيذ، إذن التخطيط في هيكله الشكلي في العناصر الشكلية يمتد في نهاية الأمر إلى أن ندرك أهدافنا ونقبض على ناصية سلوكنا المقبل بأن نحدد، بالتالي النقطة التي نريد أن نصل إليها في ميدان من الميادين ثم نرسم لهذا الهدف الذي اتخذناه رائدنا وأن نرسم له الوسائل التي تؤدي إلى بلوغه.
إذا أردت أن أجاوز التعريف الشكلي كما قلت: الفارغ من الحياة والفارغ من اللحم والدم إلى تعريف وظيفي يبين طبيعة العملية ووظيفتها الفعلية ومميزاتها إذا ما قسناها بعدم التخطيط استطعت أن أقول أن التخطيط في أي ميدان كان يعني رسم السياسات المقبلة في شتى ميادين الحياة، رسم السياسات المقبلة في إطار الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة” بمعنى أننا إذا كنا مثلاً في ميدان التربية فالتخطيط يعني: أن نرسم سياستنا التربوية المقبلة أن نحدد الأهداف التي نريد أن نبلغها في ميادين التعليم المختلفة خلال سنوات مقبلة، ما هي الأعداد التي نريد أن يستوعبها التعليم الابتدائي مثلاً في السنوات المقبلة؟ وما هي نسبة تعليم الذكور إلى تعليم الإناث؟ وما هو مقدار التوسع في الأبنية المدرسية في السنوات المقبلة؟ إلى آخر ما هنالك من مشكلات ترسم هذه السياسات. ونحدد إذن أهدافنا المقبلة في هذه المجالات ولكن كما قلت في إطار الاستخدام الأمثل للموارد والإمكانات المتاحة لدينا عادة لبلوغ أهداف معينة مجموعة من الإمكانات مجموعة من الموارد البشرية والمادية لدينا في ميدان التربية، فالطلاب والمعلمون والإداريون بوصفهم موارد بشرية، ولدينا الأبنية المدرسية وأعداد الصفوف والإمكانات المالية والكتب والوسائل التعليمية بوصفها موارد مادية، وهذه الموارد البشرية التي بين أيدينا وهذه الموارد المادية التي بين أيدينا والتي نريد أن نتخذها سبيلنا للوصول إلى الأهداف التي رسمناها في ميدان التربية يفترض أن نستخدمها أمثل استخدام ممكن كما يقال اليوم مراراً وتكراراً، ليس المهم أن نستخدمها فحسب أياً كان الاستخدام بل الأهم من هذا أن نستخدمها أحسن استخدام ممكن وأمثل استخدام ممكن وأعني بأمثل استخدام ممكن وأحسن استخدام ممكن أن نصل بها إلى أقصى مردود ممكن من الوجهة الكمية والنوعية والكيفية بأقل الجهود الممكنة وبأقل النفقات الممكنة، ولا يكفي أن أقول بأنني أريد أن أعمم التعليم الإلزامي خلال عدد من السنوات مستخدماً الموارد البشرية التي بين يدي ولكن علي أن أبحث كيف أستطيع أن أجند هذه الموارد المختلفة التي بين يدي بحيث أستطيع أولاً أن أحقق تعميم التعليم الإلزامي في أقصر مدة ممكنة بأقل الجهود الممكنة وبأقل الموارد الممكنة إذا كنت أستطيع أن أحقق التعليم الإلزامي بموارد معينة وباستخدام أمثل لهذه الموارد خلال عشر سنوات فلا يجوز طبعاً أن أقع في ضياع وهدر وأن أقول بتحقيق هذا التعليم خلال خمسة عشر يوماً وإذا كنت أستطيع أن أحقق هذا الهدف بعشرة آلاف معلم فلا يجوز أن أقع في هدر وأقول بأنني أحتاج لتحقيقه أو أن أحققه بعشرين ألف معلم وإذا كنت أستطيع أن أحقق هذا الهدف بإمكانات مالية معينة فلا يجوز أن أحققه بإمكانات مالية أكبر إذن علي أن أبحث بحثاً جدياً عميقاً في أحسن وسيلة أستخدم بها هذه الموارد المتاحة بين يدي بحيث تعطي أكبر مردود ممكن بأقل النفقات الممكنة وبأقل الجهود الممكنة وبأقل ضياع ممكن بتعبير آخر التخطيط يريد أن يجنبنا الهدر والضياع في مختلف أشكاله يريد أن يجنبنا الهدر والضياع في العملية التعليمية عن طريق اختبار أحسن الوسائل وأحسن السبل التي تؤدي إلى أحسن تعليم بأقل الجهود ويريد أن يجنبنا الهدر والضياع في الإنفاق على الأبنية وسواها عن طريق تقديم أقل الإمكانات في هذا المجال لبلوغ أحسن الأهداف.
وهذا تعريف آخر وظيفي يبين طبيعة التخطيط، ويبين أهدافه الحقيقية، ومعناه الحقيقي، ويبين بشكل خاص لماذا نختاره وتختاره الدول طريقاً من دون الأسلوب العفوي والارتجالي نحن في جميع الدول ومهما كانت إمكانات الدولة كبيرة ومهما كانت الدولة ثرية وغنية في حاجة إلى أن نتجنب الهدر والضياع في حاجة إلى أن نستخدم كل قطرة من الجهد وكل قطرة من مال وكل قطرة من جهد بشري في طريقها وفي سبيلها بحيث نتجنب كل ضياع فيها وكل هدر.
التخطيط ينبغي أن يكون هدفه الأول أن يبلغنا هذا القصد إذا لم يبلغنا هذا القصد كان تخطيطاً مقصراً عن مداه، لا يكفي أن نقول أن التخطيط هو النظرة إلى المستقبل والتنبؤ بالمستقبل وهو رسم صورة للمستقبل لابد أن نضيف هذا العنصر الأساسي وهو أن نرسم صورة للمستقبل وأن نضع أهداف المستقبل من خلال أسلوبٍ يمكننا أن نصل إلى أكبر نتاج ممكن، بأقل جهد ممكن، وبأقل الإمكانات المادية والمالية والبشرية الممكنة، وهذه تعريفات أولية كما قلت لابد منها.
أهمية التخطيط:
أنتقل بعدها ومن خلالها إلى بيان أهمية التخطيط أهمية التخطيط عامة وأهمية التخطيط التربوي بالنسبة إلى التربية أولاً ثم بالنسبة إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية ثانياً وهو موضوع حديثنا.
لابد في البداية أن أقول كلمة عن أهمية التخطيط بوجه عام وسأحاول فيها أن أقتصر على ما هو أساسي. ليس جديداً أن نقول: بأن عصرنا هو عصر التخطيط والتنظيم وبأن السياسة التي ينبغي أن ترسم في شتى مجالات الحياة ينبغي أن تكون سياسة يحدها عنصر المستقبل وبعد المستقبل أولاً وقبل كل شيء بالإضافة إلى بعد الحاضر وبعد الماضي لم يعد من الجائز في أيامنا هذه في عصر العلم وفي عصر التقدم السريع وفي عصر التغير السريع في حياتنا لم يعد من الجائز أن نبني خططنا وسياسة الابتناء في شتى الميادين على أساس معرفتنا الماضية وعلى أساس تجربتنا الماضية وعلى أساس الوضع الحاضر لابد إذا أردنا فعلاً أن نبني سياسات معينة سليمة في عصرنا هذا أن نطل على صورة المستقبل، أن نعرف ماذا يخبئه المستقبل لنا، أن ننظر كما يُقال اليوم نظرة مستقبلية. إذا أردت أن أرسم خطة للتعليم الابتدائي لا يكفي أن أنظر أصلاً وبشكل خاص إلى ما سيكون عليه العالم بعد عشر سنوات أو بعد عشرين سنة وما ستكون عليه الدول المختلفة بهذا المجال وأن أبني سياستي على ضوء هذا التصور لمستوى التطور الذي سيبلغه التقدم العالمي في هذا المجال عليَّ أيضاً أن أبني سياستي في التعليم الابتدائي على أساس ما سيستجد من طرائق جديدة ومن وسائل جديدة في ميدان التدريس والتعليم قد تغير تغيراً أساسياً من الأعداد التي يمكن أن أقبلها في التعليم عليَّ أن أبني سياستي التعليمية في توسيع التعليم الابتدائي على إدراكي للدور الجديد الذي يمكن أن يأخذه التعليم في السنوات العشر المقبلة أو في السنوات العشرين المقبلة فتقديرنا إذن للسياسات ينبغي أن يستند إلى عنصرين متكاملين أولهما الوضع الراهن والوضع الماضي. وثانيهما الوضع المقبل ورؤيته ومحاولة تبين أبعاد حياتنا في فترة مقبلة ولا أريد أن أتحدث عن أهمية هذا الجانب اليوم، وهذه النظرة المستقبلية بالنسبة إلى شتى جوانب حياتنا وأوجز فأقول بأن هناك اليوم نوعاً من العلم الخاص يعرف أحياناً باسم التحسب (Prospective) هدفه أن يطلعنا على صورة العالم وصورة الحياة في مجتمع من المجتمعات في شتى الجوانب بعد فترة زمنية طويلة بعد عشرين عاماً أو بعد ثلاثين عاماً أو بعد أربعين عاماً لا لمجرد إطلاعنا على هذه الصورة ولكن لأن معرفتنا لما سيكون عليه العالم بعد عشرين عاماً أو ثلاثين عاماً، ومعرفتنا بما ستكون عليه الوسائل المختلفة التكنولوجية والعلمية والأدوات التي نستخدمها من شأنها أن تبصرنا بسياستنا اليوم ويجعلنا أن نتخذ قراراتنا على ضوء هذا المستقبل. إذا أردنا مثلاً أن نخطط لمدينة ولشوارع مدينة في أيامنا هذه لاشك أن من الواجب لتخطيطنا هذا أن نعرف ماذا يمكن أن تكون عليه الحياة في مدينة من المدن بعد خمسين عاماً لا بعد خمسة أعوام أو عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً وما هي التغيرات الجذرية التي ستقع على حياة المدن وعلى أشكال الأبنية وعلى الشوارع وعلى الانتقال بالسيارات وسواها بعد خمسين عاماً وما هي وسائل النقل الجديدة التي يمكن أن تولد الخ… وكلما استطعنا أن نطل إطلالة أبعد إلى الأمام كلما استطاعت سياساتنا الحاضرة أن تكون سياسات حصينة، حتى إذا أردنا أن نبني مدرج مثل هذا المدرج لاشك أن بناءنا لهذا المدرج لا ينبغي أن يكون على أساس الأعداد التي نعرفها حالياً والتي يمكن أن يضمها هذا المدرج ولا على أساس الأعداد الماضية التي عرفناها لابد أيضاً من أن نطل بأعيننا إلى سنوات بعيدة إلى ماذا يمكن أن تكون حاجات مثل هذا المدرج بعد عشرين أو ثلاثين عاماً مثلاًَ والتغيرات التي يمكن أن نحتاج إليها والتغيرات الجذرية التي ينبغي أن يحدث في هندسة المدرج في بنائه وفي اتساعه وغير ذلك ليستوعب الحاجات المقبلة لا الحاجات الحاضرة وهكذا أقول بإيجاز: بأن شعار اليوم هو أن نبني الحاضر على ضوء المستقبل لا أن نبني الحاضر على ضوء الماضي وحده، أن نطل على المستقبل بل وأن نعرف ماذا ينتظرنا وما هو مخبأ لنا في هذا المستقبل الذي لم يعد مجهولاً لنستطيع أن نبني سياسة وأضيف فأقول تعليقاً على هذه الإشارة التي وردت في حديثي وهي أن هذا المستقبل لم يعد مجهولاً، وبأن هنالك دراسات قائمة على أسس علمية حديثة يطلق عليها أحياناً اسم “التنبئ التكنولوجي” تعرض لنا الأشكال التي ستكون عليها حياتنا في المستقبل في شتى جوانبها كل هذا لأقول شيء وحيدا وهو ان التخطيط إذن بمعنى النظرة إلى الأمور من خلال المستقبل لا من خلال الحاضر ورسم السياسة الحاضرة على أساس معرفتنا بالمستقبل وتنبؤنا بما سيكون عليه المستقبل هو روح العصر الحديث وروح الحياة الحديثة ولا نستطيع أن ندخل العصر إلا إذا عرفنا هذا المنطلق أيضاً. التخطيط مهم لأننا لسنا فقط في عصر بناء الحاضر وبناء سياسة الحاضر على أساس المستقبل ولكن لأننا أيضاً في عصر التنظيم وفي عصر رسم السبل التنفيذية لتحقيق أهدافنا مشكلة العصر وأهم ما يميز التقدم العصري لا أن نحدد الأهداف فقط طبعاً وتحديد الأهداف شيء كبير وشيء هام ولكن أن نرسم وسائل التنفيذ، أن نتبين السبل المختلفة التي تؤدي إلى تنفيذ الأهداف أن نتخذ بعد ذلك قرارات عقلانية كما يقال من شأنها أن تجعلنا نمضي إلى تحقيق الأهداف بشكل علمي ومنظم. يتحدثون اليوم حديثاً كثيراً عن عقلنة القرارات أي عن اتخاذ قرارات عقلانية من أجل التنفيذ، (أي وضع الهدف ودراسة أساليب الوصول إلى الهدف) فمثلاً تعميم التعليم الإلزامي الهدف الذي نضعه نصب أعيننا لابد أن نضع له دراسة تنظيمية هدفها أن تبين ما هي سبل الوصول إلى هذا الهدف وما هي السبل المختلفة التي تؤدي إلى الوصول إلى هذا الهدف وما هي تكاليف كل سبيل من هذه السبل من الناحية المادية ومن الناحية البشرية، هنالك عدة احتمالات، هنالك عدة طرق، يمكن أن تؤدي بنا إلى أن نصل إلى تعميم التعليم الابتدائي وكل طريق له ما له وما عليه كل طريق له مستلزماته المادية ومستلزماته البشرية المختلفة عن الطريق الآخر كل طريق له توقيته الزمني المعين كل طريق له أساليبه التعليمية المعينة. المهم بعد أن اتخذ قراراً حول تعميم التعليم الابتدائي أن أضع أمام المنفذ مجموعة من الاحتمالات لسبل التنفيذ، أبين له أنه أمام عدة سبل أستطيع أن أنفذ من خلالها للوصول إلى الغاية وأن أجعله بعد ذلك يختار السبيل الأسلم اختياراً عقلانياً كما يقال يعني أن يختار أفضل سبيل ممكن يعني أن يختار السبيل الذي يؤدي إلى الوصول إلى الغاية بأقل جهود ممكنة وبأقل النفقات الممكنة. هذا الأسلوب في عقلنة القرارات باتخاذ القرارات العقلانية على ضوء دراستها دراسة مسبقة ومنظمة وبالتالي التنفيذ على ضوء عقلنة القرارات. هذا الأسلوب هو الأسلوب الذي شاع اليوم في شتى جنبات الحياة وهو الذي نشهده وراء ظاهرة مثلاً الوصول إلى القمر أو أي ظاهرة أخرى بدون عقلنة للقرارات يعني دراسة وسائل تنفيذ هذا الهدف هو الوصول إلى القمر بكل دقائق المراحل والخطوات الزمنية والعملية اللازمة لذلك ودون وضع الاحتمالات العديدة التي يمكن أن نصل بها إلى هذا الهدف واختيار أحسن الاحتمالات وأقلها مخاطر وأقربها إلى أن يكون ممكناً لا نستطيع أن نحقق مثل هذا الهدف ولما كان بوسع الإنسانية أن تحقق مثل هذه الأهداف وفعلاً يحدثنا الباحثون عن أن الحل الذي اتخذ للوصول إلى القمر كان واحداً من أكثر من مئة احتمال من مئة سبيل أخرى طرحت أمام المسؤولين عن اتخاذ القرار ليختاروا من بينها أحسن حل ممكن، هذا أيضاً أذكره للتأكيد على أن عصرنا هذا هو عصر التنظيم وأن عصرنا هو عصر التخطيط وبأننا لا نستطيع فعلاً أن ندخل العصر وأن ندخل الحياة الحديثة وأن ندخل التحديث كما يُقال إلا إذا أدركنا أهمية هذين العنصرين في حياتنا عنصر التخطيط من جهة رسم السياسة الحاضرة على ضوء المستقبل ثم عنصر التنظيم أي معرفة الوسائل المختلفة التي نصل بها إلى الهدف معرفة عقلانية عن طريق دراسة الاحتمالات الممكنة التي يمكن أن توصلنا إلى الهدف واختيار الاحتمال الأفضل. أنتقل بعد هذا لأهمية التخطيط التربوي بعد أن تحدثت عن أهمية التخطيط بوجه عام.
أهمية التخطيط التربوي:
أهمية التخطيط التربوي يبدو لنا في أمرين:
1- أهمية التخطيط التربوي بالقياس إلى التربية نفسها.
2- أهمية التخطيط التربوي بالقياس إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
أما أهمية التخطيط التربوي بالنسبة للتربية:
فجملة ما أريد أن أقوله بسرعة وما يستبين لنا جميعاً للنظرة الأولى أن التربية كل متكامل وإن مشكلاتها متكاملة، وينبغي أن تكون حلولها متكاملة، لا نستطيع في مجال التربية أن نقدم حلاً لمشكلة تزايد الطلاب إذا لم نقدم في الوقت نفسه حلاً لمشكلة نقص المعلمين ولا نستطيع أن حل مشكلة الطلاب ومشكلة المعلمين إلا إذا أقدمنا في الوقت نفسه حلاً لمشكلة الأبنية ولا نستطيع أن نقدم حلاً لمشكلة الأبنية إلا إذا نظرنا أيضاً في المناهج الدراسية وفي وسائل التعليم وسواها لا نستطيع أن نحل مشكلات التعليم الابتدائي إلا إذا نظرنا في مشكلات التعليم المتوسط وفي مشكلات التعليم الثانوي وفي مشكلات التعليم العالي وهكذا تبدى لنا أن التربية كل متأخذ متكامل متعانق من جميع أطرافه بحيث لا يجوز لنا بحال من الأحوال أن نبحث في المشكلات التربوية بحثاً جزئياً متيسراً لا يجوز أن نحل مشكلة التعليم المهني لوحده أو نحل مشكلة إعداد المعلمين لوحدها من دون صويحباتها من المشكلات التربوية الأخرى لابد من نظرة كاملة متكاملة تعطي الحلول المنسقة والمنسجمة فيما بينها حول هذه المشكلات جميعاً هذه النظرة المتكاملة المتأخذة التي تنظر إلى المشكلات.
أقول أن هذه النظرة الشاملة المتكاملة لمشكلات التربية وللحلول التي ينبغي أن تقدم لها هي صلب عملية التخطيط التربوي، وهي أهم ما يقدم التخطيط التربوي فهو ينظر إلى المشكلات في نظام متكامل ينظر إليها في ترابطها وفي تأثرها وتأثيرها بعضها على بعض ولا ينظر إليها مجزأة منفصلة وطبيعة المشكلات التربوية وطبيعة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية بوجه عام أنها فعلاً متأخذة، فالنظرة المتكاملة المتأخذة هي التي تعوزنا في الواقع بشتى جنبات حياتنا سواء في التربية أو سواها عندما نتيه في ميدان البحث عن مشكلات حياتنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسة عندما نتحدث عن العديد من المشكلات فهنا مشكلة الزراعة وهناك مشكلة في الصناعة وهناك مشكلة في الشؤون الحربية وغيرها وهنا مشكلة ثقافية وهنالك مشكلة اجتماعية عندما نتيه في هذه المتاهة الكبرى علينا أن ندرك دوماً أن المسألة كلها أن ندرك كيف تترابط هذه الأمور وكيف نقدم حلاً يبين دور كل واحد منها بالقياس إلى الآخر فليس هناك حلاً أمثل لمشكلة برأسها وحدها ولكن هناك حلاً أمثل يحقق التوازن بين المشكلات ويحقق التعادل بين المشكلات ويحقق الترابط بين المشكلات عملنا للتنمية الاقتصادية أو للتنمية الاجتماعية أو عملنا للمعركة الحربية ضد العدو أو أي عمل أخر ينبغي أن ينطلق منه هذه النظرة وهي أن الجهود المنثورة الجهود المقطوعة عن أترابها جهود لا تجدي بالشكل المطلوب وأن المسألة هي أن نعرف كيف تتآزر الجهود وكيف يلتقي في صورة كلية وفي نظرة شاملة وفي رؤيا عامة للتخطيط والتخطيط التربوي بشكل خاص، بالنسبة للتربية ذات المشكلات المتكاملة والحلول المتكاملة هو الذي يقدم لنا مفتاح هذا الحل ويبين لنا بالتالي كيف نحلل كل عملية إلى عناصرها ومقوماتها الأصلية وكيف ترسم بالتالي سياسة تتآخذ فيها هذه العناصر والمقومات ويلعب كل واحد منها دوره بالقياس إلى الآخر ويستبين بها دور كل واحد بالقياس إلى الآخر أن نبني جسماً متلاحماً يشتكي كلاً إذا اشتكى عضو منه وهو أخيراً الهدف في عملية التخطيط وفي عملية التنمية سواء أكانت تربوية أو اقتصادية كذلك أذكر عابراً ما دمت أتحدث عن أهمية التخطيط التربوي للتربية كيف يحقق التخطيط التربوي بطبيعة الحال ما دام هذا هو شأنه ما دامت النظرة المتكاملة شعاره كيف يحقق القضاء على فقدان جوانب التوازن التي نجدها في جميع أجزاء حياتنا التربوية. إذا نظرنا إلى جسم حياتنا التربوية وجسم التربية في بلادنا العربية في في مختلف الأقطار وجدنا حقيقة لا مجال إلى المرار فيها، وهي أننا دون شك أمام توسع في العملية التربوية وإلى تقدم في الجهود التي تبذل في التعليم في السنوات العشرين وفي السنوات العشر الأخيرة بشكل خاص ولكن هذا التوسع لم يكن توسعاً متوازناً ولم يكن توسعاً سوياً فقد نشهد توسعاً في التعليم الابتدائي يفوق التوسع في التعليم المهني وقد تشهد مثلاً توسعاً في التعليم الابتدائي يفوق التوسع في التعليم الثانوي وقد نشهد توسعاً في تعليم الكبار على حساب تعليم الصغار وقد نشهد توسعاً في تعليم الذكور على حساب تعليم الإناث وقد نشهد توسعاً في الخدمات التعليمية في بعض المحافظات على حساب محافظات أخرى وقد نرى توسع في التعليم بالمدينة على حساب التعليم بالريف وقد نرى فوق هذا وذاك توسعاً في أعداد الطلاب وأعداد المعلمين على المستوى الكيفي والمستوى النوعي في التعليم نشهد هذا كله وتشهد ضروب فقدان التوازن هذه جميعها فنحن في جسم التربية إذن أمام جسم مشوه لا تنمو أعضاؤه نمواً طبيعياً قد نكون أمام كائن له هامة ضخمة وله جسم نحيل. التعليم العالي إذا اعتبرناه الهامة قد تكون الهامة ضخمة جداً والجسم الذي يحملها نحيلاً وهزيلاً بحيث لا يستفاد من هذه الهامة وقد تكون أمام توسع في الأطراف على حساب توسع الجذع أو أي شكل من أشكال التشويه نحن أمام جسم مشوه لا أمام كائن سوي تتفتح قسماته ومعالمه المختلفة تفتح بشر سوي هذه حقيقة لا مجال إلى نكرانها وهذا التوسع سار في الواقع عفو الخاطر لم نرده كذلك لم نرد أن نتوسع في التعليم العالي عن قصد أو نتوسع من التعليم الثانوي مثلاً ولم نرد عن قصد أن نتوسع في التعليم الابتدائي على حساب تعليم الكبار ولكننا تركنا الأمور على عواهنها وتركنا الأمور للصدف وللظروف ولما بين يدينا من إمكانات وللحلول الوقتية وللضغوط الآنية فإذا بنا نتلقى مولوداً هو هذا الجسم التعليمي مولوداً غير طبيعي مولوداً مشوه. لا يعيد هذه البنية إلى صحتها وسلامتها إلا تخطيطاً تربوياً يوازن بين الجوانب المختلفة، ليست المسألة أن نتوسع في التعليم فحسب ولكن المسألة أن نتوسع فيه توسعاً متوازناً فالتوسع المتوازن وحده هو الذي يجعل من التعليم شيئاً مجدياً والتوسع غير المتوازن قد يعكس الأهداف المرجوة للتعليم وقد يؤدي إلى عكس الأهداف المرجوة في التعليم كما سنرى بعد حين الأهداف التي نرجوها من وراء التعليم وعلى رأسها أن يكون أداة من أدوات التنمية الاقتصادية والاجتماعية قد تنعكس علينا.
وقد يصبح التعليم أداةً معوقة من معوقات التنمية الاقتصادية والاجتماعية إذا نحن أهملنا هذا التوازن في نمو جسم التعليم وفي نمو الحياة التعليمية فيما يتصل أخيراً في هذا الدور أو بأهمية التخطيط التربوي بالنسبة التربية لابد من ذكر شيء هو على الألسن بكل مكان وهو على أي حال في حياتنا الواقعية ونعانيه يومياً ونعرفه حق المعرفة هذا الشيء ما يدعى بأزمة التربية في العالم وفي البلدان النامية بشكل خاص ومن بينها بلداننا العربية، نعني بأزمة التربية أن حاجات التوسع في التعليم ومطالب التوسع في التعليم تفوق الإمكانات والموارد البشرية والمادية المتاحة نحن في معظم بلدان العالم إلا من رحم ربه وفي بلداننا العربية وفي البلدان النامية بشكل خاص أمام أزمة عميقة.
إن مطالب التعليم كثيرة ومتكاثرة وتسير متسارعة يوماً بعد يوم في حين أن إمكانياتنا المادية والمالية والبشرية لسد هذه المطالب المتزايدة إمكانات تظل محدودة ومقصرة ولابد أن تقف عند حد لا تتجاوزه، نستطيع أن نقول إذا أردنا أن نستخدم لغة الرياضيين أن أعداد الطلاب ومطالب الأعداد المتكاثرة من الطلاب تزداد وفق متوالية هندسية بينما لا تزداد الامكانات المالية والبشرية إن تفاءلنا إلا وفق متوالية عددية فأعداد الطلاب والتزايد في أعداد الطلاب تسير مجدة في سيرها وكلما ازداد العدد كلما كانت الزيادة في السنوات المقبلة أكثر وأكثر لأن الزيادة تدعو إلى زيادة أكبر وهكذا يحدث تراكم ضخم وكبير في حين أن الامكانات الحالية والإمكانات المادية لابد أن تكون محدودة.
انظروا بشكل بسيط إلى ميزانيات التربية وتطورها في بلداننا العربية وفي كثير من البلدان النامية نظرة بسيطة تروا أن هذه الميزانيات ازدادت زيادة سريعة في السنوات الأخيرة بحيث بلغت في بعض البلدان من مثل العراق نفسه نسبة تبلغ حوالي 25% من ميزانية الدولة ولا أعتقد أن فوق هذا الحد زيادة لمستزيد لا أعتقد أننا نستطيع في المستقبل أن نحمل الدولة أعباء أخرى فنقول بأن ميزانية التربية ينبغي أن تزداد أكثر من 25% من ميزانية الدولة وهي تدخل كما تعلمون في مجال التنافس مع قطاعات أخرى هامة، مثل قطاع الزراعة، وقطاع الصناعة، وقطاع الخدمات الاجتماعية وسواها. إذن إمكانياتنا محدودة إمكانياتنا من حيث أعداد المعلمين محدودة من حيث توفير الأبنية محدودة ولكن الأعداد المتزايدة كثيرة.
نحن في الواقع أمام موقف حرج وأمام طريق مسدود ولا نستطيع أن نحل هذه المشكلة إلا بتخطيط تربوي لا أقول بأن التخطيط التربوي سيستطيع حل هذه المشكلة رأساً. التخطيط التربوي يستطيع أن يتغلب عليها تدريجياً، بمختلف الوسائل وعلى أقل تقدير لا يجعلنا بعد سنوات نقف مكتوفي الأيدي أمامها. ماذا نفعل أمام هذه الأعداد المتزايدة؟ نضعها في صفوف مكدسة فنرفع أعداد الطلاب في الصفوف؟ إن رفع عدد طلاب الصف الواحد فضلاً عن مساوئه التربوية له حد أيضاً لابد أن يبلغه فإذا رفعنا الأعداد إلى 50 أو 60 أو 70 فما أظننا سنرفعه إلى 100 وإذا رفعناها إلى 100 فما أظن أننا سنصل بها إلى أكثر من 120 إذا صح هذا تربوياً نلجأ إلى تعليم على فترات عديدة إذا نحن أقمنا فترتين وأجزنا هذا تربوياً وإذا أقمنا ثلاث فترات تربوية أو أربعة فترات دراسية فماذا عسانا فاعلين بعد ذلك؟ أو نعمل ليل نهار في جو غير تربوي وهكذا؟ بل حتى إمكاناتنا من المعلمين لو فرضنا أننا وفرنا لها المال اللازم سنصل كما تدل بعض الدراسات سنصل بنا إلى أن نستهلك أفراد الطاقة العاملة الفعلية في مثل بلدنا ليعلموا كبارنا صغارنا فنحن إذن أمام أزمة، المطالب كثيرة ومتزايدة ومتسارعة بالتزايد، والإمكانات محدودة على أي حال ولها حدود لا تستطيع تجاوزها، كيف نستطيع أن نستخرج من هذه الإمكانات ما يمكننا من الوفاء بهذه الحاجات؟ هذه المشكلة المطروحة على التخطيط التربوي ولعلها تلقي ضوء على شيء قلته في البداية يأخذ معناه الآن حين قلت التخطيط يعني في جوهره أن نستخدم الإمكانات الموجودة استخداماً أمثل أي أن نجتنب الهدر والضياع أي أن نفيد مما بين أيدينا من إمكانيات بحيث نستطيع أن نعلم أعداد أكبر بنفقات أقل وهذه المشكلة مطروحة علينا، مطروحة على التخطيط التربوي أن يوصنا إلى تعليم هذه الأعداد المتزايدة بالإمكانات التي بين أيدينا ولا نستطيع أن نسأل التربية غير ذلك، لدينا إمكانات محدودة وعلى التخطيط التربوي أن يقدم حلاً لهذا الموضوع. كيف نعلم هذه الأعداد المتزايدة بالامكانات التي بين أيدينا ويما يمكن أن نخلقه من إمكانات دون أن نستأثر على حقوق مجالات أخرى وقطاعات أخرى من قطاعات الحياة الاقتصادية والاجتماعية نحن بالإضافة إلى هذا كله شعب فتي شعب عدد الصغار فيه يربو على عدد الكبار عدد من هم دون سن العشرين يفوق الـ 56و57% في بعض البلدان ومن بينها العراق معنى ذلك إننا نحمل أعباء تعليمية ضخمة بإمكانات مادية ومالية قليلة في حين أن البلدان المتقدمة نفسها شعوب أقرب إلى أن تكون هرمة من هم دون سن العشرين – أي في سن الدراسة – لا يجاوزن الـ 40% من السكان وإمكاناتها المالية أكبر فنحن أمام موقف صعب وإذا تركنا الأمور تسير سهواً رهواً وعلى شاكلتها وكما تريد سيوصلنا إلى نوع من الموقف المسدود، الطريق المسدود وسنتبنى كل الحلول الشاذة الممكنة وسنندم ولات ساعة مندم فالتخطيط يجنبنا إذن الوقوع في هذه الأزمة التي بدأت بواكيرها وبدأت بوادرها في كل البلدان النامية وفي بلداننا العربية جميعها ويعرفها كل الذين يعانون سياسات التربية في هذه البلدان. ولكن لنترك أهمية التخطيط التربوي بالقياس إلى التربية فلعلكم تقولون ليس قصدنا ولننتقل بعد مقدمة طالت إلى بيت القصيد تعني أهمية التخطيط التربوي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية نفسها لنتبين أهمية التخطيط التربوي بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
أهمية التخطيط التربوي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية:
إن هدف التخطيط التربوي ليس فقط حل مشكلات التربية بذاتها ولكن حل مشكلات التربية من أجل أن تسهم بدورها في التنمية الاقتصادية في زيادة الدخل القومي وفي رفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي ومستوى المعيشة للمواطن لتبين هذا يكفي أن أقول بأن التخطيط التربوي في واقع الأمر ولد من قلب التخطيط الاقتصادي وولد من خلال هموم التخطيط الاقتصادي مخاض التخطيط التربوي ظروف ولادته خير مفصح عن طبيعته، ليس في النشأة والمخاض شيء يفصح عن طبيعة نشأته وإذا نظرنا إلى البودقة التي ولد فيها التخطيط التربوي وجدنا في نهاية الأمر بودقة التخطيط الاقتصادي، لم يظهر التخطيط التربوي لأسباب متعددة ومع الأسف من خلال هموم التربية والمربين ولكن ولد من خلال هموم الاقتصاد والاقتصاديين، فالاقتصاديون الذين يعنون بالتخطيط الاقتصادي بشتى بلدان العالم ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية وجدوا بعد جهد إن هذا التخطيط الاقتصادي لا يمكن أن يبلغ أغراضه إلا إذا عني بشيء أساسي هو أهم عنصر في التنمية الاقتصادية وفي زيادة الدخل ألا وهو العنصر البشري رأس المال البشري فكل حديث عن رأس المال المادي وكل حديث عن الثروات الطبيعية يظل ناقصاً إذا لم نشتق بحديث عن تنمية رأس المال البشري إذا كانت عناصر الثروة وعناصر الإنتاج كما يقول الاقتصاديون هي مواد الطبيعة الموجودة من جهة ورأس المال المادي الذي نوظفه وهي العمل أعداد العمال كمياً وهي بعد ذلك الكفاءة والخبرة والدراية التي يملكها العنصر البشري فهذه الخبرة والكفاءة والدراية التي يملكها العنصر البشري تبدت بنتيجة الأبحاث المختلفة وبنتيجة ممارسة التخطيط الاقتصادي.
تبدت للمخططين الاقتصاديين أنها رأس هذه العناصر وأنها محوره وإن العناصر الأخرى لا معنى لها إذا لم نسعدها بتكوين رأس المال البشري القادر أخيراً على استخراج الموارد الطبيعية والقادر على استخدام رأس المال والقادر على أن يجعل من عمل العمال عملاً ذا مستوى فني عال ومنتج. فالموارد الطبيعية هناك منذ أن خلق الإنسان ولكنها في حاجة إلى يد صناع وعقل صناع ليستخدمها، بحاجة إلى الخبرة الإنسانية، الموارد الطبيعية وحدها صماء لا تنطق، ورأس المال موجود في كثير من المجتمعات وموجود في بعض مجتمعاتنا العربية بكثرة ومع ذلك لم يخلق وحدة التقدم ولم يخلق التطور ولم يخلق الاقتصاد وأعداد العمال والأيدي العاملة كمية موجودة دوماً وأبداً في أي مجتمع ولكنها لا تخلق التطور العلمي والتكنولوجي والفني المطلوب، لا يخلق هذا كله إلا تسليط الكفاءة والخبرة والدراية الفنية والعلمية على هذه الأدوات الثلاث التي ذكرتها عند ذلك تستوي عملية الاقتصاد وعملية التخطيط الاقتصادي. هذا الأمر دعى الاقتصاديون أولاً إلى أن يفكروا ملياً في أمر أعداد العنصر البشري، في الموارد البشرية كما يقال اليوم ودعاهم ملياً أن يدفعوا بالتخطيط التربوي إلى الأمام وإلى أن يطلبوا من التربية أن تمارس مهمتها في التنمية بأن تعد العنصر البشري إعداداً ينسجم مع متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبدأت منذ لك الحين أفكار تثور هنا وهناك في الأذهان عن دور التربية في التنمية تتحدث عن أهمية رأس المال البشري وبأن التربية استثمار وتوظيف مثمر وليست مجرد استهلاك تتحدث عن المردود الاقتصادي للتربية الذي يفوق مردود أي جانب مادي من جوانب التنمية وهكذا بدأن الدراسات تطغى لتوضح هذا الموضوع، ما هو هذا الدور الذي تلعبه التربية في التنمية؟ وهل تلعب هذا الدور الكبير؟ وما نسبة هذا الدور؟ ما نسبة دور التربية في التنمية؟ وأخذت هذه الدراسات اتجاهات عديدة ومجاري عديدة لا سبيل إلى الحديث عنها كلها. وأقول عابراً من الاتجاهات التي اتخذتها هذه الدراسات للكشف عن دور التربية في التنمية عود إلى التأريخ واستقراء للتأريخ ولتأريخ الاقتصاد بشكل عام عاد بعض الاقتصاديين لتأريخ الاقتصاد وتساءلوا عن الأسباب التي جعلت بعض الشعوب من دون غيرها بفترات معينة من التأريخ تتقدم تقدماً سريعاً وترفع دخلها القومي وثرواتها القومية من دون جاراتها.
تساءلوا عن الأسباب الحقيقية فوجودا وراء ذلك عنصر التربية والاهتمام التربوي المبكر لدى هذه الشعوب ضربوا على ذلك مثال بلدين أصبحا نموذجيين في هذا المجال نعني الدانمرك واليابان تحدثوا عن الدانمرك التي استطاعت في أواخر القرن التاسع عشر أن تتجاوز أزمة القمح الآتي من الولايات المتحدة ومن أستراليا وغيرها من بلدان العالم بدل من أن تواجه هذه الأزمة وهي تبحث عن أسواق جديدة لتصريف القمح واجهتها مواجهة ذكية فغيرت كل طراز نتاجها وبدل من أن تعتمد وتستمر في الاعتماد على نتاج القمح غيرت الزراعة الأساسية التي تعتمد عليها ومورد الرزق الذي تعتمد عليه وعنيت بصناعة الألبان المكثفة التي أصبحت منذ ذلك الحين مورد ثروة كبرى للدانيمارك. ويحلل الاقتصاديون هذه الظاهرة بشكل واضح لا يترك مجالاً للشك بأن أهم سبب في قدرة الفلاح الدانمركي في ذلك الحين على أن يغير إنتاجه بهذا الشكل السريع ويتكيف مع الموقف الجديد هذا الموقف لا يمكن أن يكون إلا نتاجاً من نتاج التربية وثمرة من ثمراتها فالتربية تخلق التكيف والتكييف مع المواقف الجديدة والتربية في الدانمرك فعلاً بدأت مبكرة من دون سواها من البلدان الأوربية، فالتعليم الإلزامي قام في الدانمرك منذ عام 1817 في حين أنه لم يقم في إنكلترا إلا في 1870 ولم يقم في فرنسا إلا في عام 1882 فالدانمرك فعلاً من جهة الواقع بدت بداية مبكرة في التربية ومن جهة ثانية فالواقع يدلنا أن الفلاح الدانمركي استطاع أن يتكيف بسرعة مع التوجيهات التي قدمها المرشدون الزراعيون الذين وجهوا الفلاح فاستطاع الفلاح أن يتكيف مع هذا الموقف الجديد وأن يغير طراز إنتاجه بسرعة وأن يتغلب على هذه الأزمة هذا إذا أضفنا إلى ذلك ما يقوله علماء الاقتصاد بأن الدانمرك أيضاً عنيت منذ عام 1850 بإنشاء الجامعات الشعبية المشهورة بالمدارس الشعبية العليا والتي ما تزال الدانمرك شهيرة بها إلى حد هذا اليوم إذا ذكرنا ذلك وذكرنا دور الجامعات الشعبية في تثقيف الكبار وبتثقيف الفلاحين وسواهم أدركنا إذن هذا التحول السريع بشكل الإنتاج وهذه المواجهة الذكية، المواجهة المرنة، للأزمة الاقتصادية التي عانت منها الدانمرك كما عانت منها البلدان الأوربية إن هي إلا نتيجة التربية وانتشارها منذ دور مبكر ولا جديد أن نقول بأن أهم ما تقدمه التربية في الواقع هو هذه المرونة وهذه القدرة على التكيف مع المواقف الجديدة ولا جديد أن نقول بعد هذا إن مما يقرره علماء الاقتصاد اليوم حقيقة تبين أهمية التربية في هذا المجال حين يسألون عن أسباب ثروة الشعوب وما الذي يسبب ثروة شعب من الشعوب – أن يستطيع الانتقال من شكل من إشكال الإنتاج إلى شكل آخر دونما جمود ودونما روتين ودونما محافظة –القدرة إذن على التكيف وتغير طراز الإنتاج وشكل الإنتاج والانتقال بشكل خاص من قطاع من قطاعات الإنتاج إلى قطاع أخر، هذا ما يذكرونه من الأمثلة التأريخية بالنسبة إلى الدانمرك ويذركون مثله بالنسبة إلى اليابان. اليابان أيضاً حققت تقدماً سريعاً في القرن التاسع عشر ومنذ أيام الثورة الشهيرة (بثورة ميجي) 1868 التي أدهشت كثيراً من المراقبين استطاعت رغم فقر مواردها الطبيعية بالقياس إلى جارتها كالصين والهند وسواها.
اليابان استطاعت أن تحقق ثورة سريعة في الصناعة، وارتفاعاً هائلاً في الدخل القومي وأن تلحق بالركب الذي كان سائراً في أوربا في ذلك الحين ويقول أيضاً المحللون الاقتصاديون بأن هذا من فضل التربية فالتربية المبكرة، وسن قانون التعليم الإلزامي منذ طور مبكر في اليابان أيضاً اهتمام (ثورة ميجي) بإرسال البعوث إلى الخارج بأعداد كبيرة، اهتمام هذه الثورة باستقدام الخبراء الأجانب إلى اليابان ولاسيما في ميدان الصناعة ليدربوا اليابانيين على وسائل التكنولوجية الحديثة وتخصص 40% من ميزانية وزارة الصناعة خلال العشرين سنة الأولى من ثورة ميجي، في ذلك الحين 40% من ميزانية هذه الوزارة لهؤلاء الأجانب، وإنشاء جامعة طوكيو في طور مبكر، والاهتمام بالتعليم الفني والمهني، كلها أمور جعلت اليابان قادرة على أن تحقق القفزة السريعة التي حققتها في ميدان التقدم الاقتصادي. إذن رجعوا كما رأيتم إلى التأريخ واستنطقوه واستقرؤوه فحدثهم حديثاً لا يترك مجالاً للشك إن التربية فعلاً لعبت دوراً واضحاً في النمو السريع الذي حققته بعض البلدان مثل الدانمرك ومثل اليابان رجعوا أيضاً فيما رجعوا إلى الفكر الاقتصادي ولا يغنينا أن نتريث عند هذا ولكن أقوله من قبيل التعداد، رجعوا إلى الفكر الاقتصادي منذ أيام (آدم سميث) إلى أيام (كارل ماركس) إلى أيام (الفريد مارشال) إلى سواهم ليروا من خلال أفكار هؤلاء كيف وقف أكثرهم بشكل موجز أحياناً مفصل أحياناً أخرى بشكل مضمر أحياناً وصريح أحياناً أخرى. كيف وقفوا أهمية التربية كرأس مال وكأهمية التربية عند التنمية وولدت نتيجة هذا كله فكرة التربية كاستثمار كتوظيف مثمر لرؤوس الأموال على أنهم لم يقفوا عند هذا الحد لم يكتفوا باستقراء التأريخ واستقراء كتب الاقتصاد والفكر الاقتصادي لتبين أهمية التربية ودورها، بل تساءلوا تساؤل الباحثين الحديثين الذي لا يقنعهم شيء مثل الرقم والإحصاء تساءلوا عن مدى دور التربية في التنمية وهل نستطيع أن نقيس هذا الدور هل نستطيع أن نقول ما هي نسبة الدور الذي تلعبه التربية ويلعبه تكوين رأس المال البشري في زيادة الدخل القومي في بلد من البلدان وانتهجوا في هذا مذاهب وطرائق شتى في منذ أيام (سيمولين) الروسي الذي كان أول من طرق هذا الميدان منذ عام 1924 حتى الدراسات المحدثة التي ما تزال قائمة حتى هذا اليوم على قدم وساق، نريد أن نتبين الدور الاقتصادي للتعليم عند طريق قياس عائدات التربية كما يقال، ومردود التربية ونسبة دور التربية في الدخل القومي وماذا تنتج التربية وما تنتج الأموال التي تنفقها على التربية بالنسبة إلى الجماعة وبالنسبة إلى الفرد.
وتتالت الدراسات في هذا الاتجاه. قامت دراسات “فونس” في الولايات المتحدة لتدرس دور التربية في التنمية في الولايات المتحدة وفي زيادة الدخل القومي بين عام 1900 وعام 1957 فبينت أن هذا الدور قد يبلغ حوالي 21% إلى 29%، قامت أيضاً دراسات أخرى في اليابان حديثة، في مكتب البحوث التابع إلى وزارة التربية وانتهت أيضاً إلى أن دور التربية قد يبلغ حوالي 27% في زيادة الدخل القومي وقامت دراسات أخرى لأمثال (فنيسونج) في الولايات المتحدة و (رداوي وسمث) في إنكلترا و(أوك أوست) في النروج ودراسات ما تزال قائمة حتى اليوم هدفها أن تحدد تماماً مقدار العطاء المالي والمادي الذي تقدمه التربية وتحدث فيه زيادة في الدخل القومي إذن لم نعد في أيامنا هذه أمام مجرد تقدير عام وتقديرات إجمالية تقوم فيها. التربية تؤثر في التنمية استناداً إلى حقائق تأريخية وسواها، ولكننا أصبحنا أمام وسائل تقيس مقدار ما تحدثه التربية من أثر في التنمية ونسبة ما تحدثه من زيادة في الدخل القومي كيف تسهم هذه التربية التي أثبتت هذه الدراسات المختلفة إذن دورها في التنمية. الحديث في هذا يطول لكن لنقل بعض الأشياء السريعة:
1- لاشك أن التربية تسهم في عملية التنمية عن طريق إعداد اليد العاملة اللازمة لعجلة التربية فالمهم ليس إنشاء المصانع ولا إنشاء المباني ولا إنشاء المزارع ولكن تكوين الإنسان الذي يحرك هذه المصانع ويحرك المزارع ويحرك عجلة الإنتاج هذه حقيقة بدائية اليوم نعرفها جميعاً والمهم ليس الثروة الطبيعية ولكن الإنسان الذي يستخدم هذه الثروة الطبيعية ويجعل لهذه الثروة الطبيعية أكبر قيمة.
الجلد قطعة الجلد البسيطة التي يمكن أن يجلبها الإنسان من السودان قطع جلد تمساح مثلاً يمكن أن تكون قطعة رخيصة الثمن نسبياً مثلاً بحدود دينار أو دينارين هذه القطعة إذا ذهبت بعد ذلك إلى إنكلترا وأضيف إليها حصاد التربية وأضيف إليها الحصاد الفني والعلمي وخرجت بعد ذلك محفظة للسيدات بيعت بما لا يقل عن عشرين ديناراً مثلاً، هذه القيمة المضافة على حد التعبير الماركسي هذه القيمة المضافة بين الدينارين والعشرين دينار هي طبعاً حصاد التربية والأمثلة أكثر من أن تحصى من حياة كل إنسان، الذي يعطي قيمة للأشياء هو تصنيعها وتكوينها وبناءها بالاستناد إلى الخبرة وبالاستناد إلى المعرفة وبالاستناد إلى المستوى الفني الذي تملكه الطاقة العاملة.
2- التربية بعد ذلك تحدث أثراً في التنمية لأنها تحقق التوازن بين التقدم العلمي التكنولوجي وبين التربية يعني تجاري التقدم العلمي والتكنولوجي وتعد أناساً قادرين بالتالي على أن يرتفعوا بمستوى المجتمع بحيث يستطيع أن يساير التقدم العلمي والتكنولوجي في العصر وهذه أيضاً حقيقة بدهية لا مجال إلى التشكيك فيها.
3- إن التربية تحقق التنمية عن طريق شيء أساسي لا يقل أهمية عن هذا كله وهو خلق القدرة على التكيف وقد أشرت إلى هذا منذ حين، المزارع والصانع والعامل والإنسان العادي في حياته يرفض في كثير من الأحيان الخروج عن تقاليده وعاداته وأساليبه التي ألفها، والمزارع مثلا في بلداننا وفي كثير من بلدان العالم محافظاً بطبعه لا يألف إلا الأساليب والوسائل التي ورثها، التعليم وحده يجعله قادراً على أن يدخل الوسائل الحديثة وعلى أن يدخل مكننة الزراعة وعلى أن يدخل الأسمدة الحديثة والبذور الحديثة واللقاح الحديث وغير ذلك، والتجربة في بلداننا العربية، وكثير من بلدان العالم بالنسبة إلى المشروعات التي أرادت منظمات دولية وقومية أن تنشأها في ميدان الزراعة. فالتجربة دلت على أن نقطة الارتطام هي رفض الإنسان لوسائل التجديد هذا الإنسان هذا الفلاح المحافظ بطبعه الجاهل في ريفنا العربي يأبى إدخال الوسائل الحديثة والطرائق الحديثة ويرفضها رفضاً أساسياً وجذرياً مما يجعل منه عائقاً ضد التنمية، فموضوع التكيف هو الذي يجعل المنتجين قادرين على أن يغيروا وسائل إنتاجهم وطراز إنتاجهم ومستوى إنتاجهم، ويجعلهم بالتالي قادرين على التكيف مع المواقف الجديدة. ونحن في عصر يتطلب أول ما يتطلب من الإنسان مثل هذه القدرة على التكيف مع المواقف الجديدة.
4- التربية أيضاً وكنتيجة لهذا تؤثر في التنمية عن طريق خلق البيئة الملائمة للتنمية يعني خلق الاتجاهات النفسية والاجتماعية الملائمة للتنمية والقضاء على المعوقات النفسية والاجتماعية التي تحول دون التنمية خلق روح العمل خلق الاهتمام مثلاً بالعمل اليدوي وإعطاء أهمية للعمل اليدوي شأنه في ذلك شأن العمل الفكري وعدم التمييز بين العمل اليدوي والعمل الفكري عن طريق التربية هذه أمور كلها من شأنها أن تخلق اتجاهاً ملائماً للتنمية أو العكس احترام العمل غير اليدوي والنظر إلى العمل اليدوي على أنه شيء مرذول كما هو الأمر في معظم مجتمعاتنا حتى الآن بنتيجة أرث نعرفه جميعاً، وهذه النظرة تكون عائقاً أساسياً في طريق التنمية إذا لم تذللـه التربية لم نستطع أن نفتح فعلاً أبواب التنمية لا نستطيع أن نفتح أبواب العمل المنتج وأبواب العمل الزراعي لمجتمع مثلاً يعتقد أو في بيئة تعتقد بأن زراعة بعض الخضار أمراً معيب “أعتقد أن هناك منطقة في العراق لديها هذا الاتجاه” أو لا نستطيع أن نخلق القدرة على إنتاج العمل في بيئة تعتقد أن تربية الدواجن شيء معيب مثلاً ولا نستطيع بشكل عام أن نخلق بيئة ملائمة للتنمية في مجتمع عربي ما تزال حتى الآن ترن في أسماعه بعض الأقوام القديمة التي تعتبر العمل اليدوي مرذولاً والتي نجد فيها شخصاً كجرير يعايره الفرزدق بأنه قين وابن قين لا قين ويقول له:
إني أنادي في المكارم والأُلى فنفخت كيرك في الزمان الأول
إن أباه كان حداداً، هذه النظرة إلى العمل اليدوي على أنه شيء مرذول هذه النظرة إلى الحرفة كما كانت في بعض المجتمعات القبلية القديمة على أنها شيء مرذول ما يزال أرثاً له نتائجه حتى اليوم ويحول دون الانطلاق في طريق التنمية.
أخيراً التربية عامل من عوامل التنمية وتؤدي إلى التنمية لأنها تخلق القدرة على الابتكار، والقدرة على التجديد، لا القدرة على التكيف فحسب، ولكن القدرة على الابتكار والقدرة على الإبداع. عصرنا عصر الإبداع في شتى المجالات فالموضوع تسابق على الإبداع بين الدول المختلفة، ولا شك أننا لا نستطيع أن ندخل هذا العصر إلا إذا خلقنا هذا الاتجاه نحو الإبداع لدى أبنائنا ولدى شبابنا.
ما هي النتيجة التي نخلص إليها من هذا كله؟
وأستميحكم عذراً بأني في الواقع اكتفيت بلمس رؤوس الموضوعات في هذا الموضع الشائك والواسع – نخلص طبعاً إلى نتيجة بدهية تستخلص من كل ما قلته: وهو أن التربية هي الأداة الأساسية في خلق التنمية وأن لا تنمية اقتصادية واجتماعية في بلد من البلدان بدون تربية، هذا قول لا غبار عليه وقول بدهي وقد أصبح ضرباً من تحصيل الحاصل اليوم ولكن النتيجة الأهم التي ينبغي أن نخلص إليها من هذا هي ليس أن التربية أداة أساسية من أدوات التنمية حسب بل أن التربية التي يمكن أن تكون أداة من أدوات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ليست أي نوع من التربية، هذه نتيجة أهم ونتيجة عملية أكثر، ليس صحيح أن نعتقد أن التربية أي كانت هي أداة من أدوات التنمية بل هي تلك التربية التي تحدثنا عنها حتى الآن وذكرنا دورها في نهضة اليابان وذكرنا دورها في نهضة الدانمرك وذكرنا مقدار ما تقدمه للدخل القومي بنتيجة الدراسات من زيادة ومن ارتفاع ليست أي تربية هي التي تصل إلى هذه الغاية.
وآن الأوان بأن نزيل من أذهاننا معتقداً يخيل إلينا أن التربية مهما كانت وبأي شكل كانت عصا سحرية تغير البلاد والعباد بجرة قلم بين عشية وضحاها وإنها على أية حال ودوماً وأبداً عاملاً من عوامل التنمية. أنا أريد أن أقول العكس التربية قد تكون في بعض الأحيان عاملاً ضد التنمية هذه نتيجة في نظري هامة جداً من كل هذا الحديث، التربية إذا لم تكن وفق أهداف معينة، وفق أهداف التنمية التي تحدثت عنها قد تنقلب ضد التنمية إذا لم ترتبط بخطة لإعداد الطاقة العاملة الخبيرة ولرفع مستوى الكفاءات الفنية والعلمية اللازمة للمجتمع يمكن أن تؤدي إلى زيادة أزمات المجتمع ويمكن أن تؤدي بشكل خاص إلى بطالة المثقفين وعطالة المثقفين وأزمات لا تنتهي بنتيجة ذلك، ويمكن أن يكون الثمن الوحيد لمثل هذه التربية غير الواعية لذاتها، فالنتيجة الوحيدة والثمن الوحيد هي أن نخرج مجموعة من المثقفين العاطلين وما أظن أحدنا يريد أن يفعل ما نصح به أحد مربي الهند هازلاً حين قال:”إذا أراد أحدكم أن يكون زعيماً فليخرج مجموعة من المثقفين العاطلين وليتولى أمر قيادتهم”.
إذن التربية تحمل المعاني التي أشرت إليها والتي هي أداة من أدوات التنمية هي تربية من نوع خاص هي تربية ينبغي أن نضع فيها سلفاً أهداف التنمية، يعني أن نرسم أهدافها ومحتواها وطرائقها وأعداد الطلاب فيها وأعداد المتخرجين فيها وفق خطة تبين لنا حقيقة حاجات التنمية وحقيقة حاجات المجتمع، أن لا نجعل التربية في واد والنظام التعليمي في واد والحياة الاقتصادية وحاجات المجتمع الاقتصادية وحاجات الصناعة وحاجات الزراعة وحاجات المجتمع بمختلف أشكالها في واد آخر. نحن بشكل بسيط لا نستطيع أن نستخرج من الأشياء أكثر مما نضعه فيها إن وضعنا في التربية أهداف التنمية استخرجنا منها التنمية، وإن وضعنا فيها عدا ذلك أو لم نضع فيها شيء البتة استخرجنا ما سوى ذلك أو لم نستخرج شيء فلا بد إذن أن نتقصد أن نجعل التربية مرتبطة بأدوات التنمية وهذا من جديد يضعنا وجها لوجه أمام أهمية التخطيط التربوي وأهمية ربط التخطيط التربوي بالتخطيط الاقتصادي. فالتربية وشأنها، التربية على عواهنها لا يؤدي إلى التنمية وقد تؤدي إلى عكس ذلك، والتربية المخططة وحدها تؤدي إلى التنمية. إذن لابد من تخطيط ولكنه تخطيط يأخذ بعين الاعتبار حاجات الخطة الاقتصادية حاجات الصناعة، حاجات الزراعة، حاجات قطاعات النشاط المختلفة في البلد، ويرسم أهداف التربية وعلى وعي بهذه الحاجات يربط بين أعداد الطلاب وحاجات المجتمع والتخصصات التي نحتاج إليها في المجتمع، يقيم تخصصات جديدة ملائمة للفروع والصناعات والأعمال التي نحتاج إليها في المجتمع، يربط بين المناهج والطرائق وبين آخر ما توصل إليه العلم وتوصلت إليه المعرفة في مجالات العلوم وفي مجال الصناعة وفي مجال التكنولوجيا ويغير كل شيء ويخلق بعد ذلك الاتجاهات النفسية الملائمة للتنمية التي أشرت إليها منذ حين يخلق لدى المواطنين الاتجاهات النفسية الملائمة للتنمية فيدربهم على روح العمل ويدربهم على أهمية العمل اليدوي وعلى الإنتاج ويربط التربية بالإنتاج ويبين أن لا معنى للتربية إلا من خلال الإنتاج.
وأخيراً لابد من كلمة ختامية وهي إننا اليوم وفي هذه المرحلة الحاسمة من حياتنا حيث نواجه تحدياً قاسياً، تحدياً في صلب حياتنا وكياننا لابد أن نغلب مبدأً أساسياً في حياتنا هو مبدأ الإفادة من كل قطرة من جهد ومن كل قطرة من عمل وعدم التبذير والضياع فيما نقوم به من أعمال وفيما نرسمه من سياسات إذا صح أن نقع في سياسات تحقق هدراً وضياعاً في أيامنا العادية، إذا صح هذا جدلاً فلن يصح بحال من الأحوال أن نقع في الهدر والضياع والتبذير بمعنى عدم الاستخدام الأمثل للموارد وكما ذكرت في هذه الأيام الحاسمة من حياتنا وأمام هذا التحدي الكبير نحن في حاجة إلى كل قطرة من مال وإلى كل قطرة من جهد وإلى كل قطرة عمل، بحاجة أن نضع كل شيء في مكانه دونما ضياع وهدر لنستطيع في نهاية الأمر أن نواجه هذا التحدي الكبير، نحن في حاجة إلى أن نخطط لحياتنا المقبلة ونخطط لحياتنا الحالية وأن نرسم سبيل السير ونعرف ما هو السبيل وأين المصير؟ العقل التخطيطي ينبغي أن يكون جزءاً أساسياً من حياتنا ينبغي أن يكون عدتنا سيما إذا ذكرنا مع الأسف أن العدو الذي نواجهه تسلح بالدرجة الأولى بسلاح التخطيط وأن أبرز مظاهر هذا التخطيط خلق هذه الدولة اليهودية فهذه الدولة اليهودية كما تعلمون خطط لنشأتها قبل حوالي مئة قرن ونيف وعلى مراحل وضمن أسلوب تنفيذي محكم عقلاني كما قلت يرسم سبل الوصول ويعرف إلى أين المصير. لا نستطيع أن نواجه عقلاً تخطيطي بعقل عشوائي، بعقل يتخبط تخبط عشوائي نحن مدعوون إلى أن نفكر بخطواتنا ونفكر في مستقبلنا ونفكر في وسيلة السير لنعرف أخيراً كيف نبني القوة القادرة على مواجهة هذا التحدي وشكراً.