التنظيم روح الثورة العربية المنشودة

مجلة الآداب – العدد الأول – كانون الثاني/يناير 1969
التنظيمُ روح الثورة العَربية المنشودة
بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم
يوشك أبناء الأمة العربية يرتقبون المعجزة في غير عصر المعجزات. وأمام المحنة التي جرت إليها العقلية المتكلة على ما قد تجود به الأحداث من أعاجيب، يكادون يشهرون من جديد كرة أخرى روح الأمل الضبابي أو اليأس الجاهل. مرة أخرى نكاد نداوي الداء بالداء: لقد قادنا إلى ما عرفنا تعلقنا الواهم بقوى غير منظورة وجنود لا نراها نرتجي من ورائها الخلاص من تخلفنا ووهننا، ونلقي عليها مهمة النجاة من علل مجتمعنا وأمراض حياتنا.
وكأننا اليوم، بعد أن لُدغنا بمر السموم وبعد أن رأينا أوهامنا بأم أعيننا تتحطم على صخرة الواقع القاسي، نعاود الاستلقاء على حرير الأوهام والأخيلة والآمال السحرية، فننشد الخلاص في أحداثٍ معجزة وفي قوى خفية نأمل أن تجود بها حياتنا وقوانا. أو ليس معظمنا متفرجاً حزيناً يرنو إلى الأفق البعيد ينتظر منه إشراقة نور مفاجئة، ويتطلع إلى الغيوم يشيم من خلالها شؤبوب غيث أو وابل مزن؟ أليس من الصحيح أن أكثرنا يتحدث عن الخلاص الذي سيقوم به غيره لا هو، وعن المعركة التي سيخوضها مجهول، وعن الحل الذي ستقدمه له الأحداث النكرات على طبق من ذهب، لا عن الحل البين الذي سينتزعه من الأحداث.
أمام مثل هذا الموقف السحري الجديد الذي نكاد نجر إليه، تحضر المرء أبيات المعري الشهيرة:
يرتجي الناس أن يقوم أمام
ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العقـ
ـل مشيراً في صبحه والمساء
إن رؤية الواقع بأبعاده الحقيقية بداية العمل على تغييره. وإن معرفة هذا الواقع هي نقطة الانطلاق في طريق السيطرة عليه وتوجيهه. ولا نعني بمعرفة الواقع تلك النظرة التي ترى مرارته وقسوته فحسب وتعترف بتخلفه وعجزه في كثير من الجوانب، بل نعني بهذه المعرفة فوق هذا وقبل هذا، تبين مواطن القوة في هذا الواقع والتقاط الشرايين الحية الكفيلة بإنقاذه والعمل بالتالي على تغذيتها والانطلاق منها لإعادة بناء الجسم كله.
الرؤية الواقعية التي نريد هي تلك الرؤية القادرة على أن تمسك بالخيط الرائد الذي يستطيع أن يَنْظِم وجودنا، وعلى أن تلتقط القوة المحركة التي تستطيع أن تلغي عطالتنا.
الرؤية الواقعية الحية، القادرة على التحريك، هي التي تستطيع أن تمسك بمستودعات الطاقة الحقيقية في شعبنا ومجتمعنا، لتفجرها، لتجعل الملايين العربية قوى لا أرقاماً.
وما عسى أن تكون مواطن القوة في واقعنا؟ وما عسى أن تكون في مقابلها مواطن الضعف؟ سؤال كبير دون شك تحتاج الإجابة عليه إلى المجلدات والأسفار. غير أن الذي نريده بالذات ونقصد إليه أن نتجاوز مجرد التحليل الشامل الكامل لمجتمعنا – وهو تحليل لا نهاية له – لنعرف كيف نستخلص من بين ملايين العوامل المؤثرة فيه عامل العوامل إن صح التعبير، وشرط الشروط إن لم نقل علة العلل على حد تعبير أرسطو منذ القدم.
بعضهم يقول أن الحقيقة الأولى التي يكمن فيها الداء وينطلق من خلالها الدواء، هي ما نعاني من تخلف تكنولوجي، ويرى في تجاوز هذا التخلف السبيل إلى كل حل.
وآخرون يقولون أن ينبوع المعضلات والحلول كامن في الفكر والثقافة الإنسانية الشاملة وما يجر إليه ضمورهما من تعطيل وعطالة، وما يمكن أن يثوي وراء تفتحهما من وثبة وتحول كامل في بنية المجتمع وقواه.
وفريق يرى أن التعبئة السياسية الواعية للشعب هي ضالتنا ويجد طريق الخلاص في تعبئة شعبية تقوم على أساس التلاحم والثقة بين الحاكم والمحكوم، وعلى أساس انطلاق الجميع خلف هدف جبار تقوده قيادة موثوقة واعية.
ويرى غير هؤلاء وأولئك أن الركود والقعود نتائج طبيعية لكل حياة سادرة ولأيّ مجتمع لم يعان الشدائد ولم تختبره المحن ولم يبل النضال والقتال والحرب، ولا سبيل بالتالي إلى مجاوزة ذلك القعود إلا عن طريق الانخراط في تجربة الدم، تجربة القتال الفعلي، ولا طريق يؤدي إلى التحرك إلا التحرك نفسه، ولا ممر إلى الثورة إلا عن طريق القيام بالثورة فعلاً. ومن هنا فالأمل معقود على جميع بوادر العمل الفدائي، وعلى التمرس بالقتال والمعارك بشتى أشكالها وصورها.
وقد يرى آخرون غير هذه وتلك من العوامل والشروط، وقد يوغلون في التحليل وفي تجزئة الشعرة أربعين جزءاً.
وقد يكون هؤلاء جميعهم على صواب، بل هم كذلك. فما يذكرون صورة حقيقية وواقعية، وعلل قائمة، وحلول واجبة.
غير أن السؤال وراء هذا كله: من يعلق الجرس؟ أجل، من يعلق الجرس. ما الذي يتغلب على التخلف التكنولوجي، ومن يشيع الفكر والثقافة والحضارة الإنسانية الواعية العميقة، ومن ذا الذي يوفر للشعب تعبئة شاملة يلفها هدف يؤمن به وتقودها طليعة يؤمن بها.
ومن يجعل من طريق الموت طريقاً للحياة، ومن قرابين الفداء بشائر للانبعاث. وهل يكفي تقرير الواقع والواجب للوصول إلى ما نريد؟ وهل نعود أدراجنا مرة أخرى فنعتقد أن هذه الحلول حلول يجود بها الزمن من تلقاء نفسه، وتلقي بها الأحداث السعيدة فنقطفها يانعة؟
الحق أن هذه الحقائق كلها وما تفرضه من حلول، لابد أن تكون نتائج لحقيقة فوقها ولحل يعلو عليها ويطلقها، وما هي بالأسباب الأولى والعلل الأصيلة.
إن كل نهضة كبرى وكل تغيير جذري حدث في تاريخ أمة من الأمم، كانا نتيجة عوامل كثيرة دون شك وشروط عديدة حركت التقدم! غير أن تلك العوامل والشروط ما كان لها أن تحرك التقدم وتحدث التغيير الكبير إلا عندما حركها جميعها سبب أساسي وعامل جامع مركب. لقد تساءل الباحثون مثلاً منذ أيام «آدام سميث» وقبل أيامه عن السبب الأول في «ثروة الشعوب»، فقال هذا أنها تقسيم العمل في المجتمع، وقال ذاك أنها القدرة على الانتقال من شكل من أشكال الإنتاج إلى شكل آخر، وقال ثالث أنها التربية والإعداد وما يثوي وراءهما من تطوير للثروة البشرية. وتحدث المتحدثون عن العوامل الأساسية الكبرى في القفزات التي استطاعت أن تحققها بعض بلدان العالم، من مثل اليابان منذ عصر «مييجي Meigi» الشهير ومن مثل الاتحاد السوفياتي منذ أيام لينين، ومن مثل السويد والولايات المتحدة والصين اليوم. وحاول جميعهم التقاط السبب الأساسي المحرك لتلك النهضات الكبرى السريعة.
ولا شك أن البحث عن الأسباب القادرة على تحريك مجتمع من المجتمعات اليوم، لابد أن ينطلق من أمرين: أولهما ما تقدمه التجربة العالمية المشتركة وما تشير إليه من تفوق بعض الأسباب في حياة الأمم على سواها. وثانيهما ما يقدمه تقري واقع كل أمة وبنية كل أمة، وما يكشف عنه ذلك التقري من خصائص وسمات متفردة. والأمران لابد أن يلتقيا ويأتلفا، وأن ينير أحدهما الآخر، ليكونا سبباً متكاملاً متحداً.
فما الذي تشير إليه التجربة العالمية وما الذي تدل عليه قراءة مجتمعنا العربي، وكيف يتحد الأمران، ليكونا النقطة الحساسة و«البؤرة الثورية» التي تكمن فيها القوة ويكون منها الانطلاق؟
أما التجربة العالمية فتقدم لنا نتيجة هامة أساسية، قلما نفطن إليها، ولعلها درس الدروس الذي ينبغي أن نسقيه من معنى الحضارة الحديثة وأدوات عملها. إن تلك التجربة لا تكتفي اليوم بأن تشير إلى أهمية تنمية الثروة البشرية وإلى أهمية الإعداد العلمي والتقني لتلك الثروة. ولم يعد درسها الأول القول بأن المسألة «مسألة أدمغة» ومسألة تكوين تلك الأدمغة. بل جاوزت هذا القول إلى حقيقة أخرى ينبغي أن نتريث عندها، وهي أن المسألة كل المسألة تثوي في التنظيم العلمي المدروس لأشكال العطاء والإنتاج جميعها في المجتمع. المسألة كلها مسألة «ثورة إدارية» تنظيمية، قادرة على أن تعبئ الكفاءات وتستخدم المواهب وتفيد من الموارد المادية والبشرية المتاحة أمثل فائدة ممكنة. وبتعبير آخر، إن الدرس الأول الذي تقدمه لنا الحضارة الحديثة، حيثما وجدت في أعلى مراتبها، أن محرك هذه الحضارة الأول ليست الموهبة والذكاء والمعرفة وحدها، بل القدرة على تنظيم الإفادة من تلك الموهبة والمعرفة.
إنها تقول إن الإبداع الثوري والطاقة الخلاقة لا يثويان في الموهبة والعبقرية والكفاءة، فهذه طاقات لا معنى لها إلا حين يُنظَّم عطاؤها ويخصب نتاجها عن طريق «التنظيم»، عن طريق «الإدارة» العلمية البارعة، التي يرى فيها بعضهم فن الفنون، بل يجدها أكثر الفنون إبداعاً وعطاء، لأنها فن تنظيم الموهبة والعبقرية والثروة البشرية. والمسألة اليوم بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة لا تتبدى للباحثين مسألة «هوة تكنولوجية» كما يقال، بل تتبدى مسألة «هوة إدارية» تنظيمية.
والمشكلة لدى البلدان المتخلفة – كما ترى أبحاث كثيرة – ليست مشكلة الافتقار إلى «مادة رمادية» بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة، بل هي مشكلة الافتقار إلى وسائل التنظيم والتربية والإعداد، إنها ليست «مشكلة تخلف في الأدمغة» وإنما هي مشكلة «تخلف في التنظيم».
وعسير علينا في هذا المجال الضيق أن نتحدث عن الأساليب الجديدة الفعالة التي تستخدمها المجتمعات المتقدمة في سبيل تطوير وسائلها التنظيمية وأساليبها الإدارية، في سبيل استخراج أكبر ما يمكن استخراجه من الموارد المادية والبشرية. والذي يعنينا هنا ما هو الخوض في بحث فني نظري حول الوسائل الحديثة و«التكنولوجيا الحديثة» في الإدارة والتنظيم، حول أساليب «الثورة الإدارية» كما يقال (1). والذي نهدف إليه هو أن نتبين من خلال هذا كله روح العصر والمعنى العميق للتقدم والمحرك الأصيل للتطور. الذي نبتغي الوصول إليه هو أن ندرك الدور الهام الذي تلعبه الإدارة والتنظيم في قيادة عملية التغير والتجديد في أي مجتمع من المجتمعات، وأن نستخلص بالتالي من قراءتنا لدروس التاريخ ولدروس الحاضر نتيجة أساسية وهي أن شتى أشكال التقدم لا يمكن أن يطلقها إلا تنظيم متقن يقود ذلك التقدم، وأن تحقيق التسارع في التغير والتطور لا يمكن أن يتم إلا عن طريق قدرة إدارية توجه ذلك التسارع وتتولى سفينته.
إن فهم الحضارة الحديثة فهماً حياً يعني هذا الطراز من الفهم أولاً وبالذات: إنه لا يعني مجرد نقل أشكال التقدم، بل يعني إدراك الروح المحركة الثاوية وراء التقدم. إنه لا يعني مجرد نقل النتائج والإتيان بهياكلها، بل يعني نقل الاتجاه الثاوي وراء تلك النتائج والاندفاعة المحركة للبنى والهياكل. إن للحضارة الحديثة فلسفتها ومنطقها الداخلي، وهما اللذان ينبغي أن نجهد للكشف عنهما وتبنيهما. أما النتاج فلا معنى لنقله من دون القوة المنتجة، وأما الثروة فلا سبيل إلى اجتراحها من دون القوة الذاتية العاملة على ازديادها وتراكمها. إن الحضارة الحديثة روح ونفس قبل أن تكون مادة، وإن التقدم طاقة محركة شاملة قبل أن يكون أشياء وبضائع وآلات.
تلك حقائق بدهية، غير أنها منسية عند التطبيق. عند التطبيق نمسك بنتائج الحضارة مبعثرة مشتتة هنا وهناك، ويخيل إلينا أن ضم أيد مبتورة وأرجل منثورة وجذع ملقى ورأس مقطوع يمكن أن يخلق بشراً سوياً، كائناً من لحم ودم، مخلوقاً ذا حياة. ههنا نذر القليل من المعارف، وهنالك ننثر بعض الوسائل التكنولوجية الحديثة، وهنا وهنالك نلصق بنية مجلوبة حديثة على كيان يحفر التخلف في أعماقه. أما النظرة الكلية فنجهلها، وأما الصورة المتكاملة فلا نأبه لها. وأما الخيوط الممسكة بكل شيء، المحركة لكل شيء، فلا نعرف عنها شيئاً.
قلما ندرك أن التقدم مولود علينا أن نتعهده خطوة خطوة وفي شتى جنباته وأشكاله، وأنه في حاجة إلى قيادة محكمة وتوجيه متكامل، ورعاية شاملة متصلة. كثيراً ما نشعل شمعة هنا لنطفئ أخرى هناك. وكثيراً ما نخلق مولوداً ونضع فيه الآمال ثم نقذف به وسط كل عوامل الفناء. معركتنا مع التقدم ومع الخلاص معركة لا ناظم لها ولا ضابط، لا تعرف الجهود المتناثرة فيها مستقرها، ولا تدري التضحيات الكثيرة خلالها مصيرها.
لا تعوزنا في معركتنا الكفاءة والموهبة بمقدار ما يعوزنا حسن قيادتهما والإفادة منهما، ولا تنقصنا التضحيات بمقدار ما ينقصنا وضع هذه التضحيات ضمن إطار منظوم وعملية متصلة متكاملة نامية. لا نشكو الجهود الكثيرة هنا وهناك قدر ما نشكو ضم هذه الجهود في معزوفة متناسقة معبرة، وأدراجها ضمن شبكة تنظيم «متصالبة» خصيب.
هذا ما يعلمنا إياه استقراؤنا للتجربة العالمية. وهو بعد ذلك ينضاف إلى ما يعلمنا إياه تقرينا لواقعنا وسماتنا وخصائصنا المتفردة. إن هذا الواقع يجأر بحقيقة أساسية، وهي أننا طاقة جغرافية وبشرية وحضارية ومادية كبيرة، ولكنها مهدورة ضائعة، لأننا لم نتقن بعد التنظيم العلمي العملي الذي يجنبنا الهدر والضياع. مائة مليون عربي يقطنون رقعة من الأرض تبلغ اثني عشر مليوناً من الكيلو مترات المربعة، تفوق في مساحتها القارة الأوروبية جميعها. وعلى أرضهم تقوم ثروات طبيعية لم تيسر لسواهم، ولديهم تراث حضاري غني يفخر به تراث العالم.
وقد استطاع هؤلاء أن يضيفوا إلى تليدهم جديداً، فشدأوا حظاً وفيراً من الثقافة الحديثة والعلم الحديث والتقنية الحديثة. غير أن عديدهم رقم سلبي إلى حد كبير، ورقعتهم المترامية عبء عليهم بدل أن تكون مصدر قوة لهم، وثروتهم الطبيعية الهائلة قوة لأعدائهم، وكفاءاتهم العلمية والبشرية ضائعة مهدورة وسط تربة لا تعرف كيف تمتصها وتعرف كيف تلفظها.
أفتكون المسألة مجرد مسألة وعي وذكاء، أو مسألة تخلف حضاري تقني، أو مسألة ضعف في البنية السياسية، أم أنها قبل هذا وذاك مسألة افتقار إلى خطة ناظمة، مسألة تفريط في اقتباس روح العصر، روح السيطرة على الأشياء والأحداث والقوى عن طريق إحكام شبكة التنظيم الكفيلة باستثمارها استثماراً خصيباً؟
وإذا كان مطلب التنظيم المحبوك المتكامل مطلباً أساسياً في أي مرحلة من مراحل حياتنا، فهو في المرحلة التي نخوض فيها معركة فعلية طويلة مع العدو أوجب وألزم. قد لا يدرك المدركون شأن الخطة المنظمة أيام السلم – رغم دورها الحاسم في كل تقدم حقيقي – ولكنهم لابد مدركون شأن عمليات التنظيم في المعارك. أو لم تولد روح التنظيم العلمي بل الرياضي في المجتمعات المتقدمة نفسها من خلال معاناة ظروف المعركة؟ ألم تكن الحرب العالمية الثانية أحد العوامل الأساسية التي فتحت الأعين على أهمية عمليات التنظيم وعلى دورها في شتى أشكال النصر؟ أو لم تكن عملية الإنزال التي قام بها الحلفاء ضد ألمانيا على ساحل النورماندي أيام تلك الحرب مثالاً وأنموذجاً ناجحاً للتنظيم العقلاني الرياضي دل الباحثين على أهمية ذلك التنظيم في السلم والحرب؟
أولسنا – ونحن في معركتنا مع العدو – أحوج الناس إلى مثل هذا التنظيم الذي يفيد من كل قطرة جهد وينسق كل عطاء ويضم شتات الأعمال؟ أولسنا أحوج ما نكون إلى لم شمل تلك الطاقة الجبارة التي نملكها في كل ميدان والتي يذهب معظمها هدراً، وإلى حسن استخدام ذلك التحرق إلى العمل الذي يستنفد أغراضه عند مجرد الألم والحرقة؟
* * *
وبعد، هل نغلو إذا قلنا أن الخلق والإبداع الذي ننتظره هو الخلق والإبداع في ميدان التنظيم وتعبئة القوى؟ هل نسرف إذا قلنا أن حاجتنا إلى الجهد اليومي المنظم للقوى تفوق بكثير حاجتنا إلى الأفكار الكبيرة والنظريات الواسعة؟ هل نقول جديداً إذا قلنا أن قيمة الأفكار تستمد من الجهد الدائب الطويل من أجل وضعها موضع التنفيذ؟ أجل، يحق لنا أن نقول – معدلين قولة بيكون الشهيرة – أن عملاً واحداً منظماً يعدل ألف نظرية عقلية، وان صيغة عملية للتنفيذ المحكم أثمن من آلاف الأفكار العامة النائمة. إن قيادة عملية منظمة، كعملية تفجير الفدائيين للقنابل في ساحة القدس، أفصح من أي منطق وأبلغ من أي ذكاء. وإن وضع خطة عسكرية محكمة للدفاع أو الهجوم خير من تكديس أكوام الأسلحة وأحدث المعدات، وإبقائها حبيسة الاجتهادات والأنظار والحيرة. وإن إنجاح مشروع من مشروعات الإنتاج خير من معرفة مئات النظريات الاقتصادية. وإن العمل على بناء نظام تربوي وفق خطة مكينة، هو الذي يمنح النظريات التربوية معناها ويعطي الأدمغة المفكرة في التغيير مداها وانطلاقها شطر التغيير.
هذا إذا أردنا أن نبقى في حدود التنظيم الجزئي. غير أن عملنا هذا في مثل هذه الميادين الجزئية، لابد أن يتوِّجه عمل تنظيمي شامل، يضع كل عمل جزئي ضمن السياق الكلي الذي ينتسب إليه، في موضعه من جملة التنظيم المرسوم. وعند ذلك تصب الجهود في أقنيتها، ويزول الهدر والضياع، ونقضي على الحيرة القتالة تستنفد من الإنسان أكبر طاقة دون أن تمده بأي طاقة. عند ذلك يصبح لكل قرار معناه، ضمن إطار الصورة الكلية، ويغدو التقرير واضحاً ويصبح التنفيذ أوضح. عند ذلك تقوم عملية «الإخصاب المتصالب» فيغذي كل ميدان سائر الميادين ويغتذي كل ميدان بسواه، ويصبح لكل زاوية من الزوايا التي ننظر بها إلى الأمور معناها العضوي الوظيفي، ويكتسب كل حل نقترحه قيمته وشأنه. عندها يصح القول أن سبيل الخلاص هو في كل ما يقوله القائلون، غير أنه ليس في أي واحد مما يقولونه على حدة. إنه في جملة ما يقولون، إنه في النظام الذي يلم شمل الحلول، لتصبح في النهاية حلاً واحداً.
وحين ندعو إلى مثل هذا النظام والتنظيم، لا ندعو إلى شيء معجز. بل نحن على العكس نظهر أن الحل بين أيدينا، وأن ما نقع فيه من حيرة أمام الحلول، ومن توهم لصعوبة الخلاص، يرجع بالدرجة الأولى إلى أننا لم ندرك حل الحلول، ولم نهتدِ بعد إلى قضية القضايا. التقدم التكنولوجي العالمي واللحاق به قد يخيفنا. وبث الوعي الثقافي الإنساني الواسع قد يبدو مطلباً بعيد المدى. وتعبئة الشعب من أجل هدف ووراء قيادة، قد يتراءى أمنية لا ندري من أين نمسك بها. غير أن هذا وذاك وكثيراً سواه يبدو اقرب متناولاً وأدنى مورداً عندما نقبض على «الآلية» التي تسهل مهمات التغيير، وعندما نمسك بالوسيلة التي تمكننا من التقاط الخيط الأساسي ضمن تلك «الشلة» المعقدة من الخيوط. والوسيلة كما قلنا ونقول ليست هي التقدم التقني أو الثقافة أو الوعي القومي أو التعبئة أو التمرس بالمعارك الفعلية، بمقدار ما هي «العلائق» بين هذه الأمور كلها وكثير سواها. والعلائق تعني إدراكها وتعني تنظيمها.
إن الشعور بالنقص والشعور بالعجز نتيجة طبيعية لإدراك الأمور في جزئياتها وفي أوصالها المقطعة. وتجاوز ذلك الشعور أمر طبيعي لدى من وعى صفحة الأشياء وأدركها إدراكاً كلياً شاملاً، وتبيَّن العلائق التي تربطها أو التي يمكن أن تربطها، وعرف بالتالي من أين المسير وإلى أين المصير. وهو أمر طبيعي أكثر وحقيقة صامدة راسخة لدى من استطاع فعلاً أن يضع التنظيم المستند إلى ذلك الإدراك موضع التنفيذ وأن ينجح في تنفيذه.
أجل في البدء كان العمل، كما أراد أن يقول الشاعر «غوته»، ولكن العمل المنشود هو العمل المستند إلى خطة منظمة، إلى تنظيم إداري محكم، إلى إتقان لوسائل التنفيذ، «للوسائل الإجرائية» كما يقول علماء الإدارة والتنظيم اليوم.
من هنا نبدأ وبه نكسر الدور الفاسد الذي ندور فيه، ومن خلاله نضع إصبعنا على مواطن القوة في مجتمعنا، ونجعل منها منطلقاً لجهد سوف يتراكم تراكماً ذاتياً، وسوف يحمل ويتئم، ويلد المجتمع الذي نرجو، والخلاص الذي نريد.
بيروت
عبد الله عبد الدائم