من ستالين وخروتشيف إلى الاشتراكية العربية

مجلة المعرفة – العدد 29 – تموز 1964

من ستالين وخروتشيف
إلى الاشتراكية العربية
للدكتور عبد الله عبد الدائم

في كلمة مرتجلة ألقاها خروتشيف، لدى وصوله إلى «ميسكولك Miskolc» في هنغاريا، في السادس من نيسان الماضي، أجاب الرئيس السوفيتي على بعض حملات الصين واتهاماتها، وأشار خاصة إلى ما تعرض له الاتحاد السوفياتي من تهمة النكوص عن الماركسية اللينينية والسير نحو «الانحلال البورجوازي». ومما جاء في كلمته: «لقد تخلص حزبنا وشعبنا من نظام ستالين المقيت واستطاعا بذلك أن يحققا أعمالاً عظيمة. صحيح أن ارتفاع مستوى الحياة لدينا جعل مواطنينا يوغلون في المطالب، ولكنني أجيب أولئك الذين يزعمون أن التقدم الاقتصادي وارتفاع مستوى المعيشة أمران لا ينفصلان عن المفهوم البورجوازي للحياة، أننا فخورون بأن نرى مواطنينا يحيون حياة أفضل. وبعد لقد قمنا بالثورة من أجل أن نستمتع بحياة أحسن من جميع الوجوه».
ويحمل الرئيس السوفياتي في هذه الكلمة على «أولئك الذين يتحدثون عن الانحلال في حين أن الاقتصاد ينمو والثروات تتكاثر والناس يثرون». ويصرخ قائلاً: إذا كان هذا هو الانحلال، فنحن من أنصاره.
وفي كلمة أخرى ألقاها في «بورسود Borsod» في السابع من ذلك الشهر يعاود مثل هذه الآراء، ويقول: «لقد حققنا التحرر. لقد قضينا على الرأسماليين البورجوازيين، وعلى أسياد الإقطاع وأمثالهم. غير أن الذي نود أن نقوم به خاصة هو أن نقدم للمواطنين جميعاً حياة أفضل ومزيداً من الثروات».
ولسنا نورد هذه الكلمات لننتصر لأحد الفريقين المختصمين، بل لأننا نجد أنها جديرة بمزيد من التأمل والدراسة، لا سيما في الظروف التي يجتازها بلدنا العربي.
قد تبدو أقوال خروتشيف هذه أقوالاً بدهية وضرباً من تحصيل الحاصل. غير أنها في الواقع تلخيص مبسط لمسائل طالما أثارت من الجدل ما أثارت، ولأفكار قد تكون في نهاية الأمر جوهر النزاع بين الكثير من الاتجاهات والمذاهب في عصرنا الحاضر. بل لعل أهم ما فيها أنها تشتمل على مسألة تتحلق حولها الكثير من مسائل الخلاف بين الفرقاء المختلفين من أصحاب الاتجاهات الاشتراكية في العالم وفي البلدان العربية.
ولا يتسع المجال للخوض في شتيت المعاني التي توحي بها هذه الأقوال، وحسبنا في هذه الكلمة الموجزة أن نستخلص أهم معانيها في نظرنا:
– 1 –
أقوال خروتشيف هذه توكيد لحقيقة هامة، تبدو بدهية بيّنة بذاتها، ولكنها تنسى وتهمل ويكوّن نسيانها وإهمالها انحرافاً خطيراً عن المعنى الصحيح للاشتراكية. هذه الحقيقة هي أن أهم ما في الاشتراكية هدفها الإيجابي، نعني الوصول إلى زيادة الثروة ورفع مستوى النتاج والدخل القومي الفردي. أما القضاء على استغلال رأس المال وسيطرة الإقطاع فهدف يحمل دون شك بعض المعاني الإيجابية (من مثل العدالة وتحرير الإنسان وغيرها من المعاني الإنسانية) غير انه لا يبلغ أهدافه كاملة ولا يصل إلى مستقره الحقيقي إلا إذا كان وسيلة لهدف أكثر إيجابية، نعني زيادة الثروة وتحقيق الرخاء الاقتصادي. وليس القصد من الاشتراكية مجرد الحد من طغيان طبقة على طبقة، وتحرير طبقة الكادحين من استعباد طبقة المالكين المستغلين، وإنما القصد منها أيضاً إقامة علائق اقتصادية جديدة من شأنها أن تؤدي إلى رفع مستوى النتاج القومي وزيادة الثروة وازدهارها وإلى تحرير الإنسان من عبوديته لأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية بالتالي. وكل ما في الأمر أن من شرائط إقامة هذه العلائق الاقتصادية المنتجة الخصيبة، تغيير العلائق بين الناس وبين الطبقات الاجتماعية، وردها إلى علائق إنسانية يستطيع فيها الجميع أن يعطوا خير ما عندهم، وتستطيع فيها الطبقة الكادحة خاصة أن تكون قادرة على أحسن العطاء والنتاج. والقوانين الاشتراكية، على اختلاف أنواعها، ليست في أعماقها تدابير سلبية، وإنما هي أداة من أدوات التنظيم الصحيح للقوى المنتجة ولعلاقات الإنتاج. إنها لا تقف عند البؤس الاجتماعي والظلم الاجتماعي وحدهما، ولا تكتفي بالوقوف ضد المسؤولين عنهما، وإنما تقف فوق هذا عند فعالية الإنتاج ونشاطه.

– 2 –
وتنتج عن هذه الحقيقة الأولى حقيقة ثانية هامة وهي أن زيادة الثروة ورفع مستوى الدخل والوصول إلى الرفاهية، هي أهداف المجتمع الاشتراكي والمجتمع الرأسمالي على حد سواء. وليس الخلاف بينهما حول هذه الغاية النهائية، وليس صحيحاً أن نقول، كما يخيل لكثيرين، أن المجتمعات الرأسمالية تمنح قضية رفع مستوى المعيشة المقام الأول ولو كان ذلك على حساب ارتفاع مستوى الحياة. إن في مثل هذه الأقوال تبسيطاً للواقع مخلاً.
ولا يتسع المجال لمناقشة هذه الفكرة من جوانبها جميعها، ونقول موجزين أن أنصار الاشتراكية وأنصار الرأسمالية يتفقون حول الهدف النهائي المرجو، وهو الوصول إلى مجتمع سعيد ثري يزول فيه الصراع، ويتحقق فيه التكامل والوئام الاجتماعي. غير أنهم يختلفون حول وسائل بلوغ هذا الهدف، وحول السبيل الذي ستسلكه المجتمعات الإنسانية في تطورها. ورغم قول كليهما بأن السير الطبيعي للتاريخ ينزع إلى الإقلال من عوامل التناقض والصراع بين الناس وإلى تحقيق الانسجام والتكامل الاجتماعي، ورغم اتفاقهما على القول بأن هذا السير التاريخي يوجهه التقدم التقني، فهما يختلفان في تفسير مقومات هذا السير. فالغرب يرى أن التقدم التقني يؤدي مباشرة إلى إزالة عوامل الصراع بين الناس، وذلك عن طريق تحقيق الرخاء والقضاء على العوز في جميع المجالات. وزيادة الثروة زيادة يعم خيرها الجميع، هي عنده الأداة المثلى لإزالة الصراع. والناس في نظره قد يصطرعون أمام قطعة «حلوى» صغيرة، ولا يرتضي أحدهم أن ينال الآخر منها لقيمة أو لقيمات قليلة زيادة عنه، ولكن صراعهم يتضاءل أمام قطعة حلوى كبيرة جداً، ولا يمد أحدهم عينيه إلى قطعة أخيه ولو فاقت قطعته، ففي ما ناله هو ما يكفيه وزيادة. أما الشرق، فيرى أن أثر التقدم التقني في المجتمعات الحديثة أثر غير مباشر، وليس أثراً مباشراً كما يرى الغرب. فهذا التقدم التقني يخلق أشكالاً جديدة من الإنتاج، وهذه تولد بدورها نظماً اجتماعية جديدة، تنزع خاصة إلى إلغاء الملكية الفردية، وتنزع بالتالي إلى القضاء على صراع الطبقات التي ينجم عنها، وتقيم بذلك مجتمعاً بلا طبقات أي مجتمعاً بلا صراع.
أو نقول بعبارة أخرى: إن أنصار الاتجاه الغربي يرون أن تكامل المجتمع وانسجامه يتمان عن طريق الرخاء وفيض النعمة، بينما يرى الماركسيون أن الرخاء والفيض في النعم ينجمان على العكس من تكامل المجتمع وانسجامه بالدرجة الأولى. فالصراع الاجتماعي في نظر الأولين ناجم عن التنافس بين أناس كثيرين على قصعة صغيرة فقيرة. أما الماركسيون فيرون أن الرخاء الحقيقي لا يمكن أن يتحقق فعلاً في المجتمع الرأسمالي، لأن هذا المجتمع مجتمع «مالتوسي» بطبعه (زيادة كبيرة في السكان، تقابلها زيادة ضئيلة في موارد المعيشة). ثم إن تشويه النظام الرأسمالي للعامل يقلل من قدرته على الإنتاج.
وفي وسعنا أيضاً أن نقول بتعبير آخر، إن الغرب يرى أن الرخاء ينتج بطبيعته تكاملاً وانسجاماً اجتماعياً. أما الماركسي فيرى أن الرخاء شرط ضروري لازم للتكامل والانسجام، ولكنه ليس شرطاً كافياً.
– 3 –
ومعنى هذا كله أن البحث عن زيادة الثروة والعمل على تحقيق الرخاء والتكامل الاجتماعي، من أهداف المجتمع الرأسمالي والاشتراكي على حد سواء. والتنافس بينهما قائم حول الوسائل الناجحة التي تؤدي إلى بلوغ هذا الهدف. ومعنى هذا بعد هذا أن أي مجتمع يبني حياته الاشتراكية لا يجوز أن يغفل في سيره الشائك التآخذ والتواصل بين هدفين هامين متكاملين من أهداف هذه الحياة، هدف تحقيق تكامل اجتماعي أفضل من أجل بلوغ رخاء أكبر، وهدف بلوغ رخاء أكبر من أجل تحقيق تكامل اجتماعي أفضل. وفي نظرنا أن الدول الحديثة التي تسير نحو الاشتراكية ومن بينها الدول العربية، يمكن أن تفيد من دروس التجربة العالمية في هذا المجال ويمكن بالتالي أن تجتنب التخبط والتعثر الذي وقعت فيه بعض الحركات الاشتراكية في العالم قبل أن تجد طريقها. وليس صحيحاً أن نقول بأن هنالك حتمية معينة في سير المجتمعات نحو الاشتراكية وان هذه الحتمية تفرض لا محالة أن يمر كل مجتمع، خلال تحوله الاشتراكي، بنفس المراحل التي اجتازتها المجتمعات الأخرى في سيرها نحو الاشتراكية. ومن الهام جداً أن نفرق بين تحول اشتراكي تم في بداية القرن العشرين وبين تحول يجري في النصف الثاني من هذا القرن. ولعل من حسن حظ الدول التي تسير نحو الاشتراكية حديثاً أن أمامها تجربة عالمية غنية تستطيع أن تجنبها الكثير من آلام المخاض وتوفر عليها مآسي التجريب.
وأهم ما توحي به التجربة العالمية في نظرنا، لا سيما إذا نظرنا نظرة مقارنة موضوعية إلى التجربة الاشتراكية والرأسمالية، إن أفضل طريق نحو الاشتراكية في البلدان الحديثة، وعلى رأسها البلدان العربية، هو الطريق الذي يحقق التداخل العميق بين معنيي الاشتراكية: معنى الوصول إلى الرخاء وزيادة الثروة، ومعنى التوسل إلى ذلك عن طريق تغيير بنية المجتمع بحيث تيسر هذا الرخاء. وأخطر ما تتعرض له الاشتراكية أن تأخذ بأحد المعنيين دون أن تدرك ارتباطه العضوي بالآخر. فإن هي أخذت بمعنى الرخاء وزيادة الثروة دون أن تدرك أن من شرائط ذلك إحداث تغيير في علائق الناس وفي وضع الطبقة العاملة خاصة، انزلقت نحو اتجاه رأسمالي بورجوازي فعلاً ولم تصل إلى زيادة الثروة. وإن هي وقفت خاصة عند القضاء على رأس المال والإقطاع دون أن تضع ذلك ضمن إطار زيادة الثروة وزيادة الإنتاج، وقعت في تفسير سلبي خالص للاشتراكية، بفهمها على أنها ثورة طبقية مقصودة لذاتها، وأنها عمل موجه ضد طبقة معينة ولو على حساب فقر المجتمع كله وفقر الطبقة العاملة نفسها بالتالي.
إن الاشتراكية عمل بناء، عمل إيجابي، إنها تعني زيادة الثروة والنتاج عن طريق إقامة مجتمع يسوده الانسجام والتكامل ولا تؤمن بإمكان زيادة الثروة دون تغيير بنية العلائق الاجتماعية والاقتصادية بين الناس، كما لا تؤمن بتغيير العلائق الاجتماعية لمجرد تغيير هذه العلائق ودون أن يكون رائد هذا التغيير كياناً اجتماعياً واقتصادياً أكثر خصباً ونتاجاً. وليست الاشتراكية موقفاً سلبياً فالموقف السلبي ضد إنسان ما يرتد ضد الإنسان، أي إنسان، في نهاية الأمر. وأخطر ما تتعرض له الاشتراكية أن تنقلب إلى عمل ضد طبقة معينة، بدلاً من أن تبدو عملاً بناء منتجاً لمصلحة أفراد المجتمع جميعهم. والاشتراكية لا تكره طبقة أو أفراداً وإنما تحارب علائق اجتماعية واقتصادية أدت إلى تشويه الفرد الرأسمالي والكادح على حد سواء، وتعمل على إقامة علائق جديدة تحول دون هذا التشويه وتحقق الخصب والعطاء في إطار إنساني، وعن طريق هذا الإطار الإنساني. والاشتراكية في البلاد العربية مدعوة قبل غيرها إلى الوقوف عند هذه المعاني الاقتصادية والإنسانية للاشتراكية، ومدعوة إلى تجنب أخطاء وقعت فيها بعض الحركات الاشتراكية في العالم أثناء سيرها ومحاولاتها، وكادت هذه الحركات نفسها تتنكر لها اليوم. أفلا نجد في تصريح خروتشيف، إشارات إلى مثل هذه المعاني؟ أفلا يطرح الصراع القائم اليوم بين روسيا والصين مشكلة إنسانية عميقة في واقعها، مشكلة «إعادة النظر» في التجربة الاشتراكية العالمية بعد سنوات طويلة من تطبيقها، واستخلاص نتائج جديدة جديرة بأن تقدم دروساً ثمينة للدول التي تسير نحو الاشتراكية حديثاً؟ أفلا نجد فيما يوصف اليوم «بإعادة النظر» في الشيوعية، توكيداً لحقائق سبق للاشتراكية العربية أن وكدتها؟
– 4 –
ولا شك أن من أبرز أمائر التحول في الاتجاه السوفيتي، الاتجاه نحو حرية أوسع سواء في الاقتصاد أو في الحياة عامة. فالخطة الاقتصادية كما نعلم تتحرر فيه من المركزية المطلقة الصارمة، وتأخذ باتجاه اقتصادي فيه الكثير من اللامركزية (وهو اتجاه سبقت إليه يوغسلافيا منذ سنين). والنظام السياسي يسير في طَريق التحرر من الحكم الأوتوقراطي الفردي. والاهتمام بالاقتصاد الاستهلاكي يتضح ويقوى، في سبيل توفير رفاهية أكبر للمواطنين وفي سبيل الاقتراب من رخاء نسبي لا يوفر الحاجات الأساسية للناس فحسب (من مأكل ومسكن وملبس) وإنما يوفر أيضاً الحاجات الثانوية (من رفاهية وثقافة ومتع). ونستطيع أن نقول دون ما غلو أن من أهم عوامل الاتجاه نحو مزيد من الحرية والانفتاح في الحياة السياسية، هو ذلك الانفتاح الذي تم في الحياة الاقتصادية وذلك الرخاء الذي تتجه نحوه الأوضاع الاقتصادية هناك. ومعنى هذا أننا لا نستطيع أن نفصل في الواقع بين الأفكار الحرة والإنسانية وبين بعض عواملها الاقتصادية. بل نذهب إلى أبعد من هذا فنقول أن الطابع الأوتوقراطي الديكتاتوري في نظم الحكم لا يرجع فقط إلى مفهوم معين حول السلطة السياسية، وإنما يرجع في كثير من الأحيان إلى عوامل اقتصادية، على رأسها سيطرة الاقتصاد المتخلف. والصلة في الواقع صلة دائرية بين طبيعة النظام السياسي الذي يفرض اقتصاداً معيناً وبين طبيعة النظام الاقتصادي الذي يفرض نظاماً سياسياً معيناً.
إن الاشتراكية العربية ليست في معزل عن هذا المخاض كله، وعن معاني هذه التجربة العالمية، وهي تجد فيها ما يؤكد من جديد ارتباط المفاهيم الديمقراطية والإنسانية للاشتراكية العربية بمفاهيمها الاقتصادية والاجتماعية.
إن شيوعية خروتشيف نفسها تنطلق اليوم من حقيقة كانت تنكرها شيوعية ستالين، وكانت عاملاً من عوامل الصراع بينها وبين بعض الحركات الاشتراكية الأخرى ولا سيما الحركة الاشتراكية في يوغوسلافيا، وهي أن ثمة طرقاً مختلفة لا طريقاً واحداً للاشتراكية.
إن هذا التطور خير ردّ على الذين ينظرون إلى السير الاشتراكي في البلدان العربية نظرة مبسطة مقلدة لماض تجاوزته الإنسانية، مغفلين الظروف الخاصة التي توجد فيها هذه البلدان، تلك الظروف التي تحدد في نهاية الأمر شكل العلائق الاقتصادية الصحيحة التي تؤدي بهذه البلدان إلى مطلبي التكامل الاجتماعي وزيادة الثروة معاً.
فالاشتراكية العربية ولا سيما في هذه المرحلة خاصة، مرحلة الدخول في الاشتراكية، تقيم كبير وزن لعلائق الإنتاج ولخطة الإنتاج، وتعي أعمق الوعي أن الاشتراكية تعني بناء الاقتصاد وإغناءه بوسائل عديدة من بينها القضاء على عوامل الصراع الطبقي، كما تعني التغلب على الاستغلال الرأسمالي والإقطاعي وتيسير ذلك التغلب عن طريق الحفاظ على المعنى الاقتصادي الإيجابي للاشتراكية معنى زيادة الثروة والدخل وتحقيق النماء والازدهار. ولئن كان من اللازب أن يتعرض المجتمع الاشتراكي في بداية أمره إلى بعض التقشف، فمن الواجب أن يكون بيناً إن ذلك التقشف يَعِد حقاً برخاء أكبر وازدهار آت، وأن تكون رؤية ذلك الرخاء والازدهار واضحة للأعين عن طريق خطة اقتصادية علمية مدروسة، يستبين فيها دور رأس المال الخاص والقطاع الخاص إلى جانب الدور الأساسي الذي للقطاع العام.
وبعد لنقل موجزين أن الاشتراكية العربية – رغم افتراقها في كثير من الأمور عن الاشتراكية السوفياتية – لابد أن تفيد من تطور هذه الاشتراكية ومن التحول الكبير الذي طرأ عليها. وهي لا تعيش عام 1964 وكأنها في عام 1905 أو عام 1917 أو أيام ستالين. ولا نغلو إذا عدنا فقلنا أن هذا التطور تصديق لكثير من المبادئ العامة التي نادت بها الاشتراكية العربية في بداية نشأتها وفي بداية خلافها مع الشيوعية.
لقد وضعت الاشتراكية العربية طابعها الإنساني الديمقراطي والقومي في وجه الشيوعية يوم كانت هذه معادية لهذا الطابع. ولن تنسى الاشتراكية العربية اليوم هذا الطابع، يوم أن أخذت بتقبله فيما يبدو شيوعية خروتشيف نفسها. لقد تفاعلت شيوعية روسيا مع الأحداث في الدول الاشتراكية ومع التطورات التي أصابت المجتمعات الرأسمالية نفسها، فغيرت وعدلت وقدمت تفسيرات جديدة. ولن تنسى الاشتراكية العربية هذه الأحداث والتطورات.