من علم النفس لدى العرب – مدخل لدراسة علم الطباع عند العرب

مجلة العلوم البيروتية – السنة السابعة – العدد الرابع – نيسان / أبريل 1962

من علم النفس لدى العرب
مدخل لدراسة علم الطباع عند العرب

ما تزال الدراسات النفسية التي قدمها العرب القدامى، مطوية إلى حد كبير. ونستطيع أن نقول أن هذا الجانب من التراث العربي قد لقي من الإهمال فوق ما لقيه أي جانب سواه. وما هذا لندرة الدراسات العربية القديمة في ميدان البحث النفسي، فهي لدى التمحيص والتحقيق كثيرة غنية. ولكنها ما تزال راقدة في بطون الكتب، بل ما يزال معظمها معتصماً في محفوظات منثورة في مكتبات العالم هنا وهناك، دون أن ينظمه دارس أو يخرجها من عزلتها ناشر.
ولن نشير إلى الجوانب العديدة الهامة التي أسهم بها العرب في ميدان علم النفس. لن نتحدث ههنا عما قدموه في مجالات نفسية كبرى، نذكر على رأسها عابرين مجال الطب والعلاج النفساني. ومجال التوجيه المهني ومجال دراسة الرؤيا ومجال الطباع وعلم الفراسة الذي أردنا أن نخصه بطرف من الحديث في كلمتنا هذه. والذي يعنينا، أكثر من هذا التعداد والتذكار، أن نومئ إلى ما يخلقه هذا الإهمال لتراث العرب في هذا الميدان من انقطاع مستهجن بين دراساتنا الحديثة في علم النفس، تلك الدراسات التي شاعت وذاعت في مدارسنا، وبين ما حواه تراثنا من إرهاص بهذه الدراسات وما ضمه من تباشير طيبة غنية. ومن جملة المشكلات التي نعاني منها في تعليمنا، والتي ترجع إلى هذا الفصام الذي وقع بين ماضينا وحاضرنا
– وهو فصام خلق لدى جيلنا ضرباً من ازدواج الشخصية – ما نجده من فقدان اللقاء بين ما نقدمه لطلابنا من حقائق علم النفس الحديث وبين بعض أصول هذه الحقائق النفسية في تراثنا العربي الماضي. ومن عجب أن ينهض تدريس علم النفس في مدارسنا وجامعاتنا العربية في معزل تام عن كل إشارة إلى ما كانت له من جذور وبذور في حياتنا العربية وإلى ما قدمه أجدادنا في هذا الميدان إلى جانب ما قدموه في مختلف ميادين العلم. ويزيد في خطورة هذا الإهمال أنه كثيراً ما ينضاف إلى ضروب من الإهمال أخرى تتناول في معظم الأحيان الجانب العلمي من التراث العربي. حتى ليخيل إلى الناشئ في بلادنا أن ذلك الجانب العلمي جانب هزيل نحيل في تراثنا العربي، ولا سيما إذا ما قيس بالجانب الأدبي والفلسفي الذي تقوم العناية بدراسته والتعريف به في مدارسنا على نطاق واسع. في حين أن من حق الحضارة العربية علينا أن ننصفها فنشير إلى أن الجانب العلمي بل التجريبي فيها لا يقل شأواً عن الجانب الإنساني الفلسفي إن لم يزد عليه. بل من حق تلك الحضارة أن نبرز للناشئة طابعها الأصيل الميز، الذي هو في نظرنا طابع انعقاد الصلة المتينة بين الوجه العلمي التجريبي والوجه الإنساني الفكري.
وما هدفنا الآن أن نخوض في هذا البحث الهام. وحسبنا أن أشرنا إلى مخاطر هذا الإهمال لجانب هام من جوانب تراثنا العربي، نعني جانب الدراسات النفسية، على ما لها في حضارة العرب من شأن وما عرفته من نماء.
وقد سبق لنا أن جربنا سد بعض هذه الثغرة في أكثر من محاولة، كان أجمعها تلك المحاولة التي قمنا بها لدراسة الأحلام عند العرب والتي نشرناها باللغة الفرنسية عام 1957 (1) على أننا لم نستطع في تلك المحاولة استيفاء موضوع الأحلام ذاته، فضلاً عن أننا لم نشر إلى الجوانب العديدة الأخرى في الدراسات النفسية العربية. ومن واجبنا ومن واجب المفكرين العرب فيما نعتقد التوفر على جلاء هذه الجوانب كلها والعمل على التزيد من دراستها والتعريف بها.
وعملنا في هذه الكلمة مدخل صغير جداً إلى هذا الأفق الواسع الفسيح، بل هي مدخل متواضع خجول إلى هذا الجانب الذي تخيّرناه وسط ذلك الأفق العريض، نعني جانب الطباع ودراستها عند العرب. فنحن ندرك أعمق الإدراك أن الحديث عن هذا الجانب وحده، نعني الطباع ودراسة العرب لها، يفرض علينا أن نخط أكثر من كتاب برأسه. وجل ما نطمح إليه في هذه العجالة أن نذكر بالمسألة وأن نطلع على شأنها وأن نتبين مواضع البحث فيها ومظان الرجوع إليها.
ونضيف – قبل الخوض في هذا – أن التنقيب عن دراسة الطباع عند العرب، يزداد اليوم أهمية وشأناً بعد ما كان من تطور الدراسات العلمية الحديثة في مجال الطباع، وبعد ما أخذت تشغله هذه الدراسة من عناية علماء النفس المحدثين منذ الربع الثاني من هذا القرن خاصة. ولن نقول جديداً حين نقول أن دراسة الطباع غدت اليوم موضوع علم يكاد يستقل بذاته، يعرف باسم علم الطباع، وإن لهذا العلم رواده وجوَّابيه، ونزعاته واتجاهاته، كما أن له أصداءه وفوائده في مجالات عديدة، كمجالات التربية والصناعة والعمل جملة، وكمجالات الأمراض النفسية والتوجيه المهني ومشكلات الأحداث والجريمة وغيرها..
ولا يتسع المقام حتى للإشارة العابرة إلى أمهات الدراسات الحديثة في ميدان علم الطباع هذا، وإلى ما كان له في تطبيقات تزداد اتساعاً وشأناً. وحسبنا أن نعيد إلى الأذهان عابرين ذكرى رؤوس العلماء على اختلاف نزعاتهم، من أمثال «فيولا Viola» و«باندي Pende» الإيطاليين، ومن أمثال «كريشتمر Kretschmer» و«كلاجس Klages» و«شلدون Sheldon» بل من أمثال «فرويد Freud» و«سبيرمان Sperman»، وأخيراً من مثل «لوسين Le Seune» ومن قبله: «فيرزما Wiersma» و«هيمانس Heymans». ولنعد مسرعين إلى موضوعنا، بعد أن استبانت لنا أهميته من هذا العرض الموجز للشأو الذي أخذه علم الطباع في وقتنا. وفي عرضنا للدراسات المتصلة بالطباع عند العرب، سنضطر أيضاً، كما قلنا، أن نكتفي بإلمامة سريعة وعابرة، نطوف بها على أمهات تلك الدراسات وعلى أئمة الدارسين، دون ما وقفة تحليلية لن تجدي فيها إلا أبحاث مطولة نرجو أن نسوقها فيما بعد.
ونقول بإيجاز أننا نقع على هذه الدراسات المتصلة بالطباع عند العرب، في جملة من الكتب قد تبدو متباعدة في ظاهرها. فنحن نقع عليها في كتب الفراسة، وما أكثرها عند العرب، ونقع عليها في الكتب التي تدرس «الاختلاج» وهي صنو ونظير لكتب الفراسة، ونلفيها كذلك في كتب تأويل الرؤيا وتفسير الأحلام، بل في كثير من كتب الأدب والأخلاق.
أما كتب الفراسة فغزيرة وفيرة، لما جنح إليه العرب بطبعهم من نزعة إلى تقري الأشخاص وروز النفوس. وحسبنا أن نذكر عنايتهم القديمة منذ أيام جاهليتهم بالكهانة والعرافة وبالريافة وقيافة الأثر والبشر وبالفراسة والزجر والطرق بالحصى وغيرها من المعارف ذات الصلة الوثيقة بالاستدلال على الأشياء من ظواهرها الخارجية. ثم جاءت وثبة الحضارة العربية وجاء اتصال العرب بالحضارات الأجنبية، وعلى رأسها اليونانية والفارسية والهندية فزاد ذلك في عنايتهم بهذا المنزع، وقام تعانق أصيل بين منازع العرب الأصيلة وبين ما اطلعوا عليه من دراسات يونان وفارس وهند في ميدان الطباع، وعلى الأخص منها دراسات جالينوس الطبيب اليوناني الشهير الذي أخذ عنه العرب في هذا الباب الشيء الكثير.
وقد قام بعض العلماء العرب المعاصرين بدراسة جانب من تراث العرب في هذا المجال، ومن أشهر ما قام في هذا الباب، نشر الأستاذ يوسف مراد كتاب الفراسة للرازي وترجمته إلى اللغة الفرنسية منذ نيف وربع قرن.
وإذا أردنا أن نذكِّر بأشهر مظان البحث في علم الفراسة عند العرب، وجب أن نشير خاصة إلى كتاب قسطا بن لوقا البعلبكي، «في طول العمر وفراسة المعمرين» (وهو مخطوط في مكتبة برلين) وإلى كتاب زين الدين العمري المرصفي المعروف بالبهجة الأنسية في الفراسة الإنسانية (وهو مخطوط بالمكتبة الوطنية بباريس). كما وجب أن نقف وقفة ذات دلالة عند مؤلف لم يذع صيته كثيراً، وهو عندنا جدير بمزيد من العناية والدراسة، ونعني به العالم الدمشقي أبا عبد الله شمس الدين بن محمد بن برهان الدين إبراهيم بن سعيد الأكفاني الأنصاري، المعروف باسم شيخ الربوة (نسبة إلى ضاحية الربوة قرب دمشق). ويزيد في أهمية هذا الباحث أنه علاَّمة جمع علماً محيطاً في أبواب من العلم متفرقة، فكتب في الفراسة وكتب في أحوال الأمم وطباعها، وكتب في الطب وكتب في التصوف وكتب في المعادن وأحوال الجواهر وكتب في «عجائب البر والبحر»، وكتب فوق هذا وذاك في التعلم والتعليم. ونرجو أن يكون لنا عود إلى أبحاثه المختلفة ولا سيما ما اتصل منها بالتعليم، وأن تتاح لنا دراسة متصلة لكتابه الهام في هذا الباب، كتاب «إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد»، كما نرجو أن تتاح لنا مثل هذه الدراسة لكتابه الآخر «الدر النظيم في أحوال العلوم والتعليم» (ويوجد مخطوطاً في بعض المكتبات، ولا سيما مكتبة فيينا وليدن). أما كتبه في الفراسة وعلم الطباع فكثيرة عديدة، بعضها يبحث في الاختلاج، مثل «كتاب الاختلاج» (مخطوط في المكتبة الوطنية بباريس)، ومثل كتاب «كشف الريْن في أحوال العين». وبعضها الآخر يبحث في الفراسة نفسها، ككتابه الشهير «الفراسة لأجل السياسة» وكتاب «أساس الرياسة في علم الفراسة» وحتى كتاب «النظر والتحقيق في تقليب الرقيق» (مخطوط في المكتبة الوطنية بباريس).
وأجمل ما في دراسات الأنصاري، شيخ الربوة، عن الفراسة، ما قام به من بحث مستفيض لنفسية الشعوب وما حاول أن يجلوه من تباين طباع الأمم المختلفة، مستبقاً كثيراً من الدراسات الحديثة في هذا الباب، مذكراً بدراسة سيغفريد Siegfried المتأخرة عن «نفسية الشعوب» (1) ودراسات العرب في علم الفراسة أوسع من أن يحصيها عد. وحسبنا أن أشرنا إلى أهم معالمها. وهي كما نعلم قديمة متوارثة، زاد فيها اتصال العرب بالثقافات الأجنبية، وإن يكن أصلها في نزعة عرفها العرب منذ أيامهم الأولى يوم كانوا يستدلون على الأمور الخفية بالأمور الظاهرة وعلى باطن الإنسان بظاهره، مستدلين مثلاً باتساع الجبين على الذكاء، وبعرض القفا على الغباء وبضيق العين على الشح وبغلظ الشفتين على الإسراف بالحب والبغض. ومثل ذلك يصدق على الدراسات الخاصة بالاختلاج وهي في واقعها فرع للدراسات المتصلة بالفراسة. ولن نقف عندها وقفة خاصة. وكلنا يذكر عناية العرب منذ جاهليتهم بحركات الأعضاء والجوارح ودلالتها، فخلجة العين اليمين تدل على اليمن وخلجة الشمال على الشؤم:
خلجت عيني اليمين بخير
تلك عين مأمولة الخلجان

إذا اختلجت عيني أقول لعلها
فتاة بني عمرة بها العين تلمع

إذا اختلجت عيني أقول: لعلها
لرؤيتها تهتاج عيني وتطرف

وكلنا يذكر ما آمنوا به من أن حذر الرجل يزول بذكر الإنسان من يحب:
إذا خدرت رجلي ذكرتك اشتفي
بدعواك من مذل بها فيهون

وأنت لعيني قرة حين نلتقي
وذكرك يشفيني إذا خدرت رجلي

أهيم بها في كل ممسى ومصبح
وأكثر ذكراها إذا اخدرت رجلي

بل كلنا يذكر تشاؤمهم بالعطاس، كما في قول امرئ القيس:
وقد أغتدي قبل العطاس بهيكل
شديد منيع الجنب نعم المنطق

وكقول آخر:
وخرق إذا وجهت فيه لغزوة
مضيت ولم يحبسك عنه العواطس

وكقول رؤبة بن العجاج يصف فلاة: «قطعتها ولا أهاب العطاس». كذلك نذكر جميعاً تشاؤم العرب منذ جاهليتهم بالطير، وتمييزهم بين السانحة منها والبارحة، وتشاؤمهم بالغراب ونحوه، وكلها بذور لتلك الدراسات عن الاختلاج التي نجدها متطورة نامية فيما بعد، ولا سيما في أواخر العصر الأموي وبداية العباسي.
أما عن كتب علم الرؤيا وتفسير الأحلام وما تضمنته من إشارات إلى جوانب تتصل بعلم الطباع، فالحديث يطول.
وحسبنا أن نقول أن معظم كتب تفسير الأحلام عند العرب إشارات إلى فكرة هامة، نجدها في الدراسة الحديثة للأحلام، وهي ما لطباع الأشخاص من أثر في الأحلام التي يرونها. بل إن العرب قاموا بتصنيف لأحلام الأشخاص استناداً إلى ما يغلب من أمزجتهم وطباعهم، مبينين هذا الترابط بين الطبع والحلم بل مبينين ما وراءه من ترابط بين الجسد وأحواله وبين الأحلام وصورها. نجد ذلك في الكتب المنسوبة خطأ إلى ابن سيرين، ونجده في كتب التعبير الشهيرة، من مثل كتاب «القادري في التعبير» وكتاب «الإشارات في علم العبارات» لابن شاهين الظاهري، وكتاب «تعطير الأنام» للنابلسي، وفي طائفة كبيرة من كتب التفسير مطبوعة
أو مخطوطة. وحسبنا في هذا المجال أن نورد طرفاً مما نجده حول هذا الموضوع في كتاب هام من كتب التعبير، غير معروف بعد، وما يزال مخطوطاً (في المكتبة الوطنية بباريس نسخة منه) ونعني به كتاب «التعبير المنيف، والتأويل الشريف» لمحمد بن المولى قطب الدين. وهو من أعمق كتب التأويل ينهج فيه صاحبه نهجاً فلسفياً وباطنياً. ومما جاء فيه (وهو في هذا لا يعدو ان يكرر ما قالته كتب التفسير قبله)، في حديثه عن أصناف الرؤيا: «وأما الرابع منها ما تريها الطبائع إذا تكدرت، كما إذا غلبت على الإنسان الصفراء كثرت رؤيته النيران والصواعق والحروب والألوان الصفر، وإذا غلبت عليه البرودة كثرت رؤية الثلج والبرد والعيون الباردة، وإذا غلبت عليه السوداء كثرت رؤيته الظلمات والمخاوف والألوان السود، وإذا غلبت عليه اليبوسة كثرت رؤيته تمزيق الثياب ونتف الشعر والصخر والطيران، وإذا غلب عليه الامتلاء كثرت عليه رؤية العمل الثقيل، وإذا غلبت عليه السَّدد كثرت رؤية الضيق والخناق، وإذا عفَّن في جسده شيء وصار حشاؤه منتناً كثرت رؤيته العذرة والقذرة والرياح المنتنة… وإذا كانت الطبائع معتدلة كثرت رؤيته السرور والسكن واللباس الفاخر والأغذية الشهية».
أما كتب الأدب والأخلاق فعامرة بإشارات منثورة عن أمور تتعلق بالطباع وأشكالها وبالفراسة وألوانها. وإن نذكر نذكر كتب أبي حيان التوحيدي وما حوته من كثير الكثير في هذا المجال، وكتب الجاحظ، من البيان والتبيين إلى البخلاء، وكتب ابن قتيبة وعلى رأسها أدب الكاتب، بل بعض كتب السياسة وآداب الملوك من مثل كتاب «سراج الملوك» لأبي بكر القرشي، أو كتاب «الآداب السلطانية» الشهير لابن الطقطقي، أو كتاب الماوردي أو غيرها من الكتب الكثيرة. كذلك لا بد أن نذكر كتاباً شهيراً ككتاب «تطهير الأخلاق وتطيب الأعراق» لابن مسكويه.
وبعد، هذه نظرة عجلى إلى جانب من جوانب الدراسات النفسية عند العرب الأقدمين، ما نزعم أننا وفيناها بعض حقها، وكل ما قصدنا إليه أن نطرح المشكلة وأن ندل على مواطن البحث فيها وأهمية التنقيب عنها. ولعل لنا عوداً إلى تفصيلها، ولعل الباحثين يقبلون على منحها ما تستحق من عناية.
وجلّ ما نرجو أن يحتل هذا الجزء من التراث العربي مكانته الجديرة به، وألا يكون حظ الباحثين من التعريف بتراث العرب في علم النفس دون حظهم من الدراسات الأخرى. ونعتقد أن الوحدة الحقة في ثقافة أجيالنا العربية الحاضرة لن تيسر إلا إذا سدت جميع الثغرات في معرفتنا بتاريخنا وإلا إذ صحب الدراسات التي يتلقاها طالبنا عن مختلف العلوم الحديثة ربط وثيق بين هذه الدراسات وبين بدايات العرب القدامى في مجالاتها. إن الانقطاع الذريع الذي حصل بين ماضينا وحاضرنا نتيجة لعصور التأخر العربي لا بد أن يرمم ويرفأ، ولن يكون ذلك إلا بربط جميع جوانب ثقافتنا الحالية بنظائرها وبذورها في تراثنا. ولا نركب صعباً أو نصطنع موقفاً إذا نحن ذهبنا هذا المذهب:
فالحضارة الحديثة كلها التي ننهل منها اليوم في نهم وشوق تجد أصولها وجذورها في الثقافة العربية التي انتقلت إلى العالم العربي منذ العصر العباسي. بل إن الطابع الأول المميز للحضارة الحديثة والذي كان نقطة الانطلاق والنماء فيها، نعني الطابع العلمي التجريبي، هو قبل غيره ما أخذه الأوروبيون عن العرب، يوم نقلت مؤلفاتهم إلى اللاتينية في العصر الوسيط. ولهذا كانت الوقفة عند الجوانب العلمية من تراثنا أدعى لتحقيق الترابط الوثيق بين زادنا الراهن من الحضارة الغربية وبين شخصيتنا الثقافية العربية وتراثنا الثقافي الذي كان له أكبر الأثر في النهضة العلمية العالمية. وبهذا وحده تأخذ ثقافتنا بُعدها القومي والإنساني معاً، وتأخذ قبل هذا وفوق هذا، البعد العلمي الحق فلا تبدو الدراسات العلمية غريبة في ديارنا، ولا تتجلى تقليداً واتباعاً، بل استمراراً في الإبداع واتصالاً في الرسالة.
دمشق
عبد الله عبد الدائم
الأستاذ بكلية التربية