الوطن (الكويتية)

لا يجوز تحميل التربية أعباء تغيير البلاد بجرة قلم. ثمة طلاق بين التعليم الفني المهني وحاجات سوق العمل
النص
الدكتور عبد الله عبد الدائم من المفكرين التربويين المعروفين على نطاق المنطقة العربية والمنظمات الدولية وله مساهماته العديدة في هذا المجال. يزور الكويت حالياً للمشاركة في لجنة تقويم النظام التربوي بالكويت. من مقولاته: «مهمة تكوين الإنسان المنتج والمنتج الإنسان هي مهمة التربية والتخطيط التربوي» وكذل أن الطالب يدرب في المؤسسات التربوية التقليدية على التعامل مع الأفكار والمجردات والعمليات الهوائية أكثر مما يدرب على التعامل مع الواقع الحي المشخص، وهكذا فهي تقود إلى تكوين عمالقة فكريين سريعي العطب غير أنهم أقزام في فهمهم لمشكلات الإنسان الواقعية. الوطن انتهزت فرصة وجوده في الكويت وأجرت معه هذا اللقاء:
المفكر التربوي الدكتور عبد الله عبد الدائم
عبد الدائم لـ الوطن:
لا تنمية تربوية بمعزل عن جملة العوامل التي تحكم المجتمع
في بداية الحديث قلت له: لك مؤلف خاص حول التخطيط التربوي قلت فيه أن التخطيط التربوي لا يبلغ مداه لدى الشعوب النامية إلا إذا نزل إلى الساحة فعلاً وقاد المعركة؟
التخطيط التربوي كما نعلم حديث العهد في البلدان المتقدمة والنامية ترجع نشأته إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد ولد إلى حد بعيد من صلب التخطيط الاقتصادي وكان مبعث ولادته شعور التخطيط الاقتصادي بأنه لا يحقق أغراضه كاملة إلا إذا عني بتنمية الثروة البشرية إلى جانب تنمية الثروة المادية. ومن هنا سارت على الألسن منذ ذلك الحين أفكار كانت جديدة تؤكد أن التربية توظيف مثمر لرؤوس الأموال وأنها ليست مجرد خدمة استهلاكية وأن ما ينفق عليها يعود عطاؤه على المجتمع وعلى الاقتصاد نفسه أضعافاً مضاعفة.. غير أن ولادة التخطيط التربوي من قلب التخطيط الاقتصادي خلف بعض الثغرات التي جهد التخطيط التربوي بعد ذلك من أجل تصحيحها: وعلى رأسها النظر إلى التخطيط التربوي وكأنه تابع للتخطيط الاقتصادي وفي خدمته. أمام هذا الواقع ظهر للمربين بعد لأي أن الوقت قد حان لوضع التخطيط التربوي في مقامه الصحيح، وضع الند والترب لا وضع التابع.
وهنا شجون كثيرة.. يطول الحديث عنها. غير أننا نوجز الأمر فنقول: لسنا ممن يؤمن بتبعية التربية للاقتصاد، كما أننا لسنا ممن يؤمن بتبعية الاقتصاد للتربية.. بل نحن نؤمن بأن بين التنمية التربوية والتنمية الاقتصادية صلة تأثر وتأثير متبادلين.. وليس من الصحيح أنه من الممكن أن تحقق تنمية تربوية بمعزل عن جملة العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تحكم المجتمع.. كما أنه ليس من الصحيح أن في وسعنا تحقيق تنمية اقتصادية دونما عناية مركزة على رأس المال البشري..
ومعنى هذا أن من غير الجائز أن نحمل التربية أكثر مما تحتمل، أعني أن نحملها أعباء تغيير البلاد والعباد بجرة قلم. غير أن هذا لا يعني الإقلال من شأن التربية، ولا يعني أن تتعلل التربية بالأعذار، فتبرر تخلفها أو ضعفها.. بضعف ما يقدم لها من موارد.. أو بضعف البنية الاجتماعية والاقتصادية التي تعمل في إطارها.. إذ لا بد أن نكسر هذه الحلقة المفرغة أو هذا «الدور الفاسد» كما يقول المناطقة العرب.. وكسر الحلقة يكون عن طريق توليد تخطيط تربوي علمي وفعال يربط دون شك بين حاجات التربية وحاجات التنمية.. بين مخرجات التعليم وبين حاجات العمالة.. ولكنه لا يكتفي بهذا الربط.. بل يدرك أن للتربية أهدافاً تتجاوز مجرد تلبية حاجات التنمية الاقتصادية، نعني أهداف بناء الإنسان المبدع، الإنسان الذي تفتحت إمكاناته حتى أقصى مدى ممكن. وهكذا يكون للتربية دور القيادة والريادة. فهي تنزل الساحة غير ناسية متطلبات التنمية الاقتصادية وحاجات القوى العاملة، وغير راضية في الوقت نفسه أن يتوقف دورها عند هذا الحد. إن دورها هو تفجير قوى الخلق والإبداع بشتى الوسائل. وقوى الخلق والإبداع لدى الإنسان لا حد لتفتيحها ولإثرائها. وحسبنا أن نقول تأكيداً للدور الشامل المتكامل القيادي للتخطيط التربوي وللتربية أن ظهور موسيقي مثل بيتهوفن أو مؤلف مسرحي مثل شكسبير أو سواهما من العباقرة أمر لا يقاس بمقاييس الاقتصاد، غير أنه يعطي للمجتمع والاقتصاد ما لا يعطيه توظيف المال في مشروعات إنتاجية ضخمة.
تعليم نظري:
تشير في أحد كتبك إلى غلبة التعليم النظري الأكاديمي على التعليم المهني والفني في البلاد العربية.. كما ذكرت أنه من مشكلات التربية في عصرنا الحديث: التزايد الهائل في أعداد المتعلمين، طغيان الكم على الكيف، وانحدار المستوى الكيفي للتعليم بسبب التزايد الكمي؟!.
مسألة العناية بالتعليم النظري على حساب التعليم العملي والعلمي وعلى حساب المهني والفني مسألة تكاد تكون عالمية ونكاد نجدها في معظم بلدان العالم المتقدم والنامي. ومع ذلك فهي في البلدان النامية أشد حدة منها في البلدان المتقدمة. وهي في البلدان العربية، مشكلة مزمنة بل أقول عريقة قديمة. ذلك أن المجتمع العربي ما يزال إلى حد كبير يحمل بقايا تلك النظرة التي كانت سائدة في الحياة القبلية في التاريخ العربي، النظرة إلى المهنة على أنها امتهان والنظرة إلى الحضر على أنه احتضار. وما يزال الواقع العربي يحمل آثار ذلك الموقف الذي عبر عنه الفرزدق عندما هجا جريراً فعيره بأنه القين وابن القين «أي الحداد ابن الحداد» وما نزال نجد في بعض البلاد العربية حتى اليوم مناطق يأبى القوم فيها العمل اليدوي أو بعض أنواع الزراعة أو تربية الدواجن أو سوى ذلك من الأعمال الحرفية.
ومن هنا – ولأسباب أخرى دون شك – نجد الإقبال على التعليم المهني والفني في البلاد العربية إقبالاً ضعيفاً. فنسبة الطلاب المنتسبين إلى هذا التعليم في جملة البلاد العربية لا تتجاوز 14 بالمائة من جملة المنتسبين إلى التعليم الثانوي. وهذا في عام 1980. كذلك فإن سبة المنتسبين إلى الدراسات العلمية والعملية في التعليم العالي في البلاد العربية لا تتجاوز 40 بالمائة من جملة المنتسبين إلى هذا التعليم عام 1980 أيضاً.
ومعنى هذا أن النظام التربوي في البلدان العربية يكاد يكون هرماً مقلوباً. ففي حين تشتد الحاجة إلى الاختصاصيين في شتى الفنون والعلوم، وإلى الأطر العليا والمتوسطة في المجالات العلمية والفنية، وإلى العمال نصف المهرة والمهرة، نجد النظام التعليمي يخرج أفواجاً من الطلاب يكونون في معظم الأحيان بطالة مثقفة خطيرة النتائج اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وأستدرك فأقول دفعاً لأي لبس – إنني ممن لا ينكرون الحاجة إلى الدراسات الإنسانية بفروعها المختلفة.. بل أدرك أهميتها في البلاد العربية بوجه خاص.. غير أن ما أنكره وننكره جميعاً هو، من جانب، فقدان التوازن السليم بين من يرتادون هذه الدراسات ومن يرتادون الدراسات العلمية والعملية، ومن جانب ثان عدم توافر المستوى الرفيع في معظم الأحيان في الدراسات الإنسانية.
تخطيط كيفي كمي:
ونتيجة لتطور المجتمع العربي وتطور حاجاته، ونتيجة لتطور العصر والثورة العلمية التكنولوجية أخذ المربون وسواهم من المسؤولين في البلاد العربية يدركون خطورة هذا الوضع وبدأ اهتمام ملحوظ بالإكثار من المدارس المهنية والفنية على مختلف المستويات والعناية بها.
غير أن هذا كله ظل حتى عهد قريب جهداً عفو الخاطر قلما ينظمه تخطيط تربوي علمي سليم.
ومن هنا ظلت المشكلة قائمة إلى حد بعيد.. بل أخذ يتزايد خطرها يوماً بعد يوم، لا سيما أن إهمال التخطيط في هذا الميدان يؤدي إلى تفاقمها ويضع المسؤولين عاماً بعد عام أمام مواقف تتزايد صعوبتها.. وعندما أشير إلى ضرورة التخطيط التربوي العلمي والسليم من أجل هذه الغاية ولسواها.. فلا أعني بذلك مجرد ربط الاحتياجات الكمية في ميدان العمالة بتدفق النظام التعليمي ومخرجاته وأعداد المنتسبين إليه، وتوزعه على التخصصات المختلفة وسوى ذلك، فهذا الأمر، على أهميته، لا يستقيم إلا إذا صاحبه تخطيط كيفي نوعي لنظام التربية من شأنه أن يحقق مطلبين أساسيين.
الأول تكوين الاتجاهات والمواقف الملائمة للعمل اليدوي المهني والفني، بل والعلمي والتكنولوجي منذ نعومة الأظفار على مقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية، بل في المرحلة السابقة على المرحلة الابتدائية، لهذا وسائله وأساليبه التي لا مجال للحديث عنها الآن.
والمطلب الثاني الذي لا بد أن يحققه نظام التربية هو أن يكون محتوى التعليم المهني والفني محتوى ملائماً فعلاً لمستلزمات المهن والصناعات والأعمال المختلفة في سوق العمل، وملائماً في الوقت نفسه للتغير السريع الذي يجري في بنية المهن والصناعات ولا أدل على أهمية هذا المطلب الأخير وعلى أهمية تجويد التعليم المهني والفني محتوى ومستوى وطرائق، بحيث يستجيب لحاجات المجتمع، والحراك الاجتماعي والحراك المهني، أقول لا أدل على ذلك كله من أننا نشاهد في معظم البلدان العربية مفارقة غريبة في هذا المجال، وهي أن خريجي المدارس الغنية والمهنية – على قلتهم وندرتهم من حيث المبدأ – لا يجدون في سوق العمل المجال الكافي لامتصاصهم، ولاستخدامهم. ومعنى هذا أن ثمة طلاقاً بين التعلم المهني والفني من جانب، وبين الحاجات الفعلية لسوق العمل المتطورة من جانب آخر، وأن ثمة هوة لا بد من ردمها.. وهذا بعض ما نعنيه عندما نؤكد على أهمية التخطيط التربوي السليم في هذا المجال.. وعلى أهمية العناية بالجوانب النوعية والكيفية، للنظام التربوي، وهذا ما نعنيه حين نرفض أن يكون التخطيط التربوي لحاجات العمالة مجرد تمرين حسابي كمي.. مجرد نبوءات رياضية، وإسقاطات كمية.
اهتمام بالمرأة:
وقبل أن نختم الحديث في هذا الموضوع الذي يحتاج البحث فيه إلى صفحات، لا بد أن أنبه إلى أمر أساسي قلما يتوقف عنده المعنيون بهذه المسألة وهو أهمية توجيه عناية خاصة إلى التعليم المهني والفني لدى المرأة.. ويزيد في أهمية هذا الأمر أن القوة العاملة الفعلية في البلاد العربية، لا تكاد تبلغ 30% من مجموع السكان، وهي في معظم البلدان العربية تتحلق حول 25 إلى 26% ويرجع هذا التدني في نسبة المشتغلين والعاملين بالقياس إلى مجموع السكان، إلى ضعف اشتغال المرأة في البلاد العربية بالإضافة طبعاً إلى فتوة السكان في تلك البلدان.
يتبع
د. عبد اله عبد الدائم في سطور
– رئيس قسم مشروعات التربية في البلاد العربية وأوروبا «اليونسكو» لمدة 8 سنوات.
– ممثل اليونسكو في غرب إفريقيا.
– أستاذ التخطيط التربوي والإدارة التربوية بالمركز الإقليمي لتخطيط التربية وإدارتها في البلاد العربية ومقره بيروت.
– رئيس قسم أصول التربية في الجامعة السورية ومدير عام للشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والإرشاد القومي.
– شغل منصب وزير الإعلام مرتين ووزير التربية.
من مؤلفاته:
– التخطيط التربوي.
– الثورة التكنولوجية في التربية في البلاد العربية.
– التربية التجريبية والبحث التربوي.
– التربية عبر التاريخ.
– الجمود والتجديد في التربية المدرسية.
– التربية العامة.
– القومية والإنسانية.
– الجيل العربي الجديد.
– في سبيل ثقافة عربية ذاتية.
– التربية القومية.
– الاشتراكية والديمقراطية.
– في دروب القومية العربية.
– ترجمات مع سامي الدروبي لبعض كتب بيرجسون الفيلسوف الفرنسي.
المفكر التربوي الدكتور عبد الله عبد الدائم
عبد الدائم لـ الوطن:
لا تنمية تربوية بمعزل عن جملة العوامل التي تحكم المجتمع
في بداية الحديث قلت له: لك مؤلف خاص حول التخطيط التربوي قلت فيه أن التخطيط التربوي لا يبلغ مداه لدى الشعوب النامية إلا إذا نزل إلى الساحة فعلاً وقاد المعركة؟
التخطيط التربوي كما نعلم حديث العهد في البلدان المتقدمة والنامية ترجع نشأته إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد ولد إلى حد بعيد من صلب التخطيط الاقتصادي وكان مبعث ولادته شعور التخطيط الاقتصادي بأنه لا يحقق أغراضه كاملة إلا إذا عني بتنمية الثروة البشرية إلى جانب تنمية الثروة المادية. ومن هنا سارت على الألسن منذ ذلك الحين أفكار كانت جديدة تؤكد أن التربية توظيف مثمر لرؤوس الأموال وأنها ليست مجرد خدمة استهلاكية وأن ما ينفق عليها يعود عطاؤه على المجتمع وعلى الاقتصاد نفسه أضعافاً مضاعفة.. غير أن ولادة التخطيط التربوي من قلب التخطيط الاقتصادي خلف بعض الثغرات التي جهد التخطيط التربوي بعد ذلك من أجل تصحيحها: وعلى رأسها النظر إلى التخطيط التربوي وكأنه تابع للتخطيط الاقتصادي وفي خدمته. أمام هذا الواقع ظهر للمربين بعد لأي أن الوقت قد حان لوضع التخطيط التربوي في مقامه الصحيح، وضع الند والترب لا وضع التابع.
وهنا شجون كثيرة.. يطول الحديث عنها. غير أننا نوجز الأمر فنقول: لسنا ممن يؤمن بتبعية التربية للاقتصاد، كما أننا لسنا ممن يؤمن بتبعية الاقتصاد للتربية.. بل نحن نؤمن بأن بين التنمية التربوية والتنمية الاقتصادية صلة تأثر وتأثير متبادلين.. وليس من الصحيح أنه من الممكن أن تحقق تنمية تربوية بمعزل عن جملة العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تحكم المجتمع.. كما أنه ليس من الصحيح أن في وسعنا تحقيق تنمية اقتصادية دونما عناية مركزة على رأس المال البشري..
ومعنى هذا أن من غير الجائز أن نحمل التربية أكثر مما تحتمل، أعني أن نحملها أعباء تغيير البلاد والعباد بجرة قلم. غير أن هذا لا يعني الإقلال من شأن التربية، ولا يعني أن تتعلل التربية بالأعذار، فتبرر تخلفها أو ضعفها.. بضعف ما يقدم لها من موارد.. أو بضعف البنية الاجتماعية والاقتصادية التي تعمل في إطارها.. إذ لا بد أن نكسر هذه الحلقة المفرغة أو هذا «الدور الفاسد» كما يقول المناطقة العرب.. وكسر الحلقة يكون عن طريق توليد تخطيط تربوي علمي وفعال يربط دون شك بين حاجات التربية وحاجات التنمية.. بين مخرجات التعليم وبين حاجات العمالة.. ولكنه لا يكتفي بهذا الربط.. بل يدرك أن للتربية أهدافاً تتجاوز مجرد تلبية حاجات التنمية الاقتصادية، نعني أهداف بناء الإنسان المبدع، الإنسان الذي تفتحت إمكاناته حتى أقصى مدى ممكن. وهكذا يكون للتربية دور القيادة والريادة. فهي تنزل الساحة غير ناسية متطلبات التنمية الاقتصادية وحاجات القوى العاملة، وغير راضية في الوقت نفسه أن يتوقف دورها عند هذا الحد. إن دورها هو تفجير قوى الخلق والإبداع بشتى الوسائل. وقوى الخلق والإبداع لدى الإنسان لا حد لتفتيحها ولإثرائها. وحسبنا أن نقول تأكيداً للدور الشامل المتكامل القيادي للتخطيط التربوي وللتربية أن ظهور موسيقي مثل بيتهوفن أو مؤلف مسرحي مثل شكسبير أو سواهما من العباقرة أمر لا يقاس بمقاييس الاقتصاد، غير أنه يعطي للمجتمع والاقتصاد ما لا يعطيه توظيف المال في مشروعات إنتاجية ضخمة.
تعليم نظري:
تشير في أحد كتبك إلى غلبة التعليم النظري الأكاديمي على التعليم المهني والفني في البلاد العربية.. كما ذكرت أنه من مشكلات التربية في عصرنا الحديث: التزايد الهائل في أعداد المتعلمين، طغيان الكم على الكيف، وانحدار المستوى الكيفي للتعليم بسبب التزايد الكمي؟!.
مسألة العناية بالتعليم النظري على حساب التعليم العملي والعلمي وعلى حساب المهني والفني مسألة تكاد تكون عالمية ونكاد نجدها في معظم بلدان العالم المتقدم والنامي. ومع ذلك فهي في البلدان النامية أشد حدة منها في البلدان المتقدمة. وهي في البلدان العربية، مشكلة مزمنة بل أقول عريقة قديمة. ذلك أن المجتمع العربي ما يزال إلى حد كبير يحمل بقايا تلك النظرة التي كانت سائدة في الحياة القبلية في التاريخ العربي، النظرة إلى المهنة على أنها امتهان والنظرة إلى الحضر على أنه احتضار. وما يزال الواقع العربي يحمل آثار ذلك الموقف الذي عبر عنه الفرزدق عندما هجا جريراً فعيره بأنه القين وابن القين «أي الحداد ابن الحداد» وما نزال نجد في بعض البلاد العربية حتى اليوم مناطق يأبى القوم فيها العمل اليدوي أو بعض أنواع الزراعة أو تربية الدواجن أو سوى ذلك من الأعمال الحرفية.
ومن هنا – ولأسباب أخرى دون شك – نجد الإقبال على التعليم المهني والفني في البلاد العربية إقبالاً ضعيفاً. فنسبة الطلاب المنتسبين إلى هذا التعليم في جملة البلاد العربية لا تتجاوز 14 بالمائة من جملة المنتسبين إلى التعليم الثانوي. وهذا في عام 1980. كذلك فإن سبة المنتسبين إلى الدراسات العلمية والعملية في التعليم العالي في البلاد العربية لا تتجاوز 40 بالمائة من جملة المنتسبين إلى هذا التعليم عام 1980 أيضاً.
ومعنى هذا أن النظام التربوي في البلدان العربية يكاد يكون هرماً مقلوباً. ففي حين تشتد الحاجة إلى الاختصاصيين في شتى الفنون والعلوم، وإلى الأطر العليا والمتوسطة في المجالات العلمية والفنية، وإلى العمال نصف المهرة والمهرة، نجد النظام التعليمي يخرج أفواجاً من الطلاب يكونون في معظم الأحيان بطالة مثقفة خطيرة النتائج اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وأستدرك فأقول دفعاً لأي لبس – إنني ممن لا ينكرون الحاجة إلى الدراسات الإنسانية بفروعها المختلفة.. بل أدرك أهميتها في البلاد العربية بوجه خاص.. غير أن ما أنكره وننكره جميعاً هو، من جانب، فقدان التوازن السليم بين من يرتادون هذه الدراسات ومن يرتادون الدراسات العلمية والعملية، ومن جانب ثان عدم توافر المستوى الرفيع في معظم الأحيان في الدراسات الإنسانية.
تخطيط كيفي كمي:
ونتيجة لتطور المجتمع العربي وتطور حاجاته، ونتيجة لتطور العصر والثورة العلمية التكنولوجية أخذ المربون وسواهم من المسؤولين في البلاد العربية يدركون خطورة هذا الوضع وبدأ اهتمام ملحوظ بالإكثار من المدارس المهنية والفنية على مختلف المستويات والعناية بها.
غير أن هذا كله ظل حتى عهد قريب جهداً عفو الخاطر قلما ينظمه تخطيط تربوي علمي سليم.
ومن هنا ظلت المشكلة قائمة إلى حد بعيد.. بل أخذ يتزايد خطرها يوماً بعد يوم، لا سيما أن إهمال التخطيط في هذا الميدان يؤدي إلى تفاقمها ويضع المسؤولين عاماً بعد عام أمام مواقف تتزايد صعوبتها.. وعندما أشير إلى ضرورة التخطيط التربوي العلمي والسليم من أجل هذه الغاية ولسواها.. فلا أعني بذلك مجرد ربط الاحتياجات الكمية في ميدان العمالة بتدفق النظام التعليمي ومخرجاته وأعداد المنتسبين إليه، وتوزعه على التخصصات المختلفة وسوى ذلك، فهذا الأمر، على أهميته، لا يستقيم إلا إذا صاحبه تخطيط كيفي نوعي لنظام التربية من شأنه أن يحقق مطلبين أساسيين.
الأول تكوين الاتجاهات والمواقف الملائمة للعمل اليدوي المهني والفني، بل والعلمي والتكنولوجي منذ نعومة الأظفار على مقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية، بل في المرحلة السابقة على المرحلة الابتدائية، لهذا وسائله وأساليبه التي لا مجال للحديث عنها الآن.
والمطلب الثاني الذي لا بد أن يحققه نظام التربية هو أن يكون محتوى التعليم المهني والفني محتوى ملائماً فعلاً لمستلزمات المهن والصناعات والأعمال المختلفة في سوق العمل، وملائماً في الوقت نفسه للتغير السريع الذي يجري في بنية المهن والصناعات ولا أدل على أهمية هذا المطلب الأخير وعلى أهمية تجويد التعليم المهني والفني محتوى ومستوى وطرائق، بحيث يستجيب لحاجات المجتمع، والحراك الاجتماعي والحراك المهني، أقول لا أدل على ذلك كله من أننا نشاهد في معظم البلدان العربية مفارقة غريبة في هذا المجال، وهي أن خريجي المدارس الغنية والمهنية – على قلتهم وندرتهم من حيث المبدأ – لا يجدون في سوق العمل المجال الكافي لامتصاصهم، ولاستخدامهم. ومعنى هذا أن ثمة طلاقاً بين التعلم المهني والفني من جانب، وبين الحاجات الفعلية لسوق العمل المتطورة من جانب آخر، وأن ثمة هوة لا بد من ردمها.. وهذا بعض ما نعنيه عندما نؤكد على أهمية التخطيط التربوي السليم في هذا المجال.. وعلى أهمية العناية بالجوانب النوعية والكيفية، للنظام التربوي، وهذا ما نعنيه حين نرفض أن يكون التخطيط التربوي لحاجات العمالة مجرد تمرين حسابي كمي.. مجرد نبوءات رياضية، وإسقاطات كمية.
اهتمام بالمرأة:
وقبل أن نختم الحديث في هذا الموضوع الذي يحتاج البحث فيه إلى صفحات، لا بد أن أنبه إلى أمر أساسي قلما يتوقف عنده المعنيون بهذه المسألة وهو أهمية توجيه عناية خاصة إلى التعليم المهني والفني لدى المرأة.. ويزيد في أهمية هذا الأمر أن القوة العاملة الفعلية في البلاد العربية، لا تكاد تبلغ 30% من مجموع السكان، وهي في معظم البلدان العربية تتحلق حول 25 إلى 26% ويرجع هذا التدني في نسبة المشتغلين والعاملين بالقياس إلى مجموع السكان، إلى ضعف اشتغال المرأة في البلاد العربية بالإضافة طبعاً إلى فتوة السكان في تلك البلدان.
يتبع
د. عبد اله عبد الدائم في سطور
– رئيس قسم مشروعات التربية في البلاد العربية وأوروبا «اليونسكو» لمدة 8 سنوات.
– ممثل اليونسكو في غرب إفريقيا.
– أستاذ التخطيط التربوي والإدارة التربوية بالمركز الإقليمي لتخطيط التربية وإدارتها في البلاد العربية ومقره بيروت.
– رئيس قسم أصول التربية في الجامعة السورية ومدير عام للشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والإرشاد القومي.
– شغل منصب وزير الإعلام مرتين ووزير التربية.
من مؤلفاته:
– التخطيط التربوي.
– الثورة التكنولوجية في التربية في البلاد العربية.
– التربية التجريبية والبحث التربوي.
– التربية عبر التاريخ.
– الجمود والتجديد في التربية المدرسية.
– التربية العامة.
– القومية والإنسانية.
– الجيل العربي الجديد.
– في سبيل ثقافة عربية ذاتية.
– التربية القومية.
– الاشتراكية والديمقراطية.
– في دروب القومية العربية.
– ترجمات مع سامي الدروبي لبعض كتب بيرجسون الفيلسوف الفرنسي.