كلمة عائلة الدكتور عبد الله عبد الدائم

الثقافة العربية في مواجهة تحديات العصر
كلمة عائلة الدكتور عبد الله عبد الدائم
السادة المتحدثون الأفاضل
السيدات والسادة الحضور الكرام
نشكر لكم مشاركتكم في هذه النَّدوة التي تُعقد ضمن النشاطات المصاحبة للذكرى السنوية الأولى لرحيلِ الدكتور عبدالله عبدالدائم.
إنَّ موضوع الندوة، أي ” الثقافة العربية وتحديات العصر”، كان في صُلْبِ اهتماماتِ الراحل, وهو الذي نذر حياته لقضايا أمته العربية بأبعادها التربوية والثقافية والقومية.
لذا ارتأيت أن تكون كلمة العائلة اليوم استعادةً لمقتطفاتٍ من مقدمة كتابه “في سبيل ثقافة عربية ذاتية”. وأعتذر على الاجتزاء، حفاظًا على الوقت.
أقرأ بعض النصوص:
لقد أتى على المعنيّين بأمر النموّ والتقدُّم في العالم حينٌ من الدَّهر أبرزوا فيهِ دَوْرَ الاقتصاد في تقدّم أيِّ بلد، واعتبروا الهدفَ الأساسيَّ للتنمية «نموَّ الاقتصاد» وما يلحق به من زيادة في الدخل القومي. ثم ما لبثوا حتى أدركوا من خلال التجربة والواقع، أنَّ رأسَ المالِ المادّيّ لا يؤتي ثمراته في التنمية إن لم يصحبْه نموٌّ في رأس المال البشريّ.
غير أنَّ الدراسات ما لبثتْ، في العقد الأخير من هذا القرن خاصة، حتى خَطَتْ خطوةً أخرى هامّة. فلقد استبان لها أن التنمية الاقتصادية وما يرتبط بها من تنمية الموارد البشرية عن طريق التربية والإعداد، لا تكتمل وتستوي على سُوقِها إلا إذا مَدّت بصرَها إلى ما هو أبعد من التربية والإعداد، نعني الثقافة بوجه عامّ.
وليس الهامّ في التنمية أن نوظف أموالاً في مشروعات اقتصادية، ولا أن نعدّ عن طريق التربية المهارات والكفاءات الفنية اللازمة لإنفاذ هذه المشروعات، بل الهامّ فوق هذا أن تمتلك العناصر البشرية المسهمة فيها المواقف النفسية والفكرية والسلوكية التي تجعلهم يقبلون على المشاركة فيها مشاركة فعّالة مُجدية.
ثمة جهود كبيرة، على مستوى كل قطر عربي وعلى مستوى الوطن العربي، من أجل تطوير الجانب النوعيِّ الكيفيِّ من التعليم، وعدم الاقتصار على تطوره الكمّيِّ.
غير أن هذه الجهود كلها ما تزالُ في حاجة، إن هي أرادت أن تعمل عن بيّنة ووعي، إلى الإجابة على السؤال الأساسي الذي ما يزال يفتقر إلى جوابه، نعني ما هيَ أهداف التعليم الكبرى، أو بتعبيرٍ أدقّ: ما هي غاياتُه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟ أو لنقل بتعبير موجز: أيَّ إنسان نودّ أن نُعدّ عن طريق نظام التربية والإعداد؟ مثل هذا السؤال الكبير يضعنا وجهاً لوجه أمام الحاجة القاهرة إلى وضع فلسفة تربوية عربية متميزة. ومثل هذه الفلسفة التربوية لا نستطيع أن نضعها إن لم نعرف قبل ذلك ما هي الحضارة (أو الثقافة) المتميزة النوعية التي نودُّ أن نبنيَها. ما هي هويّتنا الثقافية التي ينبغي توكيدها وتوليدها؟ ما هي معالم الحضارة العربية المنشودة؟
وما يصدق على التربية يصدق على التنمية الاقتصادية ما دامتا متآخذتين متكاملتين. على أن التنمية الاقتصادية تطرح مشكلات ثقافية أبعد مدًى: كيف نَحُولُ دون التَّلَوُّث الثقافي والاستلاب الثقافي ونحن نعمل على تنمية الاقتصاد تنمية مجلوبة من بلاد أخرى؟ كيف يتأتّى لنا أن ننتقل من مرحلة استهلاك التكنولوجيا إلى مرحلة استيعابها ثم المشاركة في إبداعها؟ ما السبيل إلى تنميةٍ اقتصاديةٍ مستقلَّةٍ لا توجهها مصالحُ القوى الاقتصادية العالمية الكبرى، وعلى رأسها الشركات متعدّدة الجنسيَّة؟ كيف نستطيع توجيه المواطنين نحو ضرب من التقشف أو الاعتدال في الاستهلاك، ونحو نبذهم الاستهلاك الذي لا حدّ له والذي ينميه «المجتمع الاستهلاكي» الحديث بوسائله وتقنياته الجبّارة؟ كيف ننزع من نفوس الناس بواعث الاقتداء بالنموذج الغربي في الحياة، من أجل بناء نموذج خاصّ ملائم لحاجاتنا؟ كيف نقضي على الصِّراعِ النفسيِّ الذي يخلقه لدى مواطنينا حِرْصُهم على هويتهم الثقافية وغَرَقهم في الوقت نفسه في خِضَمِّ الحاجات الصنعية التي ولّدها طغيان النموذج الغربي؟ كيف نولّد المواقف النفسية والشروط اللازمة لاستبقاء كفاءاتنا العلمية والفنية في بلادنا وللحيلولة دون هجرة الأدمغة؟ والشواهد أكثر من أن تحصى تشهد جميعها على الارتباط الوثيق بين أغراض التنمية وبين المواقف الثقافية.
على أنَّ فوق هذا الهدف التنموي للثقافة هدفاً أسمى لا يجوز أن نغفله، هو تنمية الإنسان بوصفه إنساناً. فالهدف النهائي لأي تنمية هو الإنسان، سعادته وكرامته وتفتّحه الإنساني بغير ما حدّ. ومن هنا فالتنمية الثقافية ليست شرطاً للتنمية عامَّة فحسب، بل هي أيضاً غاية التنمية. وأزمة التنمية في العصر الحديث أنها كادت تجعل الإنسان في خدمتها بدلاً من أن تكون في خدمةِ الإنسان وفي خدمةِ مطالبِهِ وحاجاتِهِ الإنسانيَّةِ العميقة. وهل غدا الإنسان، بسبب الحضارة الحديثة، أكثر سعادة، وأسمى إنسانية؟
أولسنا في حاجة إلى ضبط إنسانيٍّ للعلم والتكنولوجيا، لا إلى مجرد ضبطٍ فنيٍّ أو بيروقراطيّ؟ أو لم تُثِر الدراسات العلمية الهامة في ميدان «علم النسل» وفي ميدانِ الطبِ، مشكلاتٍ إنسانيةٍ وخلقيةٍ هامّة؟ أفنصبح مثل «فاوست » الذي ربح الثروة والغنى، وكاد يفقدُ نفسه؟.
ومن أجدر من الثقافة العربية بالإسهام في خلق نظام عالميٍّ جديد، مفصَّلٍ على قدِّ الإنسان، موجَّهٍ من أجل حاجاتِهِ الإنسانيَّةِ العميقة؟
وما أظنُّ أبناء البلاد العربية لا يجمعون إلى حد بعيد على دعوتنا إلى بناء ثقافةٍ عربيَّةٍ جديدةٍ أصولها أربعة: التراث والواقع العربي والواقع العالمي وحاجات المستقبل العربي.
لقد آن الأوان لنطرح جانباً منهج الفهم المتمذهب للتراث، ومنهج الوصاية عليه من أي جانب، فهو ملك الجميع، وهو تراث العرب جميعاً، مسلمين وغير مسلمين، بل هو، بمعنى من المعاني، ملكُ الإنسانيَّة كُلِّها، وإن يكن العربُ أولى الناس به.
كذلك آن الأوان للتخلِّي عن طرح التراث العربيِّ طرحاً يُنقص من شأن سواه. فالفروق بين الثقافات فروق في الطبيعة لا في الدرجة، شأنها في ذلك شأن الفروق بين الطباع، كما سنقول، ووجود هُويَّات ثقافيّة متميِّزة لا يعني الصراع بين الثقافات العالمية، بل يعني الحوار معها والتفاعل فيما بينها. وفوق هذا وذاك حوى تراثنا الثقافي الماضي كثيراً من تراث الشعوب الأخرى التي امتزج بها، وهو في صيغته الجديدة المرجوَّة لابد أن يحتويَ على الكثير من حصادِ الثقافاتِ العالميَّةِ الكبرى في عصرنا.
وبعد هذا، ينبغي ألا ننسى أن ثقافتنا الذاتيَّةَ المرجوَّةَ ليست قيماً ومبادئ فحسب، وإن تكن القيمُ أعمدَتَها، وإنما هي أيضاً علمٌ وفلسفةٌ وفكرٌ ولغةٌ وأدبٌ وفنٌّ وعمارةٌ وغير ذلك. وهذا الجانب الذاتي من ثقافتنا لا يقل أهمية عن سواه، وفيه أيضاً نضع الكثير من نظرتنا الخاصة إلى الكون ومن مواهبنا وعبقريتنا الذاتية. ولو نظرنا في سلوك الناس في بلادنا لوجدنا أن هذا السلوك ليس مطبوعاً فقط بطابعِ القيم التراثيَّة والروحيَّة، بل هو أيضاً مطبوعٌ بطابع ما سادَ وذاعَ من تراث أدبيٍّ وشعريٍّ وفلسفيٍّ وفنيٍّ وسواه يحمل أيضاً قيماً إنسانية جليلة.
المطلب شاقٌّ، والمزارُ عسيرٌ، ولكن الهدفَ قمينٌ بأنْ تُذلَّل الصعابُ في سبيله. وهل من هدف أسمى من إنقاذ ثقافة عربية. تتعرض اليوم لِلْبُحْرَانِ، ونأمل أن يكون بُحْراناً خصيباً نُلفي بعده الشاطئ الأمين.
انتهى النص.
اتقدم باسم عائلة المرحوم الدكتور عبدالله عبدالدائم بالشكر الجزيل الى المتحدثين في الندوة شاكرين لهم عطاءاتهم القيمة وإلى السادة الحضورعلى مشاركتهم الكريمة.
كما أشكر دار الندوة على استضافتها لهذه الحلقة الفكرية، والاستاذ معن بشور المتوقد دوماً على ديناميكيته الفعّالة ومساندته المستمرَّة.
و شكرًا