كلمة د. جورج قرم

ندوة تكريمية للأستاذ عبد الله عبد الدايم
نظمتها دار الندوة وعائلة المرحوم
٢١/٣/٢٠١٠
بقلم الدكتور جورج قرم
يسرني جداً أن أكون بينكم في هذه الندوة التكريمية للأعمال الفكرية لأستاذنا الكبير، عبد الله عبد الدايم، خاصةً وأنني أشعر عند العودة إلى قراءة فكره بعودتي أنا إلى الأصول الفكرية الأصيلة التي من خلالها تطوَّر وتكوَّن عقلي التحليلي لمشكلات أمتنا العربية. فقد ركَّز عبد الله عبد الدايم مجهوده الفكري القيّم على تحديد إشكاليات تكوين ثقافة عربية حديثة مستقلة ومتماسكة. وقد اندرج فكره ومنهجه التحليلي في إطار الفكر النهضوي العربي، هذا الفكر الذي تعرَّض في العقود الأخيرة إلى عملية إقصاء وتهميش منظَّميْن من قبل تيارات فكرية عالمية وإقليمية الطابع، عربية وغير عربية سعت إلى طمس الشخصية العربية لإبراز هويات بديلة وضيِّقة ومتقوقعة، أثنية أو دينية أو طائفية.
والحقيقة أنَّ هذه التطورات الفكرية الأخيرة السلبية الطابع أدَّت إلى أنواع مختلفة من التناقض والتصادم بين أنظمة معرفية وإدراكية وقيَمية ابتعدت جميعها عن ضرورة بناء ثقافة عربية متماسكة ومستقلة ومركَّزة ذاتياً وقابلة للصمود أمام الهجمات المختلفة المصدر التي تعرَّضت إليها هويتنا العربية. وقد أدخلنا أنفسنا من جرَّاء ذلك في ما أسميه سجن فكري شديد العذاب لمن يدخل فيه على غرار سجن غوانتانامو الأميركي في جزيرة كوبا.
وإذا كان آخر جيل من عظماء مفكرين النهضة العربية على غرار عبد الله عبد الدايم وقسطنطين زريق قد نجحوا، متّبعين خطى أسلافهم من رفعت رفاعة الطهطاوي إلى الكواكبي وإلى قاسم وأحمد أمين والشيخ علي عبد الرازق، في إرساء منظومة معرفية وإدراكية متكيِّفة بوضع العرب الهامشي والذي كان يعاني من الانحطاط التاريخي والتراجع الحضاري، وذلك لكيْ تتسارع نهضتهم المطلوبة والمرغوبة، فإنَّ ما حصل بعد ذلك من انقطاع وتهميش ونسيان، بل طمس، هذه النهضة قد أدّى إلى تصادم وتناقض أنظمة معرفية إدراكية من شتى الأنواع والشديدة التباين.
هذا ما أدَّى إلى الوضع المأساوي الذي وقع فيه العرب اليوم من الناحية الثقافية والحضارية والسياسية والاقتصادية بالنسبة إلى تزايد أطماع الدول الكبرى والكيان الصهيوني الذي اصطُنِع وزُرِع في قلب الأمة لإثارة المزيد من ضياعها وتهديم التماسك المجتمعي العربي.
وأود هنا أن أبيِّن مدى التناقضات في الأنظمة الفكرية والمعرفية التي تتصارع في ثقافتنا العربية الحديثة المتبعثرة والمشتتة، إذْ يمكننا أن نسرد الأنظمة والمرجعيات الفكرية التي تتصارع في نظم الإدراك العربية ونظام القيم والمرجعية الفكرية بالشكل التالي:
تناقض في نظام القيَم بين نظام غربي و “حداثي”، يكتسبها بعض العرب عبر الأنظمة التعليمية المحلية التي تعمل حسب برامج الدول الغربية أو عبر دراستهم في الدول الغربية نفسها وأشهر جامعاتها من جهة؛ ونظم قيَمية شرقية يكتسبها شرائح أخرى من المجتمعات العربية عبر مؤسسات تعليمية محلية بقيت تقليدية ومرجعيتها دينية بشكل خاص، سواءً في محتوى القيم المنقولة عبر التعليم أو عبر منهج التعليم نفسه، من جهة أخرى.
انقسام خطير بين نظام ثقافي ومعرفي نخبوي تأتي مكوّناته من الثقافة الأنغلوساكسونية ونظام الإدراك الذي صاغته هذه الثقافة من جهة، ونظام آخر فرنكوفوني يعكس نظاماً إدراكياً وتقاليد ثقافية ومعرفية مختلفة عن النظام الأول، من جهة أخرى.
تناقض بين نظام إدراكي وثقافي وعلمانيّ الهوى كان مصدر إلهام رئيسي لبناء ثقافة القومية العربية كما صاغها روَّاد النهضة العربية حيث المرجعية الدينية ليست المرجعية المحورية والوحيدة، بل اللغة هي المرجعية الأساسية،من جهة، ونظام إدراكي يعتمد المعيار الديني في النظر إلى كل أمور العالم، من جهة أخرى. وقد ولَّد هذا النظام الإدراكي الأخير تيارات الصحوة الإسلامية المعاصرة التي رأت أنَّها هي المنقذ في ضياع هوية الأمة ويعتمد هذا النظام الإدراكي مفهوم الأمة في إطار ديني محض يشمل كل المسلمين في العالم ولا علاقة له بالتالي بخصوصية الهوية العربية بالنسبة إلى الشعوب الإسلامية الأخرى في آسيا وإفريقيا.
انقسام بين نظام إدراكي وثقافي يعتمد على شرعية الدولة العربية القطرية بغض النظر عن ظروف نشأتها وعن شرعية الحكم فيها وأدائه في العدالة الاجتماعية والتقدم والرفاهية من جهة؛ ونظام إدراكي قيَمي يعتمد الإيمان بدولة الوحدة العربية وضرورة العمل من أجل قيامها، من جهة أخرى.
هذه اللمحة الموجزة عن تناقضات أنظمة الإدراك والمرجعيات الفكرية والقيَمية تشير بما لا لبس فيه إلى ضياع الهوية وزوال التماسك الفكري والمعرفي في حياتنا الثقافية. ومثل هذا الوضع يشل قدرات المجتمعات العربية ويبقيها في دائرة الوهن والاتكال والارتباط بنظم معرفية تنبع من خارج المجتمع العربي أو يبقيها في أتون التناقضات العميقة التي يتخبط فيها.
وأود هنا أن أعطي مثالاً واحداً صارخاً عن التخبُّط الذي نحن فيه بسبب استيراد الإشكاليات الفكرية والدينية والسياسية الأوروبية، وهو موضوع العلاقة بين الحيِّز الديني والحيِّز الزمني في حياة مجتمعنا العربي، ذلك أنَّ معظم المجادلات العقيمة في الفكر العربي الحديث حول هذه المسألة تنطلق من أرضية التاريخ الأوروبي المسيحي بمميزاته وسماته الخاصة، وليس من أرضية التاريخ العربي والإسلامي. فقد تميَّز تاريخ أوروبا المسيحية بهيمنة مؤسسة كنسية عملاقة تطورت عبر العصور لتصبح قوة روحية وزمنية في آنٍ معاً تمارس الولاية على كل أنواع السلطة السياسية المدنية.
أما في مجتمعاتنا العربية، فلم يحصل مثل هذا التطور إذْ أنَّ العلماء، من فقهاء وقضاة ومفتين، وعلى عكس ما حدث في أوروبا، ظلوا خاضعين لوصاية وتوجيه السلطات الزمنية، وإنْ كانت تلك السلطات تعتمد أنظمة الشريعة الإسلامية في الأمور المدنية أكثر مما كانت تعتمده في نظام الحكم السياسي الذي لم يحدد القرآن الكريم معالمه. ولذلك انشطر نظام الخلافة العباسية بسرعة إلى ممالك وسلطنات وإمارات مختلفة ومتناحرة طوال التاريخ. فالمطالبة بفصل الدين عن الدولة كما حصل في أوروبا لا معنى له بتاتاً في مجتمعاتنا نظراً لغياب المؤسسة الدينية العملاقة المهيمنة على السلطة المدنية السياسية. بل المطلوب في مجتمعاتنا العربية، لإرساء دعائم الحرية والنهضة الفكرية والعلمية هو إعادة فتح باب الاجتهاد الذي يؤمِّن حرية تأويل وقراءة النص المنزَل، إذْ أنَّ هذه الحرية هي أم الحريات التي عليها تُبْنى حرية الفكر السياسي والرأي، وبالتالي يُفْتَح الباب أمام نهضة ليس فقط ثقافية وفكرية إنَّما تمتد إلى جميع ميادين العلوم والتقنيات.
والمؤسف أنَّ المجادلات حول دور الدين وشريعته في نظام الحكم ما تزال أسيرة النموذج الأوروبي للعلمانية ومتفرعاته المؤسساتية، إما رفضاً وكرهاً لها أو إعجاباً أعمى لدى بعض فئات النخبة الخاضعة فكرياً لإشكاليات الفكر الأوروبي، فتعتمد في تفكيرها نظام إدراكي وقيمي أوروبي مبني على عِبَر التاريخ الأوروبي وليس على عِبَر تاريخنا نحن العرب. وذلك يمنع مناقشة الموضوع الأساسي في مجتمعاتنا العربية وهو البحث الجدي في عدم تجدد النظر إلى التراث الديني ومقيِّداته المتراكمة عبر العصور وأسباب عدم إطلاق حرية الإجتهاد كما كان قد فعله روَّاد النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ويكفي في هذا المجال أن نتذكر رونق الحضارة الإسلامية التي انطلقت من الربوع العربية والمعرَّبة بفضل الفتوحات، عندما كانت هذه الحرية منتشرة إلى حد بعيد ما أدَّى إلى تعدد الفرق الدينية والمِلل والنحل، فأصبحت الخلافة العباسية وما بقي من الخلافة الأموية في الأندلس أهم مصدر للعلوم والفكر والفلسفة في حوض المتوسط ومناطق شاسعة من القارة الآسيوية. كما لا بد من التذكير بالإنجازات الحضارية للسلطنة المغولية في الهند وبفضل الشخصية المنفتحة والقوية للسلطان جلال الدين أبو الفتح محمد أكبر (1542-1605)، وما أبدته هذه السلطنة من قدرة على التخالط والتفاعل مع الشعوب الهندية وحضاراتها العريقة.
لذلك، ألَم يحن الوقت بعد لكيْ نعيد النظر بأنظمة إدراكنا المتناقضة والمتصارعة والمستورَدة من أنظمة خاصة بحضارات وشعوب أخرى، ونتخلَّص من تخيُّل رجعي، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، ومقيِّد للثروة المطموسة والمنسية لتراثنا الديني والثقافي والاجتماعي؟ فالنظرة الجامدة والمنقوصة والمؤدْلَجة إلى التراث، مستبعداً مصادر قوته السابقة ومتجاهلاً أسباب الانحطاط الحالي، لهوَ انتحار جماعي نلمس نتائجه كل يوم أمام أعيننا على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية.
ومستذكراً أستاذنا الكبير عبد الله عبد الدايم، أود أن أختم هذه التأملات بإثارة قضية رئيسية في حياتنا الفكرية تتجسد في الانقطاعات المعرفية التي نعاني منها عبر تاريخنا، إذْ أنَّنا ليس فقط انقطعنا عن مصادر النهضة العربية الأولى ما بين القرن السابع والقرن العاشر، بلْ انقطعنا عن كل الانجازات النهضوية الحديثة التي تميَّزت بها حياتنا الثقافية والفكرية منذ بداية القرن التاسع عشر حتى نصف القرن العشرين، حيث كان العقل العربي قد عاد إلى حالة نهضوية تسعى إلى إدراك التطورات العالمية الضخمة التي انقطع عنها العرب منذ القرن الحادي عشر والتفاعل معها لإعادة بناء ثقافة عربية مركَّزة ذاتياً ومستقلة عن نظم إدراك ونظم قيَمية تخطاها الزمن أو تستورد من الحضارات الأخرى جاهزة.
إنَّ أدب وثقافة وفكر روَّاد النهضة العربية قد تمَّ تهميشه واستبعاده وتكفيره لاستبداله بما سُمِّي بالصحوة الإسلامية التي من جرَّائها توسَّعت رقعة الأنواع المختلفة من التوتر الهويتي والمذهبي والديني على حساب تكملة المسيرة النهضوية كما كان بدأها روّاد النهضة العربية، ويمثِّل الأستاذ عبد الله عبد الدايم نتاج هذه النهضة بفكره المستنير ومطالبته بتقوية نظام معرفي عربي يؤمِّن انطلاقة ثقافية وعلمية ما نزال نبحث عنها.
ولذلك لا بدَّ من تقديم الشكر إلى منظمي هذا التكريم لرائد كبير من روّاد النهضة العربية المعاصرة على أمل تنظيم ندوات فكرية حول تراثه وأهميته ضمن الجهد الذي لا بدَّ منه لإحياء الفكر النهضوي الحديث وربطه بالفكر النهضوي الأوَّل عندما تألَّقت الحضارة العربية–الإسلامية في جميع الميادين الثقافية والعلمية واللاهوتية.