كلمة د. نجلاء نصير بشور

الدكتور عبدالله عبدالدايم رائداً في التربية نحو
هوية ثقافية عربية تواجه تحديات العصر
د. نجلاء نصير بشور
في العام 1973 عندما طلبت من أستاذنا الكبير الدكتور عبدالله عبدالدايم المشاركة في لجنة تضم نخبة من كبار التربويين العرب لوضع مادة تدرس في المدارس العربية حول فلسطين كانت حماسته تفوق توقعاتي. فالدكتور عبدالدايم علم في التربية، يعالج قضاياها الكبرى بطريقة علمية تستند إلى ثقافة عربية وعالمية واسعة. ولكنه فسر ذلك ” بأنها فلسطين، قلب القضايا في أمتنا وما لم تكن في صلب التربية في بلادنا، أي إنسان عربي ننمي؟”
يلخص د. عبدالله عبدالدايم تجربته التربوية الغنية في مقدمة موقعه الإلكتروني الذي أنشأه عام 2003:
“لا أغلو إذا قلت إن تجربتي الفكرية هي تجربة جيل…. من لداتي وأقراني من المثقفين في البلاد العربية، حرصوا على تحقيق مطلبين متكاملين: أولهما التزود منذ ريعان الصبا… بالثقافة التي تتعانق فيها وتتكامل الدراية الواسعة العميقة بالتراث الثقافي والحضاري العربي – الإسلامي، مع التهام شتى عطاءات العلوم والآداب والفنون الغربية القديمة والحديثة.  وثانيهما الغوص في هموم مجتمعهم وأمتهم العربية والبحث عن أسباب تخلفها، والعمل بالفكر والنضال من أجل تجاوز ذلك التخلف ومن أجل توليد كيان عربي موحد وحديث ومتكامل، يرفد بعطائه الأمة العربية وسائر شعوب العالم. وهكذا عنيت في مؤلفاتي التربوية، التي تهدف إلى بناء الإنسان العربي الموعود، عناية خاصة بالمشكلات التربوية الكبرى في البلاد العربية، وعلى رأسها: التخطيط التربوي – فلسفة التربية – تطوير نظم التربية في البلاد العربية – تطوير الاستراتيجيات التربوية العربية.”
تميزت رؤية الدكتور عبدالدايم التربوية بالتكامل والشمول، وتلك الرؤية التي تفتقدها غالبية العاملين في حقل التربية في بلادنا.
لقد عالج أستاذنا التربية أولاً من منظور قومي عربي شامل فرآها السبيل إلى النهوض بالأمة من خلال تنمية قدرات أبنائها، ورأى الصراع العربي الصهيوني في صلبها والتهيئة لمواجته غاية أساسية من غاياتها. وربط التربية بالثقافة والتراث الحضاري العربي والإسلامي من ناحية وبتطورات العصر الحديث من ناحية ثانية. واعتبر أن من أهم غايات التربية أن تنمي عند التلامذة العرب الثقة بالنفس من خلال النظرة الإيجابية لمساهمات أجدادهم العلمية والثقافية في الحضارة البشرية وتنمية قدراتهم العصرية وأهمها القدرة على التغيير والنقد والإبداع والإنتاج قدرات تعاني التربية العربية الحالية من فقدانها ونبذ العصبيات التي تعاني من انتشارها مجتمعاتنا العربية الآن بشكل أكثر حدة بل أكثر دموية من أي وقت مضى.
وربما كانت من أكثر الإنجازات التي كان يعتز بها د. عبدالدايم مساهتمه في وضع اتفاقية الوحدة الثقافية بين مصر وسورية والأردن عام 1959.
وعالج ثانياً، التربية نفسها بشكل متكامل بناصرها المختلفة من الغايات إلى التخطيط فالإدارة والتطبيق، من التعليم ماقبل المدرسي إلى التعليم العالي، من المدرسة كمؤسسة التربية النظامية إلى باقي المؤسسات التربوية غير النظامية كالأسرة والأعلام وغيرها. فلم يجزىء العملية التربوية بل رآها متكاملة ولكن تتجه نحو الأهداف وقد جعل ” أهم غايات التربية أن تجعل الإنسان قادراً، بفضل النظرة النقدية الحرة، على تحقيق التفاعل الأصيل والخصيب بين هويته وذاته وإرثه وبين العصر الذي يحيا فيه.”
يعالج د. عبدالله عبدالدايم ثالثاً، التربية من خلفية فلسفية مدته بالأفق الرحب مستنداً إلى واقع عربي ملموس. حيث يؤكد “المشكلة ليست في تصور ذهني لغايات سامية شاملة خالدة، وإنما المشكلة كل المشكلة في وضع غايات قابلة للتطبيق وذات صدى واقعي، وأن نغرس جذورها في الواقع.” “نحن لا ننطلق من الواقع القائم إلا من أجل أن نكون أقدر على تحديد غاياتنا التي هي بالضرورة غايات مستقبلية”. فالتربية بالنسبة لعبد الدايم هي غايات للمستقبل.
أنطلق من هذه الرؤية للتربية لإلقاء نظرة على واقع التربية في بلادنا وأهدافها، وأسأل: أي نوع من التربية يحتاجها عالمنا اليوم، والذي يجري فيه التغيير بوتيرة عالية وتلك التي نحتاجها في بلادنا، التي ما زال جزءاً منها يتعرض لاعتداءات واحتلالات تفقده القدرة على المحفظة على استقلاله ومن ثم تقدمه. الأمر الذي يجعل مواطن المستقبل يواجه مسؤوليات كبيرة وتحديات صعبة، يعتمد على التربية لتمكنه من مواجهتها، كما كان يدعو أستاذنا الدكتور عبدالله عبدالدايم.
وأذكر هنا حادثة جرت في إحدى المدارس الكبرى المعروفة في بيروت حيث قاطع تلميذ أستاذ الفيزياء مصححاً معلوماته، مضيفاً إلى كتابه المدرسي معلومات أكثر حداثة استقاها من مصدر آخر، من الانترنيت. وبينما ارتبك المعلم، حار التلميذ أيفرح لأنه فاق معلمه، أم يحزن لأنه اكتشف أن المدرسة تعلمه أقل من مصدره الآخر للمعلومات.
إن هذه الحادثة تشير إلى أنه لأول مرة في تاريخنا ربما أصبحت المرجعية التربوية خارج المدرسة والبيت معاً. مما يضعف من تأثيرنا في تربية أبنائنا بل ويجعل جهود وزارات التربية في صياغة أهدافها التربوية وتصوراتها لمواصفات مواطن الغد، في مهب الريح وبات من الضروري إعادة النظر في أهداف التربية، بحيث تصبح تنمية الشخصية بأبعادها المختلفة بأهمية المعلومات والمفاهيم التي تتضمنها الكتب المدرسية. وتضحى تنمية المهارات الذهنية والاجتماعية هي الأساس. ويصبح الهدف الأهم حصانة داخلية لأبنائنا تعتمد الثقة بالنفس، تحميهم من القيم التي يتعرضون لها والتي تتنافى مع أهدافنا وكما تحصنهم من الانجراف ابتعاداً عن ثقافتنا ومجتمعاتنا وقضايانا. وفي نفس الوقت تعزز الجوانب الإيجابية من المعلومات والمفاهيم المستقاة. ويصبح إكساب أطفالنا معلومات وفيرة عن تاريخنا وإسهاماتنا الحضارية وقيمنا الثقافية هي الضمانة الحقيقية لمواجهة أي نوع من المعلومات أو المفاهيم أو القيم التي تنهال عليهم من ذلك المارد الإعلامي الجذاب. لاسيما حين ننمي لديهم حب لغتنا وثقافتنا ونبذ تلك الجوانب منها التي تعيق التطور. وللغتنا العربية الجميلة قصة بل قضية أخرى.
في عالم يعتمد نموه واقتصاده وحتى العيش فيه على العنصر البشري أكثر من أي وقت مضى، تصبح مهارات وكفايات الإنسان هي الأساس، وانتمائه لهويته الثقافية مع الانفتاح على الثقافات الأخرى هي العامل المساند.
إن لهذا الزمن سمات تكمن فيها ازدواجيات متناقضة، لا يتمكن من تجييرها لمصلحته إلا الكفوء من بين البشر أفراداً كانوا أم جماعات. فالبحث العلمي المتمثل بالهندسة الوراثية وعلم الجينات والاستنساخ بقدر ما يمكن الاستفادة منه لعلاج الإنسان والارتقاء بنوعية حياته بقدر ما يمكن استخدامه فيما يهدد الإنسانية بقيمها ووجودها. وإمكانيات الاتصال والتواصل المفتوحة من خلال وسائل الإعلام لاسيما المرئية منها، التلفزيون والحاسوب والانترنت بقدر ما تقرب المسافات بين الناس أفراداً وشعوباً وتسهل لهم الوصول إلى المعلومات ومشاهدة الأحداث في أي زمان أو مكان تحصل، بقدر ما يمكن أن يكون لها تأثير سلبي بحيث يمكن لناقل الحديث والمعلومة أن يلعب دوراً أساسياً في تشكيل تفكير المتلقي وآرائه واهتماماته كما يريد وبشكل كثيراً ما يكون مغايراً للحقيقة. أما الحرية فبقدر ما باتت حقاً مقدساً من حقوق الشعوب والأفراد، بقدر ما تنتهك باسمها الحريات لاسيما في بلادنا. أنها المعايير المزدوجة التي تشكل سمة عصر ما بعد الحداث. إلى ذلك نواجه مفاهيم وطروحات باسم الحداثة تنتشر بين المجتمعات وتنفذ إلى التربية ومناهجها بل وتصبح مسلمات تتسابق مجتمعاتنا إلى تطبيقها، دون أن تتساءل حول مدى ملاءمتها لها. فمثلاً حل النزاعات سلمياً والتسامح وقبول الآخر كلها مفاهيم ترتبط بها مهارات، هل ناقشنا معانيها بالنسبة لنا، أي هل يمكن تطبيقها على كل أنواع النزاعات، دون تمييز؟ هل يمكن التحرر من الاحتلال الاجنبي باتباع هذا الأسلوب ولنا في التاريخ قوانين وتجارب تدل على عكس ذلك؟ ثم هل اتبع المحتلون أصلاً هذه المفاهيم وهل يتمتعون بمهاراتها؟ وهم أكثر المنادين بها أصلاً. هل كان يمكن للبنان مثلاً أن يحرر أرضه لو أنه اتبع هذه الأساليب؟ وبالمقابل ما كان يمكن للبنان أن يرتاح من الحرب الأهلية إلا بالحوار والتسامح وقبول الآخر. إذا علينا تحديد هذه المفاهيم، قبل إقحامها في حياتنا ومناهجنا كمسلمات. فسمات هذا الزمن إذن تحتاج إلى أفراد بل مجتمعات كفؤة علمياً متماسكة ثقافياً ذات إرادة وثقة بالنفس للتعامل معها بجدارة. وهذا ما بذل الدكتور عبدالله عبدالدايم جهده في سببل تحقيقه.
إن الإمكانات الهائلة التي توفرها ثورة الاتصالات التي نعيشها اليوم فرضت تغييراً في أسلوب حياتنا بشكل جذري بما فيه أسلوب العمل وبشكل خاص طرائق التعليم والتعلم حيث التطور يتم بوتيرة عالية، حيث لا شيء ثابت بل كل متغير. من البريد الالكتروني الذي سهل الاتصال بين الناس بكلفة بسيطة، إلى التجارة الالكترونية إلى التعليم عن بعد فشبكة الانترنت. إن هذا التطور الهائل في وسائل الاتصالات أتاح الفرصة للتفاعل الثقافي بين المجتمعات المختلفة ولنشر المعلومات بكافة أشكالها وأنواعها وجعلها بمتناول الجميع. إلا أن هذا الأمر بقدر ما هو مفيد بقدر ما يشكل مصدراً للقلق حيث أنه يشكل خطورة على المجتمعات النامية مثل المجتمع العربي من حيث نشر مفاهيم وقيم وسلوكيات بلا قيود أو حدود أو محرمات، قد تتعارض مع قيمنا وثقافتنا ومفاهيمنا الاجتماعية.
مقابل ذلك نرى مجتمعاتنا متخمة بالمسلمات والممنوعات، مليئة بالقيود والسلطات، حيث التلميذ المثالي هو التلميذ المطيع الذي يقوم بالواجبات، الذي يحفظ الدرس عن ظهر قلب، ويجيب على الأسئلة تماماً كما يريدها المعلم أو كما ترد في الكتاب المدرسي. حيث القيم تنمو حسب نتائجها عقوبات أم مكافآت. واقع مجتمع يمتد من الأسرة إلى المدرسة فالمجتمع الكبير، يحيا التلميذ العربي، مواطن المستقبل.
بين هذين العالمين يعيش أبناؤنا، أي بين واقع يحتاج إلى تغيير وتطوير وآخر يحتاج منهم إلى تقييم وانتقاء. إزدواجية يعاني منها أبناؤنا كما التربية في بلادنا. وأتوقف هنا عند حادثتين جرتا في مدرستين متجاوتين في بلد عربي منذ أقل من شهر، ربما تبدوان عاديتين إلا أن لهما دلالاتهما لهذه الازدواجية في التربية.
الأولى، في إحدى المدراس الخاصة الأوروبية كان تلامذة الصف السابع أو الأول الإعدادي يقومون بإعداد مشروع مدرسي في مادة الكمبيوتر بشكل متقدم لتصميم صفحتهم الخاصة على الانترنت، بكل تعقيداتها مستخدمين اللغة الأجنبية في عملهم وحوارهم.
في الوقت نفسه، وفي مدرسة وطنية قريبة، كان تلميذ في الصف نفسه يصرخ من ألم تسبب به ضرب معلم له بعصاه. وحجة المعلم أن تجربته الشخصية كتلميذ أكدت له أن هذه وسيلة فعالة “لتأديب” التلامذة وتربيتهم وأنها تبقى كذلك. إن هاتين الحادثتين تعبران عن عمق المشكلة التي تواجهها التربية في بلادنا، والتفاوت في أساليب ومضامين التربية على السواء.
فهل من الطبيعي أن يدرس التلميذ في كتاب درس فيه والده ويعامله معلموه كما كان معلمو والده يعاملوه منذ عقود، غير آبهين بالقول : “ربوا أولادكم على غير ما ربيتم فإنهم وجدوا لزمان غير زمانكم”… ألن يحين الوقت لنستبدل العصا بفأرة الكمبيوتر؟ ثم أيعقل الأطفال بما يكاد يكون نظامين تربويين في البلد أو ربما الحي الواحد، أحدهما في صلب العصر ولكن لا علاقة له بواقعنا وثقافتنا والآخر في صلب الماضي وخارج العصر؟
صحيح أن هناك حركة إصلاحية للتعليم، على مستوى مدرسي وجامعي، في غير بلد عربي إلا أن صانعيها بغالبيتهم من الغرب. فعلى المستوى الجامعي يتم استيراد فروع الجامعات الأميريكية تحديداً، بمناهجها وأساتذتها وإدارييها وربما تلامذتها، وفي قطر مثلاً يدرس في الجامعات الغربية تلك 9% من التلامذة مقابل 91% منهم في الجامعات الوطنية، وحيث لا علاقة بين الإثنين، أي الوطني والغربي. وفي المرحلة ما قبل الجامعية، يتم استيراد المناهج التعليمية من الروضة وحتى الثانوية، وكذلك نظم التعليم وحتى أهدافه، ممثلة “بمعايير المواد”، المعتمدة في الولايات المتحدة الأمريكية والتي يدور جدل بين التربويين هناك حول جدواها وفعاليتها وعدالتها بالأساس. ويدير التطبيق في هذه المرحلة أيضاً خبراء غربيون غالبيتهم أمريكية أو بريطانية كما أوسترالية ونيوزيلندية. ففي بعض الدول العربية يتم التعامل مع التعليم كأي مشروع يطرح للمناقصة فمن يفوز به، أي كان، يحدد أهدافه ومعاييره ومناهجه ويدرب معلميه مستفيداً من خبرات بلاده وإنتاج بلاده على كافة الأصعدة، وقلما يتم الاتفات للثقافة الوطنية أو للقضايا والمشكلات والهموم التي تعاني منها مجتمعاتنا، والمفارقة أن جلها تأتي من تلك الدول عينها التي ندعوها لإصلاحنا.
وإن نسينا لا ننسى تلك الحملة الغربية الأمريكية تحديداً لتغيير المناهج العربية بدعوى مناهضة الإرهاب والتي سارعت بعض الدول العربية إليها في محاولة للتخفيف من مضمونها الوطني، القليل بالأساس.
وإن لم يتم التدخل عن طريق المناهج الرسمية في الدول التي تعتبر أن وضعها، كباقي دول العالم تقع على عاتق الدولة التي تحدد من خلالها أي نوع من المواطن تريد، فإنها تنفذ عن طريق الوسائل غير النظامية ككتب الأطفال ولنا في مشروع ” مكتبتي العربية” المدعوم من وزارة الدفاع الأمريكية خير دليل على ذلك، حيث تمت ترجمة كتب لدار النشر سكولاستيك إلى العربية وتعميمها على المدارس من خلال وزارات التربية العربية ومنها لبنان وتدريب المعلمين على التعامل معها، وكل ذلك مجاناً.
يناقش تقرير التنمية البشرية العربية الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتنمية عام 2003 والخاصة ” بالمعرفة” واقع المعرفة في بلادنا ويعالجها من زوايا ثلاث؛ اكتساب المعرفة ونشرها وإنتاجها، سعياً وراء وجود مجتمع المعرفة. ويعرض لواقع المعرفة من خلال الزوايا الثلاث ليخلص إلى ضعفها الكبير فيها كلها، الأمر الذي ربما يدعو إلى الإحباط. وبعض خمس سنوات من هذا التقرير تقول لنا الأرقام أننا ما زلنا في المكان نفسه.
وإذا عدنا إلى نوعية التعليم الذي يسود في الغالبية الساحقة من المدارس العربية باستثناء بعض المدارس الخاصة النخبوية فيجد تقرير التنمية البشرية المذكور، أن مستواه أياضاً متدنياً ومن الصعب أن يساهم في نمو أبناء مؤهلين للتعامل مع المتغيرات في العصر الحديث.
المطلوب تربية مواطن وليس فقط إنسان منتج متطور ذهنياً مرتبط ثقافياً بمجتمعه ليقوم بالتغيير. كانت هذه غايات التربية كما حددها أستاذنا عبدالله عبدالدايم في معظم كتاباته وسعى إليها في جميع أعماله.
فالمواطن الذي يمكن أن يتعامل بكفاءة مع زمن ما بعد الحداثة ويواجه بجدارة التهديدات التي تطال مجتمعنا وهويتنا والتي بدورها تشكل إحدى إفرازاتها، هو ذلك المواطن المتمتع بالتفكير المستقل، العلمي والنقدي والإبداعي، والساعي للبحث عن الحقيقة، المبادر والجريء، المحصن بالهوية الثقافية الواضحة المعالم، والملتزم بقضايا وطنه المرتبطة بالتحرر والتقدم والمستعد لتحمل مسؤوليته تجاهها. إنه كل متكامل لا يتجزأ.
فهل ترى المعلم صورة هذا المواطن بشموليتها؟ إن تعليم أي مادة لا يكتمل إلا برؤيتها ضمن سياق المنهج ككل الهادف إلى تنمية المواطن ككل. فالمعلم ليس عامل مصنع لا يعنيه سوى جزءاً محدداً يعمل على إنجازه في عملية تصنيع معقدة تقسم إلى أجزاء ومراحل. فالتصنيع يمكن تجزئته والناتج الأخير يظهر بعد جمع كافة الأجزاء لتصبح منتجا كاملاً. أما المعلم فهو معني بتربية إنسان متكامل لا يتجزأ ليعيش في مجتمع أيضاً لا يتجزأ، بثقافته وقضاياه. إلا أن هناك بشكل عام انفصال تام بين ما يتعلمه التلميذ في صف الجغرافية وبين اللغة أو العلوم أو الرياضيات. كما أن هناك انفصال تام بين المادة التي يتعلمونها والحياة العلمية. وبمعنى آخر إن هناك انفصام إلى حد بعيد بين التربية وبين الوطن والمواطنية.
فالتلميذ والمواطن الكفوء هو من يستخدم مهارات التفكير العلمي في العلوم بقدر ما يستخدمها في الرياضيات والجغرافيا والتاريخ وحل مشكلاته اليومية، وهو من يستخدم النقد في الأدب بقدر ما يستخدمه في حل مسائل الرياضيات والعلوم، ومن ثم في العمل والتعامل مع الناس. وما لم يعتد التلميذ في المدرسة أن يبحث عن الحقيقة في كافة المجالات، من مصادر متعددة وأن يعرف كيف يقارن المصادر ويتحرى صدقيتها، فلن يعرف كيف يتعامل مع الأخبار والمعلومات التي يتعرض لها في حياته اليومية والوطنية.
وما لم ينمو لديه الحس بالمسؤولية والخدمة العامة ويعتادها من خلال نشاطات للخدمة الاجتماعية، التي باتت في العديد من الدول المتقدمة جزءاً من البرامج المدرسية ينال عليها التلامذة علامات وتقدير، وما لم يتعلم التلميذ في المدرسة كيف يدافع عن قضيته ورأيه من خلال ممارسة نقاشات وحوارات منظمة يختلف بها مع الآخرين مستخدماً مهارات التفكير العلمي والنقدي بالإضافة إلى المعلومات التي يستند إليها، وما لم نوفر للتلميذ كل هذا كيف يمكن أن تنمو لديه إرادة وثقة بالنفس، وأن يتمكن من تطبيقها في حياته، عندما يترك المدرسة ويصبح مواطناً. بمعنى آخر ماذا نسعى لأن يبقى معه عندما يتركنا. فالتربية بالتعريف الجميل ” هي كل ما يبقى بعد أن ننسى كل ما درسناه”. ولكن بين معلم ما زال يؤمن بالعصا كوسيلة للتأديب وآخر يتفوق باستخدام الحاسوب وبلغة غربية وليس بلغته الأم، ولا جسر ولا رابط بينهما من الصعب فرض استبدال العصا بالفأرة دون مرحلة تحول توائم بين بيئة العصا والبيئة التي أنتجت الفأرة. لذلك نحن بحاجة الى تربية تكسب أبناءنا المعلومات المفيدة لحياتهم وتنمي فيهم المهارات والقيم التي تجعلهم أشخاصاً منتجين، مبدعين ومواطنين متشبعين بثقافتهم معتزين بانجازاتهم، قادرين أنيساهموا في تحقيق حرية وطنهم وتقدمه مستفيدين من التقدم في العالم وغارفين من معين تراثهم الغني، ليبنوا لنا مستقبلاً أفضل.
نحن بحاجة إلى جسر يربط واقعنا بانجازات العالم الجديد وجسر آخر يربطنا بانجازات عالمنا نحن القديم. تماماً كما دعا الدكتور عبدالله عبدالدايم الذي مازالت قراءاته للواقع الاجتماعي والتربوي قائمه بعد سنوات على تشخيصها كما أن رؤيته للحلول لمشكلاته تبقى صالحة حتى الساعة.
 
دار الندوة – بيروت
12/3/2010