كلمة الأستاذ بشارة مرهج

بشارة مرهج
دار الندوة
12/3/2010
الثقافة العربية في مواجهة تحديات العصر
حفل تكريم الدكتور عبد الله عبد الدائم
عبد الله عبد الدائم متوقد الذهن، لين العريكة، واثق الخطوة واسع الثقافة. أفكاره لعب دوراً بناءً في تطوير المجتمع العربي وتأهيل مؤسساته للبناء التربوي والمقاومة الفكرية.
كان عاملا صادقاً في ميدان التربية الوطنية والقومية وكانت القيم والافكار لديه اهم من السلطة والوجاهة فغدا رمزاً للمفكر العربي المتجرد الذي يتقن عمله ويمارس التزامه في آن.
ساهم في بلورة العقيدة القومية العربية باعتبارها عقيدة انسانية ايجابية ترمي الى تحقيق وحدة العرب وتحررهم وتقدمهم.
تجاوز دوره الهام كمثقف وتربوي أنغمس في عالم السياسة دون ان يسقط في وحولها وانما ازداد بعمله مكانة وتألقاً.
لم تجذبه السلطة ولم يطلبها بل كان يتحمل مسؤوليتها عندما تطلبه بصفته مرجعاً في العروبة والثقافة والتربية وقبل كل شيء مدرسة في الانتماء والعمل والالتزام. كان فعلاً ينتمي الى جماعة الطليعة فاصبح مفخرة لاهله واترابه.
عميق الثقافة راسخ النظرة كتب في الشأن القومي حتى غدا من اهم ممثلي الفكرة العربية الحديثة التي ساهم في تطويرها وتحديثها وتقريبها الى الجمهور والطلاب بصورة خاصة.
في الوقت الذي كان فيه العديد من الكّتاب والسياسيين، تحت ضغوط الظروف والاحداث الجسيمة، يقرعون طبول القومية العنصرية واخرون ينفخون في نار الانفصال والانعزالية كان عبد الله عبد الدائم المفكر الرصين والعالم المكين يكتب بهدوء وحرارة عن قومية عربية انسانية محورها اللسان العربي تفتح ذراعيها لكل ساكن على ارض العروبة يشعر بانتمائه الى هذه الامة التي تشرفت مع سواها من الامم بحمل رسالة التوحيد والايمان والسماحة وتحملت مسؤولية تاريخية في نقل وتطوير الافكار والاداب والعلوم حيث أبدعت في اكثر من مجال وبقي انجازها – الذي دفع الحركة الحضارية الى الامام – حافزاً للانسانية ولابناء العروبة بوجه خاص للمضي في هذا الطريق مرة اخرى عن طريق النضال الفكري والبحث العلمي والتجديد التربوي والكفاح السياسي والاخلاص العملي للمبادئ والقيم التي جعلت اهل العروبة والاسلام في غابر الايام يجعلون من دمشق وبغداد عاصمتين للعالم كما للعلم والفن والادب وجعلت للثقافة العربية والاسلامية دوراً وبيوتاً وجامعات تشرق نوراً وحيوية ومعرفة اغنت الانسانية وحررت الانسان من كثير من الاوهام.
فالقومية العربية بالنسبة لعبد الله عبد الدائم واترابه وتلامذته المخلصين هي القومية التي تنشد الحرية والوحدة والتقدم لشعبها، وتسعى في الوقت نفسه الى بناء عالم متآخ يسعى الى حرية الانسان وتقدمه. انها قومية المعاناة والنضال التي تعرف معنى الاحتلال والاستبداد وتعرف اهمية دحر الاحتلال وازالة الاستبداد دون التورط في مسات او سياسات تناهضها ولذلك آل على نفسه عبد الله عبد الدائم في كتبه الغزيرة وكتاباته الغنية على تزويد الشباب العربي بالرؤية المتلزمة والمقاربة المنفتحة لايمانه بالعمل الايجابي ولثقته بقوة الكلمة ولشعوريه العميق بانتمائه الى امة ارادها ناهضة مدركة لحقيقتها مستجيبة للتحديات الماثلة عاملة على اعداد نفسها لرفع كل اشكال الظلم عن نفسها وعن محيطها.
ان قوميتنا العربية مرتبطة بنضالنا من اجل الاستقلال والتحرر من النفوذ الاجنبي مثلما هي مرتبطة بنضالنا من اجل الخبز والكرامة، هي احترام لوجودنا وتاريخنا وحقوقنا.
هي قومية متوجهة صوب التحرير والبناء والتقدم ولا يمكن ان تكون قومية الاحتلال والاستخذاء ومن هنا كان عبد الله عبد الدائم ينكفئ كلما شعر او ايقن بوجود انحراف عن الطريق القويم فيسعى في انكفائه عبر الرأي والكلمة لتقويم المسيرة فيتحول الى مدرسة قائمة بذاتها تنشغل في التدريس والتوجيه، في النشر والتواصل، معتبراً ان الاعداد الجيد السليم للعامل الانساني في عملية التحول والتحرر امرُ في غاية الاهمية لا بل امر لا بد منه لضمان سلامة المسيرة وسلامة سياساتها وتوجهاتها. وكم كان استاذنا الكبير يتألم عندما يرى بأم العين مسؤولين لا يقدرون تماماً معنى المسؤولية الكبيرة التي يتحملون في استنهاض الاوضاع العامة وتهيئتها نفسياً ومادياً للاستحقاقات الكبرى فالنسيح الداخلي الذي كان يشغله ويؤرقه معتبراً ان المناعة الداخلية مقرونة بالالتزام الجدي والثقافة المستنيرة اكثر من ضرورية لخوض معارك الصراع التي تتوالى على هذه الامة وتلقي عليها اعباء هائلة لا تتصدى لها الا النفسيات الكبيرة.
لقد درس عبد الله عبد الدائم وتبحر في ميادين الثقافة والتربية والسياسة فنال اعلى الدرجات واسمى الشهادات لكن علمه لم يكن شهادة وانما عطاءً مستمراً أغنى المكتبة العربية واغنى المجتمع العربي بتجربته التي تلهم اليوم اعداداً وفيرة من الشباب العربي تتلمذوا على يديه او اتصلت بهم افكاره وكتبه ودراساته واصبحوا في عداد الحركة الناهضة لتطوير الفكر وتوحيد الامة وتخليصها من اشكال الاحتلال المادي او الغزو الثقافي مدركين مع استاذهم الراحل ان التفاعل والتلاقح على صعيد المعرفة والفكر هما من الفضائل ولا علاقة لهما بالتقليد او الانبهار امام الوافد او الشائع.
لقد كان عبد الله عبد الدائم بشخصه الاسر كما بفكره النير مدرسة تربوية مشرقة مطلة على علوم العصر متفاعلة معها مضيفة اليها حيث تتبوأ اليوم مكانها المرموق سواء على المستوى العربي او العالمي وتقف سداً منيعاً بوجه موجات الاستسلام وحركات الاستلاب، وتعطي الشباب العربي شعوراً بالثقة والثبات وتفتح لهم طريق المقاومة والبناء في عالم تستبد به القسوة ولا يعترف بحقوق الضعفاء.
اما مناعته القومية والاخلاقية فقد جعلته قدورة لابناء جيله ولكل عارفيه او بالاحرى للملايين الذين عرفوه من خلال الكلمة والموقف واطلعوا على سيرته العطرة التي شرفت مدرسته الفكرية وجامعته الوطنية وحركته السياسية.
وعلى ما امتلك من خصال فان التواضع كان زينتها وتلك صفة العلماء الذين يدركون عظمة العلم في حياة الشعوب فيجعلون له موقعاً يتصل بالحقيقة ويفتح على المجهول.
لقد كان راحلنا الكبير شخصية معروفة بعلمها وادبها ونفاذ رأيها تستشيره المؤسسات والدول والمنظمات العالمية لكن اجمل ما كان فيه انه كان طيلة سنوات حياته المترعة بالعطاء تلميذاً بارزاً ينهل من ينابيع المعرفة لا يعرف للاكتفاء طريقاً يستبد له الشوق الى مزيد فما يكاد يرتوي من معين حتى ينزح الى غيره وكأنه من اولئك الفلاسفة الذين احاطوا بكنوز المعرفة وظلوا من القائلين ” وما أوتيت من العلم الا قليلا” وتلك هي ذروة الثقافة.
ألقيت في دار الندوة بتاريخ 12/3/ 2010 وتحدث في الندوة الوزير السابق جورج قرم والدكتورة نجلا نصير بشور و أ. عبد الله عبد الدائم.