تاريخ التربية

عندما التحقنا بكلية التربية عام 1969 كانت هناك مجموعة من الأعلام يتردد صداها وتذكر أسماؤها دائماً بعد أن تركت مواقعها إلى مواقع أخرى .. كان من أبرز هذه الأسماء اسم الدكتور عبد الله عبد الدائم واسم الأستاذ حافظ الجمالي .. وهما وإن كانا خارجَ الكلية آنذاك إلا أنهما كانا فيها بكامل حضورهما فقد كانت كتب كلٍ منهما ما تزال تدرّس وينهل منها الطلاب.. وكان بين أيدينا من كتب الدكتور عبد الله عبد الدائم كتابٌ جليل مترجم عن الفرنسية هو كتاب «التربية العامة» لرونيه أوبير وهو أعمق كتب فلسفة التربية المعروفة في العربية حتى الآن وقد ترجم بلسان عربي مبين والحديث عنه يحتاج إلى وقت غير متيسرٍ الآن.
أما الكتاب الثاني من كتب الدكتور عبد الدائم فهو كتاب «تاريخ التربية» وكان آنذاك في ستين وأربعمائة صفحة وربما تضاعف بعد ذلك، وهو تاريخ عام للتربية، يبدأ من التربية في القديم كالتربية الهندية والصينية وعند بني إسرائيل وعند اليونان والرومان مع استعراض لنظريات الفلاسفة في التربية عند هؤلاء الأقوام ثم الحق ذلك بالبحث في التربية المسيحية والعصر الوسيط وفيه إيجاز لأسباب ضعف الفكر في العصر الوسيط ويتلخص ذلك بالوضع الاجتماعي للأوروبيين المتحاربين دوماً آنذاك وبعدم شعور الشعب المستعبد آنذاك، بضرورة الثقافة إضافةً إلى فقدان اللغات القومية وندرة الكتب.
ومن أهم ما في هذا الكتاب وأكثره تفصيلاً ما كتيه الدكتور عبد الدائم عن التربية العربية، فتناولها وأوجز فيها القول في فترة ما قبل الإسلام غير أنه اتسع في القول فيها في مرحلة ما بعد الإسلام التي استمرّت نحواً من ستة قرون، بدءاً من انتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية حتى القرن السابع للهجرة عندما سقطت بغداد على يد هولاكو سنة 656 = 1258م.
حدد المؤلف أولاً أهداف التربية الإسلامية وهي أهداف دينية ودنيوية معاً إذ كانوا يرمُون إلى إعداد المرء للدنيا والآخرة لذلك عُنوا بدراسة علوم الدين والشريعة كما عنوا بدراسة علوم اللسان والتاريخ والجغرافيا والكيمياء والفيزياء والطب والهندسة والفلك.. واستطاعوا بفضل هذه التربية الجامعة أن يشيدوا حضارةً رائعة لها مكانتها بين الحضارات التي عرفتها البشرية.
وقد رصد المؤلف معاهد التعليم في الإسلام وتطورها من الكتّاب العام إلى لكتّاب الخاص إلى القصور إلى حوانيت الوراقين إلى منازل العلماء إلى المنتديات الأدبية (الصالونات) إلى المساجد وأخيراً إلى المدارس التي افتتحها السلاجقة ثم الزنكيون ثم الأيوبيون. وهناك المكبات الكبيرة وأخيراً كان هناك الخوانق والربط والزوايا والبيمارستنات. وتحدث الدكتور بعدئذٍ عن المدرسين وإعدادهم وأحوالهم الاجتماعية والمالية وعن الشروط التي يجب أن تتوافر فيهم ليتسلّموا منصب التدريس والأستاذية ثم تحدث عن التلاميذ والطلاب وما يجب أن يتسم به طالب العلم من أخلاق وصفات.
وفي بحثٍ مسهب بحثَ في أساليب التربية والتعليم عند المسلمين وأورد ذلك بعد أن مهد له ببحث في سن التعليم وفي العقل والجسم ثم انتقل إلى طريقة التعليم فبحث في طريقة التلقين والتدرج في التعليم، وعدم الخلط بين العلمين، وكثرة الأسئلة وطريقة المناظرة، وتوجيه المتعلمين حسب ميولهم ومواهبهم، ثم بحث في الثواب والعقاب ومراحل التعليم ومناهج التعليم وموضوعات الدراسة، وطبيعي أن ينشأ في مثل هذه الحضارة وامتدادها الزمني أعلام في التربية اختار المؤلف اثنين منهم وتحدث عنهما بشيء من التفصيل وهما الإمام الغزالي والعلامةُ ابن خلدون. واقتبس من آخرين كابن سحنون والقابسي وابن مسكويه وإخوان الصفاء وابن سينا وابن عبد البر الأندلسي وبرهان الدين الزرنوجي والعلموي. وأنهى الدكتور بحثه بهذه النتيجة:
ونستطيع أن نقول دون ماغلو: إن الحضارة العربية عرفت بدء أفولها يوم افتقدت التوازن الأصيل بين التربية الإنسانية وبين التربية العلمية التجريبية، ومن الصعب أن نحدد العوامل التي دعت إلى اختلال التوازن هذا، لأنها عين العوامل المعقدة المتشابكة التي أدّت إلى تداعي الحضارة العربية… ولعل على رأس هذه العوامل غلبةَ العناصر غير العربية عليها في أواخر أيامها، ودخولَ أخلاط المغول والترك والتتر، وضعفَ الروح العربية الأصيلة، الروح التي حملت رسالة الإسلام وصهرت ضمنها الأقوام الأخرى التي امتزجت معها.
بعد ذلك انتقل المؤلف إلى عصر النهضة في أوروبا في القرن السادس عشر فتحدّث عن ماهية النهضة ومكوناتها والمعنى التربوي لها، كإحياء فكرة التربية الحرة وإحياء الرغبة في حياة جديدة أي تربية جديدة مخالفة للقديمة. ثم تحدث عن بعض أعلام التربية وأفكارهم S ايراسموس ورابليه ومونتيني وينتقل الباحث إلى الأصول البروتستانيه للتعليم ويفصل القول في آراء مارتن لوثر ورايتش وكومينيوس وجماعة اليسوعيين.
وننتقل إلى القرن السابع عشر إلى فينليون وديكارت ومالبرانس ولوك ثم إلى جان جاك روسو في القرن الثامن عشر وإلى بستالوتزي والتربية الألمانية.
ويختتم الكتاب بدراسة عن فروبل ورياض الأطفال وعن هربارت وعن نشأة علم التربية متمثلاً في كتاب هربرت سبنسر الموسوم بـ (في التربية الفكرية والخلقية والجسدية) وكان هذا الكتاب قد فرّق بين التربية التي تسير وفق عادات تقليدية شائعة أو وفق غرائز المعلمين وبين علم التربية الذي يستفيد ويستمد من فروع المعرفة كلّها.
وعند أواخر القرن التاسع عشر وتباشير القرن العشرين وقف هذا التاريخ التربوي الذي اختتم بعبارات التواضع وبوعد مفادُه النية في تأليف كتاب خاص في التربية العربية الإسلامية، وإتمام الكتاب بمبحث متمم عن التربية في القرن العشرين.
إن كتاب تاريخ التربية للدكتور عبد الله عبد الدائم يعد من الكتب الممتازة في تاريخ التربية حتى الآن.. إنه ممتاز معرفياً ومنهجياً وأسلوبياً.. وما يزال يؤدي رسالته ووظيفته مرجعاً أساسياً في البحوث التي تطرّق إليها.
أتمنى للدكتور عبد الدائم دوام القوة والقدرة على العطاء.