عن «القومية والإنسانية» والمفكر عبد الدائم

لم يكن الدكتور عبد الله عبد الدائم فيلسوفاً تربوياً، بقدر ما هو أيضاً مفكر قومي رائد أراد من خلال مؤلفاته ودراساته أن يؤسس لفعل قومي في التربية والسياسة والأخلاق والانتماء، ولن يتوقف عند هذا التأسيس، بل يرفده على الدوام بالكثير والكثير من الطروحات والأفكار والمداخلات التي تساهم في تقوية هذا الفعل، وتركيز أسسه والانطلاق في مبادئه، كرسالة ومسؤولية إلى آفاق رحبة، بتركيزه على إنسانية القومية العربية، ومبادئ التربية القومية، وتحريرها من كل شوائب الغلو العنصري أو العرقي، وعلى علاقة العرب مع العالم «وفق معادلة التفاعل الخلاق التي ترفض الانغلاق عن حضارات الآخرين كما ترفض الالتحاق بها والانسحاق أمامها» كما يقول الأستاذ معن بشور عن الدكتور عبد الدائم.
من الواجب أن نتوقف بين فينة وأخرى عند مؤلفات هذا المفكر القومي العربي الرائد، نحاكم الواقع ونُنعم العقل في تحليله وتشخيصه، فذلك يشكل نقطة علام كبيرة في معالجة الأزمة أو الأزمات التي تعصف بهذا الواقع وتشده إلى الوراء، إن لم يكن التراجع. ومن هنا فإن التأمل والإدراك والاستيعاب والتمثل لما جادت به قريحة الدكتور عبد الدائم في مجالات وجنبات هذا الواقع، دون تقزيمه أو المغالاة في نقده؛ ذلك كله يعني رفد الذهن العربي وقبله الوجدان والضمير وهوية الانتماء بكل ما يساعد على أن تتطابق الرؤى مع النهوض، وأن تنسجم التقنيات الفكرية والتربوية مع التوجهات والأهداف في إقامة مجتمع عربي موحد، عبر الوصول إلى خطط واستراتيجيات، وبرامج عمل، نمتلك القدرة على تنفيذها وترجمتها بإرادة موحدة وبمواقف مشتركة، تستلهم مصلحة الوجود القومي والالتزام بقضايا المصير العربي وتدرأ الخطر وتتغلب على التحديات التي لا تستثني أحداً من العرب.
صحيح أن المسألة التربوية كثيراً ما تستند في طرائقها وصيغها ومعالجاتها إلى ما نطلق عليه الإطار التقني أو الفني، إلا أن هذا الإطار لا يمكن أن نفصله عن الفلسفة التي ستستند إليها هذه التربية، ولا عن المرتكزات والمقومات التي من أجلها نريد تربية قومية حقيقية، صائبة، وصحيحة.
إن الدكتور عبد الدائم قد أحاط بذلك كله وهو يضع بين أيدينا الأفكار والقواعد والمبادئ والأسس في دراساته وكتاباته، ومؤلفاته وخططه التي كانت الأرضية لكثير من جوانب التربية في علاقتها المباشرة وغير المباشرة بالهوية القومية العربية بأبعادها الإنسانية والحضارية.
لذلك لم تكن مصادقة أن تكون الدراسة الأولى في الهوية القومية للدكتور عبد الدائم بعنوان «القومية والإنسانية» وقد صدرت في كتاب عام 1957 وأعيدت طباعته مع مقدمة جديدة في عام 1959. وحول هذا الكتاب يقول الدكتور عبد الله عبد الدائم أنه «أطلق بذور فكرة رائدة أساسية تحرص الحركة القومية الحديثة على إغنائها، نعني الربط الوثيق بين القومية والإنسانية، والمناداة بكيان عالمي ملتحم».
وهكذا عنون الدكتور عبد الدائم فصول كتابه بالحديث أولاً في التقديم عن حقيقة القومية والإنسانية وليتحدث في الفصل الأول عن نشأة الفكرة القومية والبلاد الأجنبية، وفي الفصل الثاني عن الفكرة القومية العربية، وفي الفصل الثالث عن الاتجاهات القومية المعاصرة، وليختمه بفصل رابع بعنوان «عصر القومية الإنسانية».
كان هذا قبل زهاء نصف قرن، وما أحوجنا اليوم لاستيعاب وتمثل ذلك كله ونحن نواجه التغريب والتفتيت لهويتنا القومية العربية خلف ذرائع الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والاستقلال والسيادة، ونحن نواجه أيضاً ضغوطات فرض المشيئة والإرادة والقرار لقوى الغزو على أراضينا، تريد أن تنزعنا من جلودنا أو أن تسلخ جلدنا القومي العربي عن الدم والخلايا والأعصاب ولتتركنا عرضة للموت المجاني والانتحار الذاتي بالفوضى الهدامة، والقتل الطائفي العشوائي تارة، والمدروس والمنظم في تارات كثيرة.
ولأننا بحاجة للتأمل في وجودنا ومصيرنا وللتمسك بهويتنا القومية العربية الإنسانية، أتقدم باقتراح إلى وزارة الثقافة والزميلة دار البعث بأن تخصص أحد كتبها الشهيرة لكتاب «القومية والإنسانية» للدكتور عبد الله عبد الدائم المفكر القومي العربي الرائد ضمن السلسلة الثقافة الفكرية الهامة التي تصدرها وهي تسلط الأضواء على كتابات متميزة لمقامات عربية في الفكر والأدب والسياسة وشتى ضروب المعرفة والعلوم الإنسانية.
هي بطاقة أزجيها مع كل الاحترام والتقدير لكل من السيد الدكتور رياض نعسان آغا
– وزير الثقافة – والزميل الياس مراد – رئيس تحرير البعث – لعلهما يوافقان كل ذلك، علماً أن عدد صفحات هذا الكتاب لا تتجاوز الخمسين صفحة من الحجم المتوسط.