الكتابة للجمهور

مجلة فنون – العدد (1306) 2006/3/16
نشرت سابقاً في مجلة (الإذاعة السورية) بتاريخ 1954/4/46

الكتابة للجمهور …
بقلم الأستاذ عبد الله عبد الدائم

من كلام بِشر بن المعتمر: «فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولطف مداخلك واقتدارك على نفسك، على أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام».
ولا شك أن هذا الموضوع الذي راود عقل بشر في ذلك الحين، نعني نقل أفكار الخاصة لجمهور الناس، موضوع نواجهه اليوم في أعنف أشكاله. فالبلاد العربية تقطع في حياتها اليوم فترة أصبح فيها الفكر مذاعاً بين الناس، مبثوثاً في أوساط الجمهور: وذلك بفضل الإذاعة والصحف والمجلات والأحزاب السياسية وغيرها.. وقد أخذت فكرة العلم الموجَّه للملايين لا للصفوة والخاصة، تسير على السن الناس في عصرنا.
غير أن مثل هذه الظاهرة يمكن أن تعرض الفكر لمنزلقين خطرين:
الأول أن ينصرف أكثر الكتاب عن الأبحاث المجعولة للخاصة، وأن يهجروا الكتابة المتأنقة والموضوعات الاختصاصية الدقيقة، اندفاعاً منهم مع هذه الموجة، موجة الكتابة للجمهور. ولاسيما أن مثل هذه الموجة قد تلقى هوى في نفوس بعضهم إذ يجدون فيها ذريعة للانصراف عن البحث الدقيق الكادح وعن الجري وراء مصاعب الفكر العلمي العويص. ويشتد خطر مثل هذا الأمر إذا ذكرنا أن بلادنا ما زالت بعيدة عن هضم الأفكار العلمية وإساغة الدقائق الفنية في كل باب من أبواب البحث، وأنها لم تلج محراب البحث الجدي ولوجاً حقيقياً، وأنها لم تأخذ نفسها بالجهد اللازم للارتقاء إلى مستوى الأبحاث الرصينة التي عرفتها أكثر البلدان الحديثة. ولئن جاز الانصراف إلى تبسيط الفكر ونقله إلى الجمهور سائغاً ليناً فلا يكون ذلك إلا بعد أن يتوافر شرط أساسي وهو أن يكون ثمة فكر حقاً، فكر متين متعال يحتاج إلى أن يبسَّط صعبه ويهذَّب خشنه، ولعلنا أحوج ما نكون في يومنا هذا إلى أن نأخذ أنفسنا بالدأب العلمي الذي يمكننا من معاناة التجربة العلمية الحقة، واعتصار المعاني الروحية الضخمة؟ بل لعلنا أحوج ما نكون إلى أن نربي شبيبتنا على القراءة الجاهدة للأبحاث الجدية الراسخة، قبل أن نربيهم على التماس سهل الكلام وبسيط الفكر. أفلا نشعر جميعاً أن بعض المجلات المسلية التي شاعت بين الجمهور، قد أصبحت لدى كثيرين من المثقفين أنفسهم المصدر الذي يقتنون منه ثقافتهم ويقبسون أفكارهم ومعلوماتهم، وإن أكثرهم لا يعرف عن أمهات النظريات والأفكار العالمية إلا ما يقرأه مشوهاً في مثل هذه الصحافة المبذولة؟ أفلا نشعر إذاً إن مثل هذه الصحف، إن أفادت الجمهور الجاهل وقدمت له بعض العلم بما لا يعلم، يخشى أن تسيء إلى جمهور المثقفين الوسط إذا لم تشفع بدراسات جدية تعرض الأفكار والنظريات أصيلة غير منقوصة؟
والمنزلق الثاني الذي نتعرض له حين نفكر بالأدب المصنوع للجمهور أن نتخذ من ذلك ذريعة للإسفاف والضعف، وأن يخيل إلينا أن الكتابة للجمهور تبيح لنا أن نسف وأن يهن منا الفكر ويستخذي الرأي ويستلب الأسلوب. إذ كثيراً ما يتذرع بعض كتابنا بهذه الذريعة، ذريعة أنهم يكتبون لعامة الناس ليعرضوا التافه من الأمور والمكرور من المعاني بل ليستبيحوا لأنفسهم أن يهلهلوا الأسلوب ويطعنوا اللغة والنحو. وهم ينسون هذه الحقيقة البدهية وهي أن الجمهور لا يريد الغذاء الضحل والطعام الجديب، وإنما يريد الغذاء الغني المعروض في شكل قريب المتناول منه، المسكوب في صحاف مشوقة لذيذة. وفرق بين أن نقدم لصاحب المعدة الرقيقة قشور العدس أو أي طعام خلو من الغذاء وبين أن نقدم له غذاء قوياً ومستساغاً في الوقت نفسه. فالجمهور لا يهتز إلا للأفكار القوية، لكنه يريد أن يفهمها ويسيغها. ومهمة الكاتب إذن أن يتخير مثل هذه الأفكار المثمرة الخصيبة ويعرضها عرضاً سائغاً. ولا نغالي إذا قلنا أن محبة الكتابة للجمهور كادت تغدو لدى الكتاب مخرجاً يتخلصون به من النقد والتجريح وحلاً عبقرياً يمكنهم من أن يخفوا حقيقة أمرهم.
إن الكتابة للجمهور، إذا كانت صادقة مخلصة، أشق من أية كتابة، ولا يركبها الكاتب التماساً لليسر، وإنما يركبها إيماناً بواجب قومي يفرض عليه أن يقوم بجهد كبير لينقل إلى الجمهور الأفكار المحملة بالطاقة والغنى والحركة، والتي من شأنها أن توجهه وتثقفه حقاً وتخلق فيه حياة الفكر بما في هذه الحياة من إنعاش وتفتيح ورحابة. وهل يقوى على تبسيط الفكرة وجعلها مقبولة من أبسط الناس إلا من ملكها أعمق امتلاك ونفذ إلى جميع دقائقها وأصبح قابضاً على ناصيتها؟ أو ليست الأفكار التي يعرفها الكاتب بوضوح هي بعينها التي يستطيع التعبير عنها بوضوح؟ أفلا نرى أن الرواد الأوائل في كل علم وفن هم الذين ينجحون في عرض أفكارهم أوضح عرض وأيسره، على حين نرى من هم دونهم في رتبة العلم
لا يقوون على مثل هذا الوضوح وتلك البساطة بل نراهم يعقدون ما وضح لدى أولئك وينضحون بالعرق لدى عرض أفكارهم؟
إن التعبير لا يملكه إلا من ملك التفكير، وسهولة العبارة لا تتأتى إلا لمن قبض على أفكاره يتلاعب بها كما يشاء. والجمهور لا يريد سهولة ليس وراءها فكر، وإنما يريد فكراً هو، لتمكنه من نفس صاحبه، بسير طليق سيال، وهو من قوته في لين واجتذاب. والفكرة الحبيبة على صاحبها، التي بها يتمطق ويتلمظ، هي التي تعرف أن تنقل نفسها إلى الجمهور رشيقة حلوة محببة، لا متثاقلة ملولة.

وقد كتب رئيس التحرير الأستاذ سعد القاسم افتتاحية العدد بعنوان

دفاترنا العتيقة

زملاؤنا في صحيفة تشرين لفتوا الانتباه إلى المواد الصحفية التي نعيد نشرها في صفحات (الدفاتر العتيقة) عن أعداد مجلتنا حين كانت تحمل (اسم الإذاعة) السورية ومن ثم (هنا دمشق). وتضمنت كلمات الزملاء إشارة إلى ما يمكن مقارنته الآن مع كتابات نشر بعضها قبل أكثر من نصف قرن..
واليوم نعيد نشر مقالة للأستاذ عبد الله عبد الدائم نشرت قبل اثنين وخمسين سنة لكن مقولتها تبدو ابنة راهن عصرنا، ولن أسهب في الحديث عما تضمنته تلك المقالة فهي منشورة بالكامل، وتلخيصها أو اختصارها يفقدها الكثير من جمال مناقشتها وأناقة لغتها، لكن أرغب في التوقف عند فكرة هامة تضمنتها، تلك التي تقول أن التعبير لا يملكه إلا من ملك التفكير، لأدعو القارئ لتطبيق هذه الفكرة على كم كبير من الكتابات التي تطالعنا كل يوم ولا تخفى وراء غموض لغتها سوى تشتت فكر صاحبها، فيما هو إيهام القارئ بأن العيب في هزالة معارفه (القارئ) وضعفه اللغوي، هذا الرأي قاله صراحة يوماً ما الكاتب والمفكر فؤاد زكريا في مكتبة الأسد، ويقوله بشكل غير مباشر كتاب وروائيون وصحفيون عرفوا الطريق إلى الجمهور المتطلع إلى المعرفة والمتعة الأدبية.