كتاب (العرب والعالم وحوار الحضارات)

سيداتي سادتي مساء الخير
أود بادئ ذي بدء أن أتوجه بجزيل الشكر إلى الصديق العزيز عبد الرحمن البيطار الذي كان له فضل السبق في إطلاق مبادرة (كاتب وكتاب) ليكرم الكتاب والمفكرين من أبناء هذه المدينة في حياتهم، وليعرف جمهور حمص المثقف على إبداعاتهم. وهو الذي ندبني لأن أتكلم في هذه الندوة عن جانب من جوانب إنتاج مفكرنا الكبير الدكتور عبد الله عبد الدائم. كما أتوجه بالشكر والتحية إلى منتدى المثقفين في حمص رابطة الخريجين الجامعيين التي تواصل رسالتها وعطاءها منذ أربعين عاماً في شتى مجالات الفكر والأدب والثقافة.
أيتها السيدات، أيها السادة
إذا ذكر الدكتور عبد الله عبد الدائم تبادرت إلى الذهن صورة الأستاذ الجامعي الوقور الذي يتناول أبحاثه بكل موضوعية، والمربي الكبير الذي تخصص في التربية وله فيها مؤلفات عديدة أصبحت مراجع للباحثين في هذا المجال. والمثقف الموسوعي الذي يصدق عليه القول بأنه يعرف شيئاً عن كل شيء ويعرف كل شيء عن شيء. والمفكر الذي يتابع لأحداث التي تمر بها الأمة ويدلي دلوه في شرحها وتفسيرها.
للدكتور عبد الله عبد الدائم أكثر من (40) مؤلفاً في مجالات عدة. والمؤلف الذي سأتحدث عنه هو بعنوان (العرب والعالم وحوار الحضارات). يقع الكتاب في حوالي 130 صفحة ويتألف من ثلاثة أبحاث ألقيت أو نشرت في مناسبات عدة خلال الفترة من عام 1995 وحتى عام 2000. وهي الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة وولادة عالم جديد لم تتضح معالمه يسود فيه قطب واحد، وحدثت فيه صراعات عدة وظهرت نظريات تنظر له كان من أشهرها (نهاية التاريخ لفوكوياما) و(صراع الحضارات) لهانتغتون.
ومنذ تلك الفترة وحتى الآن شهد العالم أحداثاً عديدة أدت إلى تعميق الصراع بين الحضارات وترجمته على أرض الواقع. بدءاً من أحداث 11 أيلول في الولايات المتحدة وما تلاها من غزو لأفغانستان والعراق إلى المقاومة في العراق والانتفاضة في فلسطين وما يتعرض له العرب والمسلمون في الغرب من مراقبة وتضييق، وما جرى في باريس وبعض المدن الفرنسية من أحداث العنف. وآخرها نشر الصور الكاريكاتورية للنبي محمد من قبل صحيفة دانماركية وما أعقب ذلك من ردود فعل على المستوى العالمي . كل هذه الأحداث تشير إلى أننا الآن في غمرة صراع مع الغرب كما لم نكن من قبل عبر التاريخ. فلدينا الآن كافة أشكال الصراع من استعمار استيطاني في فلسطين إلى اجتياح عسكري للعراق وأفغانستان وتهديد بتوسيعه إلى دول أخرى كسوريا وإيران إلى إنشاء قواعد عسكرية في دول الخليج ونهب لثرواته النفطية إلى غزو ثقافي وفكري وحضاري يهاجمنا يومياً وعلى مدار الأربع وعشرين ساعة عبر الفضائيات ومحاولات لإجهاض أي مشروع نهضتي كما في محاولة الجمهورية الإسلامية في إيران امتلاك التقانة النووية. فهل بعد كل ما نشهده من أحداث وردود أفعال هناك من لا يزال يشكك في وجود صراع بيننا وبين الغرب؟
يتحدث المؤلف في الفصل الأول بعنوان (التخلف العربي والخوف من الغرب) عن تاريخ اصطدام العرب بالغرب منذ انتشار الإسلام ودخوله الأندلس مروراً بالحروب الصليبية حتى وصول جيش نابليون إلى مصر. ويستعرض التجارب النهضوية التي بدأت بمشروع محمد علي في مصر وتجربة الباي أحمد والوزير خير الدين التونسي في تونس. ويشرح الأسباب التي أدت إلى إجهاضها وأهمها الغزو الخارجي من الغرب وعدم تجذر المشروع النهضوي داخلياً بسبب التركيز على المشاريع الحربية والاستبداد بالسلطة وعدم تعميق الإصلاحات الداخلية. ويتناول الفصل الثاني بعنوان (العرب والعالم بين صدام الثقافات وحوار الثقافات) المشهد العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. حيث نشأ عالم جديد فيه قطب واحد هو الولايات المتحدة وانتشرت فيه الدول القومية وظهرت الصراعات فيما بينها وضمنها بين الطوائف والأقليات العرقية. وشاعت ظاهرة العولمة التي باتت تهدد الهوية القومية وتعدد الثقافات والتنوع الحضاري. وبدأ الغرب فيه يفتش عن عدو جديد فوجده في الإسلام. أما الفصل الثالث فكان بعنوان (مستقبل الثقافة العربية والتحديات التي تواجهها) حيث شرح مفهوم الثقافة والحضارة ودورهما في تفسير المشاكل التي يتعرض لها العالم ومحاولة الغرب بسط الهيمنة الثقافية. ثم يتكلم عن التحديث وظاهرة أفول الغرب وعن التحديات التي تواجه الثقافة العربية اليوم.
يرجع المؤلف أسباب الصراع بين العرب والغرب إلى عوامل عدة منها:
1- خوف الغرب من الإسلام الذي نجم عن الاحتكاك سواء في الأندلس أثناء حروب الاسترداد أو في الحروب الصليبية أو بسبب توسع العثمانيين في أوروبا وما نجم عن ذلك من توليد صورة مسبقة للإسلام في الذاكرة الجماعية للغرب تصفه بالتخلف والجهل والعنف.
2- خوف العرب من الغرب وخاصة منذ الحروب الصليبية وهجمة الاستعمار الحديث وبناء دولة إسرائيل وتصفية كافة المشاريع العربية النهضوية. بحيث اعتبر البعض الأخذ من الحضارة الغربية بمثابة ضياع الهوية والانصهار في بوتقة الثقافة الغربية.
3- مركزية الغرب التي تضع الحضارة الغربية في المركز والحضارات الأخرى على الأطراف. فهي تبدأ دوماً بالحضارة اليونانية وتقفز فجأة إلى عصر النهضة والعصر الحديث. وهي لا تعطي الحضارات الأخرى وعلى الأخص الحضارة العربية الإسلامية التي استفادت منها في العصور الوسطى إلا دوراً هامشياً يتمثل في النقل والترجمة.
4- عدم الاعتراف بالتمايز الثقافي والتنوع الحضاري وسعي الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى الدعوة للعولمة الاقتصادية والثقافية على النموذج الأمريكي كما بشر بذلك فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) وكما نرى تنفيذ ذلك اليوم في سياسات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة وتبشيرهم بالديمقراطية والليبرالية الجديدة.
5- يرى المؤلف في الصهيونية عائقاً حقيقياً أمام إجراء أي حوار جدي بين العرب والغرب. فما تقوم به إسرائيل يمثل جرحاً نازفاً يمنع التفاهم مع الغرب الذي يقف وراءها.
6- فتش الغرب بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عن عدو جديد يبرر له التفوق ويحافظ على تماسكه سواء في منظومة الاتحاد الأوروبي أو في حلف الناتو فوجده في الإسلام. وقد ساعده على ذلك منظرون أمثال هانتغتون في نظريته عن صراع الحضارات وسياسيون مثل المحافظين الجدد وتطرف الأصوليين أمثال جماعة بن لادن.
7- هناك عوامل عدة أخرى تجعل الغرب يقف هذا الموقف من العرب والمسلمين من أهمها الموقع الاستراتيجي للعالم العربي وقربه من أوروبا والنمو الديموغرافي والثروة النفطية.
وبعد أن شخص الدكتور عبد الدائم أسباب الصراع بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية اقترح عدداً من الأفكار من أجل التخفيف من حدة هذا الصراع وتغليب منطق الحوار والتفاهم منها:
1- دعوة الغرب لإجراء مراجعة صادقة لما تراكم في تراثه من أفكار خاطئة عن العرب والإسلام كما نرى في نشر الصور الكاريكاتورية اليوم.
2- قيام العالم العربي والإسلامي بحملة جدية لتعريف العالم برسالة الإسلام السمحة وما تحمله من قيم ومبادئ للإنسانية جمعاء واعترافها بالتنوع الثقافي والعرقي (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم) ودعوتها للحوار والتفاهم بالطرق السلمية (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
3- تنمية القدرات الذاتية وبناء المشروع النهضوي العربي الذي يقوم على أساس قومي ديموقراطي تعددي يحترم هوية الآخرين وآراءهم. إن هذا من شأنه أن يؤسس لحوار جدي بين ندين متكافئين يحترم كل منهما الآخر وقدراته وليس إملاء من طرف قوي على طرف ضعيف.
4- مراجعة التراث العربي الإسلامي وإزالة ما علق به من عصور التخلف والانحطاط من سلبيات.
5- إزالة عقدة الخوف من الغرب وحل المشكلة بين التحديث والتغريب عن طريق الأخذ بمنجزات الحضارة الغربية في كافة المجالات دون التخلي عن القيم والأفكار الأصيلة في التراث كما فعلت ذلك وبنجاح دول آسيوية عدة.
6- لابد لإجراء حوار جدي مع الغرب من وقف النزيف الدائم في فلسطين وإيجاد تسوية للصراع العربي الإسرائيلي تقوم على أساس الشرعية الدولية وإعادة الحقوق كاملة للشعب العربي الفلسطيني.
وخلاصة القول فقد شخص الدكتور عبد الله عبد الدائم في كتابه (العرب والعالم وحوار الحضارات) التحديات التي توجه الأمة العربية الإسلامية اليوم. وبين خارطة الطريق التي يجب أن تسلكها من أجل تخطيها عن طريق بناء القدرات الذاتية والتخلص من عقدة الخوف من الغرب وبناء مجتمع قومي ديمقراطي عقلاني ينطلق من القيم الأصيلة في التراث ويأخذ بأسباب الحداثة، ومقاومة العولمة المتوحشة والغزو الثقافي. فالحوار النابع من المقاومة ومن مجتمع عصري حديث يقف للغرب موقف الند للند هو الكفيل بان يحظى باحترام الآخر وقبوله.