كتاب الاشتراكية والديمقراطية

أيها الأصدقاء
طيب الله مساءكم بكل خير
أنْ أقف موقفي هذا أمامكم … فلا تثريب علي إن شعرت بالإحراج والفخر في آن معاً… أما الإحراجُ فلنختشي من ألّا أستطيع القيام بما يقتضيه الوقوفُ أمام قامةٍ فكريةٍ وسياسيةٍ واجتماعيةٍ … سامقةٍ .. وأمَا الفخرُ … والغبطةُ … فلمشاركتي في مقاربةِ بعضِ أفكارِ الدكتورِ عبد الله عبد الدائم … وإن حوصرتُ ببضع عشرة دقيقة، هي التي تتاحُ في مثلِ هذه المناسباتِ عادةً … وقد اخترتُ، ولستُ بريئاً في هذا الاختيار، أن أقاربَ مفهومَ الديمقراطيةِ في فكرِ الدكتور عبد الله عبد الدائم، بدلالةِ كتابِهِ (الاشتراكية والديمقراطية) الصادرِ عن دارِ الآدابِ في بيروت عام (1962) فيما أرجح ويشمل الكتابُ ثلاثةَ بحوثٍ هي:

  • الاشتراكية والديمقراطية. (وهو البحث الذي أعطى للكتاب اسمَه).
  • الديمقراطية وسيلة لتحقيق أهداف القومية.
  • كيف تنقلب الوسائل الديمقراطية أعداء للديمقراطية.
    وقد شارك الدكتور عبد الله بهذه البحوثِ في ندواتٍ ومؤامراتٍ عربيةٍ ولكنها ترتبطُ ارتباطاً عميقاً رغم أنها كتبت في سياقاتٍ زمنيةٍ وسياسيةٍ مختلفةٍ مما «يشهدُ بوضوحٍ أن مسألةَ الديمقراطيةِ، وصلتها بحياتِنا العربيةِ، مطروحةٌ أبداً على مجتمعنا العربيِّ المعاصِر، وأنها قلبُ المسائلِ وأمُّ القضايا…».
    والحقُّ، يتابعُ الدكتورُ عبد الله، أنه ما من مشكلةٍ تعاني منها الأمةُ العربيةُ في عهدِها الحديثِ كمشكلةِ الديمقراطيةِ… والإسهامُ في توضيحها وبيانِ أنماطِ تطبيقِها إسهامٌ في حلِّ معضلةٍ كُبرى، إليها يرجع ما نرى من تخبط، وما نشهدُه من أخطاء، وما نواجهُ من صعوباتٍ يومية.
    وبرأيه أن الوحدة العربية، هدفَ العرب الأساسي، غدت وثيقةَ الصلةِ والارتباطِ بالحلِّ الذي يقدّمُ للديمقراطيةِ ضمنَ (الهدفِ الكبير)..
    على أساسِ أنَّ الديمقراطيةَ، في الأصلِ والجوهرِ، مداخلةٌ لمفهومِ الوحدةِ العربية، ولا معنى للوحدة، ولا تقوم .. دون الديمقراطية (ص 5/6).
    بل إن مشكلاتِ العربِ، في عمومِها، إنما تعودُ إلى الهروبِ من مواجهةِ مشكلةِ الديمقراطيةِ، وإلى غيابِ التنظيم العمليِّ لها، بصورةٍ تحفظُ معناها وتحققُ أهدافها … وهذا التنظيمُ العمليُّ، برأيه، هو نقطةُ الانطلاقِ لحلِ المعضلاتِ من جهة، ولكلِ عملٍ منتجٍ في ميادينِ السياسةِ والاقتصادِ والاجتماعِ … من جهة ثانية .. وكل عملٍ ، دون الديمقراطية، يبقى عملاً في الظلام، وتخبطاً .. ومحاولاتٍ .. وتجاربَ تهربُ من الأصول … والتجربةُ العربيةُ في السنواتِ التي أعقبت نكبةَ فلسطين تثبتُ أنَّ قلبَ الداءِ في الكيانِ العربيِ هو هذا الغموضُ في مفهومِ الديمقراطيةِ، في أذهانِ الفئةِ الموجهةِ خاصةً، وفي أذهانِ الشعبِ عامةً … والابتعادُ عن التصدي الصريحِ الواعيِ لأسسِ هذه المسألةِ الحيويةِ … (ص 7).
    وكعادتهِ دائماً في الانطلاقِ من التربيةِ والعودةِ إليها في مجملِ أفكارِه وبحوثِه، يرى د. عبد الله أن سببَ الغموضِ في مفهومِ الديمقراطيةِ في السياقِ العربي يعودُ إلى تقصير التربيةِ العربية في خلقِ جيلٍ ديمقراطيٍ، وإلى عدم تقديمها لبذورِ فهمٍ إيجابيٍ صحيحٍ للحياة الديمقراطية … مما يبقي الحلَّ الديمقراطيَّ السليمَ غيرَ قائمٍ على مقوماتٍ موضوعيةٍ (ص 7) وعلى التربيةِ ألا تقتصر على تقديمِ التنظيراتِ والمفاهيمِ الذهنيةِ عن الديمقراطية .. فعليها أن تعملَ في سبيلِ خلقِ المواطن الديمقراطيِ، من خلالِ مواقفَ عمليةٍ، في المدرسةِ وخارجِها، وبناء شخصيةٍ فرديةٍ مستقلةٍ، قادرةٍ على إصدار الأحكامِ الشخصيةِ … فالحرية الحقيقيةُ لن تتحققَ للفردِ إذا قدمتْ لهُ الأفكارُ جاهزةً ناجزةً .. ولابدَّ من تربيةِ الفردِ على امتلاكِ الفكرِ الناقدِ، ومن تنميةِ روحِ البحثِ الموضوعيِّ عن الحقيقةِ و احترامِ هذه الحقيقةِ.
    أيها الأصدقاء
    إن هدفَ الدكتور عبد الله من جمع البحوثِ الثلاثةِ بين دفتيْ الكتابِ الذيِ نحن بصدد إلقاءِ عليه يتمثَلُ في رغبتِهِ في وضعِ قضيةِ الديمقراطيةِ على بساطِ البحثِ والحوارِ الجادِ بين المفكرين: «أربابِ العملِ الحقيقي في هذا المجال، بعد أن سطا على الديمقراطيةِ غيرُ أهلِها، وزيفوها، واتخذوها مطيةً للأغراضِ اليوميةِ، وللنجاحِ العابِر…» ص 9.
    وإذ كنا لمسنا حرصَ الباحثِ على الربط العضوي بينَ مفهوميْ الوحدةِ العربيةِ والديمقراطيةِ، وكيف أن كلاً منهما يتقوّمُ بالآخرِ ويتجوهرُ بهِ .. إذ لا وجود لأحدِهما دونَ الآخر.، فإنه، وبالدرجةِ نفسِها من الحرص، يربطُ بينَ مفهوميْ القوميةِ والديمقراطيةِ: « لا يجوزُ أن نضطهدَ الإنسانَ باسم القومية … والقوميةُ حين ترتبطُ بالأسلوب الديمقراطي تكون مخلصة لهدفها الأصلي … والربطُ بينَ القوميةِ والديمقراطيةِ يعد حامياً لكلا المفهوميْنِ من الانحراف …» ص 63 … وبالدرجةِ نفسِها أيضاً حرصَ على الربطِ بينَ الاشتراكيةِ والديمقراطيةِ، ورأى أنَّ أيَّ انحرافٍ في تطبيقِِ الديمقراطيةِ ضمنَ المجتمعِ الاشتراكيِ لابد أن يؤديّ إلى انحرافٍ في الاشتراكيةِ نفسِها.
    وربطُهُ الأخيرُ جاء تحت ضغوطِ سياقاتِ القرارات الاشتراكيةِ في الجمهوريةِ العربية المتحدةِ ونتيجةَ استقراءِ التجربةِ السوفيتية خصوصاً، وتجاريِ الدولِ الاشتراكيةِ عموماً.
    فالقراراتُ الاشتراكيةُ في الجمهوريةِ العربيةِ المتحدةِ سليمةٌ وضروريةٌ من حيثُ المبدأ، لكن التطبيق العمليَّ يشوبُهُ كثيرٌ من الخطأ .. فهي قراراتٌ حكوميةٌ، تستبعدُ التنظيماتِ الشعبيةَ،
    ولا سيما العمالية منها، وتقومُ على أسسٍ غير ديمقراطيةٍ.
    وبرأيِهِ أنَّ بيروقراطيةَ الدولةِ، وغيابَ الرقابةِ الشعبيةِ والعماليةِ، قد أفقد هذه القراراتِ هدفها الاشتراكيَّ.
    وأخذَ على هذه القراراتِ عدمَ استفادةِ مَنْ أصدرَها من تجاربِ الأممِ والشعوب الأخرى، فالتجربةُ الاشتراكيةُ، بغضِّ النظرِ عن اللباسِ القوميِ الذي ترتديه، هي تجربةٌ واحدةٌٌ.. لابدّ فيها من زوال الدولةِ، أو بالأحرى، لابدّ من أن يحل حكمُ الأشياءِ مكانَ حكمِ الأشخاصِ كما تقول التجربة الشيوعية أما امتلاكُ الدولةِ للقطاع العام فحالةٌ مؤقتةٌ لابد أن تزولَ وتنتهيَ … وامتلاك الدولةِ، مؤقتاً، للمصانعِ والمنشآتِ المؤممةِ لا يعني أن من حقِّ الدولةِ أن تديرَ هذه المنشآت، لأن ذلك، إن حصل، يفسدُ جوهرَ الاشتراكيةِ وروحَها، ويعطي الدولةَ قوةً تدفعُها إلى التغوّلِ فتصبحُ خطراً على الديمقراطيةِ..
    فالحكومة أسوأُ من يستطيعُ أن يديرَ الصناعةَ المؤممةَ… كما ينقلُ عن الاشتراكي النمساوي «باور». فلابد، إذن، من إبعاد الدولةِ عن إدارةِ الإنتاجِ الاشتراكي (حسب كاوتسكي) حيث يرى أن ملكيةَ الدولةِ تعادِلُ العبوديةَ..
    ويلاحظُ أنَّ التجربة السوفيتية قد أرجأتْ موتَ الدولةِ إلى حينٍ، عن طريقِ إقامةِ حكمٍ يعدُّ من أقسى أنواعِ التسلط … فخلافاً لما قاله (إنغلز) فإن حكمَ الأشخاصِ هو الذي طغى وانتصرّ على حكم الأشياء، مما أدى إلى تسلطِ الدولةِ .. وبدلاً من موتِ الدولةِ، كما بشّرَ بذلك (ماركس)، فإن السوفييت أقاموا دولةً فيها أشدُّ الحكوماتِ والدولِ تسلطاً في التاريخ … (وجاراها في ذلك من جاراها).
    أيها الأصدقاء
    يرى د. عبد الله أن مبدأ زوالِ الدولةِ مبدأٌ وهميٌ طوباويٌ، إذ لابدَّ من الدولةِ بوصفِها أداةً لتنظيم العلاقاتِ بينِ الناسِ، ولإقامةِ توازنٍ بين مصالحهم … أما الإنتاجُ فالموقفُ السليمُ أن يكون ملكاً لمجموعِ الشعب تراقبهُ المنظماتُ الشعبيةُ المختلفةُ ص 23.
    أما استبعادُ الدولةِ باسمِ حقوقِ الإنسان، وباسمِ الحريةِ الفرديةِ، كما ينادي الرأسماليون فأمر غيرُ دقيقٍ «شرط أن نعلَم أن المسألة، كلَّ المسلةِ، إنما تكمنُ في أن نعرفَ من هي الأيدي التي تملكُ السلطةَ، وتمارسُها، وهل هذه الدولةُ ديمقراطيةٌ أم لا.
    وإنقاصُ قوةِ الدولةِ (كما بتنا نسمعُ من بعضِ الأفرادِ والجهات)، بوصفِ ذلك من مقوماتِ الفكرِ السياسي الحرِ، إنما يهدفُ إلى ضربِ النظامِ (الاشتراكي) القائِم، وليس من أجل توطيدِ دعائم الديمقراطية … ويلاحظُ د. عبد الله أن أمثال هؤلاء إنما يريدون، في مفارقةٍ فاقعةٍ، دولةً ضعيفةً بحيثُ لا تستطيعُ فرضَ مطالبِ الجماهير، ودولةً قويةً تستطيعُ حمايةَ الامتيازات الرأسماليةَ.
    أي إنهم يريدون دولةً تعاني من الفصامِ، قويةً على الجماهيرِ ضعيفةً أمام مصالحِهم، دولةً تقومُ بتأميم الخسائرِ وضمانِ فرديةِ الأرباحِ.
    إن د. عبد الله لا يوافقُ على ما تتخذُه السلطةُ من تدابيرَ زجريةٍ باسم الاشتراكيةِ … في الوقتِ الذي يعلنُ فيه أنه لا يجوزُ التخلي عن الاشتراكيةِ نتيجة تلك التدابير، وتحتَ وطأةِ الجهازِ الإداريِ والحكوميِ والنظامِ الأمني والبوليسي للدولة … «إن ما نرفضُه أن تقومَ فئةٌ معينةٌ باحتكارِ السلطةِ، سواء كانت فئةِ السياسيين أو المشرفين أو الفنيين فضلاً عن أن تكونَ فئةَ رجالِ الشرطة…» ص 26.
    ويؤكدُ الفكرةَ التي تقول: لا يمكن أن تقومَ ديمقراطيةٌ بدءاً من القمة .. ص 28 فالمطالبُ الأساسيةُ الكفيلةُ بضمان قيامِ الديمقراطيةِ الفعليةِ في المجتمع الاشتراكي بعيدةٌ عن أن تتحقق في ظلِ القوانينِ الاشتراكيةِ التي صدرت في الجمهورية العربية المتحدة .. ص 32.
    ويقترحُ، لتحقيقِ الديمقراطيةِ، أن نستفيدّ من التجربةِ اليوغسلافيةِ مع أنها لا تخلو من نقائص..؟!!!!
    أيها الأصدقاء
    إن الذي يرجعُ إلى الخطابِ السياسيِ والفكريِ الذي أنتجتهُ التياراتُ والنزعاتُ السياسيةُ القوميةُ واليساريةُ العربيةُ في السنين التي أعقبت الاستقلال يلاحظُ الحرصَ على تغليبِ ما يسمى بالديمقراطيةِ الاجتماعية وتقديمها على ما يسمى بالديمقراطيةِ السياسية، ويلاحظ، كذلك، كيف كان الحديثُ عن الديمقراطيةِ السياسيةِ والدفاعُ عنها والمطالبةُ بها يعدُّ هرطقةً، وموالاً نشازاً يغنيه الرجعيون والبورجوازيون أعداءُ الشعبِ، لصرفِ الجماهير عن مصالحِها، وإلهائِها بالشكل دون المضمون.
    وبعد نَقلِ البندقيةِ من كتفٍ إلى كتفٍ، ولا سيما من الكتف اليسارِ إلى الكتفِ اليمين، نحوّلَ من كان ينادي بالديمقراطيةِ الاجتماعية وينددُ بألاعيبِ الاستعمارِ المتعلقةِ بلعبةِ الديمقراطيةِ السياسيةِ .. إلى أشدِّ المدافعين عن هذه اللعبة .. فهل اكتشف هؤلاء أهمية هذه الديمقراطيةِ السياسيةِ كوسيلةٍ لتحقيق النعمياتِ جميعاً، بما فيها نعمةُ الديمقراطيةِ الاجتماعيةِ؟!! أم أن أحداً ما أعادَ تثقيفهم وتأهيلهم وتحريرهم من أوهامهم؟!!!.
    الدكتور عبد الله عبد الدائم، ومنذ وقت مبكر نسبياً، رأى أن مشكلة الإنسانِ الحديثِ غدت بحقٍ مشكلة التوفيقِ العميقِ بينَ الديمقراطيةِ السياسيةِ وما يدعى بالديمقراطيةِ الاجتماعية توفيقاً غير سطحي … فالديمقراطيةُ، أياً كانت، عدوةُ التفرد، ولا يمكن أن تقومَ إلا على أساسِ التعدد، ولا سيما تعدد الآراء … فالرأيُ الوحيد، والحزبُ الوحيد، والخطةُ الوحيدة… أمورٌ تنافي الديمقراطية وتصيبها في مقتل … ص51.
    وبما أن الديمقراطية تعني، أولَ ما تعني، كرامة الإنسان، فإن جوهَرها موجودٌ بقوةٍ في الثقافةِ العربيةِ الحريصةِ على كرامةِ الإنسانِ بما هو إنسان.
    ويرى د. عبد الله أن الصراعَ بين الديمقراطيةِ السياسيةِ والديمقراطيةِ الاجتماعيةِ صراعٌ زائفٌ.. فالديمقراطيةُ لها وجهان (شقان) وجهٌ سياسيٌ قوامُهُ حريةُ الرأيِ والكلامِ والاعتقادِ وحكمِ الشعبِ بالشعبِ عن طريقِ المؤسسات … ووجهٌ اجتماعيٌ قوامُهُ تكافؤُ الفرص، والعدالةُ والمساواةُ في الحقوقِ والواجباتِ .. ليكونَ الفردُ قادراً على ممارسةِ الديمقراطية السياسيةِ..
    وعلى هذا الأساس يعدُّ من الوهمِ القولُ بأنَّ الديمقراطيةَ الاجتماعيةَ هي الديمقراطيةُ الوحيدة… لأنها تفقدُ معناها عن لم تهدف إلى الديمقراطيةِ السياسيةِ.. التي تشكلُّ الهدفَ النهائيَّ للديمقراطيةِ الاجتماعيةِ فهي وسيلة من وسائِلها … وتغدو الديمقراطيةُ الاجتماعيةُ ديكتاتوريةً ذميمةً إذا نصبت نفسها كغايةٍ تستباحُ في سبيلِها الحرياتُ السياسيةُ والكرامةُ الشخصيةُ على نحوِ ما وقع في الدولِ الاشتراكيةِ… ص 76 ومن خرجَ من عباءتِها فالتلازمُ بينَ الديمقراطيةِ السياسيةِ والديمقراطيةِ الاجتماعيةِ تلازمٌ متزامنٌ وكلاهُما يجرى في وقتٍ واحدٍ، دونَ أن نقسمَ الزمنَ إلى مراحلَ ترتبُ فيه الأولويات، فيزعمُ من يزعمُ أن الأولويةَ للديمقراطيةِ الاجتماعيةِ وأن العملَ في سبيلِها هو الذي يسبق … ص 77.
    والديمقراطيةُ، في أهم مشاكِلها، تعني التوفيقَ بينَ مبدأ الحريةِ ومبدأ المساواة.
    الأولُ قوامُ الديمقراطيةِ السياسيةِ، والثاني قوامُ الديمقراطيةِ الاجتماعيةِ. ولا يصحِ أحدُهُما دون الآخر، وكلٌّ منهما محدودٌ، ومشروطٌ، بمطالبِ الآخرِ. لكن آفةَ المبادئِ دائماً آفتان: آفةُ الإطلاقِ والتعميم .. وآفةُ النظرةِ الواحدية … الإطلاقُ يقلبُ الوسيلةَ إلى غايةٍ .. ويحيلُ المبدأَ إلى صورةٍ فارغةٍ عديمةِ المحتوى … والواحديةُ تفسّرُ الأمورَ تفسيراً وحيدَ النظرة، وترفع أحدَ الأسباب إلى مستوى السببِ الأولِ والنهائي..
    فالديمقراطيةُ، رغم الخطابِ التبجيلي السائد، لها قدسيتُها.. ولكن لها حدودَها، فهي مجردُ وسيلةٍ، وسلسلةٌ من الإجراءاتِ التي تنظمُ العلاقاتِ بين الأفرادِ والمؤسساتِ في الدولةِ … وليست غايةً في ذاتها .. وإلا انقلبتْ الوسائل إلى غايات.
    وبعد:
    فهذا جهدُ المقلّ، بذلتُهُ في تقديم بعضِ أفكارِ الكتابِ الذي ندبتُ نفسي لمراجعته، ركزتُ فيه على أفكارٍ مازالت موضوعَ سجالٍ في الخطابِ السياسي العربيِ، ولا سيما ما يتعلق بالديمقراطية.
    الكلُّ يخطبُ ودَّ الديمقراطية، والكلُّ يدعيها، والكلُّ يرفعُ شعاراتِها.. وفيهم من يقوضُها (باسم الشعب) … وفيهم من يتذرّعُ بها للوثوب إلى منصب (باسم الشعب) … والشعبُ غريبٌ عن هؤلاء جميعاً … بعيدٌ عن فذلكاتِهم ومماحكاتهم… لا يريد شيئاً غير حريته في ظل العدالةِ وتكافؤِ الفرص .. فإن كانت هذه هي التي يسمونها الديمقراطية … فهو يريدُ الديمقراطيةَ أولاً… وثانياً… وأخيراً.
    أستاذنا
    دمت بخير