حـوار الأديـان

لن أطيل الكلام بسبب وضعي الصحي في هذه الأمسية. عندما تلقيت الدعوة لحضور هذا الحوار، أدركت منذ قراءة العنوان أن المقصود به حوار الأديان على المستوى الإنساني كله، لا على مستوى سورية أو مستوى بلد أو بلدان معينة. كما أدركت أيضاً أن المقصود بحوار الأديان ليس الحوار بين العقائد الدينية، بل الحوار بين القيم الإنسانية التي تبشر بها الأديان جميعها والتي تتباين قوةَ وضعفاً بين دين وآخر، والتي قد تحترم أحياناً، وكثيراً ما تنتهك.
من هذين المنطلقين لندخل إذن في صلب الموضوع. ومن أجل ذلك لا بد من تقرير الحقائق الآتية:
1- هنالك الأديان والعقائد، وهنالك الثقافات (بالمعنى الأنتروبولوجي للكلمة، أي بمعنى أنماط السلوك المادية والمعنوية السائدة في مجتمع ما والتي تميزه من سواه والتي غدت مع الزمن بمثابة إرث ثقافي له). وبين الجانبين أخذ وعطاء، بل اتحاد وتمازج وصلة عضوية، كما في الدين الإسلامي بوجه خاص. فالإسلام هو دين وثقافة للمسلمين، وهو ثقافة لغير المسلمين من العرب.
2- حوار الأديان يعني في جوهره حوار الثقافات (ذات الأصول الدينية في معظم الأحوال، بالإضافة إلى ما تولده الحياة الاجتماعية المشتركة من أنماط السلوك والفكر بل والمعتقدات المتشابهة).
3- التفاعل والتقارب بين عقائد الأديان المختلفة أمرٌ ممكن ومفيد، ولكنه ليس مطلباً أساسياً. ويظل ثمة مجال للبحث دون شك عن بعض جوانب اللقاء بين عقائد الديانات، ولا سيما الديانات التوحيدية الثلاث.
أما التفاعل والتلاقح والتعايش بين الحضارات والثقافات وقيمها ومنطلقاتها فمطلب إنساني أساسي، وهو جوهر الحوار بين بني الإنسان، بل هو المنطلق الرئيسي في طريق بناء عالم إنساني سعيد متآزر، تجمعه قيم متقاربة بل متكاملة.
4- أهم أغراض هذا الحوار الديني الثقافي الاتفاق على قيم أخلاقية إنسانية مشتركة. ومثل هذه القيم تكاد تكون قاسماً مشتركاً بين الديانات كلها (ولا سيما التوحيدية) حين تفهم هذه الديانات فهماً سليماً بعيداً عما أصابها من تشويه بفعل عوامل مختلفة، على رأسها العوامل السياسية، وعوامل إيثار المال والسلطة والتقوقع حول الذات، وعبادة «الأنا»، الخ…
5- على مر التاريخ، كان الإسلام وما ولّد من ثقافة عربية إسلامية، حريصاً على القيم الإنسانية، قيم الحق والخير، سواء داخل المجتمع الإسلامي أو في تعامله مع أبناء الأديان والثقافات الأخرى. وذلك انطلاقاً من قيم الثقافة الإسلامية الكبرى: العدالة – المساواة – تكريم الإنسان أنّى كان(1) – الإيثار – التضحية – التكافل الاجتماعي بأبعاده الكثيرة – الإحسان – التواضع – رعاية الآخرين – المسؤولية الفردية – المسؤولية الجماعية – إنكار العدوان إلا على من اعتدى عليك – عدم مقاتلة إلا من قاتلك(2) – الخ.. ولا نغالي إذا قلنا إن القيم العربية الإسلامية تلتقي مع أحدث ما وصل إليه الباحثون اليوم، حين تساءلوا عن أهم القيم الضرورية لعالم العلم والتكنولوجيا بل لعالم الاتصال والمعلومات، وحين أجاب أحدهم (وهو الألماني هابرماس Habermas) بأن أهم قيمة في عالم اليوم هي «الحوار» وحين أجاب زميله الآخر «جوناس Jonas» بأن أهم قيمة ينبغي أن تسود عالمنا هي «المسؤولية». ولنذكر فيما نذكر أن رئيس وزراء فرنسا السابق «ميشيل روكار Rocard» اعتبر «التضامن» (الذي يذكّرنا بالتكافل الاجتماعي في الإسلام) رأس القيم والمبادئ الإنسانية التي ينبغي أن تسود عالمنا. وهذه القيم جميعها – وغيرها كثير – أكدها الدين الإسلامي وأكدتها الثقافة العربية الإسلامية (الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله – كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته – المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً – وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم – ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء – ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن – الناس سواسية كأسنان المشط – لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى – يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم – ألا إن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه، وأقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له – إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعذاب – الخ…).
6- ومنذ الفتوحات العربية الإسلامية، حرص العرب على أن يجعلوا قيمهم هذه قيماً إنسانية وان ينقلوها إلى سائر البشر. فلقد حكم العرب البلدان التي فتحوها بأخلاقهم وقيمهم قبل أن يحكموها بسيفهم، وكانت دعوتهم إلى الناس كافة دعوة عدل وإرخاء ومحبة.
وقد تجلّى ذلك منذ أيام الدولة الأموية. وفيها استعمل الخلفاء عمالاً كثيرين من اليونان والسريان، وأسندوا إلى المسيحيين مركز الوزير الأول، وعرّبوا تراث الحضارات الأخرى، من يونانية وهندية وفارسية وسواها، ورعوا أهل الذمة، وساروا في مواكب النصارى والمجوس واليهود، الخ..
واستمر هذا الاتجاه العالمي الإنساني أيام الخلافة العباسية حيث تم تمازج فذّ بين الثقافات وأيام حكم العرب للأندلس، حيث اختلطت الثقافة العربية باللاتينية والقشتالية والعبرية والمسيحية، الخ..
7- بل إن الدعوة إلى الحوار بين الأديان ظهرت جلية واضحة لدى المسلمين في القرآن الكريم نفسه: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله. فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأننا مسلمون» (سورة آل عمران، آية 64).
8- ولكن هذه المنازع الإنسانية في الإسلام لم تقابلها منازع مماثلة لدى أبناء الديانات الأخرى، ولاسيما المسيحية واليهودية. ومما يؤسف له أن ما نجده اليوم من صدام بين الحضارة العربية الإسلامية وبين الغرب، يرجع في جانب كبير منه إلى نظرةٍ ترسخت منذ قرون في الذاكرة الجماعية الغربية وفي الوعي الجماعي الغربي، قوامها أن ثمة نموذجاً حضارياً هو النموذج الأمثل (ويمثله الغرب) وأن ثمة نموذجاً إسلامياً يتصف بالجهالة والعنف والتخلف.
9- وجذور هذه النظرة في المجتمع الغربي قديمة، نجد بواكيرها منذ كتب «رولان Roland» «أنشودته» (التي تعود إلى ما قبل الحروب الصليبية) ونجد أصداءها الواضحة لدى الكثير من الكتاب والأدباء والفلاسفة(3) الذين نادوا باستعمار البلاد العربية والإسلامية منذ القرن الثامن عشر على أقل تقدير.
10- وفي القرن الأخير أكمل هذه المهمة، مهمة الإزراء بالإسلام والعروبة، عدد كبير من المستشرقين (يحدثنا عنهم إدوار سعيد وسواه)، على رأسهم أمثال المستشرق الإنكليزي «برنار لويس Bernard Lewis» (المقيم في الولايات المتحدة)، وهو من المقربين للإدارة الأميركية اليمينية الحالية، ومن أنصار السياسة الإسرائيلية والحرب على العراق، ومن أوائل القائلين بصراع الحضارات، وهو من الذين يصفون الثقافة الإسلامية بأنها «ثقافة متحجرة منذ الأزل».
11- والحديث في هذا المجال يملأ الصفحات والكتب. وما نود أن نقوله، انطلاقاً من هذا كله، أن العالم اليوم هو في أمس الحاجة إلى حوار الثقافات والأديان، وأن من شأن هذا الحوار أن يجنب الحضارات كلها مآسي ليس لها قرار، طوال عشرات السنين.
ومن حسن الطالع أن ثمة جهوداً كثيرة تبذل في العالم كله من أجل الاضطلاع بحوار خصيب بين الأديان والثقافات. وتتجلى هذه الجهود في الكثير من المؤتمرات والندوات والحلقات وفي عطاء العديد من المؤسسات. وقد عقد مؤخراً في الجماهيرية العربية الليبية «المؤتمر السابع للدعوة الإسلامية العالمية» (بين 26-29 تشرين ثاني/ نوفمبر 2004) حضره ممثلو المجلس البابوي والكنائس المسيحية الذين أكدوا احترامهم للقيم الإنسانية التي يرسّخها الإسلام.
12- وتقع على عاتق أبناء البلاد العربية والإسلامية بوجه خاص مهمة توسيع الحوار مع أبناء الديانات والثقافات الأخرى. ويستلزم هذا مزيداً من الدراسة والبحث في المقوّمات الإنسانية للثقافة العربية الإسلامية، تلك الثقافة التي لا تؤكد أهمية العلوم والدراسات الإنسانية فحسب بل التي تؤكد فوق ذلك – بل قبل ذلك – أهمية العلوم التجريبية والتقانية، على نحو ما بيّن الكاتب الفرنسي Ventéjou في كتابه «المعجزة العربية» وعلى نحو ما يؤكد جميع الذين تحدثوا عن علوم العرب وعن دورهم الرائد في إطلاق النزعة العلمية التجريبية في الغرب.
13- وجملة القول لا خلاص للبشرية إلا عن طريق اعتراف الجميع بالاختلاف والائتلاف في آن واحد:
الاختلاف في العقائد دون شك، والاختلاف في الثقافات كذلك، وإدراك خصوصية كل ثقافة، والائتلاف فيما يتصل بالقيم الإنسانية الكبرى التي هي جوهر كل الثقافات، والتي يشكل بناؤها العمود الفقري للبناء الإنساني الرشيد والسعيد.
ومن أبرز من أوضح أهمية اختلاف الثقافات وتفاعلها في آن واحد، الحاخام اليهودي «جوناتان ساكس Jonathan Sacks» رئيس حاخامت المجمع اليهودي لدول الكومنولث (وهو غير صهيوني) – في كتابه الذي صدر عام 2002 بعنوان «جلال الاختلاف»(4). وقد جعل عنواناً فرعياً له «كيف نجتنب صراع الحضارات».
ومما يطرحه في هذا الكتاب فكرة هامة أساسية يمكن أن تتخذ شعاراً للحوار بين الديانات وللحوار بين الحضارات، وهي قوله «إن شمول الاهتمام بالأخلاق والقيم الإنسانية لا نتعلمه عن طريق صيرورتنا شاملين وإنما عن طريق خصوصيتنا».
ذلك أن هدف الحوار بين الثقافات وبين الأديان ليس الوصول إلى التشابه والتشاكل gleichaltung على حدا قول الفيلسوف الألماني «هايدغر Heidegger» بل الوصول، عن طريق تفاعل الثقافات، إلى إخصابها إخصاباً مشتركاً (Cross fertilization). فالثقافة، كالأفراد، لا تغتني إلا من خلال ذاتها المتفاعلة مع سواها. فلا النزعة «الزيلوتية» ولا النزعة «الهيرودوسية» على حد تعبير «توينبي Toynbee» هما طريق اغتناء الحضارات. والطريق السليم هو تعميق «الأنا» (أنا كل ثقافة) من خلال تفاعله مع «الآخر» تفاعلاً يؤدي إلى مركب حضاري عالمي جديد.
14- وقبل هذا كله، وفوق هذا كله، لا بد للحوار مع الغرب من أن يكشف عن التناقض الباطني العميق بين ما يدعيه من ديمقراطية (لا تعدو في الواقع ديمقراطية السوق) وبين تنكره للخصوصيات الثقافية والدينية تنكراً يؤدي به إلى عزل أبناء الثقافات والديانات الأخرى سواء من المقيمين في الغرب أو من الراغبين في العمل فيه أو من الراغبين في الإفادة من خيرات العولمة التي ما تزال «عولمة وحشية». ويتجلى هذا بشكل خاص في مواقف الرفض والكراهية والعداء التي تتخذها بعض الدول الغربية من الأقليات الدينية والاثنية والعرقية لدى المهاجرين الوافدين للإقامة والعمل. ومما ينبغي التساؤل عنه بهذا الصدد: لماذا تنطلق العولمة المالية والاقتصادية والإعلامية والسياسية والثقافية وسواها انطلاق العاصفة الهوجاء، دون أن تنطلق عولمة انتقال القوى العاملة؟ ولماذا تنمو العولمة التي تخدم العالم المتقدم والحضارات المتقدمة على حساب العالم الثالث والحضارات التي تحاول أن تتقدم؟ وأي حوار صادق يمكن أن يقوم بين الحضارات في عالم يسوده عدم التوازن؟
15- وجملة القول إن حوار الأديان وما يمليه من حوار بين الثقافات لا يمكن أن يأخذ سبيله السليم إلى العالم، ما دام أولو الشأن في هذا الكون يستبدلون الإملاء بالحوار، والليبرالية الاقتصادية بالديمقراطية، والفعالية والنجاعة بقيم التضامن الإنساني، ذلك التضامن الذي فيه وحده خلاص الجميع.
على أن الشيء من معدنه لا يستغرب. فالثقافة الغربية والثقافة الأميركية بوجه خاص تؤمن بأن النجع والفعالية والنجاح هي مقياس الحقيقة ومعيارها. بل إن الفيلسوف الأميركي الشهير «وليام جيمس James» مضت به فلسفته «الذرائعية» إلى حد القول إن مقياس الحقيقة هو النجاح والتأثير، وإن فكرة الله (تعالى) حقيقية وصحيحة لأنها ناجحة!
وبعد، الحديث ذو شجون. وهذا قليل من كثير. ولا بد من التوقف.