50 كتاباً في 60 سنة ولم أصل إلى القارئ العربي

مجلة المعرفة – العدد /118/ – فبراير 2005
دمشق في 1 ذي القعدة 1425 هـ الموافق 12 كانون الأول 2004 م
حياة كل واحد منا جملة من النجاحات والإخفاقات..
وأجمل شيء أن يترك الواحد منا الحديث عن نفسه، ويدع الآخرين يتحدثون عن إنجازاته ونجاحاته. حسناً.. وعماذا هو يتحدث إذاً،عن إخفاقاته؟ ربما!
الفشل ليس عيباً، فهو وقود الانتصارات..
«المعرفة» تريد من هذا الباب أن تقول للشباب من الجيل الجديد إنه ليس هناك إنسان لم يذق طعم الفشل في حياته، نريد أن نقول لهم إن الجيل الذي سبقهم هو جيل إنساني يخطئ ويصيب.. ينجح ويفشل، ثم ينجح مع الإصرار.
ف: فرصة تمنحك إياها – المعرفة – لتسجيل اعترافاتك.
ش: شهادة.
ل: ليس عيباً أن تفشل.. ولكن العيب أن تزعم أنك لم تفشل في حياتك!
وضيف هذا العدد هو الأديب التربوي السوري د. عبد الله عبد الدائم.

التربوي الكبير/ عبد الله عبد الدائم:
50 كتاباً في 60 سنة..
ولم أصل إلى القارئ!

تدأب النحلة ليلاً ونهاراً لتصنع الرحيق وقد تكون الخلية مثقوبة فيذهب صنيعها هباء منثوراً.
وتهطل شآبيب الغيب من المزن، وقد تبتلعها الرمال فلا تسقي ولا تروي ولا تُنبت.
كذلك الأفكار، ربما لا تجد من يتلقفها ويرعاها ويُخصبها، فإذا بها تغدو أشبه بالثمرة الجافة أو بالشجرة التي فقدت نسغها.

• كم من مؤلف قيّم يظهر في بلد عربي دون أن تدري به الأقطار الأخرى! بل كم من كتاب هام يصدر في قطر عربي لا يعلم به معظم مثقفي ذلك القطر نفسه!
• ضآلة ما يطبع من الكتاب، يرجع في جانب من جوانبه، إلى بؤس القراء (بالمعنى المادي والمعنوي للكلمة).
• على أن آفة الآفات التي واجهتها والتي يواجهها معظم أصحاب القلم، غياب الثقافة الحية المتحركة. وأعني بذلك غياب النقد الأدبي والنقد الثقافي بوجه عام.

مثل هذه الأخيلة كثيراً ما تراودني عندما أتفكر في مصير الثقافة في بلادنا، وعندما يخطر ببالي أن أتساءل عن مآل ما قلتُ وما كتبت خلال نيّف وستين سنة! وما كتبتُ يقارب الخمسين من المؤلفات والمئات من المقالات والمحاضرات والأبحاث العلمية.
وماذا خلّف نتاجي ونتاج سواي من أبناء جيلي ممن أبلى في ميدان الثقافة خير بلاء؟
وهل وجد هذا النتاج آذاناً صاغية لدى الجيل الذي عاصرنا ولدى الأجيال التي أتت بعدنا؟
الإجابة عن مثل هذا التساؤل شاقة وعسيرة، تحتاج إلى دراسة علمية واسعة وعميقة. ولاسيما أنه يتناول جمهور المثقفين في قاصي البلاد العربية ودانيها.
حسبي إذاً أن أتريث عند تجربتي الشخصية، وإن يكن هذا الحديث في حد ذاته عسيراً أيضاً. ولا أملك ما أقيس به مدى نجاحي أو فشلي في نقل أفكاري إلى سواي.
ومع ذلك، ففي وسعي أن أقول إنني فشلت في إيصال الكثير من بصماتي الفكرية الخاصة إلى الآخرين (شأني في ذلك شأن الكرة الكاثرة من المثقفين في بلادنا، على تفاوتهم في ذلك). وشواهدي على ذلك كثيرة، أكفي بذكر أهمها:
* حال الكتاب العربي:
الكتاب العربي بائس خجول بل يتيم. لا يطبع منه في الطبعة الأولى في أحسن الأحوال سوى ثلاثة آلاف نسخة (ما عدا حالات قليلة خاصة)، والشائع أن يطبع ألف نسخة فقط.
والطبعة الثانية لا تكون – في معظم الأحوال – إلا بعد حوالي خمس سنوات، هذا إن نفد وأعيدت طباعته! أما سوء توزيع الكتاب فحدّث عنه ولا حرج. وأما عجز الجمهرة الكبرى من أبناء البلاد العربية عن دفع ثمن الكتاب فعجز مزمن متزايد، يصيب بوجه خاصة أولئك الذين من في حاجة إليه أكثر من سواهم.
يضاف إلى هذا كله أن الفرد العربي لا يجد أي مرجع جامع أو أي مؤسسة ناظمة أو أي مجلة جادة تعرّفه على ما تقذف به المطابع في البلاد العربية كلها من نتاج ثقافي (شهرياً أو فصلياً أو سنوياً). وكم من مؤلف قيّم يظهر في بلد عربي دون أن تدري به الأقطار الأخرى! بل كم من كتاب هام يصدر في قطر عربي لا يعلم به معظم مثقفي ذلك القطر نفسه!
والحديث عن الكتاب العربي وشأوه ومصيره يستغرق المجلدات. وليس هذا قصدنا. وكل ما أردت أن أقوله هو أنني وسواي من المؤلفين نعاني سوء وضع الكتاب العربي، نشراً وتوزيعاً وتعريفاً. وطوبى للمؤلف العربي الذي ينفق السنوات في إعداد كتاب، دون أن يجني من وراء ذلك إلا اليسير من المال والعسير من الشهرة. ولا أغلو إذا قلت إن ما يدفع الكاتب العربي للكتابة غالباً هو حرصه على ألا يكتم علمه، وأن يقدم أفكاره للناس، وأن يمارس الموهبة التي يسرّه الله لها، دون أن يتساءل غالباً عن مدى ما قد يصل منها إليهم، وما قد يصل إليه من جناها.
* بؤس القراء:
ما أشرنا إليه من ضآلة ما يطبع من الكتاب، يرجع في جانب من جوانبه، إلى بؤس القراء (بالمعنى المادي والمعنوي للكلمة). وإذا نحن استثنينا بعض الكتب المدرسية والجامعية المفروضة على الطلاب، لم نجد لدى الجيل الجديد بوجه خاص (لأسباب لا مجال للتفصيل فيها) تطلعاً إلى المعرفة وتذوقاً للثقافة العامة بألوانها المختلفة. وقد نجد عند بعضهم بعض التطلع إلى طراز خاص من الثقافة غير الجادة أو الموجَّهة، دون ما اهتمام بالصفحة الكاملة للأفكار والنتاج الثقافي الأصيل. وأسباب ذلك عديدة، منها ندرة المكتبات العامة، ولاسيما في المدن الصغيرة والقرى، وعدم اهتمامها بوجه خاص – إلا ما ندر – بأن تضم الجديد وجديد الجديد من الكتب والمجلات والصحف. ومن هذه الأسباب أيضاً الانشغال عن غذاء القلوب بغذاء الأفواه.
* غياب النقد الثقافي:
على أن آفة الآفات التي واجهها والتي يواجهها معظم أصحاب القلم، غياب الثقافة الحية المتحركة. وأعني بذلك غياب النقد الأدبي والنقد الثقافي بوجه عام. فمن النادر أن نقرأ نقداً قيّماً لكتاب ظهر أو لمحاضرة ألقيت أو لبحث نشر. وفي أحسن الأحوال تشير بعض الصحف والمجلات إلى ظهور الكتاب إشارة لا تتجاوز المعلومات الشكلية عنه (اسمه – مؤلفه – دار النشر – سنة النشر). ولا نكاد نعثر إلا على قليل القليل من النقد لمضمون الكتاب (أو سواه). ولا يرجع ما قد نجد من اهتمام أحياناً بنقد بعض النتاج الثقافي إلى قيمة ما يجري نقده، بل إلى أسباب أخرى غالباً، لا تمت بصلة إلى شأوه الفكري.
ولعل هذه الظاهرة أخطر ما يتعرض له النتاج الفكري. وقد عانينا منها الشيء الكثير، على الرغم من أننا قد نكون أفضل حظاً في هذا من كثير من الكتاب.
وغياب النقد الثقافي هذا داء يشتد خطره عندما لا يتعلق الأمر بالكتب، وعندما يتجاوزها بوجه خاص إلى المحاضرات وما شاكلها من نتاج لا تضمه دفتا كتاب.
وكثيراً ما ناجيت نفسي – بعد إلقاء محاضرة أو الاشتراك في حوار أو حديث – متسائلاً عن جدوى الجهد الكبير الذي قمت به من أجل إعداد محاضرة ما (قد يستغرق الإعداد لها شهوراً من القراءة في المظان العربية والأجنبية قبل الإقدام على إلقائها):
أين ذهبت جهودي؟ وكم عدد الذين أفادوا منها؟ قد يملأ عددهم المدرجات. ولكن ماذا بعد؟ وهل يكفي أن يستمع إليها المئون؟ ومن استمع إليها هل وعاها وهل قصدها أصلاً ليعيها؟ وهل بعد هذه المحاضرة بَعْد؟ أم سيطويها النسيان مهما تكن ذات شأن؟
* وكيلا أعزو فشلي كله إلى سواي، وإلى ما ذكرت من عوامل وما لم أذكر، ومن الهام أن أضيف أن جانباً كبيراً من فشلي في ذيوع نتاجي الثقافي، يعود إليَّ. ذلك أنني شُغلت بالإنتاج عن الترويج له، ولم أحاول في يوم من الأيام أن أذكُر من يعنيهم أمر الثقافة، بما أقوم بإنتاجه مما يستحق النقد والتقويم. لقد كان جلّ وقتي موزعاًَ بين العمل الوظيفي (في الجامعة وفي اليونسكو وفي سواهما)، وكنت أنتزع السويعات القليلة (بالإضافة إلى أيام العطل) وأسهر الليالي أحياناً، وأحرم نفسي وعائلتي من النزهة، من أجل أن أقرأ وأفكر وأؤلف. ومن هنا لم يكن لدي متسع من الوقت لمتابعة ما أنتج وللتعريف به ولبثّه وإذاعته. هذا فضلاً عن أنني كنت زاهداً بطبعي بهذه المهمة، عازفاً عن تعريف الآخرين بعملي الفكري، كارهاً للحديث عن «الأنا البغيض»، على حدّ قول «بوالو». ولا أدري الآن إن كانت تلك مزيّة أو نقيصة. ولعلي أقول اليوم – أمام الأجيال الصاعدة – إن التعريف بالعطاء (ولاسيما في مجال الفكر) لا يقل شأناً عن العطاء ذاته.
إن جانباً كبيراً من فشلي في ذيوع نتاجي الثقافي، يعود إليّ. ذلك لأنني شُغلت بالإنتاج عن الترويج له.
كثير الكثير من الأفكار التي قلتها منذ منتصف القرن الماضي «بل قبل ذلك» يجري الحديث عن شأنها وشأوها اليوم.
وبعد، الحديث ذو شجون، وقد اقتصرت على ذكر قليل القليل مما يشعرني بالحرمان والفشل.
أجل، لقد ألّفت المجلدات الضخمة، وكتبت الكتب الكثير في مجال التربية والفكر والثقافة. وكتبت ما هو أكثر (بل ما هو أهمُّ في نظري) في المجلات والصحف، وأسهمت في ندوات عربية وعالمية. وزادت عدد طبعات كتبي التربوية الأساسية على عشر طبعات للمؤلف الواحد.
ولا أظلم القارئ العربي فأقول إنه لم يعن بنتاجي، ولا أتجنى على الصحف والمجلات (وقد نشرت عن نتاجي الشيء الكثير). ولا أنتقص من جهود المؤسسات الثقافية الكثيرة التي دعتني لأحاضر أو أتحدث أو أقوم ببحث علمي.
ولكنني أتهم، أتهم المناخ العربي الطارد للثقافة (لأسباب تحتاج إلى دراسة خاصة) ذلك أنني عندما أقلّب صفحة أعمالي تفاجئني حقيقتان:
الأولى أن كثير الكثير من الأفكار التي قلتها منذ منتصف القرن الماضي (بل قبل ذلك) يجري الحديث عن شأنها وشأوها اليوم، دون أن يعلم ذلك إلا قلة، ودون أن يفيد منها من كان عليه أن يعيها بالأمس، ومن عليه أن ينفخ فيها الحياة الآن.
والثانية أن الجيل الجديد لا يعرف إلا قليل القليل من عطائي الفكري، وإن هو عرفه عرفه مبعثراً مقطع الأوصال.
أليس هذا هو الفشل بعينه؟
وأخطر ما في هذا الفشل أنه يحول دون التواصل بين الأجيال، ويقف بالتالي عائقاً دون تراكم المعرفة وما يتبع ذلك من تعثر في النمو والتقدم. أو ليست الحضارة جهداً ثقافياً متنامياً عبر السنين؟
ومن هنا لا بد من كلمة شكر لاتحاد الكتاب العرب الذي أقام لي بدمشق حفل تكريم في مكتبة الأسد بتاريخ 26 ربيع الآخر عام 1425 هـ الموافق 23/5/2004 م ونشر وقائع هذا الحفل مع نماذج من نتاجي في كتاب خاص. وإنها لعمري سنة محمودة من شأنها أن تعالج بعض علل التباعد الثقافي بين الأجيال.
أقول هذا كله، رغم ذيوع نتاجي الثقافي ذيوعاً يعد كبيراً إذا قيس بكثير سواه. غير أنني أعتقد، إن صحّت العزائم واستقامت الأمور، أن نتاجي هذا كان في وسعه أن يعرف أضعاف هذا الذيوع، لو أخذ العمل الثقافي مكانته الحقة، واصطنع الوسائل الفعّالة والسليمة.
على أن العبرة ليست في الذيوع وحده، بل في تفاعل هذا النتاج مع سواه أخذاً وعطاء، وتصويباً وإضافة. العبرة – بقول موجز – في المناخ الثقافي الحي المتحرك الذي يحمل ويتئم، كحبة أنبتت سبع سنابل. العبرة في توليد المجتمع المتعلم المعلم في آن واحد. وليس هذا بالعسير، إن صحّت العزائم واكتمل الوعي. ولقد عرف مجتمعنا العربي الإسلامي في زاهرات أيامه مثل هذا التفاعل الثقافي الشامل الخصيب. وتعود التربية العالمية الحديثة اليوم فتؤكد هذا الشعار وتعنيه.
وبعد، هل نغلو إذا قلنا إن حديثنا هذا عن فشلنا الثقافي يمضي بنا إلى أجواء حضارية بعيدة، تستحق دراسة قائمة برأسها، أهم ما فيها جعل الثروة الثقافية والحفاظ عليها وتفاعلها وسيلة التنمية الشاملة وغايتها في آن واحد.
إعداد. لينا كتوب – سوريا