بعد أربعين عاماً من نفادها الأعمال القومية السبعة تصدر مجدداً في مجلد واحد

الدكتور عبد الله عبد الدائم:
– الأمة العربية قصرّت باستمرار في إعداد العدّة اللازمة لمواجهة التحديات الكبرى.
– لن يعيد المجتمع الدولي جزءاً من حقوقنا إلا إذا ملكنا الإرادة والقدرة.

حاوره: محمد مروان مراد

وجد الباحثون والطلاب في الوطن العربي الكبير – في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وهي فترة المد القومي والنهوض العربي – في مؤلفات المفكر الرائد الدكتور “عبد الله عبد الدائم” ثروة فكرية، ومرجعاً غنياً، يضيء لهم آفاق المعرفة بأحوال الأمة العربية، وسبل قوتها وتقدّمها، ويضع بين أيديهم المنطلقات والمبادئ الأساسية لمسيرة القومية العربية إضافة إلى الدراسات التربوية التي تؤكد على دور التربية والثقافة في بناء إنسانية جديدة.
تلقى المثقفون العرب تلك المؤلفات باهتمام وشغف، وعدّوا الدكتور عبد الدائم امتداداً أميناً ومتطوراً لفكر الرائد القومي العربي “ساطع الحصري”، مع تميّزه بالعمق في طرح وتحليل الظاهرة القومية كوجود ومصير للأمة العربية، وإلحاحه على جعل هذه الظاهرة واقعاً سلوكياً ثقافياً وتربوياً، لجيل يتطلع إلى الوحدة والقوة، وإلى ترسيخ قواعد الوطن الواحد الممتد من ساحل الأطلسي في الغرب، إلى حدود “زاغروس” في الشرق، ومن سفوح “طوروس” شمالاً إلى بحر العرب جنوباً.
وقد توالت مؤلفات الدكتور “عبد الدائم” تباعاً، حتى بلغت الأربعين كتاباً في المجالين القومي والتربوي، فنشر ما بين عامي 1957-1965، سبعة كتب متميزة عرض فيها لنظرية القومية العربية “مقوماتها – أبعادها”. ومع مطلع العام الجديد كانت المكتبة العربية على موعد متجدد مع الدكتور “عبد الله عبد الدائم” إذ قامت المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، بإصدار كتبه السبعة الأولى في مجلد واحد بعنوان: ” الأعمال القومية: 1957-1965″ وهي الكتب التي عرض فيها للنظرية القومية العربية، ونفدت طبعاتها المتلاحقة التي ظهرت منذ أربعين عاماً، وقد مثلت وقتها محوراً أساسياً لأفكار العديد من الحركات القومية في الوطن العربي، كما أسهمت بشكل واضح في تكوين الجيل العربي الجديد.
وكان صدور الأعمال الكاملة مناسبة للقاء الدكتور عبد الدائم، الذي استمر يبشر بالفكر نفسه، وازداد إيمانه رسوخاً بأن الانتصار النهائي، سيبقى حليف الأمة العربية، مهما تكالبت عليها المحن، وستنهض قوية عزيزة بما تملك من مقومات القوة والحياة.
وفرض السؤال نفسه: كيف يقرأ الدكتور عبد الدائم واقع الأمة الراهن، وهل هو قدر حتمي لا خلاص منه؟ فيجيب:
لا شك بأن ما ابتليت به الأمة العربية في العهود الحديثة، قلّ أن تبتلى به أمةٌ من الأمم. والسبب واضح، وهو غرس هذا الكيان الهمجي في قلبها كالخنجر، مع كل ما يحمله من قدرة على تفتيتها ومنع تقدمها.. ومن ثم ابتلاعها جزءاً بعد آخر.. فإذا أضفنا إلى بلاء (الصهيونية) بلاء الاستعمار الذي كاد للأمة العربية وسيطر على مقدراتها منذ قرون بعيدة، توضحت لنا فداحة الأرزاء التي ابتليت بها الأمة العربية من خارجها، فعطلت قواها، ومنعت استعادتها لمجدها وإرثها الحضاري. غير أن هذا بمجمله لا يفسر كل شيء، بل أن الأمة التي أصيبت بخنجر سواها، أصابتها من داخلها عوامل وأمراض حالت بينها وبين ارتقائها وازدهارها. وحسبنا هنا أن نقول: إن الأمة العربية قصرت في إعداد العدة اللازمة لمواجهة التحديات الكبرى، والمخاطر التي أحاقت بها، تقصيراً غير جائز، ظل متراكماً ومستمراً من أيام استقلالها عن الدولة العثمانية وإلى اليوم.
كان على الأمة العربية أن تعي أن ما يحدث اليوم، كان لا بد من حدوثه إذا لم تعمل بدأب متواصل من أجل تفاديه والنجاة من شروره.. إن شارون السفاح، ومن قبله اليمين المتطرف كله وعلى رأسه، بيغن، وشامير، ونتنياهو، وسواهم من بناة الصهيونية، هم كما نعلم أبناء ذلك الصهيوني اليميني المتغطرس والمتوحش (جابوتنكسي) المولود عام 1880 والمتوفّى عام 1940، وهو رأس هذا اليمين الصهيوني المتطرف الخبيث.. وشارون يطبق برنامجه اليوم بالحرف الواحد. في عام 1923 كتب (جابو تنسكي) مقالة شهيرة بعنوان (الجدار الحديدي) قال فيها قولاً لا لبس فيه: (إن العرب لن يتخلوا عن أرض إسرائيل المزعومة!! طوعاً، ولا بد لنا أن نكرِهَهم على تركها بالقوة. وليس في المستقبل القريب ولا في المستقبل البعيد، أي أمل في أن يتخلى العرب عن أرض إسرائيل بمحض إرادتهم).
ومثل هذا القول كرره عتاة الصهاينة وخاصة نتنياهو في كتابه: (مكان تحت الشمس)… وما دام المجتمع العربي ما يزال يأمل بأن تعود إسرائيل إلى رشدها، علينا أن نذكر أن (جابو تنسكي) هذا حين قيل له: إن استعادة أرض الميعاد بالقوة والعنف ووسائل القمع كما يريد، أمر يجانب القيم والأخلاق الإنسانية، أجاب بكل بساطة: إذا كانت القضية التي تدافع عنها وتحارب من أجلها قضية مقدسة، فكل الوسائل التي يمكن أن تستخدمها لبلوغها مقدسة أيضاً.. هذا جانب من تقصير العرب بمعرفة عدوهم، وأفدح منه تقصيرهم في إعداد العدة الضرورية لاجتناب المصير الأسوأ الذي ينتظرهم… لقد كانوا يتلقون النكبة تلو النكبة، وكأن ما يصيبهم هو ختام النكبات، وفي بعض الأحيان كان جهدهم يتوقف عند إيجاد حل – لن يكون بطبيعة الحال،
إلا منقوصاً بل وفاشلاً -…. ثم يلي بعد ذلك صمت مطبق.. بل ونوم عميق!!.
كيف يرى الدكتور (عبد الله عبد الدائم) المخرج؟ وعلى من تقع مسؤولية الإنقاذ؟
طبعاً، مهما يكن شأن المجتمع الدولي، ومهما يكن خاضعاً للقوة الغالبة العظمى فيه، يظل من الصحيح أن المجتمع الدولي لن يعيد إلينا ولو جزءاً يسيراً من حقوقنا، إلا إذا تبين له أننا نملك الإرادة والقدرة والعزيمة اللازمة لتحرير أنفسنا. ومن هنا فالمسؤولية هي مسؤوليتنا جميعاً حكاماً ومحكومين، شعوباً ودولاً… وفي هذا المجال لابد من القول بأن مقاومة الصهيونية ومقاومة أخطارها القائمة والقادمة، لابد وأن يكون رأس الحربة فيها جماهير الشعب العربي، المؤمنة بأمتها وقيمها وتراثها، ولكن شريطة أن تكون هذه الجماهير منظمة.. لأن الجماهير مهما يكن عطاؤها، غير قادرة على التأثير في الأحداث تأثيراً فعالاً إلا من خلال أقنية منظمة، سواء كانت حزبية أو نقابية أو مهنية أو غير ذلك… المهم أن نؤمن بأن المعركة مستمرة، وأن نؤمن بأن النصر لنا في النهاية، إذا نحن أحكمنا تعبئة قوانا.
العرب والعالم وحوار الحضارات. كيف ومتى وأين؟!.
نحن في حاجة للحديث عن حوار الحضارات لهدفين: الأول هو: نحن.. علينا نحن أولاً، أن نحدد موقفنا وفهمنا الحضاري لحوار الحضارات بشكل دقيق وسليم. أقول هذا لأن الحضارة العربية الإسلامية قامت على أساس حوار الحضارات، بل على أساس تمازج الثقافات، ولكن عهود التخلف التي مرت بها الأمة العربية من ناحية، وموقف الغرب المعادي للأمة العربية من ناحية أخرى، جعل أبناء أمتنا ينطوون على أنفسهم ويخشون من حوار الحضارات، خوفاً من النزعة التي يسميها (توينبي): (النزعة الزيلوتية) وتعني: الانطواء على الذات والاكتفاء بالذات.. بل ومحاربة كل شيء عدا الذات..
والسبب الثاني، أن العالم الغربي، الذي يحمل رواسب قرون طويلة من العداء للعرب ومن كره للعرب، ومن تشويه لتاريخ العرب، أصبح في أيامنا هذه، بوجه خاص، بحاجة إلى فهم الحضارة العربية فهماً جديداً، وإلى أن يدرك منازعها الإنسانية العميقة، ونزوعها من البداية إلى الانفتاح على الثقافات كلها، والحضارات كلها والأديان كلها، كما حدث في أيام الدولة الأموية، والعباسية، وفي الأندلس بشكل خاص.
وموضوع الربط المغلوط الذي يربط به بعض أبناء الغرب بين الإسلام والإرهاب، لابد أن يتولى النقاش حوله وتوضيحه أبناء الحضارة العربية أنفسهم قبل غيرهم. لست في حاجة لذكر أمثلة. كتابي الذي صدر مؤخراً بعنوان: “العرب والعالم وحوار الحضارات” فيه أمثلة كثيرة على المنازع الإنسانية للحضارة العربية، سواء في النصوص الدينية أو سواها، أو في الممارسات العملية… يضاف إلى هذا أن موضوع (حوار الحضارات) أصبح مطلباً إنسانياً شاملاً، ولاسيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. فقد بينت الأحداث أن العولمة الوحشية لا تؤدي فقط إلى إفقار الدول النامية، تاركة الدول المتقدمة تنعم بخيراتها وثرواتها.. بل إن هذه العولمة صارت خطراً على الدول المتقدمة نفسها وفي عقر دارها. وإحدى وسائل بناء عولمة سليمة لا عدوان فيها من أمة على أمة، لابد أن يكون بالتالي: حوار الحضارات.
تحضرني هنا كلمة لمفكر غربي ترتبط بالحوار، وبما يمكن أن يؤدي إليه انعدام الحوار من عنف، فيقول – وهذا القول يلخص في نظري الموقف العالمي كله – (لا تستطيع دولة قامت على العنف، واستطاعت أن تستمر عن طريق العنف، أن تتخلص من العنف الذي يتهددها إلا إذا تخلت هي عن العنف)..
والحوار بين الحضارات بغير شك، هو عمل كل إنسان والمثقفين بشكل خاص… ولكن في الظروف الحالية لابدّ أن تكون له مؤسساته التي تخاطب العرب وغير العرب، والتي تنتظم المثقفين بشكل خاص.