العرب والهجمة على التربية والثقافة

في الحفل التكريمي الذي أقيم مؤخراً في دمشق لأستاذنا المفكر العربي الدكتور عبد الله عبد الدائم، جاء على لسان بعض المتحدثين بعض الإشارات الهامة عن محاضرة كان قد ألقاها قبيل التكريم بعنوان «العرب والهجمة على التربية والثقافة». ولما لم يتح لي وقتها الاستماع إلى هذه المحاضرة القيمة، سعيت إلى الحصول على نسخة منها إلى أن تمكنت من ذلك بفضل الأستاذ الدكتور خلف الجراد رئيس تحرير «تشرين» مشكوراً، وعن طريق الدكتور عبد الدائم نفسه.
المحاضرة دراسة غنية وعميقة عن دوافع الحملة الغربية المنظمة والمتنامية على مقومات وجودنا العربي وعلى رأسها التربية والثقافة، وعن أهدافها ومقاصدها الحقيقية. وتبدأ بتساؤلات هامة منها: هل للإمبراطوريات منطق لا يدركه المنطق؟.. ويطرح الدكتور عبد الدائم مشروع الشرق الأوسط الكبير، ليسلط الضوء عليه من الجانب المتصل بالإصلاح التربوي والثقافي، ويبين أن التربية والثقافة العربية، على الرغم من حاجتهما الماسة دوماً إلى التطوير والتجديد، ليستا على غرار ما يصفهما به المشروع من تخلف وعجز، وأنهما على العكس من ذلك جديرتان بأن تقفا شامختين أمام الكثير من تجارب التجديد التربوي والثقافي
لا في العالم السائر في طريق النمو فحسب، بل في العالم كله.
يبدأ الدكتور عبد الدائم بحثه بعنوان «عالمنا اليوم» ويعرض فيه لسقوط الاتحاد السوفييتي، وأهم مكونات الثورات العالمية الكبرى، وكيف تجمع هذه الثورات كلها ظاهرة العولمة، التي هي عودة بقيادة الولايات المتحدة إلى الماضي السحيق للرأسمالية والإمبريالية، وتبني سياسات ليبرالية مفرطة يحكمها قانون السوق. ويستشهد هنا بقول للاقتصادي الفرنسي آلام مينك، بأن الوريث «أميركا» عاد إلى القرون الوسطى، فانحرفت الديمقراطية عن معانيها الأصيلة. وينتقل الدكتور عبد الدائم في ضوء ذلك إلى: عالمنا والتربية، ولا يذهب مع من يذهب إلى القول إن التربية قادرة على أن تصحح المسيرة وتغير البلاد والعباد، وإن في وسعنا أن نأمل من الثورة التربوية وحدها أن تخلق عهداً إنسانياً جديداً، بل علينا أن نؤمن بالصلة الدائرية القائمة بين تجديد المجتمع وتغييره وبين تجديد التربية وتطويرها.
ويقرر الدكتور عبد الدائم في معرض حديثه عن الهجمة على التربية العربية أن التربية، ومن ورائها الثقافة، في حاجة إلى إصلاح جذري في العالم كله من أجل أن تستجيب لعالم المعلومات والاتصال وعالم الثورة في ميادين المعرفة العالمية والتقنية وعالم التغيير السريع وسوى تلك من مقومات الحياة في عصرنا، ويضيف: إن إصلاح التربية والثقافة ينبغي أن يشمل العالم كله. وكثيرة هنا الحجج والأدلة والوقائع التي يسوقها الدكتور عبد الدائم في هذا الشأن. وليخلص من ذلك إلى أنه على الغرب أن يدرك بعمق أن العالم كله في حاجة إلى أن يتحاور من أجل إنقاذ الإنسانية، وأن يعيد النظر في نزعة التمركز حول الذات، وإنه في حاجة إلى الشرق وأن يفيد من تراثنا العربي والإسلامي وتراث الأمم الأخرى ومن تجاربها. وباختصار: «عليه أن يتعلم ويعلم في آن واحد».
إن القول بعولمة الثقافة لا يخلو من تناقض في داخله، فلا وجود لثقافة واحدة تفرض نفسها على سواها، لكن يحدد الدكتور عبد الدائم أهم عناصر الثقافة العالمية المشتركة بعنصرين: الثقافة الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان! ويتناول القيم الثقافية العربية باعتبارها من أعرق الثقافات في العالم، ثم يتحدث عن محاولات تحديث الثقافة العربية الإسلامية: ويؤكد هنا أن الثقافة العربية تواجه، ظلماً وعدواناً، هجمة شرسة عليها تقودها الولايات المتحدة و«إسرائيل» متهمة هذه الثقافة بالعنف فضلاً عن التخلف والجمود. ومن أبرز وأخطر مظاهرها: مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، ويشير إلى أن بعض الكتاب العرب خلط بين الحاجة إلى إصلاح أوضاع البلاد العربية وبين إصلاح الثقافة العربية وإصلاح التربية العربية.
ويؤكد أن الأهداف الحقيقية للمشروع هي سيطرة سياسية واقتصادية، ودمج «إسرائيل» بكيان الشرق الأوسط الكبير والسيطرة على منابع النفط وامتصاص ثروات البلدان المعنية، كما يخفي هذا المشروع الأميركي وراءه ادعاءات باطلة منها: إن العرب عاجزون عن إصلاح أنفسهم بأنفسهم، وإن العالم العربي صفحة بيضاء يمكن أن نخط فيها ما نشاء وأن التعليم العربي متخلف وعاجز، وأن الثقافة العربية تخفي في أعماقها منازع العنف والعدوان، بل الإرهاب.
ويرد الدكتور عبد الدائم على هذه الأوصاف المجانية بلغة الواقع والإحصاء والبحث فيعرض لتطور التربية في البلاد العربية وحالها اليوم، وهو الخبير المختص في هذا الشأن، حيث يعد من أبرز واضعي استراتيجيات التربية العربية وتطورها. ويوضح أن التربية العربية ليست مُقْعدةً عاجزة، وإن الثقافة العربية، إذا أجيد فهمها، تقف شامخة، أمام سائر الثقافات الكبرى في العالم، وإن الحل السليم بالتالي لها ولسواها من الثقافات الأصيلة يكمن في تمكين أوصالها وفي تفاعلها مع سواها أخذاً وعطاء.
ويدعو الدكتور عبد الله عبد الدائم في ختام محاضرته «العرب والهجمة على التربية والثقافة» إلى إحكام وضع النظام التربوي والثقافي في الوطن العربي من خلالها ومن خلال العالم، ومن أجل ذاته ومن أجل العالم. ويشير إلى أن مواد العمل تكاد تكون جاهزة، والجهد المطلوب من التربية العربية والثقافة العربية قائم في حصاد المؤتمرات والمؤسسات الوطنية والعربية والدولية، وكل شيء ينتظر ولادة المشروعات العملية الإجرائية التي تنبثق من تلك الجهود المتراكمة، وإن الأمر كله وقف على الإرادات. إرادات العمل الواعي من أجل الكيان العربي كله، ومن أجل كل قطر من أقطاره، ومن أجل الإنسان العربي أولاً وقبل كل شيء، بل من أجل الإنسان أنى كان. فالتربية وحدها، وفي قلبها الثقافة، هي التي تحقق أوبة الإنسان إلى ذاته ليكون من هو.