التربية لا تكون إلا قومية.. كما أن القومية هي تربية في الأساس

• محاولات النيل والانتقاص من ثقافتنا ونظامنا التربوي.. لها غايات ومآرب أخرى غير الإصلاح والتجديد. • إن واقع اليوم هو برهان على أهمية الوحدة العربية وضرورة العمل على تحقيقها في أي شكل يكون بمثابة خطوة على طريق الوحدة العربية الشاملة. بدعوة من اتحاد الكتاب العرب، يقام في السادسة من مساء اليوم الأحد حفل تكريم الأستاذ الدكتور عبد الله عبد الدائم. وسوف تلقى فيه كلمات: اتحاد الكتاب العرب، يلقيها د. علي عقلة عرسان رئيس الاتحاد، وكلمة وزارة الثقافة يلقيها د. محمود السيد وزير الثقافة، وكلمة مجمع اللغة العربية يلقيها د. شاكر الفحام رئيس المجمع، وكلمة السيد خير الدين حسيب، وكلمة لأستاذة ليلى شرف، وكلمة الأستاذ معن بشور وكلمة الدكتور محمد زكريا إسماعيل، وكلمة المكرَم الدكتور عبد الله عبد الدائم، الذي بلغ الثمانين من العمر (أمد الله في عمره)، وشكل وما يزال رافداً حقيقياً للمكتبة العربية، فيما أنجزه على صعيد التربية والفكر القومي، مما يجعله بحق واحداً من القلائل الذين طبعوا عصرهم بسمات خاصة بهم. وهذه بعض إطلالة على بعض ما أنجزه… بالرغم من مرور خمسة عشر عاماً على آخر زيارة لي للدكتور عبد الدائم، إلا أنني وجدت نفسي أبادئه الحديث وأصغي إليه، يوجز لي مجمل آرائه في التربية والقومية والنهضة بسهولة ويسر.. وكأنما يتم لي حديثاً بدأناه بالأمس، وبالأمس فقط. وهذه هي ميزة الكبار الذين تحضرهم البديهة، وينطلقون على سجيتهم لاسيما إذا كانوا ممن برزوا في ميدان معين.. ووقفوا عليه جلَ حياتهم. نعم، تحدثنا في عجالة من جلستنا التي بدأت دون إعداد مسبق، حول مواضيع التربية والتنمية والتحديات القومية التي تواجهها أمتنا، وتناول الدكتور عبد الدائم دور المؤسسات التربوية والتعليمية، وأشار إلى ما يراه من تقصير في عمل المؤسسات الإعلامية التي كانت فاعلة ومؤثرة في ترسيخ وتطوير دعائم وأسس المشروع النهضوي. وفي معرض إشاراته الصائبة، أكد مجدداً على ثقته بهذه المؤسسات (الإعلامية والتربوية) وقدرتها على تجاوز أسباب قصورها والانطلاق مجدداً إلى دور الفاعلية بما يكفل المساهمة الحقيقية في التصدي للهجمة الشرسة التي تتعرض لها هوية الأمة ومشروعها النهضوي الذي لا يزال مستمراً رغم ما يعترض طريقه من عقبات وعراقيل. وتأتي هذه الملاحظات الموجزة للدكتور عبد الدائم لتلخص بعضاً من أهم أفكاره التي تملأ كتبه التي نافت على الأربعين كتاباً في العربية والفرنسية، إضافة إلى ما عبَر عنه قولاً وعملاً في كل ما أسند إليه من مهام وأعمال في التدريس الجامعي والعمل التربوي على مستوى العالم، وفي القيام بأعباء وزارتي التربية والإعلام لبضع سنين. وفي آخر محاضرة ألقاها الدكتور عبد الدائم، في مكتبة الأسد، بدعوة من الندوة الثقافية النسائية بدمشق، مساء الثلاثاء في الرابع من الشهر الجاري، لم يحد عن موضوعه الأساس بمحوريه المتلازمين، كما يراهما ويصر عليهما دائماً: التربية والقومية، فهو يصر على القول: بأن التربية قومية، كما أن القومية تربية في الأساس. وهكذا جاء عنوان محاضرته الأخيرة: العرب والهجمة على التربية والثقافة، حيث يرى أن الأمة العربية تواجه حملة منظمة متنامية على مقومات وجودها، وأكثر ما تهدد هذه الحملة بشكل مباشر التربية والثقافة. ويبحث الدكتور عبد الدائم في دوافع هذه الحملة ومن يقف وراءها، ويبحث عما يمكن أن يكون عجزاً أو قصوراً أو تخلفاً في أساليب التربية العربية. وفي المقابل يناقش أيضاً أساليب وطرق التربية في الغرب ليرى إن كانت ناجحة ومتقدمة حقاً وتستجيب، كما يقال، لمطالب الإنسان العميقة في عصر الثورات العلمية، وترسم الخطط السليمة الفعالة التي يستلزمها المستقبل العالمي في البلدان المتقدمة والمتخلفة على حد سواء، والتي يتطلع إليها الإنسان أنَى كان، من أجل تحقيق المزيد من إنسانيته ومن صبوته إلى المثل العليا الجديرة به.. وفي المقابل يسأل الدكتور عبد الدائم: هل استطاعت الثقافة الغربية – عن طريق التربية وسواها – أن تمهد السبيل لديمقراطية إنسانية حقة، في خدمة الإنسان، بدل الديمقراطية «المدمرة» التي تقودها قوى المال والاقتصاد والكسب..؟. ولا ينسى أيضاً البحث في دور التراث الثقافي العربي الراهن والتليد في تصحيح مسيرة الأمة وفي المشاركة في صياغة مستقبل جدير بالإنسان أيَاً كان.. وأنى كان. وهذه الأسئلة، ومناقشته الرصينة والموضوعية لها، هي التي سوف تفضي به إلى الحديث عن المهمات الملقاة على عاتق التربية العربية والمقصود المربي العربي، وعلى عاتق الثقافة العربية، والمعني بها كل مثقف عربي، إن أراد هذا المثقف وذاك المربي أن يسهما حقاً بالقيام بدورهما الإنساني العالمي والتفاعل مع قوى الخير في العالم.. وبداية يؤكد الدكتور عبد الدائم فرضيته التي يراها بديهة لا تحتاج إلى برهان، وهي أن التربية والثقافة بحاجة دائماً إلى التطوير والتجديد، وهذه ليست سمة عجز أو تخلف، لا في الثقافة والتربية العربية، ولا في ثقافة وتربية أية أمة من الأمم. فالتحولات العاصفة التي تجتاح العالم، من كوارث وحروب، وانهيار تكتلات كبرى ونشوء أخرى غيرها، وثورة الاتصالات ونظم المعلومات والفتوحات العلمية المتسارعة والمتزايدة، وظهور المشكلات الصحية والبيئية الناجمة عن الجنوح المتزايد إلى استغلال الطبيعة والنبات والحيوان وحتى البشر.. كل ذلك لابد أن يفرض إعادة صيغة لكثير من أساليب التربية والعمل الثقافي الذي يجب أن يكون أكثر استعداداً وأكثر تمكناً في مواجهة كل جديد في حركة الاقتصاد والمال وثورة العلم والمعرفة، وتشابك المصالح وتباين الآراء وتعقد الصلات بين مختلف أطراف المجتمع البشري.. ويشير الدكتور عبد الدائم إلى وجوب قراءة هذه الظاهرة – وأية ظاهرة – قراءة عميقة وتحليلها من الداخل، وليس الاكتفاء بقراءة عناوينها المعلنة والاكتفاء بما تزعم أنه دليل عمل تسعى إلى تحقيقه. فما يجري في عالمنا المعاصر يكاد يعيد العالم بأسره إلى عالم القرون الوسطى، حيث تستعيد الرأسمالية بكل شراسة مقاليد الأمور وتتحكم في أوضاع الناس، ولا ينال فرصة العمل والحصول على أدنى دخل ضروري أكثر من عشرين بالمئة من سكان العالم. وهذه أولى النتائج المباشرة لحرية السوق التي تتناقض أساساً – كما يقول الدكتور عبد الدائم – مع الديمقراطية وحقوق الإنسان. وها هي الدول الكبرى تهمش دول العالم الثالث وتتنافس على نهب خيراتها، وتمنعها بالقوة من أن تتحد في كيانات كبرى تحمي من خلالها مقدراتها وتحافظ على هويتها القومية والثقافية. ويستشهد في هذا المقام بما جاء على لسان أوكتافيو باز في كتابه: الكوكب Une planèt الصادر عام 1997، حيث يقول: «إن ما نشهده اليوم ليس نفياً نقدياً للقيم الديمقراطية المألوفة، بل انحلالاً لهذه القيم». ولا يختلف هذا القول عما ذهب إليه برجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي جيمي كارتر، الذي جعل همه الأكبر الدفاع عن التفوق الأمريكي، والإبقاء عليه، حيث قال في كتابه: «Out of control – خارج السيطرة»: «إذا لم تؤد الممارسة الديمقراطية، وبوجه خاص الأداء الاقتصادي لنظام السوق الحرة، إلى تحسن ملموس بيّن في الأوضاع الاجتماعية لبني البشر، فإن حدوث ردّ فعل سلبي على هذين المفهومين لن يكون إلا مسألة وقت». وفي هذا الصدد يرى الدكتور عبد الدائم أن ما جرى ويجري في فلسطين والعراق ما هو إلا دليل واضح وفاضح على تردي الديمقراطية، وسيظل ذلك حتمياً مادام المغذي الأساسي للديمقراطية في العالم، وفي الولايات المتحدة بشكل خاص، ذيوع ديكتاتورية الربح، تأسّياً بالقيم والفلسفات الأمريكية الذرائعية، بحيث غدا العالم.. سلعة. وكان الدكتور قد دعا في كتابه: «القومية والإنسانية»، الصادر في العام 1957 إلى أن نزع العدوان بين الشعوب لا يكون إلا إذا أخذت الأمم المختلفة بتربية أفرادها تربية قومية إنسانية بعيدة عن روح الغلبة والعدوان. ولأجل ذلك هو يدعو إلى إصلاح جذري للتربية والثقافة في العالم كله. والدكتور عبد الدائم، في معرض ما يجده من تحديات للثقافة العربية، يرى أن العولمة ليست ظاهرة اقتصادية بل تشمل شتى جوانب حياة الإنسان وعلى رأسها الثقافة. فالثقافة تشمل جملة النشاطات والمشروعات والقيم المشتركة التي تكون أساس الرغبة في الحياة المشتركة لدى أمة من الأمم، والتي يشتق منها تراث مشترك من الصلات المادية والروحية، يغتني عبر الزمان ويغدو في الذاكرة الفردية والجماعية إرثاً ثقافياً بالمعنى الواسع لهذه الكلمة. ويلخص الدكتور عبد الدائم أبرز مقومات الثقافة العربية الإسلامية، بأنها ثقافة علمية تجريبية وثقافة عقلية وثقافة إنسانية، كما شهد بذلك علماء الاجتماع العرب والأجانب، من أمثال فانتيجو وراندال وبوازار وابن رشد وغيرهم. أما أخطر ما يتهدد هذه الثقافة الآن فهو أنها لم تنجح، ومنذ أكثر من قرن، في تجديد ذاتها وصنع حداثتها بسبب عدم إدراك الفرق بين التحديث والتغريب. وهي على الرغم من عراقتها إلا أنها تعاني من سوء فهم للتجديد الذي يبدو – في نظر البعض – وكأنه انتقاص من تلك العراقة أو نفي لها، كما أن محاولات التجديد تشكو من أنها تتم – في الغالب – من خارج هذه الثقافة وليس من داخلها.. والمشاركة الجماهيرية في بناء الثقافة ما تزال محدودة، وأسوأ ما يحاك لهذه الثقافة بقصد أو من دون قصد هو الخلط الواضح بين الحاجة إلى إصلاح أوضاع البلاد العربية وإصلاح الثقافة والتربية العربية. وكإشارات لماحة وسريعة لعناصر الإصلاح الضرورية للتربية والثقافة يدعو الدكتور عبد الدائم إلى تعليم أفضل بإمكانات أقل وتجديد إطار الصف التعليمي والاستفادة من تقنيات التربية الحديثة واعتماد شعار التربية المستمرة طوال الحياة وتشجيع التعليم الذاتي والمرونة في عدد سنوات الدراسة وتغير مفهوم النجاح وتغير النظام التربوي الثابت الجامد مما يؤدي برأيه.. وهو الخبير بذلك – إلى تكوين المواقف والاتجاهات، وتكوين الإنسان القابل لأن يتعلم، وفهم روح المبتكرات العلمية والتقنية، وتعلم الاستقلال والنظرة المستقلة، وامتلاك روح الشك، وتحقيق التكافل والتضامن، وتكوين روح الخلق والإبداع، وتحقيق أفضل الشروط لخلق الديمقراطية، وروح العمل الجماعي. وينظر الدكتور عبد الدائم نظرة تقدير إلى ما بذلته البلاد العربية في مطلع النصف الثاني من القرن الماضي لتخليص نظامها التعليمي مما خلّفته فيه عيوب الانتداب والاستعمار الذي أثقل كاهل البلاد العربية، مشيداً بما تم إنجازه بين بعض البلاد العربية من اتفاقات الوحدة الثقافية (كما كان بين مصر وسورية والأردن) في خمسينيات القرن الماضي وما كان لها من أثر إيجابي في وضع أسس التربية واستمرار أثرها حتى اليوم. وكذلك ما عقد من مؤتمرات هامة لوزراء الثقافة العرب والندوات الدولية الكبرى التي شاركت فيها الدول العربية في العقود الأخيرة، وجهود المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (اليكسو) وذلك عدا عن الجهود الفردية لكل دولة على حدة. إن هذه الجهود تدل على أن الدول العربية تسعى وما تزال لإصلاح نظامها التربوي وهو ما يسقط مزاعم الداعين إلى (مشروع الشرق الأوسط الكبير) الذي تنادي به الولايات المتحدة، ويجد له بعض أصداء هنا أو هناك، علماً أنه يخفي في جوهره عكس ما يعلنه في ظاهره: فإذا كان المقصود به دعوة لإصلاح وتطوير أساليب التربية والعمل الثقافي فإنه يفقد مبرره وتنتفي الحاجة الفعلية له، أما إذا أريد به غطاء للنيل من النظام العربي وشخصية الأمة العربية. فإن هذا ما ينبغي أن يتصدى له بكل حزم رجال الثقافة والسياسة معاً. وتتخذ الدعوة إلى (الشرق الأوسط الكبير) من مقولة أن الثقافة العربية هي ثقافة تدعو إلى العنف وأنها متخلفة وجامدة مرتكزاً إلى المناداة بتغيير هذه الثقافة. وهذه تهمة ظالمة لا مصداقية لها في كل تاريخ الثقافة العربية منذ عشرات القرون، بل إن هذه الدعوة – التي لا يصعب علينا اكتشاف نواياها الحقيقية – تزعم أن العرب عاجزون عن إصلاح أنفسهم، بأنفسهم وإن التعليم عندهم عاجز ومتخلف وأن العرب لا يملكون إرثاً ثقافياً وبالتالي هم أشبه بصفحة بيضاء تحتاج لمن يملأها لهم بالنظم التربوية الحديثة ويفنون الثقافة وعلومها. ومع يقين الدكتور عبد الدائم بحاجة التربية والثقافة العربية إلى الإصلاح والتطوير شأنها في ذلك شأن كل البلدان والأمم، إلا أنه يؤكد أن الوقائع تدحض هذه الافتراءات الظالمة مشيراً إلى ما بذله العرب، وما زالوا يبذلونه من جهود للتوسع الكلي في مجال التربية والتعليم وتجويد النوع وتحقيق أفضل الشروط الممكنة لبناء الإنسان الواعي المستقل بشخصيته وقدرته على التلقي وإعادة الإنتاج، وإذن فهذه الهجمة المسماة بمشروع (الشرق الأوسط الكبير) يراد منها دمج (الكيان الصهيوني) بالمنطقة وإلغاء خصوصية هذه الأمة وتفتيتها إلى كيانات هشة وضعيفة لا تقوى على تأمين أبسط الشروط الملائمة للحياة السليمة والمعافاة لساكنيها. وهكذا يؤكد الدكتور عبد الدائم على الصلة الوثيقة بين التربية والثقافة من جانب، وبين كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتأسيساً على ذلك كان لابد أن نسأل الدكتور عبد الدائم عن أسباب تعثر مشروع النهضة العربية، وهل يحيل ذلك إلى العوامل الخارجية وحدها، أم أن العوامل الداخلية لعبت دوراً سلبياً وحالت دون انطلاق هذا المشروع الذي بدأ قبل نحو قرن من الآن، وشهد قفزات حقيقية في مرحلة ما بعد استقلال البلاد العربية، ولكنه ما لبث أن تباطأت خطواته.. حتى تكاد لتبدو أقرب للجمود منها للحركة.. والحياة. وقد أجاب الدكتور عبد الدائم بالقول: «لا شك أن لكلا العاملين: الخارجي والداخلي تأثيراً سلبياً أعاق وما يزال يعيق المشروع النهضوي العربي، ولكن العامل الداخلي كان أكبر في تأثيره السيئ. ولو كان العامل الداخلي صحيحاً ومعافى لتغلب على العامل الخارجي وأوقف تأثيره السيئ. إن مشكلتنا هي أن الحضارة العربية منذ سقوط بغداد على يد هولاكو في العام 1258 بدأت بالتراجع ودخلنا في عصور مظلمة وسادت قيم ومعتقدات وأساليب في التفكير متخلفة وفهم الدين فهماً متخلفاً. فالدين لا يدعو إلى التخلف، ولكن تخلف حملة الدين هو الذي يظهره بشكل متخلف. ثم جاء تقسيم البلاد العربية وقيام كيان العدو الصهيوني وهذه كلها من العوامل الخارجية المؤثرة سلباً لكن العامل الداخلي يظل مسؤولاً إلى حد كبير، وأقصد بالعامل الذاتي: أفكار الناس وعاداتهم، وتقاليدهم، وبشكل أخص عدم الانتباه من قبل المعنيين وأصحاب الرأي والقرار، إلى مجموعة من الأسباب التي أدت إلى تقهقر الأمة العربية مثلاً: عندما قامت النهضة العربية وظهر المد القومي في البلاد العربية لم تنتبه هذه الأحزاب والحركات الانتباه الكافي إلى ضرورة القضاء على رواسب الانفصال في النفوس، بعد عهود الاستعمار والتخلف الذي نجم عنها، حيث تأصلت مشاعر الانفصال في النفوس، ولم تلق هذه الرواسب المعالجة الكافية من حركات التوحيد العربية، كما أن موضوع العلاقة بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية لم يعن بها بشكل كاف. وأيضاً لم ينتبه العرب انتباهاً كافياً للنشاط الصهيوني المبكر وسعيه لخلق (قومية صهيونية) تطرد القومية العربية، علماً أن أحد المفكرين العرب نبه إلى ذلك منذ مئة عام، حيث أشار نجيب العازوري، وهو لبناني في كتابه (يقظة الأمة العربية) الصادر في عام 1904 إلى وجود قوميتين تصطرعان: القومية العربية والقومية الصهيونية وأن هذا الصراع سيظل قائماً بين هاتين القوميتين، وعلى مصير هذا الصراع سيتوقف مصير العالم كما قال «عازوري». وتتالت من بعد النكسات التي لحقت الأمة العربية جراء قيام الكيان الصهيوني، ولم يدرك العرب، ولم يأخذوا مأخذ الجد – ربما حتى الآن – أن هدف المشروع الصهيوني هو تفتيت الوجود العربي للسيطرة عليه. وقد ظن العرب، خطأ، أن عدم الاعتراف بإسرائيل يكون بعدم معرفتها أو التعرف على مشروعها وخططها، ولذا لم تدرس الصهيونية وإسرائيل كما ينبغي لكي تواجه بما يجب أن يكون حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من تردِ، وهذه مسؤولية داخلية قبل أن تكون نابعة من العامل الخارجي وحده. لقد اعتدنا القول: أن الأمور خرجت من أيدينا.. وأننا لا نملك شيئاً حيال ما نواجهه من تحديات كبرى ومصيرية. وحتى اليوم ما نزال نعمل بعقلية (عسى ولعلَّ) وليس بعقلية الحسابات الدقيقة والعمل المنظم.. وما نزال نمني أنفسنا بالأحداث، وما سينجم عنها.. دون أن نكون متابعين لمكوناتها ومصادرها وعارفين بما ينتظرنا… ودائماً نأخذ بأهون الحلول، ودوماً لدينا حجة «من لا يريد أن يفلح» على حد قول الجاحظ، وقوام هذه الحجة أننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً تجاه ما يجري، مع أن العقل والمنطق يؤكدان أن الشعب العربي إذا صمم فعلاً، ووحد مواقفه.. فإن لديه من القدرات المادية والبنيوية والروحية ما يجعله قادراً على التغلب على أية مخاطر تهدده. ومن هنا تأتي أهمية العمل العربي المشترك على أي صعيد يهدف إلى تحقيق المنفعة لهذه الأمة. وأنا اليوم أكثر مني إيماناً بالأمس بضرورة العمل الوحدوي وأهميته، لأن ما نراه من تخلف وضعف عربي سببه غياب العمل الوحدوي، كما يزعم البعض. وبرهان على أهمية الوحدة وضرورة العمل على تحقيقها. هذا يعني دكتور عبد الدائم، أن الوحدة العربية أو العمل العربي المشترك يمكن أن يبدأ بخطوات تمهيدية قبل أن يكتمل في صيغة نهائية شاملة؟. بالتأكيد فالعمل الوحدوي يتمثل في أية خطوة نخطوها في طريق الوحدة، وطبيعي أن الوحدة لا يمكن أن تتم إلا بالكثير من الخطوات وكل لبنة نضعها هي خطوة على هذا الطريق، فكل ما يبعدنا عن الشقاق والفراق هي خطوات تقربنا من العمل الوحدوي المشترك. وهاهي أوروبا أقامت شكلاً من أشكال الوحدة وكان ميتران (الرئيس الفرنسي سابقاً) قد قال: «فرنسا وطني، ولكن أوروبا مستقبلي»، وهو نفسه الذي قال: «ما البديل عن الوحدة الأوروبية أو الاتحاد الأوروبي؟ أهو صراعات القرن التاسع عشر»؟. وعلينا نحن العرب أن نفعل الشيء ذاته، فيكون لكل منا وطنه الأصلي.. ولكن على أن ندرك كلنا ألا مستقبل لأي منا إلا في الوحدة العربية قولاً وعملاً. حوار جمال عبود