العرب والهجمة على التربية والثقافة

يصف الدكتور عبد الله عبد الدائم عالمنا اليوم بأنه عالم عدم اليقين والقلق، والاضطراب، وكل ما نعرفه عنه أننا لا نعرفه؛ فهو معقد متشابك على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي موران.

ففي مكتبة الأسد مساء الثلاثاء 4/5 حاضر الدكتور عبد الله عبد الدائم في «العرب والهجمة على التربية والثقافة» بدعوة من الندوة الثقافية النسائية في دمشق، وذلك بحضور جمهور كبير تقدمه السادة الوزراء الدكتور محمود السيد – وزير الثقافة – والدكتور أحمد الحسن – وزير الإعلام – والسيدة الدكتورة بثينة شعبان – وزيرة المغتربين – والدكتور شاكر فحام – رئيس مجمع اللغة العربية – والدكتور صابر فلحوط رئيس اتحاد الصحفيين.
وحدد الباحث والمفكر عبد الدائم أهم مكونات هذا العالم بثورة الاتصال والمعلومات وثورة الاقتصاد، بل المال، وثورة العلم والمعرفة – الثورة في عالم المورثات والجينات والتقنيات البيولوجية.
وتجمع هذه الثورات كلها ظاهرة العولمة: التي قد تكون أفضل حظوظ الإنسان، وقد تكون أسوأها. قد تكون أفضلها إذا كانت نزعة «عالمية» إنسانية، وقد تكون أسوأها إذا كانت عولمة «وحشية» كل شيء فيها سلعة.. وبدلاً من أن يمنح الوريث هذه التركة معنى إنسانياً صحيحاً عاد هذا الوريث (وعلى رأسه الولايات المتحدة) إلى الماضي السحيق للرأسمالية والإمبريالية، إلى عالم القرون الوسطى كما يبين الاقتصادي الفرنسي آلان مينك. وهكذا انحرفت الديمقراطية عن معانيها الأصيلة وأصبح قوامها إفساح المجال لحرية السوق فهي الحاكمة والقائدة.
وغدت المشكلة الأساسية في العالم في التوفيق بين الديمقراطية وحرية السوق، وقد اكتسب التناقض بينها قوة تدميرية تجلت بوجه خاص في – العداء للأجانب – اضطهاد العالم الثالث والسيطرة عليه ونهب خيراته – تهميش الفئات المستضعفة اقتصادياً في جميع البلدان – فصم وحدة الأمة في العديد من البلدان – عزل النساء العاملات واضطهادهن – تلوث البيئة – وبالتالي فالليبرالية التي نشهدها اليوم ليست، وكما يظن، بديلاً عن الماركسية، وليست الإيديولوجية التي تسود نهاية التاريخ، بل هي حجر اللعب الذي سوف يسقط.
ويقول بريجنسكي، وهو من جعل همه الأكبر الدفاع عن التفوق الأميركي والإبقاء عليه:
إن الديمقراطية تنفي النزوع إلى أية تعبئة إمبريالية، فهل نحن مسوقون إلى ضرب من الديمقراطية الكونية التي لا نجد فيها مجتمعات ديمقراطية حية؟ (أي ديمقراطية بلا ديمقراطيات)، وما جرى ويجري في العراق وفلسطين دليل واضح وفاضح على تردي الديمقراطية.
ويعقد التربوي المبدع الأستاذ عبد الدائم محوراً خاصاً لـ «عالمنا والتربية» حيث لا يذهب مذهب من قال: إن التربية قادرة على أن تصحح المسيرة وتغيّر البلاد والعباد ولا يقول مع من قال أن التربية لا تعدو أن «تعيد توليد عين النظام الاجتماعي الذي ولدها». ولكنه يؤمن بالصلة الدائرية القائمة بين تجديد المجتمع وتغييره وبين تجديد التربية وتطويرها.
ومهما يكن من أمر، فالتربية، ومن ورائها الثقافة، في حاجة إلى إصلاح جذري في العالم كله، من أجل أن تستجيب لعالم المعلومات والاتصال وعالم الثورة في ميادين المعرفة العلمية والتقنية.. ويشرح مبررات ذلك بشواهد من التجربة الأميركية.
وعلى رأس مخاطر العولمة (على نحو ما هي سائدة):

– إمحاء الثقافات واستلابها وذوبانها أو تقوقعها، وتسطيحها.
والقول بعولمة الثقافة قول لا يخلو من تناقض في داخله، فليست هنالك ثقافة واحدة تفرض نفسها على سواها، بل هنالك دون شك ثقافات عالمية أهم عناصرها الثقافة الديمقراطية، وثقافة حقوق الإنسان.
ومن أهم مقومات الثقافة العربية الإسلامية، والقيم الثقافية العربية التي من شأنها أن تساعد العالم كله على تجاوز محنته:
– أنها ثقافة علمية تجريبية، وأنها ثقافة عقلية، وأنها ثقافة إنسانية.
ويمكن تلخيص مشكلاتها اليوم في أنها لم تنجح منذ أكثر من قرن حتى الآن في تجديد ذاتها وفي صنع حداثتها، لأسباب كثيرة أهمها عدم الإدراك الواضح للفرق بين التحديث والتغريب.
وحين لا يفهم دورها فهماً حقيقياً يغدو عبئاً ثقيلاً معرقلاً للتجديد والتجويد والتحديث، ذلك التجديد الذي لا تكون من دونه أية ثقافة حية، بل تذبل وتموت.
ويبين مخاطر الانتماء الماضوي والنزعة الماضوية في الحديث عن ازدهار الثقافة العربية الإسلامية؛ حيث المشاركة الجماهيرية في بناء الثقافة العربية الحديثة المرجوة مشاركة لا تزال محدودة جداً، ولم تتم محاولات تحديث الثقافة العربية الإسلامية في معظم الأحيان من داخلها، ويخططون لها من خلال نماذج جاهزة آخذة في الابتعاد عنهم حيث النموذج الإسلامي الموغل في القدم، والنموذج الغربي الذي يزداد مع الزمن بعداً.
فيما تواجه التربية العربية والثقافة العربية هجمة شرسة عليها تقودها الولايات المتحدة و«إسرائيل» – ظلماً وعدواناً – متهمة هذه الثقافة بالعنف فضلاً عن التخلف والجمود.
وأبرز مظاهر هذه الهجمة «مشروع الشرق الأوسط الكبير» وقد خلط بعض الكتاب العرب بين الحاجة إلى إصلاح الثقافة العربية وإصلاح التربية وبين ما دعا إليه المشروع..
والأهداف الحقيقية للمشروع – سيطرة سياسية واقتصادية – دمج «إسرائيل» بكيان الشرق الأوسط الكبير – السيطرة على منابع النفط – امتصاص ثروات البلدان المعنية.
ويخفي المشروع الأميركي وراءه بعض الادعاءات الباطلة:

أ- العرب عاجزون عن إصلاح أنفسهم بأنفسهم.
ب- العالم العربي صفحة بيضاء، يمكن أن نخط فيها ما نشاء.
ج- التعليم العربي متخلف وعاجز.
د- الثقافة العربية تخفي في أعماقها العنف والعدوان، بل الإرهاب.
وقال عبد الدائم في هذه الأوصاف المجانية التي تكال للتربية العربية والثقافة العربية: تلكم لعمري «شنشنة عرفتها من أخزم».
وفي المحور السابع يبين الباحث تطور التربية في البلاد العربية وحالها اليوم.
ويقرر أن الصلة بين التربية والثقافة من جانب وبين التنمية الشاملة في شتى ميادين الحياة حقيقة بدهية. وقد عنيت البلاد العربية بهذه الصلة عناية خاصة، وقامت الجهود تترى لتطوير التعليم وتجديده، وأهم عقبات ذلك هي:
– وجود صلة دائرية بين تنمية التربية وبين تنمية سواها.
– ويزيد ضغثاً على إبالة الحاجة إلى توفير أكبر قدر ممكن من الأموال من أجل مواجهة العدوان الإسرائيلي، فيما تواجه العلاقة بين التربية والتنمية ضرباً من الدور الفاسد، كالذي يحدثنا عنه المشاعر في قوله:
مسألة الدور جرت

بيني وبين من أحب

لولا مشيبي ما جفا

للولا جفاه لم أشب

هذه عناوين أو رؤوس أقلام محاضرة المفكر القومي والباحث العربي التربوي أستاذنا وأستاذ أجيال قبلنا..
الدكتور عبد الله عبد الدائم – أمد الله في عمره – قال ما قال أمس على مدار نحو ساعتين بعدما ألف في العربية والفرنسية أكثر من ثلاثين وقدم نحو ثلاثمائة بحث ومقالة ويظل علماً نفخر به.