العرب والهجمة على التربية والثقافة

مقدمة
هل للإمبراطوريات منطقٌ لا يدركه المنطق؟
مللٌ ونحل متباعدة بل متعادية
يريد «مشروع الشرق الأوسط الكبير» الذي لاكته الألسن وحمله الركبان في الآونة الأخيرة أن يضمها جهدٌ تعميري – بل قل تدميري – واحد متشابك وأن يسلكها في بنية متآزرة اقتصادية واجتماعية ومعرفية وتربوية وثقافية، يستوي فيها جميعها – في زعمه – رجل البشتون ورجل الفلاشا، وليس هدفنا في كلمتنا اليوم أن نعرّي هذا المشروع وأن نبيّن تهافته، وما أردناه هدف قد يبدو متواضعاً وهو أن نتناول جانباً من المشروع هو الجانب المتصل بالإصلاح التربوي والثقافي.
كيما نضع النقاط على الحروف، ونبيّن أن التربية والثقافة العربية – على الرغم من حاجتهما الماسة دوماً وأبداً إلى التطوير والتجديد – ليستا على غرار ما يصمهما به المشروع من تخلف وعجز وأنهما – على العكس من ذلك – جديرتان بأن تقفا شامختين أمام الكثير من تجارب التجديد التربوي والثقافي، لا في العالم السائر في طريق النمو فحسب بل في العالم كله.
وكل ما في الأمر أن التربية والثقافة في الوطن العربي، وفي العالم كله في حاجة دوماً إلى تطوير وتجديد، لاسيما في عصرنا الحوّل القّلب، المغذّ في سيره الذي يقذف لنا كل يوم بجدائد تحمل وتُتئم إلى ما لا نهاية.
(أولاً) عالمنا اليوم:
1- منذ سقوط الاتحاد السوفياتي:
نعيش في عالم جديد لا نعرفه:
– عالم عدم اليقين والقلق والاضطراب.
– عالم كل ما نعرفه عنه أننا لا نعرفه.
– عالم المعقّد المتشابك، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي موران Edgare Morin.
2- أهم مكوّناته الثورات العالمية الكبرى:
– ثورة الاتصال والمعلومات.
– ثورة الاقتصاد، بل المال.
– ثورة العلم والمعرفة («توفلر A. Toffler» وتحوّل السلطة).
– الثورة في عالم المورثات والجينات والتقنيات البيولوجية.
3- تجمع هذه الثورات كلها ظاهرة العولمة:
التي قد تكون أفضل حظوظ الإنسان وقد تكون أسوأها (قد تكون أفضلها إذا كانت نزعة «عالمية» إنسانية، وقد تكون أسوأها إذا كانت عولمة، «وحشية» كل شيء فيها سلعة).
(ثانياً) هذا العالم لم يمنح تركة العالم الذي خلّفه الاتحاد السوفياتي المعاني
الإنسانية المرجوة:
فبدلاً من أن يمنح الوريث هذه التركة معنى إنسانياً صحيحاً عاد هذا الوريث (وعلى رأسه الولايات المتحدة) إلى الماضي السحيق للرأسمالية والامبريالية (بل إن بعضهم يقول إن هذا الوريث عاد إلى «عالم القرون الوسطى» كما يبين الاقتصادي الفرنسي «آلان مينك Alain Mink»):
وذلك من خلال تبني سياسات ليبرالية مفرطة يحكمها قانون السوق وتذكّر بالأوضاع التي سادت في البدايات الأولى للرأسمالية – وفي هذا العالم نجد – على سبيل المثال – أن سكان الأرض الذين يمكنهم العمل والحصول على الدخل الضروري لا تجاوز نسبتهم 20%.
وهكذا انحرفت الديمقراطية عن معانيها الأصيلة وأصبح قوامها إفساح المجال لحرية السوق – فهي الحاكمة والقائدة.
ونتيجة لذلك غدت المشكلة الأساسية في العالم، مشكلة التوفيق بين الديمقراطية وحرية السوق، وبينهما تناقض ذاتي كما يقول الفلاسفة: وقد اكتسب التناقض بين الديمقراطية والسوق قوة تدميرية (على حد تعبير بعض الكتاب) منذ التسعينيات، تجلّت بوجه خاص في:
– العداء للأجانب.
– اضطهاد العالم الثالث والسيطرة عليه ونهب خيراته.
– تهميش الفئات المستضعفة اقتصادياً في جميع البلدان
– فصم وحدة الأمة في العديد من البلدان
– عزل النساء العاملات واضطهادهن (انظر الكتاب الذي ظهر حديثاً – باللغة الفرنسية – وعنوانه: «عندما تصطدم النساء بالعولمة»
– تلوث البيئة.
– الخ..
– وكما يرى «كلاوس شفاب» Klaus Schwab مؤسس ورئيس المنتدى الاقتصادي في «دافوس» «إن العلامات التي تلوح في الأفق بلغت مستوى يشكّل على نحو لا مثيل له تحدياً لمجمل البناء الاجتماعي الذي تقوم عليه الديمقراطية»
وفي هذا يقول أيضاً «أوكتافيو باز Octavio Baz» في كتابه Une Planète (الصادر عام 1997):
«إن ما نشهده اليوم ليس نفياً نقدياً للقيم الديمقراطية المألوفة، بل انحلالاً لهذه القيم».
ويقول في هذا المجال أيضاً الفيلسوف الياباني «تاكيشي أومهارا Takeshi Umehara» في كتابه عن (القرن العشرين) الذي صدر عام 1992:
«الليبرالية التي نشهدها اليوم ليست كما يظن بديلاً عن الماركسية، وليست الإيديولوجية التي تسود نهاية التاريخ، بل هي حجر اللعب الذي سوف يسقط».
بل إن «برجنسكي» نفسه، مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر (وهو من جعل همه الأكبر الدفاع عن التفوق الأميركي والإبقاء عليه) يقول في كتابه «الشطرنج الكبير»:
«إن الديمقراطية تنفي النزوع إلى أية تعبئة إمبريالية».
كما يقول في كتابه «Out of Control»:
إذا لم تؤد الممارسة الديمقراطية، وبوجه خاص الأداء الاقتصادي لنظام السوق الحرة، إلى تحسن ملموس بيّن في الأوضاع الاجتماعية لبني البشر فإن حدوث رد فعل سلبي على هذين المفهومين لن يكون إلا مسألة وقت»
كذلك يبين «تشومسكي» في كتابه «إعاقة الديمقراطية» ارتباط الواقع الديمقراطي المنحرف في الولايات المتحدة بالنظام الذي يكمن وراءه، وهو نظام يطلق عليه مصطلح «الاقتصاد السياسي للهيمنة»
– ومما يقوله الكاتب الفرنسي «بيير أندره تاغييف» عام 2000 عن بحران الحضارة العالمية في كتابه ذي العنوان المعبر «امّحاء المستقبل Effacement de l’avenir»:
– هل نحن مسوقون إلى ضرب من الديمقراطية الكونية التي لا نجد فيها مجتمعات ديمقراطية حية؟ (أي إلى ديمقراطية بلا ديمقراطيات) وما جرى ويجري في العراق وفلسطين دليل واضح وفاضح على تردي الديمقراطية.
ذلك أن المغذّي الأساسي للديمقراطية في العالم وفي الولايات المتحدة بشكل خاص، ذيوع دكتاتورية الربح (تأسياً بالقيم والفلسفات الأميركية الذرائعية) بحيث غدا العالم سلعة.
(ثالثاً) عالمنا والتربية:
1- لا نذهب مذهب من يقول:
إن التربية قادرة على أن تصحح المسيرة وتغيّر البلاد والعباد.
كما لا نقول قولة أحد شراح المدرسة الإيطالية المونتسورية (وهو جيوفاني كالو G. Calo):
إن في وسعنا أن نأمل من الثورة التربوية أن تخلق عهداً إنسانياً جديداً، ومستقبلا قائماً على التفاهم المتبادل والعدل والسلام».
كما أننا لا نقول مع من قال «إذا لم تستطع التربية أن تغير العالم، فلن يغيره أحد». ولا نقول في مقابل ذلك مع عالم الاجتماع الفرنسي الشهير «بورديو، وأتباعه» إن التربية لا تعدو أن «تعيد توليد عين النظام الاجتماعي الذي ولّدها»
2- ولكننا نؤمن بالصلة الدائرية القائمة بين تجديد المجتمع وتغييره وبين تجديد التربية وتطويرها (انظر بوجه خاص ترجمتنا لكتاب «أوبير» وكتابنا «نحو فلسفة تربوية عربية»).
3- ومنذ عام 1957 بيّنا في كتابنا «القومية والإنسانية» أن نزع العدوان بين الشعوب لا يكون إلا إذا أخذت الأمم المختلفة بتربية أفرادها تربية قومية إنسانية، بعيدة عن روح الغلبة والعدوان، مدركة للإطار الطبيعي الذي تتفتح فيه الروح الإنسانية، إطار الأمة والقوم.
ولكن التربية – في بعض بلدان العالم المتقدم – أخذت، بدورها، تنحرف عن أهدافها وتغدو «سلعة من السلع».
ويكفي لهذه الغاية أن نطلع على الكتابين التاليين:
1- الكتاب الأول «المدرسة ليست شركة تجارية» لمؤلفه «كريستيان لافال Christian Laval» (وقد ظهر عام 2003) وعنوان هذا الكتاب يذكّرنا بعنوان كتاب المناضل الفرنسي «جوزيه بوفيه José Bovet» (العالم ليس سلعة، وقد صدر عام 2000).
2- والكتاب الثاني «النظام التربوي العالمي الجديد» (لمؤلفيْه «لافال» و«فيير»، وقد صدر عام 2002)
(رابعاً) الهجمة على التربية العربية وحاجة التربية الغربية إلى الإصلاح والتجديد:
1- ومهما يكن من أمر فالتربية – ومن ورائها الثقافة – في حاجة إلى إصلاح جذري، في العالم كله، من أجل أن تستجيب لعالم المعلومات والاتصال وعالم الثورة في ميادين المعرفة العلمية والتقنية، وعالم التغير السريع، وسوى تلك من مقومات الحياة في عصرنا.
2- ولكن إصلاح التربية والثقافة ينبغي أن يشمل العالم كله، بما فيه الدول المتقدمة (وعلى رأسها الولايات المتحدة).
3- ولكي ندرك أهمية التواصل التربوي والثقافي بين البلدان ولكي ندرك أن البلدان المتقدمة في حاجة إلى إصلاح نظامها التربوي، لنستمع إلى ما يأتي:
أ – لنقرأ أولاً النص الآتي:
«لو قامت قوة معادية بفرض أداء تعليمي قليل الجودة على الشعب الأميركي لاعتبر ذلك مدعاة للحرب.. ولكن ذلك يحدث الآن من خلالنا نحن الذين سمحنا به، لقد بددنا هدراً المكاسب التي حصلنا عليها في رفع مستوى التحصيل التعليمي لطلابنا بعد التحدي الذي واجهناه بإطلاق القمر الصناعي «سبوتنيك».. وهذا «عمل بلا تفكير وعملية نزع لسلاح التعليم».
قد تظنون أن صاحب هذا القول عالم من بلد عربي (أو من بلد متخلف) ولكن ما عساكم قائلين إن علمتم أن قائله أعضاء من لجنة من ثمانية عشر عضواً شكلها وزير التربية في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1981، بعد إطلاق القمر الصناعي الروسي «سبوتنيك»؟
ب- ومن أجل مزيد من الإدراك لحال التربية في البلدان المتقدمة نفسها.
لنقرأ ما ورد في «استراتيجية التربية لأمريكا عام 2000» التي أقرّها الرئيس «بوش» الأب عام 1990، والتي نادت بإحداث تغيير في فلسفة التربية الأمريكية وأهدافها. ومما جاء فيها:
«مهما يكن التزامنا بمسؤولية العمل التربوي وتكريس الجهود له، فسيظل تحقيق الأهداف والغايات الكبرى متوقفاً على إحداث نهضة حقيقية في القيم الأميركية:
فنحن في حاجة إلى قيم تؤكد على قوة الأسرة وتماسك نسيجها الاجتماعي والنفسي، ويشيع فيها تحمّل الآباء لمسؤولياتهم، ونرى تراحم الجيران وتقاربهم.. ».
جـ- ولنستمع – إذا شئتم – إلى خطاب كلنتون بعد إعلان الاستراتيجية التربوية وأهدافها، إذ قال:
«إذا أردنا لأمريكا أن تظل قائدة، وأن تبقى قوة من قوى الخير في العالم، فلابد أن تقود الطريق في مجال التحديث والتجديد التربوي، وإذا أردنا أن نكافح الجريمة وإدمان المخدرات، وإذا أردنا أن نعطي الأمل والفرصة لإخواننا الزنوج في هذا البلد، حيث لا يشعرون إلا بالهزيمة واليأس..
إذا أردنا هذا كله فلابد أن يبدّد غيابةَ الظلمة بصيصُ التنوير وهذا ما توفره التربية السليمة المتوازنة
4- ولعلكم تلاحظون – عند التدقيق في هذه النصوص وسواها – تأكيدها جميعها على ما ينبغي أن تضطلع به التربية الأميركية من عناية بالقيم والأهداف الإنسانية الكبرى، وعلى إحداث نهضة حقيقية في القيم الأميركية.
وهذا ينقلنا إلى حقيقة كثيراً ما ينساها الغرب»، نعني أنه، في هذا المجال وسواه، في حاجة إلى الشرق وإلى أن يفيد من تراثنا العربي الإسلامي وتراث الأمم الأخرى ومن تجاربها، وأن عليه أن يتعلّم ويعلّم في آن واحد بل إن عليه بوجه خاص أن يعيد النظر في «نزعة التمركز حول الذات» السائدة عنده منذ قرون وأن يدرك بعمق أن العالم كله في حاجة إلى أن يتحاور من أجل إنقاذ الإنسانية مما آلت إليه من قلق وضياع وجشع وأمراض اجتماعية تهددها من أقصاها إلى أدناها وتنذر بما هو أسوأ.
(خامساً) والحديث عن التربية في العالم ينقلنا إلى الحديث عن الثقافة في العالم:
1- فالعولة التي أشرنا إليها ليست مجرد ظاهرة اقتصادية:
إنها ظاهرة تشمل شتى جوانب حياة الإنسان وعلى رأسها الثقافة بل أخطر ما فيها «الثقافة».
2- تعريف الثقافة (لدى علماء «الإنتروبولوجيا»:
«الثقافة تشمل جملة النشاطات والمشروعات والقيم المشتركة التي تكوّن أساس الرغبة في الحياة المشتركة لدى أمة من الأمم، والتي يشتَق منها تراث مشترك من الصلات المادية والروحية، يغتني عبر الزمان ويغدو في الذاكرة الفردية والجماعية إرثاً ثقافياً بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، هو الذي تبنى على أساسه
مشاعر الانتماء والتضامن والمصير الواحد
3- وعلى رأس مخاطر العولمة (على نحو ما هي سائدة):
امّحاء الثقافات واستلابها وذوبانها أو تقوقعها وتسطيحها وتشاكلها
4- ومنذ مؤتمر المكسيك عام 1982
أصبح ينظر إلى الثقافة على أنها ليست أداة التنمية فحسب بل غايتها (صرخة «جاك لانج Lang» وزير الثقافة الفرنسي في ذلك المؤتمر)
5- والقول بعولمة الثقافة قول لا يخلو من تناقض في داخله:
– فليست هنالك ثقافة واحدة تفرض نفسها على سواها
– بل هنالك دون شك ثقافات عالمية هي نتيجة التفاعل العالمي بين دول ودويلات لكل منها خصوصيتها إلى جانب تأثرها بعلاقاتها مع سواها في شتى الميادين
6- أهم عناصر هذه الثقافة العالمية المشتركة:
الثقافة الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان.
7- والقيم الثقافية العربية من شأنها أن تساعد العالم كله على تجاوز محنته:
ومن أهم مقومات الثقافة العربية الإسلامية:
– أنها ثقافة علمية تجريبية (المعجزة العربية: فا نتيجو Ventejoux)
– وأنها ثقافة عقلية (المعتزلة – ابن رشد – راندال Randall)
– أنها ثقافة إنسانية (بوازار Boisard وشوقي ضيف)
9- ولكن الثقافة العربية تواجه اليوم مشكلات عديدة، يمكننا تلخيصها فيما يأتي:
أ- الثقافة العربية الإسلامية لم تنجح منذ أكثر من قرن حتى الآن في تجديد ذاتها وفي صنع حداثتها، لأسباب كثيرة، أهمها عدم الإدراك الواضح للفرق بين التحديث والتغريب.
ب- الثقافة العربية من أعرق الثقافات في العالم، وهذه العراقة تمنحها القوة والقدرة على البقاء، ولكنها كثيراً ما تكون – حين لا يُفهم دورها فهماً حقيقياً – عبئاً ثقيلاً معرقلاً للتجديد والتجويد والتحديث، ذلك التجديد الذي لا تكون من دونه أي ثقافة حية، بل تذبل وتموت.
جـ- ازدهار الثقافة العربية الإسلامية ينتسب إلى ماضيها البعيد منذ ظهور الإسلام بوجه خاص وأوج تفتحها الحضاري وعطائها انقضت عليه خمسة قرون على أقل تقدير (هذا إذا نحن أخذنا في الحسبان حضارة الأندلس).
– وهذه الحقيقة تخلق نوعاً من الانتماء الماضوي والنزعة الماضوية يصبح التجديد في إطارها أصعب منالاً.
د- المشاركة الجماهيرية في بناء الثقافة العربية الحديثة المرجوة مشاركة لا تزال محدودة جداً.
هـ- محاولات تحديث الثقافة العربية الإسلامية لم تتم في معظم الأحيان من داخلها
والكثيرون من المثقفين العرب حين يخططون لنهضة الثقافة العربية لا يخططون لها تخطيطهم لبديل يجب تشييده انطلاقاً من الحاضر في ضوء مكوّناته وحاجاته (وهو أمر يجعل صورة البديل تغتني في أذهانهم عن طريق ممارسة النهضة)، وإنما يخططون لها من خلال نماذج جاهزة. آخذة في الابتعاد عنهم باستمرار:
– النموذج الإسلامي الموغل في القدم.
– والنموذج الغربي الذي يزداد مع الزمن بعداً، على نحوٍ يجعل احتمالات اللحاق به تنعدم أمام التطور اللامتكافئ
(سادساً) الهجمة على التربية العربية والثقافة العربية:
1- وتواجه الثقافة العربية – ظلماً وعدواناً – هجمة شرسة عليها، تقودها الولايات المتحدة وإسرائيل، متهمة هذه الثقافة بالعنف، فضلاً عن التخلف والجمود.
2- أبرز مظاهر هذه الهجمة «مشروع الشرق الأوسط الكبير» الذي طرحته الولايات المتحدة مؤخراً.
3- وقد خلط بعض الكتاب العرب بين الحاجة إلى إصلاح أوضاع البلاد العربية وإصلاح الثقافة العربية وإصلاح التربية العربية، وبين ما دعى إليه المشروع إذا تركنا الظاهر إلى الباطن.
4- فالأهداف الحقيقية للمشروع:
– سيطرة سياسية واقتصادية
– دمج إسرائيل بكيان الشرق الأوسط الكبير
– السيطرة على منابع النفط – امتصاص ثروات البلدان المعنيّة
5- فيما يتصل بإصلاح التربية والثقافة والمعرفة يخفي المشروع الأميركي وراءه بعض الادعاءات الباطلة:
أ- العرب عاجزون عن إصلاح أنفسهم بأنفسهم.
ب- العالم العربي صفحة بيضاء يمكن أن نخط فيها ما نشاء.
جـ- التعليم العربي متخلف وعاجز.
د- الثقافة العربية تخفي في أعماقها منازع العنف والعدوان، بل الإرهاب.
6- لسنا في حاجة إلى تفنيد هذه الأوصاف المجانية التي تكال للتربية العربية والثقافة العربية. وتلكم لعمري «شنشنةٌ عرفتها من أخزم» وبدلاً من ذلك سوف نترك الكلام للغة الواقع والإحصاء والبحث.
(سابعاً) تطور التربية في البلاد العربية وحالها اليوم:
1- التربية في البلاد العربية – شأنها في أي بلد، في حاجة إلى تطوير وتحديث وجهود دائبة مستمرة:
– من أجل اللحاق بالتطور السريع في المعرفة في عالمنا
– ومن أجل تطوير شتى جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في وطننا العربي.
2- والبلدان العربية لا تزعم أنها وفّرت للتربية فيها شتى مقومات حياتها وازدهارها.
(وليس هنالك – على أية حال – من حدّ للتربية إلا المزيد من التربية، على حد قول المربي الأميركي الشهير «ديوي» منذ بدايات القرن الماضي).
3- ولكن التربية العربية قطعت منذ بداياتها بعد الاستقلال بوجه خاص حتى اليوم مراحل كبرى أساسية، يمكن تلخيصها فيما يلي:
أ- مرحلة التوسع الكمي.
ب- مرحلة تجويد النوع إلى جانب التوسع الكمي:
(أبنية – مناهج – طرائق – إعداد معلمين – امتحانات وتقويم – نشاطات لا صفية – خدمات اجتماعية ونفسية – تخطيط (منذ عام 1960) – الخ.. )
جـ- مرحلة التجديد التربوي: (تعليم أفضل بإمكانات مالية أقل)
– تجديد البناء – تجديد إطار الصف التقليدي – تحطيم جدران الصف – تقنيات تربوية – تعلم عن بعد – الخ..
د- مرحلة التغيير (لمواجهة التقدم العلمي والتقني المتسارع):
– تربية مستمرة طوال الحياة
– تعلّم ذاتي
– مرونة: عدد سنوات الدراسة – تغير مفهوم النجاح
– زوال النظام التربوي الثابت والجامد
5- مرحلة الإرهاص والحسبان:
– تكوين المواقف والاتجاهات
– تكوين إنسان قابل لأن يتعلّم
– فهم روح المبتكرات العلمية والتقنية (استعمال أصابع اليد: غاندي)
– تعلم الاستقلال والنظرة المستقلة
– امتلاك روح الشك
– التكافل والتضامن
– الديمقراطية والعمل الجمعي
– تكوين روح الخلق والإبداع
(ثامناً) هذه كلها – وسواها – جهود دائبة قامت بها التربية العربية
ولا شك أنها لم توفّها كل حقها.. وقد يكون لها بعض العذر في ذلك:
1- فهنالك الإرث التربوي السيء الذي خلّفه الاستعمار في البلدان العربية، والذي ما يزال يجرجر أذياله حتى اليوم، وقد حدثنا رائد القومية العربية ساطع الحصري – في مذكراته – عن تجربته في العراق في كتابه الشهير «مذكراتي في العراق» (1921 – 1941)، وعن معاناته المريرة – في مجال التعليم – مع الإنكليز هناك، وعن تجربته مع الفرنسيين في سورية (من 1944 – 1947). وقد كان همه الأول في العراق (كما يقول في حديث له مع الدكتور جميل صليبا عام 1944) «تطهير مناهج التربية من رواسب الثقافة الإنكليزية، وإحياء الروح العربية، وبث الفكرة القومية في النشء». وقد تجلّى ذلك في معركته مع «فارل» الإنكليزي الذي كان قابضاً على مقدرات وزارة المعارف الإنجليزية، ومثل هذا النضال ساقه في سورية، عندما تمّ اختياره عام 1944 مشاوراً فنياً لوزارة المعارف. فقد كان همّه الأول تخليص سورية من النظام التعليمي الذي خلّفه الانتداب، وتصفية آثار النفوذ الثقافي الفرنسي وتخليص سورية من القيود والشوائب التي خلّفها الانتداب.
2- البلدان العربية بلدان فتيّة، مما يجعل عبء التعليم مضاعفاً (حوالي خمسين في المائة من السكان دون السابعة عشرة من العمر).
3- عبء العيلولة فيها كبير: (3) إلى (1)
4- كثير منها تنفق أكثر من 30% من ميزانية الدولة على التعليم (وحوالي 6% من الدخل القومي).
5- أمية الجيل الماضي ولا سيما من النساء ما تزال تثقل كاهلها.
(تاسعاً) ولكن هذا كله شيء وما تدعيه المشروعات الأجنبية شيء آخر:
1- المقترحات الواردة في هذه المشروعات أكل الدهر عليها وشرب، وقتلتها بحثاً المؤتمرات العربية والمنظمات الإقليمية ومنظمة اليونسكو وسواها.
2- وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر اتفاق الوحدة الثقافية الذي تمّ بين مصر وسورية والأردن، عام (1956) والذي وضع أسس التربية في شتى جوانبها، والذي ترك بصماته على التربية في البلاد العربية حتى اليوم (وقد أسهمتُ في وضعه، إذ كنت ممثلاً لسورية في هيئته العليا).
3- وحسبنا أن نذكر – من قبيل المثال لا الحصر – المؤتمرات الهامة التي ضمت وزراء التربية العرب والوزراء المسؤولين عن التخطيط الاقتصادي (برعاية الأليكسو واليونسكو):
– مؤتمر بيروت عام 1960
– مؤتمر طرابلس – ليبيا عام 1966
– مؤتمر مراكش (كانون ثاني 1970)
– مؤتمر أبو ظبي (تشرين ثاني 1977) وهو من أهمها
– مؤتمر القاهرة (حزيران 1994) وقد عقد تحت عنوان: التعليم من أجل التنمية: مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين
4- هذا بالإضافة إلى الندوات الدولية الكبرى التي شاركت فيها الدول العربية، في العقود الأخيرة، والتي صدرت عنها توصيات وخطط عمل هامة. وأهم تلك الندوات والمؤتمرات:
– اجتماع كبار المسؤولين عن التربية في الدول العربية (عمّان، حزيران 1987).
– المؤتمر العالمي حول التربية للجميع (جوميتين، 1990).
– وهذا فضلاً عن المؤتمرات الخاصة بالتعليم العالي في الدول العربية.
– وفضلاً عن المؤتمرات والندوات والحلقات التي رعتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) ومكتب التربية العربي لدول الخليج واتحاد الجامعات العربية.
5- وإن ننسَ لا ننسَ الاستراتيجيات التي وضعتها الأليكسو، وأهمها:
أ- استراتيجية تطوير التربية العربية. وقد وضعتها لجنة، بتكليف من الأليكسو عام 1977.
ب- مراجعة استراتيجية تطوير التربية العربية (وقد اضطلعتُ بهذه المهمة، بتكليف من الأليكسو عام 1995).
جـ- الاستراتيجية العربية للتربية السابقة على التعليم الابتدائي (وقد اضطلعتُ أيضاً بهذه المهمة، بتكليف من الأليكسو، عام 1996).
د- البحث المقارن عن الاتجاهات التربوية السائدة في الواقع العربي، وقد حررتُه بتكليف من الأليكسو، عام 1993.
هـ- الخطة الشاملة للثقافة العربية، وقد وضعتها لجنة، بتكليف من الأليكسو عام (1986) وتقع في أربعة مجلدات ضخمة.
و- استراتيجية العلوم، وقد وضعتها أيضاً لجنة بتكليف من الأليكسو.. الخ..
6- والحق إن العمل العربي المشترك في ميدان التربية والثقافة بدأ منذ طور مبكر، وكانت فاتحته: «المؤتمر الثقافي العربي الأول» الذي انعقد في بيت مري بلبنان عام 1947 بدعوة من الإدارة الثقافية للأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وقد وضع أسساً مكينة لمختلف مواد التعليم.
– هذا كله بالإضافة إلى الجهود القطرية التي قام بها كل قطر عربي على حدة.
– وقد كانت هذه الجهود – على الرغم من المعوقات المالية والبشرية الضخمة – جهوداً كبيرة ومتسارعة، وقد سارت هذه الجهود بخطى حثيثة منذ زوال الاستعمار بوجه خاص.
– وحسبنا مثالاً على ذلك بعض الإحصاءات العابرة:
في عام 1950 (بعيد الاستقلال) كان عدد أطفال المدرسة الابتدائية في سورية 148 ألف طالب.
وما لبث هذا العدد أن تضاعف عام 1952 – 1953 فبلغ (311) ألف طالب، ثم تضاعف كرة أخرى خلال نيف وعشر سنوات فبلغ (647) ألف طفل (عام 1964 – 1965)
– وفي لبنان لم يجاوز عدد طلاب المدارس الابتدائية والتكميلية قبل الاستقلال (136) ألف طالب فإذا به يصبح في بداية الستينيات 335 ألف طالب
– وفي مصر قفز عدد طلاب المرحلة الابتدائية من قرابة مليون ونصف طالب عام 1952 إلى قرابة (3.294.000) طالب عام 1964 – 1965..
والأمر على هذه الشاكلة في معظم البلدان العربية.
6- أما الجهود القطرية في مجال الكيف والنوع فللحديث عنها غير هذا المقام ولكنها بإيجاز جهود كبيرة، على الرغم من ضيق الحال، لا تقل عن مثيلاتها في كثير من البلدان النامية بل المتقدمة. ولكنها في حاجة إلى المزيد دون شك، وما تزال الحاجة ماسة إلى وضع الكثير من مقررات المؤتمرات والدراسات والخطط موضع التنفيذ.
6- تعليم الإناث:
– ههنا، عند الحديث عن تعليم الإناث في البلاد العربية، تُنادي الدراسات الأجنبية (والعربية أحياناً) بالويل والثبور وعظائم الأمور.
ولا شك أن تعليم الإناث في معظم البلدان العربية قد قصّر عن مداه في البداية، ولا سيما في بعض المناطق الريفية والنائية، ولدى الأجيال الأولى من الراغبين في التعليم.
ولا شك أن البلاد العربية ورثت إرثاً ضخماً من النساء الأميات، منذ العهد العثماني بوجه خاص.
ولكن الصورة ما لبثت حتى تغيرت ولا سيما في العقود الأخيرة:
أ- هكذا بلغت نسبة عدد الإناث في سورية، على سبيل المثال، 47.5% من مجموع عدد الطلاب في المراحل السابقة على التعليم العالي عام 2002/2003.
ب- وفي التعليم العالي بلغت النسبة (41%) من مجموع الطلاب في جملة البلدان العربية عام 1995 (مقابل 47% في العالم كله، ومقابل 52% في مناطق العالم الأكثر تقدماً، ومقابل 55% في أمريكا الشمالية) وفي بعض البلدان العربية (كقطر مثلاً) تفوق نسبة عدد الإناث في التعليم العالي نسبة عدد الذكور، وفي المملكة العربية السعودية نفسها يمثل عدد الطالبات في التعليم العالي ثلث مجموع الطلاب البالغ نيفاًَ ونصف مليون كما أن انتساب الإناث إلى الفروع العلمية والطبية والهندسية تزايد تزايداً ملحوظاً في العقدين الأخيرين.
(ثامناً) خاتمة
1- الصلة بين التربية والثقافة من جانب وبين التنمية الشاملة في شتى ميادين الحياة حقيقة بدهية، وقد ازداد الاهتمام بها في العالم كله بعد الحرب العالمية الثانية بوجه خاص.
2- وعنيت البلاد العربية بهذه الصلة عناية خاصة (منذ عام 1960 بوجه خاص، يوم تم إنشاء «المركز الإقليمي لتخطيط التربية وإدارتها في البلاد العربية» بالتعاون بين اليونسكو والدول العربية)، وقد تمّ في هذا المركز إعداد أفواج من كبار المربين في البلاد العربية خلال نيف واثني عشر عاماً تسلموا قيادة التربية في الوطن العربي وعنوا بوجه خاص بالربط بين التربية وبين التنمية.
3- ومنذ ذلك الحين قامت الجهود تترى لتطوير التعليم وتجديده في البلاد العربية. (أشرنا إلى بعضها في الجزء السابق من بحثنا).
4- ولكن تطوير التربية هذا في البلاد العربية واجه عقبات تريثنا عند بعضها في هذه الكلمة.
وأهم هذه العقبات هي الآتية:
أ- وجود صلة دائرية بين تنمية التربية وبين تنمية سواها من مستلزمات التقدم، وحدود الأموال التي يمكن أن تخصص للتربية والثقافة من ميزانية الدولية.
ب- ويزيد ضغثاً على إبالة الحاجة إلى توفير أكبر قدر ممكن من الأموال من أجل مواجهة العدوان الإسرائيلي.
جـ- وفوق هذا وذاك، تواجه العلاقة بين التربية والتنمية ضرباً من الدور الفاسد، كالذي يحدثنا عنه الشاعر في قوله:
مسألة الدور جرتْ
بيني وبين من أحب

لولا مشيبي ما جفا
لولا جفاه لم أشبْ

ونعني بذلك أن حوالي ربع الكوادر العلمية التي تخرجها الجامعات العربية يهاجرون إلى البلدان المتقدمة ويسهمون في زيادة دخل تلك البلدان بل في تقدمها العلمي
د- يضاف إلى هذا أن الارتباط بين التربية (مضموناً ومخرجات) وبين حاجات سوق العمل ما يزال ضعيفاً (لأسباب عديدة أهمها: عدم وجود سوق عمل ومؤسسات عمل نشيطة ومتطورة – وضعف الربط بين الخطة التربوية والخطة الاقتصادية – وعدم تمرس الطلاب بالعمل اليدوي والتقني والمهني منذ نعومة الإظفار وفي مراحل حياتهم المدرسية المختلفة – وضعف التعليم المستمر طوال مراحل العمر بعد التخرج من المدرسة – الخ.. )
هـ- ثم إن التطور السريع للمعرفة والعلم والتقانة في العالم، طرح ويطرح على البلاد العربية مشكلات تربوية جديدة تستلزم إعادة النظر في النظام التربوي كله، ولا سيما في أهدافه ووسائله وطرائقه.
5- ولكن لابد من القول – بعد هذا – إن مثل هذه المشكلات التي تواجه التربية في البلاد العربية مشكلات تشكو منها معظم بلدان العالم، وتشكو منها البلدان المتقدمة نفسها.
– ومن هنا خَطَلُ النتائج التي يتوصل إليها «مشروع الشرق الأوسط الكبير» (مفترضين جدلاً صدق مقاصده ونواياه):
أ- فالمشروع يكاد يقول إن التربية العربية في حاجة إلى علاج بالصدمة، وإلى رعاية أبوية من الدول المتقدمة تقدمها لشرق أوسط مقصّر بل قاصر (دون أن تتحمل حتى نفقات العلاج)
ب- والمشروع يحاول أن يجرد التربية العربية والثقافة العربية من ثيابهما ليظهر عوراتهما. ورأس هذه العورات اثنتان، تعنيان الدول المتقدمة والولايات المتحدة بشكل خاص:
أولاهما: عورة غياب الديمقراطية، التي يتطلب سترها فيما يرى تقديم تربية ديمقراطية (لا يحدد أوصافها).
وثانيتهما: عورة التمسك بالتراث والحرص على قيمه، بدلاً من الركض وراء الثقافة العالمية الوحيدة الطاغية، ثقافة الأقوى.
ولا حاجة إلى القول إن تحقيق ديمقراطية التعليم وبث الروح الديمقراطية في التعليم في معظم البلدان العربية أمور تعدو التربية العربية نحوها وتعمل على توفير النجاح لها منذ سنوات بعيدة.
كذلك لا حاجة إلى القول إن التراث الثقافي العربي الإسلامي خطا خطوات واسعة في طريق التجديد، منذ أيام نهضة محمد علي الكبير في مصر وحتى اليوم.
هذا بالإضافة إلى أن تجديد التراث آلية محايثَه له ومن صلبه، وأنه حمل ويحمل دوماً بذور تجديده (من داخله وبالتفاعل مع الثقافات الأخرى). بل لعل هذا التراث الثقافي العربي يستطيع أن يرفع الرأس شامخاً – (في منازعه الإنسانية والعلمية والعقلية) أمام الثقافة الأميركية الحديثة العهد، التي قامت على العنف والعدوان والنهب والسلب منذ تباشير ولادة الولايات المتحدة.
5- وما نقوله يفترض أن «مشروع الشرق الأوسط الكبير» معنيٌّ حقاً بأمر التربية والثقافة في تلك المنطقة من العالم، وبما لهما من دور في توليد الديمقراطية.
غير أن الديمقراطية التي يدعو إليها المشروع هي الديمقراطية السياسية، بالمعنى الضيق لهذه الكلمة، التي من شأنها أن تَقُدّ الوطن العربي (وسواه) قداً ملائماً لحاجات الديمقراطية التي تؤمن بها الولايات المتحدة، نعني ديمقراطية السوق التي سبق أن رأينا بعض أوصافها وتحدثنا عن مخاطرها (على الديمقراطية نفسها، بالمعنى السليم للكلمة).
فالديمقراطية التي ينادي بها المشروع لا تعني تحرير الإنسان أنّى كان، وأياً كان، من الفقر والجهل والمرض والاضطهاد والاستعباد والإهمال والتهميش، ولا تعني «جعل الناس سواسية كأسنان المشط» لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي, ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى». إنها تعني على العكس من ذلك «ديمقراطية السوق» و«ديمقراطية الأقوى» وكل ما في الأمر أن «مشروع الشرق الأوسط الكبير» الذي طرحته الولايات المتحدة يود، باسم هذه الديمقراطية المزعومة وباسم نشر المعرفة، وباسم تطوير التربية والثقافة، أن يبسط سلطانه على تلك المنطقة الهامة من العالم، وأن يبتز ثرواتها النفطية والطبيعية وسواها، بالتعاون مع شريكته الوحيدة في تلك المنطقة، نعني إسرائيل.
6- ومما يؤسف له أن بعض العرب ظنوا بالمشروع خيراً، بل إن منهم من صدّق ما يدعيه المشروع من عجز التربية العربية والثقافة العربية، وحسبوا أن ما أتى به المشروع من حلول هو البلسم الشافي.
وقد رأينا – عبر كلمتنا كلها – أن التربية العربية ليست مُقعدة عاجزة، وأن الثقافة العربية – إذا أجيد فهمها – تقف شامخة أمام سائر الثقافات الكبرى في العالم، وأن الحل السليم بالتالي لها ولسواها من الثقافات الأصيلة يكمن في تمكين أوصالها وفي تفاعلها مع سواها أخذاً وعطاء.
7- وما رأيناه عبر هذه الكلمة من جهود موصولة قامت بها التربية العربية والثقافة العربية، تجمعها ما ذكرنا وما لم نذكر من مؤتمرات واستراتيجيات وخطط ودراسات قامت بها المؤسسات التربوية والثقافية العربية.
بوجه خاص (الأليكسو – والإيسيسكو – ومكتب التربية لدول الخليج العربي – واتحاد الجامعات العربية.. الخ.. )، نقول: ما رأيناه من جهود مشتركة على نطاق الوطن العربي ومن عمل دائب على مستوى كل قطر من الأقطار العربية، في حاجة دون شك إلى تطوير ليتفق مع مطالب التغير في العصر ولكنه فوق ذلك، وقبل ذلك، في حاجة إلى أن تُرسَم له سبل إنفاذه وإلى أن ينتقل من الأذهان إلى الأعيان، عن طريق التعاون العربي المالي والتقني، وبمساعدة المؤسسات الدولية المعنية (وعلى رأسها اليونسكو واليونيسيف وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وسواها من المنظمات الدولية والإقليمية والمحلية).
6- إن العالم في حاجة إلى أن يتعاون في شتى المجالات، وفي مجال التربية والثقافة بوجه خاص، وفي حاجة إلى أن يتبادل العلم والمعرفة والثقافة، وما هو بحاجة إلى حلول أبوية بطريركية، يفرضها من يدعي الاستئثار بالعلم والمعرفة والثقافة، لأنه يستأثر بالقوة المادية والمالية والعسكرية.
إننا في عالم ضائع، يحتاج إلى تعاوننا جميعاً لإنقاذه من مزيد من الضياع. والحضارات – مهما يكن حجمها ووزنها – في حاجة إلى صغيرها وكبيرها على حد سواء. وريش الخوافي – كما يقول الشاعر العربي – قوة للقوادم.
فهل نأمل من الوطن العربي – مهد الرسالات والحضارات – أن يحزم أمره، وأن يُحكم وضع نظامه التربوي والثقافي من خلاله ومن خلال العالم، ومن أجل ذاته ومن أجل العالم؟
إن مواد العمل تكاد تكون جاهزة، والجهد المطلوب من التربية العربية والثقافة العربية قائم في حصاد المؤتمرات والمؤسسات الوطنية والعربية والدولية. وكل شيء ينتظر ولادة المشروعات العملية الإجرائية التي تنبثق من تلك الجهود المتراكمة.
والأمر كله وقفُ على الإرادات، إرادات العمل الواعي من أجل الكيان العربي كله ومن أجل كل قطر من أقطاره ومن أجل الإنسان العربي أولاً وقبل كل شيء، بل من أجل الإنسان أنّى كان. فالتربية وحدها (وفي قلبها الثقافة) هي التي تحقق أوبة الإنسان إلى ذاته – ليكون من هو.

دمشق في 18/4/2004