كلمة الدكتور عبد الدائم في حفل تأبين المرحوم حافظ الجمالي

من أقوال البلغاء:
«ما من شيء بأحسن من عقلٍ زانه حِلم، وحلمٍ زانه عِلم، وعلمٍ زانه صِدق،
وصدقٍ زانه عمل، وعملٍ زانه رِفق»
لقد كان فقيدنا الغالي يداني هذا الوصف الجامع. لقد كان حقاً راجح العقل من غير ادعاء، وافر العلم من غير تعالم أو تفيهق، حليم الشيم من غير تكلف. إذا آمن بمبدأ وهب له قصارى بذله وعطائه، وانساب معه بيسر، ووجد فيه حلاوة الإيمان، مهما يكن عسير المنال.
عرفتُه في الرخاء والشدة وفي العسر واليسر، فما وهن ولا استكان أيام العسرة، ولا تراخى في مواسم الوفرة.
منذ عام 1947 تلاقينا وامتزجت روحانا، ولم نفترق إلا حين يغادر أحدنا أو كلانا الوطن، من أجل مهمات جديدة خارجه.
ومنذ تلاقينا حتى وفاته كنا نخوض معاً عالم الأفكار، ونرتاد صعبها وذلولها، ونتقرى حال أمتنا العربية ونرهص بمستقبلها. وفي ذلك كله كنا نختلف لماماً ونتفق غالباً.
وفي ذلك كله كان المرحوم يؤكّد حبه لأمته حباً يعلو إلى منزلة الكراهية، كراهيةٍ ما تردّت إليه بل ما شاب بعض ماضيها من مثالب.
وهكذا كنا نلتقي في عسرنا ويسرنا، في منشطنا ومكرهنا، في وفاقنا وخلافنا، دون أن يخالج صدر أحدنا ذماءٌ من شك في وحدة مقاصدنا ومنطلقاتنا.
وكان أشدّ ما يُمتع أصدقاء الفقيد ويمتعني، ما أوتي من خلابة اللسان خلابةً يصدق فيها قول الأعرابي الذي رواه الجاحظ في بيانه وتبيينه:
«كان والله لسانُه أرقَّ من ورقة وألينَ من سرقة»
ولا أغلو إذا قلت إن شأنه مع الكلام يذكّرنا بقول بشار بن برد:
وحديثٍ كأنه قطع الرو
ض وفيه الصفراء والحمراء
وكثيراً ما خطر ببالي، وأنا أستمع إلى بعض ما يصف من أمور جرت له، أنه لو نذر نفسه لكتابة القصة والرواية لكان من المجلّين. فقد كان مولعاً بوصف الأحداث بأدق تفاصيلها وحركة شخوصها، حتى لكأنك تراها. وهو فوق ذلك جمّاعة للأحاديث والأحداث، يحشوها عند روايتها حشو اللوذينج.
ولا أدري إن كانت البلاغة في الوصف والسرد قد جاءته طائعة مختارة، أم أنها عنده ثمرة الدربة والمراس. ولعلها تسقي جذورها من المنبعين معاً، منبع المطبوع وقد صقله المصنوع. أو لم يردْ على لسان الفصحاء أن اللسان إذا أكثرتَ تحريكه رقّ ولان، وإذا أقللتَ وأطلتَ إسكاته جسأ وغلظ؟
ومن اللافت للنظر أن زلاقة اللسان هذه كانت تتبدى لديه عندما يتحدث باللغة الفرنسية كذلك.
لقد التقينا بباريس لقاءً موصولاً بين عام 1949 وعام 1952. والتقينا قبل ذلك بحمص عام 1947 عندما كان مفتشاً للمعارف وكنت للمرة الأولى أستاذاً للفلسفة في ثانوية حمص الوحيدة آنذاك. وأذكر فيما أذكر سعادتي آنذاك بتدريس نخبة من الطلاب النجباء، من أبرزهم صديق الأمس واليوم العماد الأول أبو فراس.
كما سعدت بالالتقاء في ثانوية حمص بنخبة من الأساتذة على رأسهم الصديق الدكتور عبد الكريم اليافي. وكثيراً ما كنا نلتقي وإياه في تلك الآونة بنخبة نابهة من رجالات حمص ومثقفيها.
ولقيت المرحوم بعد ذلك في دمشق، وقد غدا عضواً في لجنة التربية والتعليم بوزارة المعارف. ثم بدأنا معاً رحلة جديدة بعد أن غدونا كلانا مدرسين في المعهد العالي للمعلمين بالجامعة السورية الذي سُمي كلية التربية بعد ذلك.
ثم أوفدنا كلانا والمرحوم سامي الدروبي إلى باريس للحصول على الدكتوراه، وتوثقت أواصر الود والقربى الفكرية والنضالية فيما بيننا.
وكان مما أثار الدهشة لديّ أن حافظاً المعروف بظرفه ونكاته الذكية، حافَظَ على مزاحه حتى في باريس، وحتى حين كان يمازح نادل القهوة الأعجمي هناك، بعد أن يوطئ فنون مزاحه، توريةً وجناساً وطباقاً.
* * *
على أن أبرز ما عرفت وخبرت من خصال الفقيد حبه الجم لأصدقائه، وهو حبٌ يصعب أن يبادله إياه حتى أكثر أصدقائه وفاءً.
وكان حبه هذا يتجلى بوجه خاص في طموحه العارم إلى أن يراهم عنده وقربه في منزله، كما يتجلى في تشوّفه إلى أن يسود الوئام بين أصدقائه وأن يكون همزة الوصل دوماً بين من أُبَق وشرد وبين من لا يزال يحفظ العهد.
وبلغ من محبته للقيا الأصدقاء والأنس بمن يعرف ومن لا يعرف، حداً جعله أحياناً غير آبه لتكاثر المواعيد وتضاربها، بل لنسيان بعضها أحياناً وكان أصدقاؤه يغفرون له هفواته الشاردة، وذاكرته النسّاءة، لسلامة مقاصدها وعفوية مآتيها.
ولا أدري إن كانت محبته للتآخي والود، هو الذي جعله يهب منزلة خاصة في حياة الشعوب وفي حياة الأمة العربية، «للنحنية» على حد تعبير ساطع الحصري، في مقابل الأنانية. غير أن ما لا شك فيه كما يبدو من كتابه «حول المستقبل العربي» أنه غلا حين حاول أن يرد تخلف الأمة العربية ماضياً وحاضراً لظاهرة «الفردية» التي اتسم بها الإنسان العربي دوماً وأبداً كما يرى، وما يرافقها من تركز على الذات وهذا قول لا يخلو من عسف كما بينّا في كتابنا نحو فلسفة تربوية عربية. على أن دعوته إلى تهذيب هذه النزعة الفردية وتعهدها بالتثقيف والتوعية والتربية دعوة
لا يختلف فيها اثنان، وأكدت التربية الحديثة أهميتها وشأنها.
وفوق هذا وذاك أوتي الفقيد موهبة السخرية، وهي موهبة لا تصدر
إلا من نفس مطمئنة زكيّة واثقة بنفسها، لا سيما عندما ينصبُّ التهكم على ذات المتهكم نفسه، فيبلغ بذلك أقصى مراتب الصحة النفسية.
وإذا صحّ قول من قال: «لكل امرئ من اسمه نصيب»، وقول من قال: «الأسماء من السماء»، فلا شك أن هذا القول يصحّ على الفقيد إلى حد كبير. لقد كان حافظاً للعهد، حافظاً للصداقة، حافظاً للعلم. وإذا أضفنا إلى حافظ صفة الجمال التي تستقي جذورها من نسبه وعائلته، اجتمعت لدى فقيدنا قيمتان من القيم الإنسانية الكبرى، نعني الحق والجمال. أما الثالثة، نعني الخير، فتتجلى في سعيه الدؤوب من أجل خير أبناء جلدته وخير الإنسانية جمعاء، وكانت مصدر إيمانه العميق بأهمية بناء الإنسان العربي، عن طريق تحريره من أثقال الجهل والمرض والفقر وشتى صروف القهر المادي والمعنوي.
وفوق هذا وذاك، كانت هامته الإنسانية الشامخة هذه، تحمل علماً
يزينه التواضع، وثقافةً غنية متنوعة المجالي، تنأى عن المفاخرة ويزيدها التواضع ألقاً. لقد كتب الكثير وترجم الكثير. غير أنه إلى جانب ما خطّه
في السطور، كتب في الصدور، صدور طلابه وأقرانه. وقد لا نغلو إذا قلنا
إنه كان معلماً جوالاً يجد دوماً ما يقوله ويعلّمه في قارعة الطريق
والحانوت والمقهى ودواوين الدولة. وكأنه في هذا كله أشبه ما يكون بسقراط الحكيم، يعلم الشبيبة أنّى ثقفهم وينقش أفكاره في صدورهم، بل لعله كان يذكر قول العلماء العرب القدامى: العلم في الصدور لا في السطور، وما حواه الصدر لا ما حواه القمطر. وكأنه في ذلك كله يتأسى سقراط ويتصيّره، ويلجأ مثله إلى أسلوبين ناجعين في التعليم: التهكم، تهكم المتعلم على نفسه وعلى ما يحمل من أفكار خاطئة، والتوليد، أي قيامه بنفسه بتوليد أفكاره، وتعليم نفسه بنفسه، على نحو ما توصي بذلك أحدث أساليب التربية اليوم.
لقد كان الفقيد عالماً ومتعلماً في آن واحد. وكان لا يجد غضاضة في
أن يسأل سواه عما قد يجهل. رائده في ذلك قول أهل العلم الأقدمين:
«إذا ترك العالم قول لا أدري أصيبت مقاتله»
* * *
وبعد بماذا أحدّث عن مزايا الفقيد؟ وأنّى لي أن أحيط بها. حسبه أنه
لم يزهق ساعة من حياته دون ما عطاء أو عمل نافع. حسبه أن أحبّ الخير عميماً ذائعاً لأترابه وأصدقائه وأمته. حسبه أنه تحرّق ألماً لما آل إليه الوطن العربي ولما تردى إليه العالم. حسبه أنه آمن بالحق وصرح به،
ولم يبغ عنه عوجاً.
رحمه الله وجزاه عن عمله خير الجزاء وألهم أسرته الصبر