بعد أربعين عاماً من نفاذها الأعمال القومية السبعة تصدر مجدداً في مجلد واحد

* الأمة العربية قصرّت باستمرار في إعداد العدّة اللازمة لمواجهة التحديات الكبرى.
* لن يعيد المجتمع الدولي جزءاً من حقوقنا إلا إذا ملكنا الإرادة والقدرة.
* مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني سلاحنا الأقوى لصون هويتنا الثقافية.
* لا سبيل لنهضة الأمة العربية وتحررها وأمنها إلا بالوحدة العربية.
* أحداث أيلول في أمريكا أكدت أن العولمة صارت خطراً على الدول المتقدمة نفسها.
* الحوار بين الحضارات مطلب إنساني شامل، وهو عمل منوط بالمثقفين أولاً.
حاوره: محمد مروان مراد
وجد الباحثون والطلاب في الوطن العربي الكبير، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وهي فترة المد القومي والنهوض العربي.. وجودا في مؤلفات المفكر الرائد الدكتور “عبد الله عبد الدائم” ثروة فكرية، ومرجعاً غنياً، يضيء لهم آفاق المعرفة بأحوال الأمة العربية، وسبل قوتها وتقدّمها، ويضع بين أيديهم المنطلقات والمبادىء الأساسية لمسيرة القومية العربية إضافة إلى الدراسات التربوية التي تؤكد على دور التربية والثقافة في بناء إنسانية جديدة.
تلقّى المثقفون العرب تلك المؤلفات باهتمام وشغف، وعدّوا الدكتور عبد الدائم امتداداً أميناً ومتطوراً لفكر الرائد القومي العربي “ساطع الحصري”، مع تميزّه بالعمق في طرح وتحليل الظاهرة القومية كوجود ومصير للأمة العربية، وإلحاحه على جعل هذه الظاهرة واقعاً سلوكياً ثقافياً وتربوياً، لجيل يتطلع إلى الوحدة والقوة، وإلى ترسيخ قواعد الوطن الواحد الممتد من ساحل الأطلسي في الغرب، إلى حدود “زاغروس” في الشرق، ومن سفوح “طوروس” شمالاً إلى بحر العرب جنوباً.
وقد توالت مؤلفات الدكتور “عبد الدائم” تباعاً، حتى بلغت الأربعين كتاباً في المجالين القومي والتربوي، فنشر ما بين عامي 1957-1965، سبعة كتب متميزة عرض فيها لنظرية القومية العربية “مقوماتها- أبعادها” وكانت على التوالي:
– القومية والإنسانية – دروب القومية العربية – التربية القومية – الجيل العربي الجديد – الاشتراكية والديمقراطية.
– الوطن العربي والثورة – التخطيط الاشتراكي”.
وكانت هذه المؤلفات في مضمونها وروحها، انعكاساً للأفكار القومية التي سادت في الوطن العربي إبان تلك الفترة. ومن المدهش والمثير أن تلك المؤلفات بما حملته من دراسات علمية وأفكار واضحة ما تزال ذات قيمة رفيعة ومضمون هام، برغم مرور نصف قرن ونيف على ظهورها، بل وما تزال منطلقاتها نفسها أساساً سليماً للعمل القومي المنشود في زمننا، ويصعب تصور أي تقدم أو نهضة إلى مستقبل عربي كريم يحقق للأمة أهدافها المشروعة في القوة والانتصار، بدون تلك المبادىء، ونعني بها: الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية، فهي وحدها السبيل إلى تفتيح طاقات الأمة إلى الأبد الأمد، وترسيخ وجودها الفاعل، القادر على مواجهة المطامع الأجنبية، ومواصلة المسيرة في دروب الحضارة الإنسانية.
وتابع الدكتور “عبد الدائم” نشر مؤلفاته طوال السنوات الماضية بغير كلل فظهر له:
في سبيل ثقافة عربية ذاتية، القومية العربية والنظام العالمي الجديد، إسرائيل وهويتها الممزقة، ودور التربية والثقافة في بناء حضارة إنسانية جديدة، نكبة فلسطين عام 1948، صراع اليهودية مع القومية الصهيونية- وأخيراً: العرب والعالم وحوار الحضارات.
أما في مجال الفكر التربوي، فقد أغنى المكتبة العربية بمجموعة من الدراسات العلمية والأدبية وبينها: التربية عبر التاريخ، التخطيط التربوي، الثورة التكنولوجية في التربية العربية، التربية في البلاد العربية، نحو فلسفة تربوية عربية، مراجعة استراتيجية تطوير التربية العربية، الاستراتيجية العربية للتربية في المرحلة السابقة على التعليم الابتدائي، وكان أخرها في هذا الميدان: الآفاق المستقبلية للتربية في البلاد العربية.
ومع مطلع العام الجديد كانت المكتبة العربية على موعد متجدد مع الدكتور “عبد الله عبد الدائم” إذ قامت المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، بإصدار كتبه السبعة الأولى في مجلد واحد بعنوان: ” الأعمال القومية: 1957-1965″ وهي الكتب التي عرض فيها للنظرية القومية العربية، ونَفدت طبعاتها المتلاحقة التي ظهرت منذ أربعين عاماً، وقد مثلت أيا مذاك محوراً أساسياً لأفكار العديد من الحركات القومية في الوطن العربي، كما أسهمت بشكل واضح في تكوين الجيل العربي الجديد.
وكان صدور الأعمال الكاملة مناسبة للقاء الدكتور عبد الدائم، الذي استمر يبشر بالفكر نفسه، وازداد إيمانه رسوخاً بأن الانتصار النهائي، سيبقى حليف الأمة العربية، مهما تكالبت عليها المحن، وستنهض قوية عزيزة بما تملك من مقومات القوة والحياة.
س – وفرض السؤال نفسه: كيف يقرأ الدكتور عبد الدائم واقع الأمة الراهن، وهل هو قدر حتمي لا خلاص منه؟ فيجيب:
ج – لا شك بأن ما ابتليت به الأمة العربية في العهود الحديثة، قلّ أن تبتلى به أمن من الأمم، والسبب واضح، وهو غرس هذا الكيان الهمجي في قلبها كالخنجر، مع كل ما يحمله من قدرة على تفتيتها ومنع تقدمها.. ومن ثم ابتلاعها جزءاً بعد آخر.. فإذا أضفنا إلى بلاء (الصهيونية) بلاء الاستعمار الذي كاد للأمة العربية وسيطر على مقدراتها منذ قرون بعيدة، توضحت لنا فداحة الأرزاء التي ابتليت بها الأمة العربية من خارجها، فعطلت قواها، ومنعت استعادتها لمجدها وإرثها الحضاري. غير أن هذا بمجمله لا يفسر كل شيء، بل أن الأمة التي أصيبت بخنجر سواها، أصابتها من داخلها عوامل وأمراض حالت بينها وبين ارتقائها وازدهارها. وحسبنا هنا أن نقول: إن الأمة العربية قصرت في إعداد العدة اللازمة لمواجهة التحديات الكبرى، والمخاطر التي أحاقت بها، تقصيراً غير جائز، ظل متراكماً ومستمراً من أيام استقلالها عن الدولة العثمانية وإلى اليوم.
كان على الأمة العربية أن تعي أن ما يحدث اليوم، كان لا بد من حدوثه إذا لم تعمل بدأب متواصل من أجل تفاديه والنجاة من شروره.. لقد قامت (الصهيونية) في قلبها دون أن تعبئها التعبئة الضرورية.. بل ودون أن تعرف معرفة عميقة، حقيقة مقاصد الصهيونية، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه.. وكثيراً ما كان يعني: عدم الاعتراف بالصهيونية وإسرائيل لدى الدول العربية، مجرد عدم معرفتها.. إن شارون السفاح ومن قبله، اليمين المتطرف كله وعلى رأسه، بيغن، وشامير، ونتنياهو، وسواهم من بناة الصهيونية، هم كما نعلم أبناء ذلك الصهيوني اليميني المتغطرس والمتوحش (جابوتنكسي) المولود عام 1880 والمتوفي عام 1940، وهو رأس هذا اليمين الصهيوني المتطرف الخبيث.. وشارون يطبق برنامجه اليوم بالحرف الواحد.
في عام 1923 كتب (جابو تنسكي) مقالة شهيرة بعنوان (الجدار الحديدي) قال فيها قولاً
لا لبس فيه: إن العرب لن يتخلوا عن أرض إسرائيل المزعومة!! طوعاً، ولا بد لنا أن نكرههم على تركها بالقوة. وليس في المستقبل القريب ولا في المستقبل البعيد، أي أمل في أن يتخلى العرب عن أرض إسرائيل بمحض إرادتهم).
ومثل هذا القول كرره عتاة الصهاينة وخاصة نتنياهو في كتابه: (مكان تحت الشمس)… وما دام المجتمع العربي ما يزال يأمل بأن تعود إسرائيل إلى رشدها، علينا أن نذكر أن (جابو تنسكي) هذا حين قيل له: إن استعادة أرض الميعاد بالقوة والعنف ووسائل القمع كما يريد، أمر يجانب القيم والأخلاق الإنسانية، أجاب بكل بساطة: إذا كانت القضية التي تدافع عنها وتحارب من أجلها قضية مقدسة، فكل الوسائل التي يمكن أن تستخدمها لبلوغها مقدسة أيضاً!.. هذا جانب من تقصير العرب بمعرفة عدوهم. وأفدح منه تقصيرهم في إعداد العدة الضرورية لاجتناب المصير الأسوأ الذي ينتظرهم… لقد كانوا يتلقون النكبة تلو النكبة، وكأن ما يصيبهم هو ختام النكبات، وفي بعض الأحيان كان جهدهم يتوقف عند إيجاد حل ـ لن يكون بطبيعة الحال، إلا منقوصاً بل وفاشلاً ـ…. ثم يلي بعد ذلك صمت مطبق.. بل ونوم عميق!!.
س – كيف ترى الدكتور (عبد الله عبد الدائم) المخرج؟ وعلى من تقع مسؤولية الإنقاذ؟
ج – طبعاً، مهما يكن شأن المجتمع الدولي، ومهما يكن خاضعاً للقوة الغالبة العظمى فيه، يظل من الصحيح أن المجتمع الدولي لن يعيد إلينا ولو جزءاً يسيراً من حقوقنا، إلا إذا تبين له أننا نملك الإرادة والقدرة والعزيمة اللازمة لتحرير أنفسنا. ومن هنا فالمسؤولية هي مسؤوليتنا جميعاً حكاماً ومحكومين، شعوباً ودولاً… وفي هذا المجال لابد من القول بأن مقاومة الصهيونية ومقاومة أخطارها القائمة والقادمة، لابد وأن يكون رأس الحربة فيها جماهير الشعب العربي، المؤمنة بأمتها وقيمها وتراثها، ولكن شريطة أن تكون هذه الجماهير منظمة.. لأن الجماهير مهما يكن عطاؤها، غير قادرة على التأثير في الأحداث تأثيراً فعالاً إلا من خلال أقنية منظمة، سواء كانت حزبية أو نقابية أو مهنية أو غير ذلك… المهم أن نؤمن بأن المعركة مستمرة، وأن نؤمن بأن النصر لنا في النهاية، إذا نحن أحكمنا تعبئة قوانا.
س – يلح العدو الإسرائيلي على موضوع التطبيع ويعمل له بكافة الأساليب، وما هو الخطر الذي يمثله التطبيع، وكيف للأمة العربية أن تواجهه؟
ج – من المؤكد أن أكبر خطر يتهدد أمتنا هو تصميم العدو الإسرائيلي، منذ قيام كيانه الغاصب، على القضاء على الهوية الثقافية العربية الإسلامية، فهذا المطلب مطلب أساسي، بل يكاد يكون المطلب الأول الذي جعلته إسرائيل الهم الأول لها من أجل إنهاك الكيان العربي والقضاء عليه تماماً.. من الممكن أن ينهار الكيان إلى حين عسكرياً، وقد ينهار اقتصادياً، ولكنه يبقى قادراً على المقاومة والصمود إذا ظل متمسكاً بهويته العربية الإسلامية.. تلك الهوية التي تمثل جداراً صلباً وعصياً يحول بين الأمة العربية وبين أن تذوب في الكيان الصهيوني الخبيث. نحن ندرك بأن وسائل الإعلام الحديثة، باتت أقدر على الغزو الثقافي للأمة العربية، وأقدر على اختراق الثقافة العربية بوسائلها المختلفة، ومن هنا، فمن غير الجائز أن نطمئن إلى عمق الثقافة العربية وقوتها لدى الكثرة الكاثرة من الجماهير العربية.. ولابد بالتالي أن ندرك بأننا أمام عالم جديد، ووسائل إعلامية جديدة وقادرة، وسموم ثقافية أكثر فتكاً وخريباً،وأيديولوجيات مختلفة لابد أن تتصدى لها النخبة المثقفة في الوطن العربي، وتقاومها مقاومة علمية منظمة ومستمرة. ومن هنا كان شعار العمل لمقاومة التطبيع مع العدو، أهم شعار على المثقفين أن يتمسكوا به اليوم، ويقلبوه على وجوهه المختلفة. ولا يكفي في ذلك العملُ الثقافي الفردي، بل يترتب وبسرعة إنشاء شبكة عربية واسعة ومتكاملة، هدفها مقاومة التطبيع الثقافي مقاومة يومية متواصلة بأشكال عديدة واسعة ومتكاملة. ولاشك أن ميدان المقاومة واسع جداً… وبالذات إذا أخذنا المعنى الواسع لكلمة ثقافة اليوم، والتي لا تعني الفنون والآداب والأفكار وحسب، بل تعنى كل أنماط السلوك المادي والمعنوي، السائدة في مجتمع من المجتمعات، والتي تميزه عن سواه، والتي تكون في نهاية المطاف قوام الهوية الثقافية لأمة من الأمم.
س – ظلت الوحدة العربية مطمح آمال الجماهير العربية طوال عقود..فهل ما تزال اليوم مجدية، والعمل لتحقيقها ممكناً؟
ج – من الخطأ أن نعتقد بأن العولمة تعني حتماً وحكماً زوال الكيانات القومية، والاتجاهات التي نجدها في العالم اليوم يتحدث بعضها أو يدعي أن الكيانات القومية لابد أن تزول في عصر العولمة.. في حين يرى بعضها الآخر- على العكس- أن العولمة ستؤدي إلى احتماء الكيانات القومية المختلفة بجلدتها وكيانها تجنباً لمخاطر العولمة. ويصدق هذا بوجه خاص على البلدان النامية.ونحن نعتقد بأنه ليس هناك أي شيء في العولمة- إذا فهمناها بالمعنى الصحيح-يدعو حكماً وحتماً إلى زوال الكيانات القومية، بل نحن نرى بأم أعيينا منذ اليوم، أن كثيراً من الدول، بينها دول متقدمة، أخذت تؤمن بأهمية الكيانات القومية المتجانسة، كما نرى في أوربا والاتحاد الأوربي، وكما نجد في آسيا واتحاد دول الباسيفيك، ودول أمريكا اللاتينية، وإن اتخذت الكيانات القومية هناك شكلاً أوسع.. وقد سئل الرئيس (ميتران) عندما كان متوجهاً إلى (مايسترش) للتوقيع على دستور الوحدة الأوربية: ما سر تأكيدك لأهمية الوحدة الأوربية، وما الدافع لقولك: فرنسا وطني، ولكن أوربا مستقبلي؟ فأجاب بقوله: ولكن ما البديل؟… هل البديل هو العودة إلى صراعات القرن التاسع عشر؟
ومنذ قرون أيضاً كتب (ماديسون) أحد رواد الاتحاد في الولايات المتحدة، يوم كانت ثلاث عشر ولاية، مدافعاً عن أهمية هذه الولايات: (كل من يظن أن الجوار بين الأمم يخلق الوئام لا الخصام، إنسان جاهل بحقائق التاريخ) وقد أراد بهذا التعبير أن يوضح للأمريكيين في ذلك الحين، أن يختاروا بين ولايات ثلاث عشرة تتخاصم وتتنازع ويحكمها الأجنبي المستعمر من وراء البحار، من أسبان وإنكليز وسواهم، وبين ولايات يجمعها دستور اتحادي، وينظم العلاقات فيما بينها.. وخيرّها وقتها بين التمزق وبين الهيبة. ونحن هنا في وطننا العربي، نستطيع أن نقول كما قال ميتران ما البديل عن الوحدة العربية؟.. إن الذين يشككون بالوحدة العربية هم أنفسهم يقرون ويعترفون بأن الدولة القطرية عاجزة عن التقدم والتنمية والأمن، ولا نقول جديداً حين نؤكد بأن أي دولة عربية عاجزة وحدها عن أن تبني مستقبلاً آمناً في وجه إسرائيل بوجه خاص، وأن تحقق التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وسائر ضروب التنمية، وأن توفر الطمأنينة والأمن لمواطنيها، وأنا أرى أن هناك مغالطة أو سوء فهم لدى الذين ينظرون إلى واقع الأقطار العربية المجزأ، ويستخلصون منه تعذر قيام الوحدة بينها:
ذلك لأن هذا الواقع المجزأ بل والمتخاصم أحياناً – مع الأسف – والعاجز عن أن يقف في وجه إسرائيل والعاجز عن التنمية.. هو نتيجة طبيعية لغياب الوحدة، وليس مبرراً يبرر تعذر قيامها. فصورة الدول العربية إذا لم تصهرها قوة الوحدة هي بالضرورة ما نرى وما نشهد.
س – راهنت في واحد من مؤلفاتك على اندحار المشروع الصهيوني.. فعلام بنيت هذا الرأي؟
ج – لم أراهن تماماً على اندحار المشروع الصهيوني.. ما قلته هو أن هذا المشروع فيه كل عوامل وأمراض التفتت والصراع، ومن الممكن بالتالي الإفادة من هذه الأمراض، من أجل حشد القوة العربية لمواجهته. وبتعبير آخر، هناك أمم كثيرة ابتليت بالصراع الداخلي، والتفتت من داخلها، وتمزق هويتها على نحو ما نشهد في إسرائيل اليوم، ومع ذلك استطاعت أن تبقى حين لم تتوافر قوة خارجية تقضي عليها. ومعنى هذا أن الدرس الذي يمكن أن نستخلصه مما نشهد في إسرائيل من صراع وفقدان للتجانس ومشكلات في تحديد الهوية، ومشكلات في تحديد القصد من كلمة يهودي.. الخ، هي أمراض تضعف الكيان الغاصب ولاشك، ولكنه لن يزول إلا إذا واجه قوة خارجية، وهي هنا قوة عربية، تفيد من هزال بنيته من أجل القضاء عليه.
العرب والعالم وحوار الحضارات. كيف ومتى وأين؟!.
نحن في حاجة للحديث عن حوار الحضارات لهدفين: الأول هو: نحن.. علينا نحن أولاً، أن نحدد موقفنا وفهمنا الحضاري لحوار الحضارات بشكل دقيق وسليم. أقول هذا لأن الحضارة العربية الإسلامية قامت على أساس حوار الحضارات، بل على أساس تمازج الثقافات، ولكن عهود التخلف التي مرت بها الأمة العربية من ناحية، وموقف الغرب المعادي للأمة العربية من ناحية أخرى، جعل أبناء أمتنا ينطوون على أنفسهم ويخشون من حوار الحضارات، ويأخذون بالنزعة التي يسميها (توينبي): (النزعة الزيلوتية) وتعني: الانطواء على الذات والاكتفاء بالذات.. بل ومحاربة كل شيء عدا الذات.
والسبب الثاني، أن العالم الغربي، الذي يحمل رواسب قرون طويلة من العداء للعرب ومن كره للعرب، ومن تشويه لتاريخ العرب، أصبح في أيامنا هذه، بوجه خاص، بحاجة إلى فهم الحضارة العربية فهماً جديداً، وإلى أن يدرك منازعها الإنسانية العميقة، ونزوعها من البداية إلى الانفتاح على الثقافات كلها، والحضارات كلها والأديان كلها، كما حدث في أيام الدولة الأموية، والعباسية، وفي الأندلس بشكل خاص.
وموضوع الربط المغلوط الذي يربط به بعض أبناء الغرب بين الإسلام والإرهاب، لابد أن يتولى النقاش حوله وتوضيحه أبناء الحضارة العربية أنفسهم قبل غيرهم.. لست في حاجة لذكر أمثلة: -كتابي الذي صدر مؤخراً بعنوان “العرب والعالم وحوار الحضارات” فيه أمثلة كثيرة على المنازع الإنسانية للحضارة العربية، سواء في النصوص الدينية أو سواها، أو في الممارسات العملية… يضاف إلى هذا أن موضوع (حوار الحضارات) أصبح مطلباً إنسانياً شاملاً، ولاسيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، فقد بينت الأحداث أن العولمة الوحشية لا تؤدي فقط إلى إفقار الدول النامية، تاركة الدول المتقدمة تنعم بخيراتها وثرواتها.. بل إن هذه العولمة صارت خطراً على الدول المتقدمة نفسها وفي عقر دارها. وإحدى وسائل بناء عولمة سليمة لا عدوان فيها من أمة على أمة، لابد أن يكون بالتالي: حوار الحضارات.
تحضرني هنا كلمة لمفكر غربي ترتبط بالحوار، وبما يمكن أن يؤدي إليه انعدام الحوار من عنف، فيقول: وهذا القول يلخص في نظري الموقف العالمي كله، (لا تستطيع دولة قامت على العنف، واستطاعت أن تستمر عن طريق العنف، أن تتخلص من العنف الذي يتهددها إلا إذا تخلت هي عن العنف)..
والحوار بين الحضارات بغير شك، هو عمل كل إنسان والمثقفين بشكل خاص… ولكن في الظروف الحالية لابد وأن تكون له مؤسساته التي تخاطب العرب وغير العرب، والتي تنتظم المثقفين بشكل خاص.